أبومجاهدالعبيدي1
New member
- إنضم
- 02/04/2003
- المشاركات
- 1,760
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
- الإقامة
- السعودية
- الموقع الالكتروني
- www.tafsir.org
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
[align=center]سجدات القرآن الكريم [/align]
[align=center][ منقولة من بحثي للماجستير : جهود ابن عبدالبر في علوم القرآن - دراسة وموازنة ][/align]
وفيه تمهيد وخمسة مباحث :
المبحث الأول : حكم سجود التلاوة
المبحث الثاني : عدد سجدات القرآن
المبحث الثالث : الطهارة لسجود التلاوة
المبحث الرابع : صفة سجود التلاوة
المبحث الخامس : قراءة السجدة في الصلاة
التمهيد:
سجدات القرآن هي السجدات التي يشرع لمن قرأ آية فيها سجدة أو سمعها أن يسجدها ، وهي العبادة الموسومة عند أهل العلم بـ { سجود التلاوة } ، وهي عبادة مشروعة بإجماع العلماء ، دلّ على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ (لأعراف:206) .
وقال جل وعلا : ﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾(السجدة:15) .
وقال تبارك اسمه : ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ﴾ (مريم:58) .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة ، فيسجد ، ونسجد ، حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته . رواه البخاري ومسلم([1]) .
وفي لفظ للبخاري : فيسجد ونسجد معه ، فنزدحم ، حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه([2]) .
وزاد مسلم : في غير صلاة .
وأمَّا الإجماع فقد حكاه غير واحد من العلماء ، ومنهم النووي الذي قال في شرحه لحديث ابن عمر السابق : ( وفيه إثبات سجود التلاوة وقد أجمع العلماء عليه )([3]) .
وقد ورد في الكتاب والسنة ما يدل على فضيلة هذا السجود وأهميته ، وأنه من أعمال الأنبياء وأولي العلم الصالحين الذين يؤمنون بآيات الله ، ولايستكبرون عن عبادة ربهم - سبحانه وتعالى - .
قال تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ (لأعراف:206) .
وقال جلّ وعلا : ﴿ قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا . وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ ( الإسراء : 107 - 109 ).
وفي سجود التلاوة إرضاء للرحمن وترغيم للشيطان ؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله ( وفي رواية : يا ويلي ) أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجَنَّة ، وأمرتُ بالسجود فأبيتُ فَلِيَ النَّار }([4]) .
وقد اهتم العلماء بدراسة أحكام هذا السجود ، ودراسة الأحاديث التي وردت فيه ، واستنبطوا الفوائد والأحكام([5]) ، ومن هؤلاء العلماء ابن عبدالبر - رحمه الله - الذي شرح أحاديث الموطأ ، واهتم بها في كثير من كتبه .
وقد عقد الإمام مالك - رحمه الله تعالى - باباً في كتابه الموطأ في كتاب القرآن ، وهو باب ماجاء في سجود التلاوة([6]) ، وذكر تحته مجموعة من الأحاديث والآثار المتعلقة به ؛ وقام ابن عبدالبر بشرح هذه الأحاديث والآثار بتوسع في كتابه الاستذكار ، وَذَكَرَ أقاويل العلماء في المسائل المستفادة من هذه الأحاديث .
وقد قرأتُ ما كتبه في هذا الباب ، فرأيته طويلاً متداخلَ المسائل ، فقسمته إلى خمسة مباحث جامعة لجميع المسائل التي ذكرها - رحمه الله - ، ذكرتُ في كل مبحث ما يتعلق به من مسائل ، ثُمَّ قمتُ بدراسة هذه المسائل وبيان أقوال العلماء فيها وبيان الراجح منها ، فإلى مباحث هذا الموضوع :
المبحث الأول
حكم سجود التلاوة
قال ابن عبد البر - رحمه الله - : ( واختلفوا في سجود التلاوة ، فقال أبو حنيفة وأصحابه : هو واجب .
وقال مالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، والليث : هو مسنون وليس بواجب .
وذكر مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب قرأ سجدة وهو على المنبر يوم الجمعة ، فنزل وسجد وسجد الناس معه ، ثُمَّ قرأها الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود ، فقال : على رِسْلِكُم ، إن الله لم يكتبها علينا إلاَّ أن نشاء ، فلم يسجد ومنعهم أن يسجدوا([7]) .
وذكر عبدالرزاق ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن أبي مليكة عن عثمان بن عبدالرحمن ، عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير ، أنه حضر عمرَ ابن الخطاب يوم الجمعة ، فقرأ على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة سجد وسجد الناس معه ، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأها ، حتى إذا جاء السجدة قال : يا أيها الناس ، إنَّا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب وأحسن ، ومن لم يسجد فلا إثم عليه . وقال : ولم يسجد عُمَرُ([8]).
قال : وأخبرنا ابن جُريج ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لم يفرض علينا السجود إلاَّ أن نشاء([9]) .
قال أبو عمر : هذا عمر وابن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة ، فلا وجه لقول من أوجب سجود التلاوة فرضاً ؛ لأن الله لم يوجبه ولا رسوله ، ولا اتفق العلماء على وجوبه ، والفرائض لاتثبت إلاَّ من الوجوه التي ذكرنا أو ما كان في معناها ، وبالله توفيقنا )([10]) ا هـ .
وقال في كتاب الكافي في فقه أهل المدينة : ( والسجود سنة للتالي وللسامع إذا كان جالساً إليه ، وليس بواجب على واحد منهما وجوب فرض ، ولكنه سنة كما ذكرنا ، وهو على التالي أوكد من المستمع إلاَّ أن يكون التالي إماماً في الصلاة فيشتركان في ذلك )([11]) ا هـ .
الدراسة :
بعد اتفاق العلماء على مشروعية سجود التلاوة - كما سبق بيانه - اختلفوا في حكمه ، فمنهم من قال بوجوبه ، وذهب الجمهور إلى سُنيَّته وعدم وجوبه([12]) .
وقد رجح الإمام ابن عبدالبر أنه مسنون غير واجب ، وقال : ( فلا وجه لقول من أوجب سجود التلاوة فرضاً ؛ لأن الله لم يوجبه ولا رسوله ، ولا اتفق العلماء على وجوبه ) ا هـ .
وما رجحه ابن عبدالبر هو الراجح ، بل هو الصحيح الذي لاينبغي التعويل على غيره ، فهو القول الذي تنصره الأدلة ، وتقويّه وترجحه القواعد العلمية .
وقد بيّن ابن عبد البر هذه الأدلة ، ورجح هذا القول بمقتضى القواعد العلمية الشرعية .
فأمَّا الأدلة ؛ فقد ذكر منها ما ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قرأ سورة النحل على المنبر يوم الجمعة ، حتى إذا جاء السجدة سجد وسجد الناس معه ، ثُمَّ لَمَّا قرأها في الجمعة الأخرى ، وجاء السجدة قال : أيها الناس ، إنَّا نَمُرُّ بالسجود ، فمن سجد فقد أصاب ، ومن لم يسجد فلا إثم عليه ، ولم يسجد - رضي الله عنه([13]) - .
ووجه الاستدلال بهذا الدليل أن ( القول من عمر رضي الله عنه في هذا الموطن والمجمع العظيم دليلٌ ظاهر في إجماع الصحابة وغيرهم أن سجود القرآن ليس بواجب )([14]) .
وجميلٌ ما قاله ابن القيم - رحمه الله تعالى - حيث قال : ( ومِن المحال أن يكون الخطأ في مسألة أفتى بها مَن جعل الله الحق على لسانه وقلبه حظّه ولاينكره عليه أحدٌ من الصحابة ، ويكون الصواب فيها حظّ من بعده ، هذا مِن أبين المحال !! )([15]) .
ومن الأدلة الصحيحة الصريحة في هذه المسألة ما رواه البخاري في صحيحه ، عن زيد بن ثابت قال : قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم { والنجم } فلم يسجد فيها([16]) .
ووجه دلالة هذا الحديث على عدم الوجوب ، أن سجود التلاوة في سورة النجم ثابت شرعاً ، كما في الأحاديث الصحيحة ، ومع ثبوتها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد ، ولم يأمر زيداً - رضي الله عنه - أن يسجد لَمَّا قرأها ، ولو كان السجود واجباً لأمره به ؛ لأن من القواعد المقررة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز .
وقد عبّر ابن خزيمة([17]) - رحمه الله - على وجه الاستدلال بهذا الحديث على عدم وجوب السجود بقوله في صحيحه : ( باب : ذكر الدليل على أن السجود عند قراءة السجدة فضيلة لا فريضة ، إذ النبي صلى الله عليه وسلم سجد وسجد المسلمون معه والمشركون جميعاً ؛ إلاَّ الرجلين اللذين أرادا الشهرة ، وقد قرأ زيد بن ثابت عند النبي صلى الله عليه وسلم { النجم } فلم يسجد ، ولم يأمره عليه السلام ، ولو كان السجود فريضة ؛ لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها ، ولولم تكن في { النجم } سجدة ؛ كما توهم بعض الناس ... لما سجد النبي صلى الله عليه وسلم في { النجم } )([18]) ا هـ .
وقال البغوي - رحمه الله - بعد أن ذكر حديث زيد السابق : ( فيه دليلٌ على أن سجود التلاوة غيرُ واجب ، إذ لو كان واجباً لم يتركِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم زيداً حتى يسجد )([19]) ا هـ .
وأمَّا القواعد العلمية التي ترجح القول بعدم الوجوب ، فقد أشار إليها ابن عبدالبر بقوله : ( فلا وجه لقول من أوجب سجود التلاوة فرضاً ؛ لأن الله لم يوجبه ولا رسوله ولا اتفق العلماء على وجوبه ، والفرائض لاتثبت إلاَّ من الوجوه التي ذكرنا ، أو ماكان في معناها ، وبالله توفيقنا )([20]) ا هـ .
وقال في موضع آخر - بعد ذكره للأثرين عن عمر وابنه - : ( أي شيء أبين من هذا عن عمر ، وابن عمر ، ولا مخالف لهما من الصحابة فيما علمت ، وليس قول من أوجبهما بشيء ، والفرائض لاتجب إلاَّ بحجة لا معارض لها - وبالله التوفيق )([21]) ا هـ .
وإذا تقرر هذا علمنا أن القول الراجح في حكم سجود التلاوة هو الاستحباب ، فسجود التلاوة مسنون وليس واجباً ، وهذا هو قول جمهور العلماء - والله تعالى أعلم - .
ويتعلق بهذا المبحث مسألتان :
المسألة الأولى : هل يلزم المستمع السجود إذا سجد القارئ ؟ :
قال ابن عبدالبر في الكافي : ( والسجود سنة للتالي وللسامع إذا كان جالساً إليه ، وليس بواجب على واحد منهما وجوب فرض ، ولكن سنة كما ذكرنا ، وهو على التالي أوكد من المستمع إلاَّ أن يكون التالي إماماً فيشتركان في ذلك )([22]) ا هـ .
مِمَّا سبق يتبين أن ابن عبدالبر يرى أن السجود سنة للتالي والسامع إذا كان جالساً إليه ، أي إذا كان قاصداً للسماع ، وهو من يعبر عنه العلماء بالمستمع .
وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر هو مذهب الحنابلة والشافعية والمالكية .
وذهب الحنفية إلى وجوب ذلك على القارئ وعلى من سمعها ، سواء قصد ذلك أم لا([23]) .
واحتج من قال بأن المستمع يسجد إذا سجد القارئ بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة ، فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضعاً لجبهته([24]) .
هذا إذا سجد التالي ، أمَّا إذا لم يسجد التالي فإن المستمع لايسجد ؛ لأن سجودَ المستمع تبع لسجود القارئ ، فالقارئ أصل والمستمع فرع([25]) .
قال البخاري في صحيحه : ( باب : من سجد لسجود القارئ . وقال ابن مسعود : لتميم بن حَذْلَم ، وهو غلام ، فقرأ عليه سجدة ، فقال : اسجد فإنك إمامنا فيها )([26]) ثُمَّ ذكر حديث ابن عمر السابق .
قال ابن حجر : ( وفي الترجمة إشارة إلى أن القارئ إذا لم يسجد لم يسجد السامع )([27]) ا هـ .
وقال البغوي في شرح السنة : ( والسنة للمستمع أن يسجد بسجود التالي ، فإن لم يسجد التالي فلايتأكد في حقه . قال مالك والشافعي : إذا لم يكن قعد لاستماع القرآن ، فإن شاء سجد ، وإن شاء لم يسجد )([28]) ا هـ .
قال عثمان - رضي الله عنه - : إنَّما السجدة على من استمعها([29]) .
وقولُ ابن عبدالبر : ( وهو على التالي أوكد من المستمع ، إلاَّ أن يكون التالي إماماً فيشتركان في ذلك ) فيه نظر ؛ لأن التالي إذا كان إماماً في الصلاة وسجد فإنه يتعين على المستمع أن يسجد وجوباً متابعة لإمامه ؛ لأن متابعة الإمام واجبة([30]) .
وبهذا نعلم أن سجود المستمع في هذه الحال أوكد من سجود التالي ، فسجود التالي سنة ، وسجود المستمع في الصلاة واجب .
المسألة الثانية : حكم سجود التلاوة في أوقات النهي :
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - وهو يشرح قول مالك في الموطأ : ( وأمَّا قوله : لاينبغي لأحد يقرأ من سجود القرآن شيئاً بعد صلاة الصبح ، ولا بعد صلاة العصر .
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، والسجدة من الصلاة ، فلاينبغي لأحد أن يقرأ سجدة في تينِكَ الساعتين([31]) . فقولٌ صحيح وحجة واضحة .
وأمَّا اختلافهم في سجود التلاوة بعد الصبح وبعد العصر فقد ذكرنا ما ذكره مالك في الموطأ .
وقال ابن القاسم عنه : يسجد في هذين الوقتين ما لم تتغير الشمس أو يُسفر ، فإذا أسفر أو اصفرت الشمس لم يسجد ، وهذه الرواية قياس على مذهبه في صلاة الجنائز .
وقال الثوري مثلَ قول مالك في الموطأ .
وكان أبو حنيفة لايسجد عند الطلوع ولا عند الزوال ولا عند الغروب ، ويسجدها بعد العصر وبعد الفجر .
قال أبو عمر : وهكذا مذهبه في الصلاة على الجنائز .
وقال زُفَرُ([32]) : إن سجد عند طلوع الشمس أو غروبها أو عند استوائها أجزأه إذا تلاها في ذلك الوقت .
وقال الأوزاعي والليث والحسن بن صالح([33]) : لايسجد في الأوقات التي تكره فيها الصلاة .
وقال الشافعي : جائز أن يسجد بعد الصبح وبعد العصر )([34]) ا هـ .
هذا ما ذكره ابن عبدالبر في هذه المسألة ، وقد ذكر أقوال أهل المذاهب فيها ، ولم يبق إلاَّ قول الإمام أحمد .
فذهب أحمد في رواية عنه إلى أنه يسجد في كل وقت ، والرواية الثانية أنه لايسجد في أوقات النهي مطلقاً ، وهي المذهب([35]) .
فهذه خلاصة أقوال أئمة المذاهب في هذه المسألة([36]) .
وأمَّا رأى ابن عبدالبر فيها فهو ما ذكره الإمام مالك في الموطأ وهو أنه لاينبغي لأحدٍ أن يقرأ من سجود القرآن شيئاً بعد صلاة العصر ، وبعد صلاة الصبح ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذين الوقتين ، والسجدة من الصلاة ، فلاينبغي لأحدٍ أن يقرأ سجدة في تينك الساعتين .
قال ابن عبدالبر : هذا قولٌ صحيحٌ وحجةٌ واضحةٌ .
وأقول : قول ابن عبدالبر صحيح إذا اعتبرنا سجود التلاوة صلاةً - كما هو قول جمهور أهل العلم ، ومنهم الأئمة الأربعة وأصحابهم - ولكن الصحيح أن سجود التلاوة لايعتبر صلاةً - كما ذهب إلى ذلك ابن جرير وابن حزم وابن تيمية ، وهو قول الشعبي ، وسعيد بن المسيب([37])([38]) - .
وإذا تقرّر أن سجود التلاوة ليس بصلاة فإنه لاينهى عنه في أوقات النهي ؛ لأن النهي إنَّما هو عن الصلاة ، ولا صلاة .
قال الشوكاني - رحمه الله - : ( روى عن بعض الصحابة أنه يكره سجود التلاوة في الأوقات المكروهة ، والظاهرُ عدم الكراهة ؛ لأن السجود المذكور ليس بصلاة ، والأحاديث الواردة في النهي مختصة بالصلاة )([39]) ا هـ .
يتبع إن شاء الله
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) أخرجه البخاري في كتاب سجود القرآن ، باب : من يسجد لسجود القارئ رقم [1075] ص 214 ( ط : الأفكار الدولية ) ، ومسلم في كتاب المساجد ، باب : سجود التلاوة رقم [575] ص 230 ( ط : الأفكار الدولية ) .
([2]) رقم [1076] باب : ازدحام الناس إذا قرأ الإمام السجدة .
([3]) شرح النووي على صحيح مسلم 5/78 .
([4]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة رقم [81] 60 ، 61 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
([5]) من الكتب المؤلف في أحكام سجود التلاوة - وقد استفدت منها كثيراً في مسائل هذا الموضوع :
1 - إتحاف أهل الإيمان بأحكام سجود القرآن ، تأليف أبي عبدالرحمن محمود الجزائري .
2 - التبيان في سجدات القرآن ، جمع وتحقيق عبدالعزيز بن محمد السدحان .
3 - سجود التلاوة وأحكامه ، للدكتور صالح بن عبد الله اللاحم .
وهذا الكتاب الأخير يدرس أحكام سجود التلاوة ، دراسة فقهية مقارنة بشيء من التوسع .
([6]) انظر : موطأ الإمام مالك 1/181 - 183 .
([7]) أخرجه مالك في الموطأ ، كتاب القرآن ، باب : ماجاء في سجود القرآن ص 182 ، وسأتي تخريجه في التعليق التالي بالتفصيل .
([8]) أخرجه البخاري في كتاب سجود القرآن ، باب : مَن رأى أن الله عزوجل لم يوجب السجود رقم [1077] ص 214 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
([9]) أخرجه البخاري في الموضع السابق بلفظ : ( وزاد نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما : إن الله لم يفرض السجود إلاَّ أن نشاء ) .
([10]) الاستذكار 8/107 - 109 .
([11]) الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبدالبر ص 76 ، 77 .
([12]) انظر أقوال العلماء في حكم سجود التلاوة ومناقشتها في المجموع للنووي 4/61 ، 62 ، وفي كتاب سجود التلاوة وأحكامه للدكتور صالح بن عبد الله اللاحم ص 12 - 27 .
([13]) سبق تخريجه قريباً .
([14]) المجموع للنووي 4/62 .
([15]) إعلام الموقعين لابن القيم 4/178 ، 179 ، 180 ، حيث قرر هذا الكلام وأكّده أكثر من مرة .
([16]) أخرجه البخاري في كتاب سجود القرآن ، باب : من قرأ السجدة ولم يسجد رقم [1072] ص 213 وأخرجه مسلم برقم [577] مطوّلاً .
([17]) هو : الحافظ الثبت ، إمام الأئمة ، وشيخ الإسلام ، أبو بكر ، محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري قال الدارقطني : كان ابن خزيمة إماماً ثبتاً معدوم النظير . سئل عنه عبدالرحمن بن أبي حاتم ، فقال : وَيْحَكُم ، هو يُسألُ عَنَّا ولانُسْألُ عنه ، هو إمام يقتدى به . مناقبه كثيرة - رحمه الله - توفي سنة 311 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 2/441 - 446 ، وسير أعلام النبلاء 14/365 - 382 .
([18]) صحيح ابن خزيمة 1/284 .
([19]) شرح السنة للبغوي 3/310 .
([20]) الاستذكار 8/109 .
([21]) التمهيد 19/133 .
([22]) الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبدالبر ص 77 .
([23]) انظر تفصيل الخلاف في هذه المسألة في كتاب : أحكام سجود التلاوة للدكتور صالح اللاحم ص 28 - 34 .
([24]) سبق تخريجه ص 379 .
([25]) انظر : الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين 4/133 .
([26]) صحيح البخاري ص 214 ، وفتح الباري 2/647 .
([27]) فتح الباري لابن حجر 2/647 .
([28]) شرح السنة للبغوي 3/315 .
([29]) صحيح البخاري كتاب سجود القرآن ، باب : من رَأى أن الله لم يوجب السجود ص 214 .
([30]) انظر : المعتمد في فقه الإمام أحمد 1/165 .
([31]) موطأ الإمام مالك كتاب القرآن ، باب : ماجاء في سجود القرآن ص 182 .
([32]) هو : زُفَرُ بن الهذيل العنبري ، الفقيه المجتهد الرباني ، العلاّمة ، أبو الهذيل ، كان من بحور الفقه ، وأذكياء الوقت ، تفقه بأبي حنيفة ، وهو أكبر تلامذته ، وكان ممن جمع بين العلم والعمل ، وكان يدري الحديث ويتقنه . مات سنة 158 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 8/38 - 41 .
([33]) هو : الحسن بن صالح بن حي ، الإمام القدوة ، أبو عبد الله الهمداني الكوفي ، الفقيه العابد ، كان من كبار المحدثين ، ثقةً حافظاً متقناً عابداً زاهداً . كان وكيع يشبهه بسعيد بن جبير . مات - رحمه الله - سنة 167 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 2/320 - 322 .
([34]) الاستذكار 8/109 - 110 .
([35]) انظر : المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة 1/687 .
([36]) انظر تفصيل هذه المسألة وأقوال العلماء فيها في كتاب أحكام سجود التلاوة للدكتور صالح اللاحم ص 102 - 107 .
([37]) هو : الإمام ، شيخ الإسلام ، وفقيه المدينة ، وسيد التابعين ، سعيد بن المسَيِّبْ ، أبو محمد المخزومي ، أعلم التابعين على الإطلاق ، وكان قد سمع من كثير من الصحابة . وكان من أعبد الناس ، مناقبه كثيرة - رحمه الله تعالى - مات سنة 94 هـ على الأرجح الأقوال في تاريخ وفاته . انظر : طبقات علماء الحديث 1/112 - 113 ، وسير أعلام النبلاء 4/227 - 246 .
([38]) انظر : أقوال العلماء في اعتبار سجود التلاوة صلاة في كتاب أحكام سجود التلاوة للدكتور صالح اللاحم ص 96 - 101 ، وكتاب التبيان في سجدات القرآن لعبدالعزيز السدحان ص 21 - 28 .
([39]) نيل الأوطار للشوكاني 3/126 .
[align=center]سجدات القرآن الكريم [/align]
[align=center][ منقولة من بحثي للماجستير : جهود ابن عبدالبر في علوم القرآن - دراسة وموازنة ][/align]
وفيه تمهيد وخمسة مباحث :
المبحث الأول : حكم سجود التلاوة
المبحث الثاني : عدد سجدات القرآن
المبحث الثالث : الطهارة لسجود التلاوة
المبحث الرابع : صفة سجود التلاوة
المبحث الخامس : قراءة السجدة في الصلاة
التمهيد:
سجدات القرآن هي السجدات التي يشرع لمن قرأ آية فيها سجدة أو سمعها أن يسجدها ، وهي العبادة الموسومة عند أهل العلم بـ { سجود التلاوة } ، وهي عبادة مشروعة بإجماع العلماء ، دلّ على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ (لأعراف:206) .
وقال جل وعلا : ﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾(السجدة:15) .
وقال تبارك اسمه : ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ﴾ (مريم:58) .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة ، فيسجد ، ونسجد ، حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته . رواه البخاري ومسلم([1]) .
وفي لفظ للبخاري : فيسجد ونسجد معه ، فنزدحم ، حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه([2]) .
وزاد مسلم : في غير صلاة .
وأمَّا الإجماع فقد حكاه غير واحد من العلماء ، ومنهم النووي الذي قال في شرحه لحديث ابن عمر السابق : ( وفيه إثبات سجود التلاوة وقد أجمع العلماء عليه )([3]) .
وقد ورد في الكتاب والسنة ما يدل على فضيلة هذا السجود وأهميته ، وأنه من أعمال الأنبياء وأولي العلم الصالحين الذين يؤمنون بآيات الله ، ولايستكبرون عن عبادة ربهم - سبحانه وتعالى - .
قال تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ (لأعراف:206) .
وقال جلّ وعلا : ﴿ قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا . وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ ( الإسراء : 107 - 109 ).
وفي سجود التلاوة إرضاء للرحمن وترغيم للشيطان ؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله ( وفي رواية : يا ويلي ) أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجَنَّة ، وأمرتُ بالسجود فأبيتُ فَلِيَ النَّار }([4]) .
وقد اهتم العلماء بدراسة أحكام هذا السجود ، ودراسة الأحاديث التي وردت فيه ، واستنبطوا الفوائد والأحكام([5]) ، ومن هؤلاء العلماء ابن عبدالبر - رحمه الله - الذي شرح أحاديث الموطأ ، واهتم بها في كثير من كتبه .
وقد عقد الإمام مالك - رحمه الله تعالى - باباً في كتابه الموطأ في كتاب القرآن ، وهو باب ماجاء في سجود التلاوة([6]) ، وذكر تحته مجموعة من الأحاديث والآثار المتعلقة به ؛ وقام ابن عبدالبر بشرح هذه الأحاديث والآثار بتوسع في كتابه الاستذكار ، وَذَكَرَ أقاويل العلماء في المسائل المستفادة من هذه الأحاديث .
وقد قرأتُ ما كتبه في هذا الباب ، فرأيته طويلاً متداخلَ المسائل ، فقسمته إلى خمسة مباحث جامعة لجميع المسائل التي ذكرها - رحمه الله - ، ذكرتُ في كل مبحث ما يتعلق به من مسائل ، ثُمَّ قمتُ بدراسة هذه المسائل وبيان أقوال العلماء فيها وبيان الراجح منها ، فإلى مباحث هذا الموضوع :
المبحث الأول
حكم سجود التلاوة
قال ابن عبد البر - رحمه الله - : ( واختلفوا في سجود التلاوة ، فقال أبو حنيفة وأصحابه : هو واجب .
وقال مالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، والليث : هو مسنون وليس بواجب .
وذكر مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب قرأ سجدة وهو على المنبر يوم الجمعة ، فنزل وسجد وسجد الناس معه ، ثُمَّ قرأها الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود ، فقال : على رِسْلِكُم ، إن الله لم يكتبها علينا إلاَّ أن نشاء ، فلم يسجد ومنعهم أن يسجدوا([7]) .
وذكر عبدالرزاق ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن أبي مليكة عن عثمان بن عبدالرحمن ، عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير ، أنه حضر عمرَ ابن الخطاب يوم الجمعة ، فقرأ على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة سجد وسجد الناس معه ، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأها ، حتى إذا جاء السجدة قال : يا أيها الناس ، إنَّا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب وأحسن ، ومن لم يسجد فلا إثم عليه . وقال : ولم يسجد عُمَرُ([8]).
قال : وأخبرنا ابن جُريج ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لم يفرض علينا السجود إلاَّ أن نشاء([9]) .
قال أبو عمر : هذا عمر وابن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة ، فلا وجه لقول من أوجب سجود التلاوة فرضاً ؛ لأن الله لم يوجبه ولا رسوله ، ولا اتفق العلماء على وجوبه ، والفرائض لاتثبت إلاَّ من الوجوه التي ذكرنا أو ما كان في معناها ، وبالله توفيقنا )([10]) ا هـ .
وقال في كتاب الكافي في فقه أهل المدينة : ( والسجود سنة للتالي وللسامع إذا كان جالساً إليه ، وليس بواجب على واحد منهما وجوب فرض ، ولكنه سنة كما ذكرنا ، وهو على التالي أوكد من المستمع إلاَّ أن يكون التالي إماماً في الصلاة فيشتركان في ذلك )([11]) ا هـ .
الدراسة :
بعد اتفاق العلماء على مشروعية سجود التلاوة - كما سبق بيانه - اختلفوا في حكمه ، فمنهم من قال بوجوبه ، وذهب الجمهور إلى سُنيَّته وعدم وجوبه([12]) .
وقد رجح الإمام ابن عبدالبر أنه مسنون غير واجب ، وقال : ( فلا وجه لقول من أوجب سجود التلاوة فرضاً ؛ لأن الله لم يوجبه ولا رسوله ، ولا اتفق العلماء على وجوبه ) ا هـ .
وما رجحه ابن عبدالبر هو الراجح ، بل هو الصحيح الذي لاينبغي التعويل على غيره ، فهو القول الذي تنصره الأدلة ، وتقويّه وترجحه القواعد العلمية .
وقد بيّن ابن عبد البر هذه الأدلة ، ورجح هذا القول بمقتضى القواعد العلمية الشرعية .
فأمَّا الأدلة ؛ فقد ذكر منها ما ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قرأ سورة النحل على المنبر يوم الجمعة ، حتى إذا جاء السجدة سجد وسجد الناس معه ، ثُمَّ لَمَّا قرأها في الجمعة الأخرى ، وجاء السجدة قال : أيها الناس ، إنَّا نَمُرُّ بالسجود ، فمن سجد فقد أصاب ، ومن لم يسجد فلا إثم عليه ، ولم يسجد - رضي الله عنه([13]) - .
ووجه الاستدلال بهذا الدليل أن ( القول من عمر رضي الله عنه في هذا الموطن والمجمع العظيم دليلٌ ظاهر في إجماع الصحابة وغيرهم أن سجود القرآن ليس بواجب )([14]) .
وجميلٌ ما قاله ابن القيم - رحمه الله تعالى - حيث قال : ( ومِن المحال أن يكون الخطأ في مسألة أفتى بها مَن جعل الله الحق على لسانه وقلبه حظّه ولاينكره عليه أحدٌ من الصحابة ، ويكون الصواب فيها حظّ من بعده ، هذا مِن أبين المحال !! )([15]) .
ومن الأدلة الصحيحة الصريحة في هذه المسألة ما رواه البخاري في صحيحه ، عن زيد بن ثابت قال : قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم { والنجم } فلم يسجد فيها([16]) .
ووجه دلالة هذا الحديث على عدم الوجوب ، أن سجود التلاوة في سورة النجم ثابت شرعاً ، كما في الأحاديث الصحيحة ، ومع ثبوتها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد ، ولم يأمر زيداً - رضي الله عنه - أن يسجد لَمَّا قرأها ، ولو كان السجود واجباً لأمره به ؛ لأن من القواعد المقررة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز .
وقد عبّر ابن خزيمة([17]) - رحمه الله - على وجه الاستدلال بهذا الحديث على عدم وجوب السجود بقوله في صحيحه : ( باب : ذكر الدليل على أن السجود عند قراءة السجدة فضيلة لا فريضة ، إذ النبي صلى الله عليه وسلم سجد وسجد المسلمون معه والمشركون جميعاً ؛ إلاَّ الرجلين اللذين أرادا الشهرة ، وقد قرأ زيد بن ثابت عند النبي صلى الله عليه وسلم { النجم } فلم يسجد ، ولم يأمره عليه السلام ، ولو كان السجود فريضة ؛ لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها ، ولولم تكن في { النجم } سجدة ؛ كما توهم بعض الناس ... لما سجد النبي صلى الله عليه وسلم في { النجم } )([18]) ا هـ .
وقال البغوي - رحمه الله - بعد أن ذكر حديث زيد السابق : ( فيه دليلٌ على أن سجود التلاوة غيرُ واجب ، إذ لو كان واجباً لم يتركِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم زيداً حتى يسجد )([19]) ا هـ .
وأمَّا القواعد العلمية التي ترجح القول بعدم الوجوب ، فقد أشار إليها ابن عبدالبر بقوله : ( فلا وجه لقول من أوجب سجود التلاوة فرضاً ؛ لأن الله لم يوجبه ولا رسوله ولا اتفق العلماء على وجوبه ، والفرائض لاتثبت إلاَّ من الوجوه التي ذكرنا ، أو ماكان في معناها ، وبالله توفيقنا )([20]) ا هـ .
وقال في موضع آخر - بعد ذكره للأثرين عن عمر وابنه - : ( أي شيء أبين من هذا عن عمر ، وابن عمر ، ولا مخالف لهما من الصحابة فيما علمت ، وليس قول من أوجبهما بشيء ، والفرائض لاتجب إلاَّ بحجة لا معارض لها - وبالله التوفيق )([21]) ا هـ .
وإذا تقرر هذا علمنا أن القول الراجح في حكم سجود التلاوة هو الاستحباب ، فسجود التلاوة مسنون وليس واجباً ، وهذا هو قول جمهور العلماء - والله تعالى أعلم - .
ويتعلق بهذا المبحث مسألتان :
المسألة الأولى : هل يلزم المستمع السجود إذا سجد القارئ ؟ :
قال ابن عبدالبر في الكافي : ( والسجود سنة للتالي وللسامع إذا كان جالساً إليه ، وليس بواجب على واحد منهما وجوب فرض ، ولكن سنة كما ذكرنا ، وهو على التالي أوكد من المستمع إلاَّ أن يكون التالي إماماً فيشتركان في ذلك )([22]) ا هـ .
مِمَّا سبق يتبين أن ابن عبدالبر يرى أن السجود سنة للتالي والسامع إذا كان جالساً إليه ، أي إذا كان قاصداً للسماع ، وهو من يعبر عنه العلماء بالمستمع .
وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر هو مذهب الحنابلة والشافعية والمالكية .
وذهب الحنفية إلى وجوب ذلك على القارئ وعلى من سمعها ، سواء قصد ذلك أم لا([23]) .
واحتج من قال بأن المستمع يسجد إذا سجد القارئ بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة ، فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضعاً لجبهته([24]) .
هذا إذا سجد التالي ، أمَّا إذا لم يسجد التالي فإن المستمع لايسجد ؛ لأن سجودَ المستمع تبع لسجود القارئ ، فالقارئ أصل والمستمع فرع([25]) .
قال البخاري في صحيحه : ( باب : من سجد لسجود القارئ . وقال ابن مسعود : لتميم بن حَذْلَم ، وهو غلام ، فقرأ عليه سجدة ، فقال : اسجد فإنك إمامنا فيها )([26]) ثُمَّ ذكر حديث ابن عمر السابق .
قال ابن حجر : ( وفي الترجمة إشارة إلى أن القارئ إذا لم يسجد لم يسجد السامع )([27]) ا هـ .
وقال البغوي في شرح السنة : ( والسنة للمستمع أن يسجد بسجود التالي ، فإن لم يسجد التالي فلايتأكد في حقه . قال مالك والشافعي : إذا لم يكن قعد لاستماع القرآن ، فإن شاء سجد ، وإن شاء لم يسجد )([28]) ا هـ .
قال عثمان - رضي الله عنه - : إنَّما السجدة على من استمعها([29]) .
وقولُ ابن عبدالبر : ( وهو على التالي أوكد من المستمع ، إلاَّ أن يكون التالي إماماً فيشتركان في ذلك ) فيه نظر ؛ لأن التالي إذا كان إماماً في الصلاة وسجد فإنه يتعين على المستمع أن يسجد وجوباً متابعة لإمامه ؛ لأن متابعة الإمام واجبة([30]) .
وبهذا نعلم أن سجود المستمع في هذه الحال أوكد من سجود التالي ، فسجود التالي سنة ، وسجود المستمع في الصلاة واجب .
المسألة الثانية : حكم سجود التلاوة في أوقات النهي :
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - وهو يشرح قول مالك في الموطأ : ( وأمَّا قوله : لاينبغي لأحد يقرأ من سجود القرآن شيئاً بعد صلاة الصبح ، ولا بعد صلاة العصر .
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، والسجدة من الصلاة ، فلاينبغي لأحد أن يقرأ سجدة في تينِكَ الساعتين([31]) . فقولٌ صحيح وحجة واضحة .
وأمَّا اختلافهم في سجود التلاوة بعد الصبح وبعد العصر فقد ذكرنا ما ذكره مالك في الموطأ .
وقال ابن القاسم عنه : يسجد في هذين الوقتين ما لم تتغير الشمس أو يُسفر ، فإذا أسفر أو اصفرت الشمس لم يسجد ، وهذه الرواية قياس على مذهبه في صلاة الجنائز .
وقال الثوري مثلَ قول مالك في الموطأ .
وكان أبو حنيفة لايسجد عند الطلوع ولا عند الزوال ولا عند الغروب ، ويسجدها بعد العصر وبعد الفجر .
قال أبو عمر : وهكذا مذهبه في الصلاة على الجنائز .
وقال زُفَرُ([32]) : إن سجد عند طلوع الشمس أو غروبها أو عند استوائها أجزأه إذا تلاها في ذلك الوقت .
وقال الأوزاعي والليث والحسن بن صالح([33]) : لايسجد في الأوقات التي تكره فيها الصلاة .
وقال الشافعي : جائز أن يسجد بعد الصبح وبعد العصر )([34]) ا هـ .
هذا ما ذكره ابن عبدالبر في هذه المسألة ، وقد ذكر أقوال أهل المذاهب فيها ، ولم يبق إلاَّ قول الإمام أحمد .
فذهب أحمد في رواية عنه إلى أنه يسجد في كل وقت ، والرواية الثانية أنه لايسجد في أوقات النهي مطلقاً ، وهي المذهب([35]) .
فهذه خلاصة أقوال أئمة المذاهب في هذه المسألة([36]) .
وأمَّا رأى ابن عبدالبر فيها فهو ما ذكره الإمام مالك في الموطأ وهو أنه لاينبغي لأحدٍ أن يقرأ من سجود القرآن شيئاً بعد صلاة العصر ، وبعد صلاة الصبح ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذين الوقتين ، والسجدة من الصلاة ، فلاينبغي لأحدٍ أن يقرأ سجدة في تينك الساعتين .
قال ابن عبدالبر : هذا قولٌ صحيحٌ وحجةٌ واضحةٌ .
وأقول : قول ابن عبدالبر صحيح إذا اعتبرنا سجود التلاوة صلاةً - كما هو قول جمهور أهل العلم ، ومنهم الأئمة الأربعة وأصحابهم - ولكن الصحيح أن سجود التلاوة لايعتبر صلاةً - كما ذهب إلى ذلك ابن جرير وابن حزم وابن تيمية ، وهو قول الشعبي ، وسعيد بن المسيب([37])([38]) - .
وإذا تقرّر أن سجود التلاوة ليس بصلاة فإنه لاينهى عنه في أوقات النهي ؛ لأن النهي إنَّما هو عن الصلاة ، ولا صلاة .
قال الشوكاني - رحمه الله - : ( روى عن بعض الصحابة أنه يكره سجود التلاوة في الأوقات المكروهة ، والظاهرُ عدم الكراهة ؛ لأن السجود المذكور ليس بصلاة ، والأحاديث الواردة في النهي مختصة بالصلاة )([39]) ا هـ .
يتبع إن شاء الله
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) أخرجه البخاري في كتاب سجود القرآن ، باب : من يسجد لسجود القارئ رقم [1075] ص 214 ( ط : الأفكار الدولية ) ، ومسلم في كتاب المساجد ، باب : سجود التلاوة رقم [575] ص 230 ( ط : الأفكار الدولية ) .
([2]) رقم [1076] باب : ازدحام الناس إذا قرأ الإمام السجدة .
([3]) شرح النووي على صحيح مسلم 5/78 .
([4]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة رقم [81] 60 ، 61 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
([5]) من الكتب المؤلف في أحكام سجود التلاوة - وقد استفدت منها كثيراً في مسائل هذا الموضوع :
1 - إتحاف أهل الإيمان بأحكام سجود القرآن ، تأليف أبي عبدالرحمن محمود الجزائري .
2 - التبيان في سجدات القرآن ، جمع وتحقيق عبدالعزيز بن محمد السدحان .
3 - سجود التلاوة وأحكامه ، للدكتور صالح بن عبد الله اللاحم .
وهذا الكتاب الأخير يدرس أحكام سجود التلاوة ، دراسة فقهية مقارنة بشيء من التوسع .
([6]) انظر : موطأ الإمام مالك 1/181 - 183 .
([7]) أخرجه مالك في الموطأ ، كتاب القرآن ، باب : ماجاء في سجود القرآن ص 182 ، وسأتي تخريجه في التعليق التالي بالتفصيل .
([8]) أخرجه البخاري في كتاب سجود القرآن ، باب : مَن رأى أن الله عزوجل لم يوجب السجود رقم [1077] ص 214 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
([9]) أخرجه البخاري في الموضع السابق بلفظ : ( وزاد نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما : إن الله لم يفرض السجود إلاَّ أن نشاء ) .
([10]) الاستذكار 8/107 - 109 .
([11]) الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبدالبر ص 76 ، 77 .
([12]) انظر أقوال العلماء في حكم سجود التلاوة ومناقشتها في المجموع للنووي 4/61 ، 62 ، وفي كتاب سجود التلاوة وأحكامه للدكتور صالح بن عبد الله اللاحم ص 12 - 27 .
([13]) سبق تخريجه قريباً .
([14]) المجموع للنووي 4/62 .
([15]) إعلام الموقعين لابن القيم 4/178 ، 179 ، 180 ، حيث قرر هذا الكلام وأكّده أكثر من مرة .
([16]) أخرجه البخاري في كتاب سجود القرآن ، باب : من قرأ السجدة ولم يسجد رقم [1072] ص 213 وأخرجه مسلم برقم [577] مطوّلاً .
([17]) هو : الحافظ الثبت ، إمام الأئمة ، وشيخ الإسلام ، أبو بكر ، محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري قال الدارقطني : كان ابن خزيمة إماماً ثبتاً معدوم النظير . سئل عنه عبدالرحمن بن أبي حاتم ، فقال : وَيْحَكُم ، هو يُسألُ عَنَّا ولانُسْألُ عنه ، هو إمام يقتدى به . مناقبه كثيرة - رحمه الله - توفي سنة 311 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 2/441 - 446 ، وسير أعلام النبلاء 14/365 - 382 .
([18]) صحيح ابن خزيمة 1/284 .
([19]) شرح السنة للبغوي 3/310 .
([20]) الاستذكار 8/109 .
([21]) التمهيد 19/133 .
([22]) الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبدالبر ص 77 .
([23]) انظر تفصيل الخلاف في هذه المسألة في كتاب : أحكام سجود التلاوة للدكتور صالح اللاحم ص 28 - 34 .
([24]) سبق تخريجه ص 379 .
([25]) انظر : الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين 4/133 .
([26]) صحيح البخاري ص 214 ، وفتح الباري 2/647 .
([27]) فتح الباري لابن حجر 2/647 .
([28]) شرح السنة للبغوي 3/315 .
([29]) صحيح البخاري كتاب سجود القرآن ، باب : من رَأى أن الله لم يوجب السجود ص 214 .
([30]) انظر : المعتمد في فقه الإمام أحمد 1/165 .
([31]) موطأ الإمام مالك كتاب القرآن ، باب : ماجاء في سجود القرآن ص 182 .
([32]) هو : زُفَرُ بن الهذيل العنبري ، الفقيه المجتهد الرباني ، العلاّمة ، أبو الهذيل ، كان من بحور الفقه ، وأذكياء الوقت ، تفقه بأبي حنيفة ، وهو أكبر تلامذته ، وكان ممن جمع بين العلم والعمل ، وكان يدري الحديث ويتقنه . مات سنة 158 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 8/38 - 41 .
([33]) هو : الحسن بن صالح بن حي ، الإمام القدوة ، أبو عبد الله الهمداني الكوفي ، الفقيه العابد ، كان من كبار المحدثين ، ثقةً حافظاً متقناً عابداً زاهداً . كان وكيع يشبهه بسعيد بن جبير . مات - رحمه الله - سنة 167 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 2/320 - 322 .
([34]) الاستذكار 8/109 - 110 .
([35]) انظر : المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة 1/687 .
([36]) انظر تفصيل هذه المسألة وأقوال العلماء فيها في كتاب أحكام سجود التلاوة للدكتور صالح اللاحم ص 102 - 107 .
([37]) هو : الإمام ، شيخ الإسلام ، وفقيه المدينة ، وسيد التابعين ، سعيد بن المسَيِّبْ ، أبو محمد المخزومي ، أعلم التابعين على الإطلاق ، وكان قد سمع من كثير من الصحابة . وكان من أعبد الناس ، مناقبه كثيرة - رحمه الله تعالى - مات سنة 94 هـ على الأرجح الأقوال في تاريخ وفاته . انظر : طبقات علماء الحديث 1/112 - 113 ، وسير أعلام النبلاء 4/227 - 246 .
([38]) انظر : أقوال العلماء في اعتبار سجود التلاوة صلاة في كتاب أحكام سجود التلاوة للدكتور صالح اللاحم ص 96 - 101 ، وكتاب التبيان في سجدات القرآن لعبدالعزيز السدحان ص 21 - 28 .
([39]) نيل الأوطار للشوكاني 3/126 .