محمد محمود إبراهيم عطية
Member
إرشاد المنتبه لفوائد حديث : " لَا يُؤْمِن أَحَدكُمْ حَتَّى يَكُون هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِ
عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال :قال رسول الله e : " لَا يُؤْمِن أَحَدكُمْ حَتَّى يَكُون هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ " .
رواه الحكم بن سفيان في أربعينه ( 9 ) ، وابن أبي عاصم في السنة ( 15 ) ، وعزاه النووي في ( الأربعين ) إلى كتاب ( الحجة ) لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي ، كلهم من حديث عبد الله بن عمرو ، وصححه النووي؛وأعله ابن رجب في( جامع العلوم والحكم) ، وضعفه الألباني بنعيم بن حماد ، لكثرة خطئه .
قلت : ونعيم وثقه أحمد ، وغيره ، وضعفه آخرون ؛ وقد تتبع ابن عدي في ( الكامل ) أحاديثه التي أخطأ فيها ؛ ولم يذكر هذا منها ، ثم قال : وأرجو أن يكون باقي حديثه مستقيمًا .ا.هـ . ومعناه صحيح ؛ وعزاه ابن حجر - رحمه الله - في ( فتح الباري ) للْحَسَن بْن سُفْيَان وَغَيْره عن أَبِي هُرَيْرَة t ، ثم قال : وَرِجَاله ثِقَات ، وَقَدْ صَحَّحَهُ النَّوَوِي فِي آخِر الْأَرْبَعِينَ ( [1] ) .
نفيُ الإيمان في الحديث نفيٌ للكمال الواجب ( [2] ) ؛ والمعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق - كما قال ابن رجب - أنَّه الميل إلى خلاف الحق ، كما في قوله U : ] وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ [ ص : 26 ]، وقال تعالى : ] وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الجنة هِيَ الْمَأْوَى [ [ النازعات : 40 ، 41 ] ، وقد يطلق الهوى بمعنى المحبَّة والميل مطلقًا ، فيدخل فيه الميلُ إلى الحقِّ وغيره ، وربَّما استعمل بمعنى مَحبة الحقِّ خاصة والانقياد إليه ، وسُئل صفوان بن عسال : هل سمعتَ من النَّبيِّ e يذكر الهوى ؟ فقال : سأله أعرابيٌّ عن الرجل يُحب القومَ ولما يلحق بهم ؟ فقال : " المرءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " ( [3] ) ، ولَمَّا نزل قولُه U : ] تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ [ [ الأحزاب : 51 ]، قالت عائشة للنَّبيِّ e : ما أرى ربَّك إلاَّ يُسارع في هواك ([4]) ؛ وقال عمر في قصة المشاورة في أسارى بدر : فهوى رسول الله e ما قال أبو بكر، ولَم يهو ما قلتُ ( [5] ) . وهذا الحديث مِمَّا جاء استعمال الهوى فيه بمعنى المحبة المحمودة .
قال ابن رجب - رحمه الله : ومعنى الحديث : أنَّ الإنسان لا يكون مؤمنًا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعةً لما جاء به الرسول e من الأوامر والنَّواهي وغيرها ، فيحبُّ ما أمر به ، ويكره مانهى عنه ؛ وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع ، قال تعالى : ] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[ [ النساء : 65 ] ؛ وقال تعالى : ] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [ [ الأحزاب : 36 ] .
وذمَّ سبحانه من كره ما أحبَّه الله ، أو أحبَّ ما كرهه الله ، قال : ] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [ [ محمد : 9 ] ، وقال تعالى : ] ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [ [ محمد : 28 ] .
فالواجب على كلِّ مؤمن أنْ يُحِبَّ ما أحبَّه الله محبةً توجِبُ له الإتيان بما وجب عليه منه ، فإنْ زادت المحبَّةُ ، حتّى أتى بما ندب إليه منه ، كان ذلك فضلاً ؛ وأنْ يكره ما كرهه الله تعالى كراهةً توجِبُ له الكفَّ عمَّا حرَّم عليه منه ، فإنْ زادت الكراهةُ حتَّى أوجبت الكفَّ عما كرهه تنْزيهًا ، كان ذلك فضلاً ؛ وقد ثبت في الصحيحين عنه e أنَّه قال : " لا يؤمن أحدُكُم حتّى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وولده وأهله والنّاس أجمعين " ( [6] ) فلا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يُقدم محبة الرسول على محبة جميع الخلق ، ومحبة الرسول تابعة لمحبة مرسله .
والمحبة الصحيحةُ تقتضي المتابعةَ والموافقةَ في حبِّ المحبوبات وبغضِ المكروهات ،قال U : ] قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ [ [ التوبة : 24 ] . وقال تعالى : ] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [ [ آل عمران : 31 ] ، قال الحسن : قال أصحابُ النَّبيِّ e : يا رسول الله ، إنّا نُحبُّ ربنا حبًّا شديدًا ، فأحبَّ الله أنْ يجعل لحبه عَلَمًا ، فأنزل الله هذه الآية ([7])؛ وفي الصحيحين عن النَّبيِّe قال : " ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان : أنْ يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهُما ، وأنْ يُحبَّ الم رءَ لا يُحبُّه إلا لله ، وأنْ يكره أنْ يَرجِعَ إلى الكُفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أنْ يُلقى في النار " ( [8] ) ؛ فمن أحبَّ الله ورسوله محبةً صادقة من قلبه ، أوجب له ذلك أنْ يُحبَّ بقلبه ما يُحبُّه الله ورسولُه ، ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، ويرضى بما يرضى الله ورسوله ، ويَسخط ما يَسْخَطُهُ الله ورسوله ، وأنْ يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحبِّ والبغض ، فإنْ عمل بجوارحه شيئًا يُخالِفُ ذلك ، فإن ارتكبَ بعضَ ما يكرهه الله ورسولُه ، أوترك بعضَ ما يُحبه الله ورسوله ، مع وجوبه والقدرة عليه ، دلَّ ذلك على نقص محبَّته الواجبة ، فعليه أنْ يتوبَ من ذلك ، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة ؛ قال أبو يعقوب النَّهْرُجُوريُّ : كلُّ مَنِ ادَّعى محبة الله U ولم يوافِقِ الله في أمره ، فدعواه باطلة ، وكلُّ محبٍّ ليس يخاف الله ، فهومغرورٌ([9]) ؛ وقال يحيى بنُ معاذ : ليس بصادقٍ من ادَّعى محبَّة الله U ولم يحفظ حدودَه .ا.هـ .وجميعُ المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله ، وقد وصف اللهُ المشركين باتِّباع الهوى في مواضع من كتابه ، وقال تعالى : ] فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ [ [ القصص : 50 ] ؛ وكذلك البدعُ ، إنَّما تنشأ من تقديم الهوى على الشَّرع ، ولهذا يُسمى أهلُها أهل الأهواء . وكذلك المعاصي ، إنَّما تقعُ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يُحبه .
وكذلك حبُّ الأشخاص : الواجب فيه أنْ يكون تَبعًا لما جاء به الرسولُ e ؛ فيجبُ على المؤمن محبةُ الله ومحبةُ من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عمومًا ، ولهذا كان مِنْ علامات وجود حلاوة الإيمان أنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله ، ويَحرمُ موالاةُ أعداءِ الله . ومن يكرهه الله عمومًا ، وبهذا يكونُ الدِّينُ كلُّه لله . و " من أحبَّ لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله ، فقد استكمل الإيمان " ( [10] ) ، ومن كان حُبُّه وبُغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه ، كان ذلك نقصاً في إيمانه الواجب ، فيجب عليه التَّوبةُ من ذلك ، والرُّجوع إلى اتِّباع ما جاء به الرسول e من تقديم محبة الله ورسوله ، وما فيه رضا الله ورسوله على هوى النفوس ومراداتها كلها .ا.هـ ( [11] ) .
قال النووي – رحمه الله : أي أنَّ الشخصَ يجب عليه أن يعرضَ عملَه على الكتاب والسنة ، ويخالف هواه ويتبع ما جاء به e ، وهذا نظير قوله تعالى : ] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخيرة من أمرهم [ ، فليس لأحد مع الله U ورسوله e أمر ولا هوى ( [12] ) .
1 - وجوب الانقياد لما جاء به النبي e .
2 - لا يكمل إيمان أحد حتى يكون هواه وميله إلى الشريعة وتحكيمها .
3 - التحذير من اتباع الهوى ، ووجوب تخلي الإنسان عن هواه المخالف لشريعة الله .
4 - دل على أن الهوى يحتاج إلى مجاهدة حتى يتبع شرع الله ، ففيه تربية على مجاهدة النفس .
5 - أن الإيمان يزيد وينقص ، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة .
6 - أن من كان هواه تابعًا لجميع ما جاء به النبي e كان مؤمنًا كاملا .
7 - كمال شريعة الإسلام .
هذا ؛ والعلم عند اَللَّه تعالى .
[1] - انظر فتح الباري : 13 / 289 .
[2] - نفي الشيء له ثلاث حالات : فالأصل أنه نفي للوجود ، وذلك مثل : ( لا إيمان لعابد صنم )؛ فإن منع مانع من نفي الوجود ، فهو نفي للصحة ، مثل " لا صلاة بغير وضوء " ؛ فإن منع مانع من نفي الصحة ، فهو نفي للكمال ، مثل : " لا صلاة بحضرة طعام " ، فقوله : " لا يؤمن أحدكم " نفي للكمال الواجب لا المستحب ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمة الله - في ( مجموع الفتاوى : 26 / 268 ) : الذي عليه جماهير السلف وأهل الحديث وغيرهم : أن نفي الإيمان لانتفاء بعض الواجبات فيه ، والشارع دائمًا لا ينفي المسمي الشرعي إلا لانتفاء واجب فيه ؛ وإذا قيل : المراد بذلك نفي الكمال ، فالكمال نوعان : واجب ومستحب ، فالمستحب كقول بعض الفقهاء : الغسل ينقسم إلى كامل ومجزئ ، أي : كامل المستحبات ، وليس هذا الكمال هو المنفي في لفظ الشارع ، بل المنفي هو الكمال الواجب ، وإلا فالشارع لم ينف الإيمان ولا الصلاة ولا الصيام ولا الطهارة ، ولا نحو ذلك من المسميات الشرعية لانتفاء بعض مستحباتها ؛ إذ لو كان كذلك لانتفي الإيمان عن جماهير المؤمنين ، بل إنما نفاه لانتفاء الواجبات ، كقوله عليه الصلاة والسلام : " لا صيام لمن لم يبيت النية " ، و " لا صلاة إلا بأم القرآن " .ا.هـ .
[3] - رواه الترمذي ( 2387 ) وقال : حسن صحيح .
[4] - رواه أحمد : 6 / 134 ، 158 ، 261 ، والبخاري ( 4788 ، 5113 ) ، ومسلم ( 1464 ) ، وغيرهم .
[5] - رواه أحمد : 1 / 30 ، 31 ، ومسلم ( 1763 ) ، وأبو داود ( 2690 ) ، والترمذي ( 3081 ) .
[6] - البخاري ( 15 ) ، ومسلم ( 44 ) عن أنس t .
[7] - رواه ابن جرير : 3 / 155 ، وابن أبي حاتم ( 3402 ) .
[8] - البخاري ( 16 ) ، ومسلم ( 43 ) عن أنس t .
[9] - رواه أبو نعيم في (حلية الأولياء ) : 10 / 356 .
[10] - رواه أبو داود ( 4681 ) عن أبي أمامة الباهلي .
[11] - انظر جامع العلوم والحكم حديث رقم ( 41 ) باختصار .
[12] - انظر شرحه على الأربعين حديث رقم ( 41 ) .
إرشاد المنتبه لفوائد حديث : " لَا يُؤْمِن أَحَدكُمْ حَتَّى يَكُون هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ "
عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال :قال رسول الله e : " لَا يُؤْمِن أَحَدكُمْ حَتَّى يَكُون هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ " .
التخريج
رواه الحكم بن سفيان في أربعينه ( 9 ) ، وابن أبي عاصم في السنة ( 15 ) ، وعزاه النووي في ( الأربعين ) إلى كتاب ( الحجة ) لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي ، كلهم من حديث عبد الله بن عمرو ، وصححه النووي؛وأعله ابن رجب في( جامع العلوم والحكم) ، وضعفه الألباني بنعيم بن حماد ، لكثرة خطئه .
قلت : ونعيم وثقه أحمد ، وغيره ، وضعفه آخرون ؛ وقد تتبع ابن عدي في ( الكامل ) أحاديثه التي أخطأ فيها ؛ ولم يذكر هذا منها ، ثم قال : وأرجو أن يكون باقي حديثه مستقيمًا .ا.هـ . ومعناه صحيح ؛ وعزاه ابن حجر - رحمه الله - في ( فتح الباري ) للْحَسَن بْن سُفْيَان وَغَيْره عن أَبِي هُرَيْرَة t ، ثم قال : وَرِجَاله ثِقَات ، وَقَدْ صَحَّحَهُ النَّوَوِي فِي آخِر الْأَرْبَعِينَ ( [1] ) .
نفيُ الإيمان في الحديث نفيٌ للكمال الواجب ( [2] ) ؛ والمعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق - كما قال ابن رجب - أنَّه الميل إلى خلاف الحق ، كما في قوله U : ] وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ [ ص : 26 ]، وقال تعالى : ] وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الجنة هِيَ الْمَأْوَى [ [ النازعات : 40 ، 41 ] ، وقد يطلق الهوى بمعنى المحبَّة والميل مطلقًا ، فيدخل فيه الميلُ إلى الحقِّ وغيره ، وربَّما استعمل بمعنى مَحبة الحقِّ خاصة والانقياد إليه ، وسُئل صفوان بن عسال : هل سمعتَ من النَّبيِّ e يذكر الهوى ؟ فقال : سأله أعرابيٌّ عن الرجل يُحب القومَ ولما يلحق بهم ؟ فقال : " المرءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " ( [3] ) ، ولَمَّا نزل قولُه U : ] تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ [ [ الأحزاب : 51 ]، قالت عائشة للنَّبيِّ e : ما أرى ربَّك إلاَّ يُسارع في هواك ([4]) ؛ وقال عمر في قصة المشاورة في أسارى بدر : فهوى رسول الله e ما قال أبو بكر، ولَم يهو ما قلتُ ( [5] ) . وهذا الحديث مِمَّا جاء استعمال الهوى فيه بمعنى المحبة المحمودة .
قال ابن رجب - رحمه الله : ومعنى الحديث : أنَّ الإنسان لا يكون مؤمنًا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعةً لما جاء به الرسول e من الأوامر والنَّواهي وغيرها ، فيحبُّ ما أمر به ، ويكره مانهى عنه ؛ وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع ، قال تعالى : ] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[ [ النساء : 65 ] ؛ وقال تعالى : ] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [ [ الأحزاب : 36 ] .
وذمَّ سبحانه من كره ما أحبَّه الله ، أو أحبَّ ما كرهه الله ، قال : ] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [ [ محمد : 9 ] ، وقال تعالى : ] ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [ [ محمد : 28 ] .
فالواجب على كلِّ مؤمن أنْ يُحِبَّ ما أحبَّه الله محبةً توجِبُ له الإتيان بما وجب عليه منه ، فإنْ زادت المحبَّةُ ، حتّى أتى بما ندب إليه منه ، كان ذلك فضلاً ؛ وأنْ يكره ما كرهه الله تعالى كراهةً توجِبُ له الكفَّ عمَّا حرَّم عليه منه ، فإنْ زادت الكراهةُ حتَّى أوجبت الكفَّ عما كرهه تنْزيهًا ، كان ذلك فضلاً ؛ وقد ثبت في الصحيحين عنه e أنَّه قال : " لا يؤمن أحدُكُم حتّى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وولده وأهله والنّاس أجمعين " ( [6] ) فلا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يُقدم محبة الرسول على محبة جميع الخلق ، ومحبة الرسول تابعة لمحبة مرسله .
والمحبة الصحيحةُ تقتضي المتابعةَ والموافقةَ في حبِّ المحبوبات وبغضِ المكروهات ،قال U : ] قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ [ [ التوبة : 24 ] . وقال تعالى : ] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [ [ آل عمران : 31 ] ، قال الحسن : قال أصحابُ النَّبيِّ e : يا رسول الله ، إنّا نُحبُّ ربنا حبًّا شديدًا ، فأحبَّ الله أنْ يجعل لحبه عَلَمًا ، فأنزل الله هذه الآية ([7])؛ وفي الصحيحين عن النَّبيِّe قال : " ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان : أنْ يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهُما ، وأنْ يُحبَّ الم رءَ لا يُحبُّه إلا لله ، وأنْ يكره أنْ يَرجِعَ إلى الكُفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أنْ يُلقى في النار " ( [8] ) ؛ فمن أحبَّ الله ورسوله محبةً صادقة من قلبه ، أوجب له ذلك أنْ يُحبَّ بقلبه ما يُحبُّه الله ورسولُه ، ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، ويرضى بما يرضى الله ورسوله ، ويَسخط ما يَسْخَطُهُ الله ورسوله ، وأنْ يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحبِّ والبغض ، فإنْ عمل بجوارحه شيئًا يُخالِفُ ذلك ، فإن ارتكبَ بعضَ ما يكرهه الله ورسولُه ، أوترك بعضَ ما يُحبه الله ورسوله ، مع وجوبه والقدرة عليه ، دلَّ ذلك على نقص محبَّته الواجبة ، فعليه أنْ يتوبَ من ذلك ، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة ؛ قال أبو يعقوب النَّهْرُجُوريُّ : كلُّ مَنِ ادَّعى محبة الله U ولم يوافِقِ الله في أمره ، فدعواه باطلة ، وكلُّ محبٍّ ليس يخاف الله ، فهومغرورٌ([9]) ؛ وقال يحيى بنُ معاذ : ليس بصادقٍ من ادَّعى محبَّة الله U ولم يحفظ حدودَه .ا.هـ .وجميعُ المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله ، وقد وصف اللهُ المشركين باتِّباع الهوى في مواضع من كتابه ، وقال تعالى : ] فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ [ [ القصص : 50 ] ؛ وكذلك البدعُ ، إنَّما تنشأ من تقديم الهوى على الشَّرع ، ولهذا يُسمى أهلُها أهل الأهواء . وكذلك المعاصي ، إنَّما تقعُ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يُحبه .
وكذلك حبُّ الأشخاص : الواجب فيه أنْ يكون تَبعًا لما جاء به الرسولُ e ؛ فيجبُ على المؤمن محبةُ الله ومحبةُ من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عمومًا ، ولهذا كان مِنْ علامات وجود حلاوة الإيمان أنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله ، ويَحرمُ موالاةُ أعداءِ الله . ومن يكرهه الله عمومًا ، وبهذا يكونُ الدِّينُ كلُّه لله . و " من أحبَّ لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله ، فقد استكمل الإيمان " ( [10] ) ، ومن كان حُبُّه وبُغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه ، كان ذلك نقصاً في إيمانه الواجب ، فيجب عليه التَّوبةُ من ذلك ، والرُّجوع إلى اتِّباع ما جاء به الرسول e من تقديم محبة الله ورسوله ، وما فيه رضا الله ورسوله على هوى النفوس ومراداتها كلها .ا.هـ ( [11] ) .
قال النووي – رحمه الله : أي أنَّ الشخصَ يجب عليه أن يعرضَ عملَه على الكتاب والسنة ، ويخالف هواه ويتبع ما جاء به e ، وهذا نظير قوله تعالى : ] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخيرة من أمرهم [ ، فليس لأحد مع الله U ورسوله e أمر ولا هوى ( [12] ) .
ما يستفاد من الحديث
1 - وجوب الانقياد لما جاء به النبي e .
2 - لا يكمل إيمان أحد حتى يكون هواه وميله إلى الشريعة وتحكيمها .
3 - التحذير من اتباع الهوى ، ووجوب تخلي الإنسان عن هواه المخالف لشريعة الله .
4 - دل على أن الهوى يحتاج إلى مجاهدة حتى يتبع شرع الله ، ففيه تربية على مجاهدة النفس .
5 - أن الإيمان يزيد وينقص ، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة .
6 - أن من كان هواه تابعًا لجميع ما جاء به النبي e كان مؤمنًا كاملا .
7 - كمال شريعة الإسلام .
هذا ؛ والعلم عند اَللَّه تعالى .
[1] - انظر فتح الباري : 13 / 289 .
[2] - نفي الشيء له ثلاث حالات : فالأصل أنه نفي للوجود ، وذلك مثل : ( لا إيمان لعابد صنم )؛ فإن منع مانع من نفي الوجود ، فهو نفي للصحة ، مثل " لا صلاة بغير وضوء " ؛ فإن منع مانع من نفي الصحة ، فهو نفي للكمال ، مثل : " لا صلاة بحضرة طعام " ، فقوله : " لا يؤمن أحدكم " نفي للكمال الواجب لا المستحب ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمة الله - في ( مجموع الفتاوى : 26 / 268 ) : الذي عليه جماهير السلف وأهل الحديث وغيرهم : أن نفي الإيمان لانتفاء بعض الواجبات فيه ، والشارع دائمًا لا ينفي المسمي الشرعي إلا لانتفاء واجب فيه ؛ وإذا قيل : المراد بذلك نفي الكمال ، فالكمال نوعان : واجب ومستحب ، فالمستحب كقول بعض الفقهاء : الغسل ينقسم إلى كامل ومجزئ ، أي : كامل المستحبات ، وليس هذا الكمال هو المنفي في لفظ الشارع ، بل المنفي هو الكمال الواجب ، وإلا فالشارع لم ينف الإيمان ولا الصلاة ولا الصيام ولا الطهارة ، ولا نحو ذلك من المسميات الشرعية لانتفاء بعض مستحباتها ؛ إذ لو كان كذلك لانتفي الإيمان عن جماهير المؤمنين ، بل إنما نفاه لانتفاء الواجبات ، كقوله عليه الصلاة والسلام : " لا صيام لمن لم يبيت النية " ، و " لا صلاة إلا بأم القرآن " .ا.هـ .
[3] - رواه الترمذي ( 2387 ) وقال : حسن صحيح .
[4] - رواه أحمد : 6 / 134 ، 158 ، 261 ، والبخاري ( 4788 ، 5113 ) ، ومسلم ( 1464 ) ، وغيرهم .
[5] - رواه أحمد : 1 / 30 ، 31 ، ومسلم ( 1763 ) ، وأبو داود ( 2690 ) ، والترمذي ( 3081 ) .
[6] - البخاري ( 15 ) ، ومسلم ( 44 ) عن أنس t .
[7] - رواه ابن جرير : 3 / 155 ، وابن أبي حاتم ( 3402 ) .
[8] - البخاري ( 16 ) ، ومسلم ( 43 ) عن أنس t .
[9] - رواه أبو نعيم في (حلية الأولياء ) : 10 / 356 .
[10] - رواه أبو داود ( 4681 ) عن أبي أمامة الباهلي .
[11] - انظر جامع العلوم والحكم حديث رقم ( 41 ) باختصار .
[12] - انظر شرحه على الأربعين حديث رقم ( 41 ) .