حارث الهمام
New member
- إنضم
- 14/06/2003
- المشاركات
- 43
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
هذا بحث مقتضب كتبته قديماً وعثرت عليه اليوم قدراً فقلت أثبته قبل أن يضيع مرة أخرى!
(تبت يدا أبي لهب)، لماذا كناه؟
قال ابن الجواليقي في شرح أدب الكاتب:"يقال كنوت عن الشيء إذا تكلمت بما يدل عليه، وكنيت الرجل سميته باسم ابنه توقيراً له عن ذكر اسمه وتعظيماً".
وليس من شرط ذلك أن يكون له ولد وإن كان ذلك منه قال الصفدي: "العلم الدال على شخص معين إذا كان مصدراً بأب كأبي بكر وأبي حفص، أو بأم كأم كلثوم وأم المؤمنين فهو الكنية"، وهو نحو ما ذكر القلقشندي في صبح الأعشى. وأضاف الجرجاني في التعريفات شيئاً فقال: "الكنية: ما صدِّر بأب أو بأم، أو ابن أو إبنة"، وبعض أهل اللغة كما أشار الزبيدي في التاج يخرج بعض الكنا مخرج الألقاب كبنت النقا: "دويبة صغيرة"، وذكر عن شيخه أن على هذا أكثر المتقدمين.
وإذا كان الأمر كما ذكر الجواليقي من حيث الأصل فلماذا ذكر عبدالعزى في الآية بكنيته فقال: (تبت يدا أبي لهب وتب)؟
قال الزمخشري: "فإن قلت: لم كناه، والتكنية تكرمة؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه. أحدها: أن يكون مشتهراً بالكنية دون الاسم، فقد يكون الرجل معروفاً بأحدهما، ولذلك تجري الكنية على الاسم، أو الاسم على الكنية عطف بيان، فلما أريد تشهيره بدعوة السوء، وأن تبقى سمة له، ذكر الأشهر من علميه ويؤيد ذلك قراءة من قرأ «يدا أبو لهب»، كما قيل: علي بن أبو طالب. ومعاوية بن أبو سفيان؛ لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع، ولفليتة بن قاسم أمير مكة ابنان، أحدهما: عبد الله - بالجرّ، والآخر عبد الله بالنصب. كان بمكة رجل يقال له: عبد الله - بجرّة الدال، لا يعرف إلاّ هكذا.
والثاني: أنه كان اسمه عبد العزّى، فعدّل عنه إلى كنيته.
والثالث: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته؛ فكان جديراً بأن يذكر بها. ويقال: أبو لهب، كما يقال: أبو الشر للشرير. وأبو الخير للخير، وكما كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا المهلب: أبا صفرة، بصفرة في وجهه. وقيل: كنى بذلك لتهلب وجنتيه وإشراقهما، فيجوز أن يذكر بذلك تهكماً به، وبافتخاره بذلك" أهـ المراد.
وقد ذكر النووي في الأذكار باب: جواز تكنية الكافر والمبتدع والفاسق إذا كان لايعرف إلاّ بها أو خيف من ذكره باسمه فتنة، واستدل له بالآثار الثابتة الصحيحة ومن قبلها الآية.
قال أبو حيان بعد أن ذكر نحوا من الزمخشري مضيفاً سبباً آخرا: "أو لأن الاسم أشرف من الكنية، فعدل إلى الأنقص؛ ولذلك ذكر الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم ولم يكنّ أحداً منهم"، وقد ذكره من قبله القرطبي، ومن قبله ابن العربي.
فعكسوا بهذا الوجه ما خرج لأجله الزمخشري ذكر التكنية وهي تكرمة. وقد أشار ابن عادل إلى قول أبي حيان ثم ذكر قول الزمخشري، وعلق قائلاً: "وهذا يقتضي أن الكنية أشرف، وأكمل لا أنقص، وهو عكس القول الذي تقدم آنفاً"، ولم يمل إلى شيء.
وأما الحافظ ابن حجر فذهب مذهباً قريباً من أبي حيان ومن تقدمه، فقال: "ويمكن جواب آخر وهو أن التكنية لا تدل بمجردها على التعظيم، بل قد يكون الاسم أشرف من الكنية، ولهذا ذكر الله الأنبياء بأسمائهم دون كناهم"، فلم يرجح هذا على هذا وإنما قد وقد. وعلى هذا فهو كالاسم قال اليوسي في المحاضرات: "الاسم العلم ثلاثة: اسم وكنية ولقب. أما الاسم فهو من حيث هو ما أريد به من تعيين المسمى لا يعطى مدحاً ولا ذماً، لصلاحية كل اسم لكل مسمى عند المحققين، ولكن إذا كان منقولاً فكثيراً ما يلاحظ فيه زيادة على تعيين المسمى مدلوله الأول الحقيقي أو المجازي فيشعر بمقتضاه إشعاراً".
وقد قال ابن القيم في تحفة المولود: "الفصل السادس في الفرق بين الاسم والكنية واللقب: هذه الثلاثة وإن اشتركت في تعريف المدعو بها فأنها تفترق في أمر آخر وهو أن الاسم إما أن يفهم مدحا أو ذما أو لا يفهم واحد منهما فإن أفهم ذلك فهو اللقب وغالب استعماله في الذم ...وإما أن لا يفهم مدحا ولا ذما، فإن صدر بأب وأم فهو الكنية، كأبي فلان وأم فلان، وإن لم يصدر بذلك فهو الاسم، كزيد وعمرو وهذا هو الذي كانت تعرفه العرب وعليه مدار مخاطباتهم، وأما فلان الدين، وعز الدين، وعز الدولة، وبهاء الدولة، فإنهم لم يكونوا يعرفون ذلك وإنما أتى هذا من قبل العجم". أهـ
وقد يبدو هذا قريباً من قول ابن حجر الآنف، وهو كذلك لو لا أنه قال قبلها: "والتكنية نوع تكثير وتفخيم للمكنى وإكرام له كما قال: أكنيه حين أناديه لأكرمه * ولا ألقبه والسوأة اللقب".
فلعله أراد أن الكنية بلفظها لايفهم من وضعه مدح ولاذم كالاسم، و أن مدلولها ومدلول الاسم علم مسمى واحد، أما المخاطبة والنداء بها فهو للتكثير والتفخيم والإكرام للمكنى، كما لو قلت: حارث الهمام، اسمه حارث، أو كنية: أبو همام، فإن هذا اللفظ لايدل بذاته على مدح أو ذم، أما إذا ناديت المسمى به عادلاً عن اسمه، فهذا ما جرى مجرى الإكرام وتفخيم. ولهذا قرن هذا بالكلام على اللقب الذي يفهم من وضعه ولفظه إما مدحاً أوذماً.
فائدة: حاصل كلام بعضهم -ويأتي- أن اللكنية من حيث دلالتها على المدح أو الذم تجتمع مع الاسم باعتبار، وتجتمع مع اللقب باعتبار، فباعتبار دلالتها على المدلول الأصلي مجرداً تجتمع مع الاسم، فلا تفيد مدحاً ولا ذماً إلاّ بقرينة مشعرة. وباعتبار إطلاقها في المخاطبة والنداء فالأصل أن تجتمع مع ألقاب التكريم، وعلى خلاف الأصل اجتماعها مع ألقاب الذأم. وكلامنا هنا إطلاقها في الخطاب والنداء.
فتحصل بهذا ثلاثة أوجه في الآية (تبت يدا أبي لهب) :
1- كناه والأصل في التكنية التشريف، لأحد الأسباب الثلاثة التي اقتضت ذكر الكنية وأشار إليها الزمخشري وهذا يبين أن الأصل التشريف وقد ينتقل عن ذلك الأصل لنحو ما ذكر، وفي غير الآية قد ينتقل عنه إذا جرت الكنية مجرى النبذ باللقب كأبي جهل وكنيته أبو الحكم، وقد ذكر طرفاً من هذا البيهقي في المحاسن والمساوئ (محاسن مضاحيك وألقاب) فلينظره من شاء.
2- كناه لأن التكنية أقل شأناً من التسمية. ومن ذكر هذا القول لاينبغي أن يحتاج إلى ذكر الثلاثة التي قبله، إلاّ على فرض التسليم لمعترض فيذكر في جوابه الثلاثة المذكورة أولاً، ثم ينتقل من التسليم إلى الاعتراض فيذكر هذا. وإلاّ فما الحاجة لأن يذكر الثلاثة التي قبلها وكأنه يخرج بها شيئاً عن أصله، مع أنه لايقول بالأصل [فضل التكنية على التسمية] أصلاً.
3- اللتكنية والتسمية على حد سواء فاختار التكنية لمناسبتها حاله يوم القيامة، وإليه أشار ابن حجر.
فائدة: ومن يقول بهذا القول الثالث لايعني أن التكنية كالتسمية في مدلولهما فالمكنى هو عين المسمى بلا إشكال، ولكن المراد نفس إطلاق الكنية أو الاسم في الخطاب أو النداء سواء عنده.
كما أنهم يردون بالتسوية عند الإطلاق بغير قرائن وإلاّ فمن الشائع أن التعبير بالاسم في مواطن مقيدة أشرف في بعض الأعراف، قال الصولي في أدب الكاتب: "ويعنون إلى الأمير بالإسم والتأمير، بغير دعاء ولا كنية اكتفاء بجلالة التأمير، والإسم مع التأمير أجل من الكنية لأنه أشبه بمكاتبة الخلفاء لأنهم يقولون في التصدير للإمام (لعبد الله فلان الإمام أمير المؤمنين)، ولا يأتون بكنية فكذلك شبهوا هذا به، فكان الإسم مع التأمير أجل من الكنية. ثم يكتبون في التصدير للإمام (لعبد الله فلان الإمام أمير المؤمنين). ولولي العهد للأمير أبي فلان فلان بن فلان، كناه الإمام أو لم يكنه ففرقوأ بينه وبين الإمام. وقد يذكر الإمام في سكة الضرب باسمه، ويذكرون ولي العهد يكنيته كما ذكرت لك".
ولعل هذا الذي ذكره أمر عرفي حادث في الإسلام ولهذا قال القلقشندي في صبح الأعشى: "واعلم أن الأولين أكثر ما كانوا يعظمون بعضهم بعضا في المخاطبات ونحوها بالكنى، ويرون ذلك في غاية الرفعة ونهاية التعظيم، حتى في الخلفاء والملوك فيقال: أبو فلان فلان، وبالغوا في ذلك حتى كنوا من اسمه في الأصل كنية فقالوا في أبي بكر أبو المناقب اعتناء بشأن الكنية، وربما وقف الأمر في الزمن القديم في تكنية خاصة الخليفة وأمرائه على ما يكنيه به الخليفة، فيكون له في الرفعة منتهى ينتهي إليه ثم رجع أمرهم بعد ذلك إلى التعظيم بالألقاب.
على أن التعظيم بالكنى باق في الخلفاء والملوك فمن دونهم إلى الان على ما ستقف عليه في مواضعه إن شاء الله تعالى وكذلك القضاة والعلماء بخلاف الأمراء والجند والكتاب فإنه لا عناية لهم بالتكني ثم لا فرق في جواز التكني بين الرجال والنساء..".
ولعل الذي يظهر في وجه تكنية عبدالعزى في آية سورة المسد قرب ما اختاره الزمخشري وتبعه عليه غير واحد من المفسرين، أما القول الرابع ففيه ضعف ظاهر.
وذلك لأسباب منها:
- ما روي ونقل في الكنى والنداء بها، كنحو ما يروى عن عمر -رضي الله عنه-: "أشيعوا الكنى، فإنها منبهة"، أو فإنها سنة، ولم أقف على سند له ولكن إيراد أهل العلم له بلا نكير يدل على المراد بصرف النظر عن مسألة الثبوت. وقد روي عن ابن عمر بسند ساقط حديثاً مرفوعاً: "بادروا أولادكم بالكنى لا تغلب عليهم الألقاب" قال ابن حجر: "والصحيح عن ابن عمر قوله". ولاشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كنى أقواماً صغاراً كأبي عمير وكباراً ما أكثرهم.
- ذكر غير واحد من أهل اللغة وفحولها أن التكنية إعظام وإكرام.قال ابن رشيق في العمدة: "ومن الكناية اشتقاق الكنية؛ لأنك تكني عن الرجل بالأبوة، فتقول:أبو فلان، باسم ابنه، أو ما تعورف في مثله، أو ما اختار لنفسه؛ تعظيماً له وتفخيماً، وتقول ذلك للصبي على جهة التفاؤل بأن يعيش ويكون له ولد"، وقال المبرد من قبله: "والضرب الثالث من الكناية: التفخيم والتعظيمُ، ومنه اشتقت الكنيةُ وهو أن يعظم الرجل أن يدعى باسمه، ووقعت في الكلام على ضربين: وقعت في الصبيِّ على جهة التفاؤل؛ بأن يكون له ولدٌ ويدعى ولده كنايةً عن أسمه، وفي الكبير أن ينادى باسم ولده صيانةً لاسمهِ؛ وإنما يقال: كنيَ عن كذا بكذا، أي تركَ كذا إىل كذا، لبعض ما ذكرنا".
- تشهد نصوص الشعراء على أن التكنية إكرام، كقول القائل -وقد نقله الزمخشري في ربيع الأبرار وغيره:
أكنيه حين أناديه لأكرمه * ولا ألقبه والسوأة اللقب
ولايفهم من هذا أن اللقب سوأة بإطلاق بل هو عندهم محل تفصيل ليس هذا موضوعه، وإن كان هو الأغلب، بيد أن أول من لقب في الإسلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعتيق وبالصديق ولم يكن أي ألقابه سوأة بل قيل عتيق لعتق وجه وجماله، وقيل غير ذلك.
- كثير من أقوال الشعراء يفهم منها أن التكنية تعظيم، ومن ذلك: كلمة البحتري:
يتشاغفن بالصغير المسمى * موبصات وبالكبير المكنى
وقول ابن الرومي:
بكت شجونها الدنيا فلما تبينـت * مكانك منها استبشرت وتثنت
وكان ضئيلاً شخصها فتطاولت * وكانت تسمى ذلة فتكـنـت
- يشهد له كذلك شيء من قصص العرب وأخبارهم.
وجميع ما سبق نقل الزمخشري في ربيع الأبرار طرفاً منه ثم قال: "والذي دعاهم إلى التكنية الإجلال عن التصريح بالاسم بالكناية عنه، ونظيره العدول عن فعل إلى فعل في نحو قوله تعالى: وغيض الماء وقضى الأمر، وقول الكتاب أمر بكذا ونهي عن كذا".
وهذا مشاهد معروف الآن عن بعض من لبسن ثوب الحياء، وتدثرن بدثار الأدب، فلا تراها تنادي زوجها أو من تجل باسمه ولكن تعدل عنه إلى التكنية أو نحوها.
بل عهدت من بعض المشايخ الأفاضل المربين المؤدبين من ذلك أمراً عجباً فلا يكدا ينادي أقل من معه إن عرف له كنية -وإن صغرت سنه- بغيرها، ولمست أثر ذلك.
- قال ابن حجر في الفتح: "قال العلماء: كانوا يكنون الصبي تفاؤلا بأنه سيعيش حتى يولد له، وللأمن من التلقيب، لأن الغالب أن من يذكر شخصا فيعظمه أن لا يذكره باسمه الخاص به فإذا كانت له كنية أمن من تلقيبه، ولهذا قال قائلهم: بادروا أبناءكم بالكنى قبل أن تغلب عليها الألقاب، وقالوا: الكنية للعرب كاللقب للعجم، ومن ثم كره للشخص أن يكني نفسه إلا إن قصد التعريف".
- منع عدد من أهل العلم من تكنية الكافر وعللوا لما فيه من إكبار وتعظيم. وكثير ممن سوغ تكنيته ردها إلى نوع من الإكرام المباح ولاسيما للمصلحة من نحو قول ابن عبدالبر: "وفـيه إجازة تكنية الكافر إذا كان وجها ذا شرف، وطمع بإسلامه، وقد يجوز ذلك وإن لـم يطمع بإسلامه، لأن الطمع لـيس بحقـيقة توجب عملاً وقد قال : «إذا أتاكم كريم قوم، أو كريمة قوم، أو كريمة قوم، فأكرموه»، ولـم يقل إن طمعتم بإسلامه".
- إشار بعضهم كالنووي إلى أن من الأدب أن لايكني المرء نفسه قال: "والأدب أن لا يذكر الرجل كنيته في كتابه ولا في غيره إلا أن لا يعرف إلا بكنيته أو كانت الكنية أشهر من اسمه". وعللوا: لأن الكنية تفيد التعظيم.
- عد بعضهم ترك تكنية صاحب المنصب والجاه لغير كما يقع من قبل بعض الخلفاء مع من هم دونهم من جملة التكبر [التمهيد 19/202].
- ما ثبت من تكنية النبي صلى الله عليه وسلم لعدد من أصحابه من ولد له ومن لم يولد وكذلك السلف، فإن كان هو الاسم سواء أو كان الاسم خيراً ما عدلوا إليها، خاصة مع إرشاده صلى الله عليه وسلم للدعاء بأحب الأسماء. ولهذا قال النووي: "ويستحب تكنية أهل الفضل من الرجال والنساء، سواء كان له ولد، أم لا، وسواء كني بولده، أم بغيره". أهـ من روضة الطالبين، وذكره غيره.
فائدة: من العجيب أن أبا حيان رحمه الله بعد أن قرر الاحتمال الرابع المذكور رجع في أول سورة الحجرات فقال: "وفي الحديث: «كنوا أولادكم». قال عطاء: مخافة الألقاب. وعن عمر: «أشيعوا الكنى فإنها سنة». انتهى، ولا سيما إذا كانت الكنية غريبة، لا يكاد يشترك فيها أحد مع من تكنى بها في عصره، فإنه يطير بها ذكره في الآفاق، وتتهادى أخباره الرفاق، كما جرى في كنيتي بأبي حيان، واسمي محمد. فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر، مما يقع فيه الاشتراك، لم أشتهر تلك الشهرة، وأهل بلادنا جزيرة الأندلس كثيراً ما يلقبون الألقاب، حتى قال فيهم أبو مروان الطنبي:
يا أهل أندلس ما عندكم أدب * بالمشرق الأدب النفاخ بالطيب
يدعى الشباب شيوخاً في مجالسهم * والشيخ عندكم يدعى بتلقيب..."!
فرجع على الوجه الأخير الذي ذكره بالنقض، وماذا إلاّ لرسوخ ما قُرر في عرف العرب، وكذلك ابن حجر قرر ما قرر ثم نقل ما نقل.
فإذا تقرر ذلك، فقد يرد سؤال أشار إليه أبو حيان وهو: لماذا لم يكن الله أحداً من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وهم بالإكرام أولى، وبالإعظام أحرى؟
وجوابه ما قاله الزمخشري: "قالوا: لم تكن الكنى لشيء من الأمم إلا للعرب وهي من مفاخرها"، وقد استجل السيوطي هذه الفائدة في المزهر، وهذا شائع معروف إلى يوم الناس هذا.فالعجم عندهم الألقاب كما أشار ابن القيم وعندهم النداء باسم الجد أو نحوه للرجل، وباسم الزوج للمرأة.
فإن قيل: فلماذ ما أكرم محمداً صلى الله عليه وسلم بالتكنية؟ أجيب عليه من وجوه فيقال" 1- لقد أكرم الله نبيه عليه الصلاة والسلام بما هو فوق ذلك فأشار إليه في مقامات التشريف باسم العبودية المحضة المنسوبة لرب البرية.
2- ولأن محمداً صلى الله عليه وسلم مذكور باسمه في كتب أهل الكتاب، (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ) الآية، فلما كان الخطاب لهم باسمه ناسب أن يصرح في القرآن بما ذكره لهم.
3- ووجه آخر ذكره غزالي عصره أبوعلي الحسن اليوسي في المحاضرات فقال: "وأما الكنية واللقب فيعتبران بوجهين: الأول نفس إطلاق الكنية واللقب، وهما في هذا مختلفان، فإن الكنية الكثير فيها إذا لم تكن اسماً أن يراد بها التعظيم وينبغي أن يعلم أن الناس باعتبارها ثلاثة أصناف:
1- صنف لا يكنى لحقارته، وهو معلوم من أن الحقارة أمر إضافي، فرب حقير يكون له من يراه بعين التعظيم فيكنيه، والمقصود أن التحقير من حيث هو حقير لا يكنى إلاّ هزءاً أو تلميحاً.
2- وصنف لا ينبغي أن يكنى لاستغنائه عنها وترفعه عن مقتضاها، ومن ثم لا يكنى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم أرفع من ذلك حتى إنهم أشرفت رفعتهم على أسمائهم فشرفت، فإذا ذكروا بها كانت أرفع من الكنى في حق غيرهم، وللملوك وسائر أكابر الناس نصيب من هذا المعنى.
3- وصنف متوسط بين هذين، وهو الذي يكنى تعظيماً، ثم إن كان التعظيم مطلوباً ككنية أهل العلم والدين ومن يحسن شرعاً تعظيمه فحسن، وكذا اكتناء المرء بنفسه إن كان تحدثاً بالنعمة أو تبركاً بالكنية باعتبار من صدرت عنه أو نحو ذلك من المقاصد الجميلة فحسن، وإلاّ فمن الشهوات النفسانية، فما كان تكبراً أو تعظيماً لمن لا يجوز تعظيمه بغير ضرورة ونحو ذلك فحرام، وإلاّ فمباح، وليس من هذا الباب ما يقصده به مجرد الإخبار فقط كقولك جاء
أبي أو أبو فلان هذا أي والده، ولا يقصد به معناه على وجه التفاؤل مثلاً نحو أبي الخير وأم السعد. وأما اللقب فيقصد به كل من المدح والذم وغير ذلك، والحكم كالذي قبله. الوجه الثاني النظر إلى مدلولهما الأصلي، وهما في ذلك كما مرّ في الاسم بل ذلك هنا أولى، لأن الأصل فيه أوضح".
فهذه ثلاثة أوجه تقضي على الاعتراض المذكور.
أما الاعتراض بتكنية بعض الكفار من قبل النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة فجوابه من أوجه:
- منها ما قرره النووي من اشتراط شروط لها من نحو عدم اشتهاره إلاّ بها، أو خيف من ذكره باسمه محظور أو فتنة. وكلا الوجهين استعملهما الزمخشري في تخريج آية سورة المسد.
- وقد يقال الأصل أن التكنية إكرام وهذا الأصل قد ينتقل عنه لناقل ظاهر، يفيد غير الإكرام كالتهكم مثلاً، وقد مثل له الزمخشري في تفسير الآية وغيره. كما سمى الحميم للكفار نزلاً، وقال: (إنك أنت العزيز الكريم) تهكماً، وكذلك قوله (أبي لهب * سيصلى ناراً ذات لهب)، كما يقال اليوم على سبيل التهكم: لأنتفن شاربك يا أبا الشوارب! ألا ترى أن ذلك أبلغ في السخرية إن عرف بإكرام الناس له بما أهنته به.
- وقد يقال ليس من الإكرام المنهي عنه تكنية غير الحربي أصلاً، بل هو مندرج تحت قوله: (لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) الآية، وبالأخص إذا اجتمع مع هذا قصد إلى ترغيبه في الإسلام ودعوته، ولعل هذا هو الأقرب غير أنه غير متوجه في الآية.
فإن قيل سقط الوجه الرابع في تخريج آية المسد، فبأي الأوجه الثلاثة الأخرى ينبغي أن يقال؟ قيل بجميعها فكلها صحيحة، وكل واحد منها بمجرده كفيل بإدراك سبب العدول عن التسمية فلما اجتمعت جميعها كان العدول عن ذكر الاسم إلى الكنية بديعاً بليغاً معجزاً عن الإتيان بنظير أو بديل. والله أعلم، وأحكم.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحابه أجمعين.
(تبت يدا أبي لهب)، لماذا كناه؟
قال ابن الجواليقي في شرح أدب الكاتب:"يقال كنوت عن الشيء إذا تكلمت بما يدل عليه، وكنيت الرجل سميته باسم ابنه توقيراً له عن ذكر اسمه وتعظيماً".
وليس من شرط ذلك أن يكون له ولد وإن كان ذلك منه قال الصفدي: "العلم الدال على شخص معين إذا كان مصدراً بأب كأبي بكر وأبي حفص، أو بأم كأم كلثوم وأم المؤمنين فهو الكنية"، وهو نحو ما ذكر القلقشندي في صبح الأعشى. وأضاف الجرجاني في التعريفات شيئاً فقال: "الكنية: ما صدِّر بأب أو بأم، أو ابن أو إبنة"، وبعض أهل اللغة كما أشار الزبيدي في التاج يخرج بعض الكنا مخرج الألقاب كبنت النقا: "دويبة صغيرة"، وذكر عن شيخه أن على هذا أكثر المتقدمين.
وإذا كان الأمر كما ذكر الجواليقي من حيث الأصل فلماذا ذكر عبدالعزى في الآية بكنيته فقال: (تبت يدا أبي لهب وتب)؟
قال الزمخشري: "فإن قلت: لم كناه، والتكنية تكرمة؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه. أحدها: أن يكون مشتهراً بالكنية دون الاسم، فقد يكون الرجل معروفاً بأحدهما، ولذلك تجري الكنية على الاسم، أو الاسم على الكنية عطف بيان، فلما أريد تشهيره بدعوة السوء، وأن تبقى سمة له، ذكر الأشهر من علميه ويؤيد ذلك قراءة من قرأ «يدا أبو لهب»، كما قيل: علي بن أبو طالب. ومعاوية بن أبو سفيان؛ لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع، ولفليتة بن قاسم أمير مكة ابنان، أحدهما: عبد الله - بالجرّ، والآخر عبد الله بالنصب. كان بمكة رجل يقال له: عبد الله - بجرّة الدال، لا يعرف إلاّ هكذا.
والثاني: أنه كان اسمه عبد العزّى، فعدّل عنه إلى كنيته.
والثالث: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته؛ فكان جديراً بأن يذكر بها. ويقال: أبو لهب، كما يقال: أبو الشر للشرير. وأبو الخير للخير، وكما كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا المهلب: أبا صفرة، بصفرة في وجهه. وقيل: كنى بذلك لتهلب وجنتيه وإشراقهما، فيجوز أن يذكر بذلك تهكماً به، وبافتخاره بذلك" أهـ المراد.
وقد ذكر النووي في الأذكار باب: جواز تكنية الكافر والمبتدع والفاسق إذا كان لايعرف إلاّ بها أو خيف من ذكره باسمه فتنة، واستدل له بالآثار الثابتة الصحيحة ومن قبلها الآية.
قال أبو حيان بعد أن ذكر نحوا من الزمخشري مضيفاً سبباً آخرا: "أو لأن الاسم أشرف من الكنية، فعدل إلى الأنقص؛ ولذلك ذكر الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم ولم يكنّ أحداً منهم"، وقد ذكره من قبله القرطبي، ومن قبله ابن العربي.
فعكسوا بهذا الوجه ما خرج لأجله الزمخشري ذكر التكنية وهي تكرمة. وقد أشار ابن عادل إلى قول أبي حيان ثم ذكر قول الزمخشري، وعلق قائلاً: "وهذا يقتضي أن الكنية أشرف، وأكمل لا أنقص، وهو عكس القول الذي تقدم آنفاً"، ولم يمل إلى شيء.
وأما الحافظ ابن حجر فذهب مذهباً قريباً من أبي حيان ومن تقدمه، فقال: "ويمكن جواب آخر وهو أن التكنية لا تدل بمجردها على التعظيم، بل قد يكون الاسم أشرف من الكنية، ولهذا ذكر الله الأنبياء بأسمائهم دون كناهم"، فلم يرجح هذا على هذا وإنما قد وقد. وعلى هذا فهو كالاسم قال اليوسي في المحاضرات: "الاسم العلم ثلاثة: اسم وكنية ولقب. أما الاسم فهو من حيث هو ما أريد به من تعيين المسمى لا يعطى مدحاً ولا ذماً، لصلاحية كل اسم لكل مسمى عند المحققين، ولكن إذا كان منقولاً فكثيراً ما يلاحظ فيه زيادة على تعيين المسمى مدلوله الأول الحقيقي أو المجازي فيشعر بمقتضاه إشعاراً".
وقد قال ابن القيم في تحفة المولود: "الفصل السادس في الفرق بين الاسم والكنية واللقب: هذه الثلاثة وإن اشتركت في تعريف المدعو بها فأنها تفترق في أمر آخر وهو أن الاسم إما أن يفهم مدحا أو ذما أو لا يفهم واحد منهما فإن أفهم ذلك فهو اللقب وغالب استعماله في الذم ...وإما أن لا يفهم مدحا ولا ذما، فإن صدر بأب وأم فهو الكنية، كأبي فلان وأم فلان، وإن لم يصدر بذلك فهو الاسم، كزيد وعمرو وهذا هو الذي كانت تعرفه العرب وعليه مدار مخاطباتهم، وأما فلان الدين، وعز الدين، وعز الدولة، وبهاء الدولة، فإنهم لم يكونوا يعرفون ذلك وإنما أتى هذا من قبل العجم". أهـ
وقد يبدو هذا قريباً من قول ابن حجر الآنف، وهو كذلك لو لا أنه قال قبلها: "والتكنية نوع تكثير وتفخيم للمكنى وإكرام له كما قال: أكنيه حين أناديه لأكرمه * ولا ألقبه والسوأة اللقب".
فلعله أراد أن الكنية بلفظها لايفهم من وضعه مدح ولاذم كالاسم، و أن مدلولها ومدلول الاسم علم مسمى واحد، أما المخاطبة والنداء بها فهو للتكثير والتفخيم والإكرام للمكنى، كما لو قلت: حارث الهمام، اسمه حارث، أو كنية: أبو همام، فإن هذا اللفظ لايدل بذاته على مدح أو ذم، أما إذا ناديت المسمى به عادلاً عن اسمه، فهذا ما جرى مجرى الإكرام وتفخيم. ولهذا قرن هذا بالكلام على اللقب الذي يفهم من وضعه ولفظه إما مدحاً أوذماً.
فائدة: حاصل كلام بعضهم -ويأتي- أن اللكنية من حيث دلالتها على المدح أو الذم تجتمع مع الاسم باعتبار، وتجتمع مع اللقب باعتبار، فباعتبار دلالتها على المدلول الأصلي مجرداً تجتمع مع الاسم، فلا تفيد مدحاً ولا ذماً إلاّ بقرينة مشعرة. وباعتبار إطلاقها في المخاطبة والنداء فالأصل أن تجتمع مع ألقاب التكريم، وعلى خلاف الأصل اجتماعها مع ألقاب الذأم. وكلامنا هنا إطلاقها في الخطاب والنداء.
فتحصل بهذا ثلاثة أوجه في الآية (تبت يدا أبي لهب) :
1- كناه والأصل في التكنية التشريف، لأحد الأسباب الثلاثة التي اقتضت ذكر الكنية وأشار إليها الزمخشري وهذا يبين أن الأصل التشريف وقد ينتقل عن ذلك الأصل لنحو ما ذكر، وفي غير الآية قد ينتقل عنه إذا جرت الكنية مجرى النبذ باللقب كأبي جهل وكنيته أبو الحكم، وقد ذكر طرفاً من هذا البيهقي في المحاسن والمساوئ (محاسن مضاحيك وألقاب) فلينظره من شاء.
2- كناه لأن التكنية أقل شأناً من التسمية. ومن ذكر هذا القول لاينبغي أن يحتاج إلى ذكر الثلاثة التي قبله، إلاّ على فرض التسليم لمعترض فيذكر في جوابه الثلاثة المذكورة أولاً، ثم ينتقل من التسليم إلى الاعتراض فيذكر هذا. وإلاّ فما الحاجة لأن يذكر الثلاثة التي قبلها وكأنه يخرج بها شيئاً عن أصله، مع أنه لايقول بالأصل [فضل التكنية على التسمية] أصلاً.
3- اللتكنية والتسمية على حد سواء فاختار التكنية لمناسبتها حاله يوم القيامة، وإليه أشار ابن حجر.
فائدة: ومن يقول بهذا القول الثالث لايعني أن التكنية كالتسمية في مدلولهما فالمكنى هو عين المسمى بلا إشكال، ولكن المراد نفس إطلاق الكنية أو الاسم في الخطاب أو النداء سواء عنده.
كما أنهم يردون بالتسوية عند الإطلاق بغير قرائن وإلاّ فمن الشائع أن التعبير بالاسم في مواطن مقيدة أشرف في بعض الأعراف، قال الصولي في أدب الكاتب: "ويعنون إلى الأمير بالإسم والتأمير، بغير دعاء ولا كنية اكتفاء بجلالة التأمير، والإسم مع التأمير أجل من الكنية لأنه أشبه بمكاتبة الخلفاء لأنهم يقولون في التصدير للإمام (لعبد الله فلان الإمام أمير المؤمنين)، ولا يأتون بكنية فكذلك شبهوا هذا به، فكان الإسم مع التأمير أجل من الكنية. ثم يكتبون في التصدير للإمام (لعبد الله فلان الإمام أمير المؤمنين). ولولي العهد للأمير أبي فلان فلان بن فلان، كناه الإمام أو لم يكنه ففرقوأ بينه وبين الإمام. وقد يذكر الإمام في سكة الضرب باسمه، ويذكرون ولي العهد يكنيته كما ذكرت لك".
ولعل هذا الذي ذكره أمر عرفي حادث في الإسلام ولهذا قال القلقشندي في صبح الأعشى: "واعلم أن الأولين أكثر ما كانوا يعظمون بعضهم بعضا في المخاطبات ونحوها بالكنى، ويرون ذلك في غاية الرفعة ونهاية التعظيم، حتى في الخلفاء والملوك فيقال: أبو فلان فلان، وبالغوا في ذلك حتى كنوا من اسمه في الأصل كنية فقالوا في أبي بكر أبو المناقب اعتناء بشأن الكنية، وربما وقف الأمر في الزمن القديم في تكنية خاصة الخليفة وأمرائه على ما يكنيه به الخليفة، فيكون له في الرفعة منتهى ينتهي إليه ثم رجع أمرهم بعد ذلك إلى التعظيم بالألقاب.
على أن التعظيم بالكنى باق في الخلفاء والملوك فمن دونهم إلى الان على ما ستقف عليه في مواضعه إن شاء الله تعالى وكذلك القضاة والعلماء بخلاف الأمراء والجند والكتاب فإنه لا عناية لهم بالتكني ثم لا فرق في جواز التكني بين الرجال والنساء..".
ولعل الذي يظهر في وجه تكنية عبدالعزى في آية سورة المسد قرب ما اختاره الزمخشري وتبعه عليه غير واحد من المفسرين، أما القول الرابع ففيه ضعف ظاهر.
وذلك لأسباب منها:
- ما روي ونقل في الكنى والنداء بها، كنحو ما يروى عن عمر -رضي الله عنه-: "أشيعوا الكنى، فإنها منبهة"، أو فإنها سنة، ولم أقف على سند له ولكن إيراد أهل العلم له بلا نكير يدل على المراد بصرف النظر عن مسألة الثبوت. وقد روي عن ابن عمر بسند ساقط حديثاً مرفوعاً: "بادروا أولادكم بالكنى لا تغلب عليهم الألقاب" قال ابن حجر: "والصحيح عن ابن عمر قوله". ولاشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كنى أقواماً صغاراً كأبي عمير وكباراً ما أكثرهم.
- ذكر غير واحد من أهل اللغة وفحولها أن التكنية إعظام وإكرام.قال ابن رشيق في العمدة: "ومن الكناية اشتقاق الكنية؛ لأنك تكني عن الرجل بالأبوة، فتقول:أبو فلان، باسم ابنه، أو ما تعورف في مثله، أو ما اختار لنفسه؛ تعظيماً له وتفخيماً، وتقول ذلك للصبي على جهة التفاؤل بأن يعيش ويكون له ولد"، وقال المبرد من قبله: "والضرب الثالث من الكناية: التفخيم والتعظيمُ، ومنه اشتقت الكنيةُ وهو أن يعظم الرجل أن يدعى باسمه، ووقعت في الكلام على ضربين: وقعت في الصبيِّ على جهة التفاؤل؛ بأن يكون له ولدٌ ويدعى ولده كنايةً عن أسمه، وفي الكبير أن ينادى باسم ولده صيانةً لاسمهِ؛ وإنما يقال: كنيَ عن كذا بكذا، أي تركَ كذا إىل كذا، لبعض ما ذكرنا".
- تشهد نصوص الشعراء على أن التكنية إكرام، كقول القائل -وقد نقله الزمخشري في ربيع الأبرار وغيره:
أكنيه حين أناديه لأكرمه * ولا ألقبه والسوأة اللقب
ولايفهم من هذا أن اللقب سوأة بإطلاق بل هو عندهم محل تفصيل ليس هذا موضوعه، وإن كان هو الأغلب، بيد أن أول من لقب في الإسلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعتيق وبالصديق ولم يكن أي ألقابه سوأة بل قيل عتيق لعتق وجه وجماله، وقيل غير ذلك.
- كثير من أقوال الشعراء يفهم منها أن التكنية تعظيم، ومن ذلك: كلمة البحتري:
يتشاغفن بالصغير المسمى * موبصات وبالكبير المكنى
وقول ابن الرومي:
بكت شجونها الدنيا فلما تبينـت * مكانك منها استبشرت وتثنت
وكان ضئيلاً شخصها فتطاولت * وكانت تسمى ذلة فتكـنـت
- يشهد له كذلك شيء من قصص العرب وأخبارهم.
وجميع ما سبق نقل الزمخشري في ربيع الأبرار طرفاً منه ثم قال: "والذي دعاهم إلى التكنية الإجلال عن التصريح بالاسم بالكناية عنه، ونظيره العدول عن فعل إلى فعل في نحو قوله تعالى: وغيض الماء وقضى الأمر، وقول الكتاب أمر بكذا ونهي عن كذا".
وهذا مشاهد معروف الآن عن بعض من لبسن ثوب الحياء، وتدثرن بدثار الأدب، فلا تراها تنادي زوجها أو من تجل باسمه ولكن تعدل عنه إلى التكنية أو نحوها.
بل عهدت من بعض المشايخ الأفاضل المربين المؤدبين من ذلك أمراً عجباً فلا يكدا ينادي أقل من معه إن عرف له كنية -وإن صغرت سنه- بغيرها، ولمست أثر ذلك.
- قال ابن حجر في الفتح: "قال العلماء: كانوا يكنون الصبي تفاؤلا بأنه سيعيش حتى يولد له، وللأمن من التلقيب، لأن الغالب أن من يذكر شخصا فيعظمه أن لا يذكره باسمه الخاص به فإذا كانت له كنية أمن من تلقيبه، ولهذا قال قائلهم: بادروا أبناءكم بالكنى قبل أن تغلب عليها الألقاب، وقالوا: الكنية للعرب كاللقب للعجم، ومن ثم كره للشخص أن يكني نفسه إلا إن قصد التعريف".
- منع عدد من أهل العلم من تكنية الكافر وعللوا لما فيه من إكبار وتعظيم. وكثير ممن سوغ تكنيته ردها إلى نوع من الإكرام المباح ولاسيما للمصلحة من نحو قول ابن عبدالبر: "وفـيه إجازة تكنية الكافر إذا كان وجها ذا شرف، وطمع بإسلامه، وقد يجوز ذلك وإن لـم يطمع بإسلامه، لأن الطمع لـيس بحقـيقة توجب عملاً وقد قال : «إذا أتاكم كريم قوم، أو كريمة قوم، أو كريمة قوم، فأكرموه»، ولـم يقل إن طمعتم بإسلامه".
- إشار بعضهم كالنووي إلى أن من الأدب أن لايكني المرء نفسه قال: "والأدب أن لا يذكر الرجل كنيته في كتابه ولا في غيره إلا أن لا يعرف إلا بكنيته أو كانت الكنية أشهر من اسمه". وعللوا: لأن الكنية تفيد التعظيم.
- عد بعضهم ترك تكنية صاحب المنصب والجاه لغير كما يقع من قبل بعض الخلفاء مع من هم دونهم من جملة التكبر [التمهيد 19/202].
- ما ثبت من تكنية النبي صلى الله عليه وسلم لعدد من أصحابه من ولد له ومن لم يولد وكذلك السلف، فإن كان هو الاسم سواء أو كان الاسم خيراً ما عدلوا إليها، خاصة مع إرشاده صلى الله عليه وسلم للدعاء بأحب الأسماء. ولهذا قال النووي: "ويستحب تكنية أهل الفضل من الرجال والنساء، سواء كان له ولد، أم لا، وسواء كني بولده، أم بغيره". أهـ من روضة الطالبين، وذكره غيره.
فائدة: من العجيب أن أبا حيان رحمه الله بعد أن قرر الاحتمال الرابع المذكور رجع في أول سورة الحجرات فقال: "وفي الحديث: «كنوا أولادكم». قال عطاء: مخافة الألقاب. وعن عمر: «أشيعوا الكنى فإنها سنة». انتهى، ولا سيما إذا كانت الكنية غريبة، لا يكاد يشترك فيها أحد مع من تكنى بها في عصره، فإنه يطير بها ذكره في الآفاق، وتتهادى أخباره الرفاق، كما جرى في كنيتي بأبي حيان، واسمي محمد. فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر، مما يقع فيه الاشتراك، لم أشتهر تلك الشهرة، وأهل بلادنا جزيرة الأندلس كثيراً ما يلقبون الألقاب، حتى قال فيهم أبو مروان الطنبي:
يا أهل أندلس ما عندكم أدب * بالمشرق الأدب النفاخ بالطيب
يدعى الشباب شيوخاً في مجالسهم * والشيخ عندكم يدعى بتلقيب..."!
فرجع على الوجه الأخير الذي ذكره بالنقض، وماذا إلاّ لرسوخ ما قُرر في عرف العرب، وكذلك ابن حجر قرر ما قرر ثم نقل ما نقل.
فإذا تقرر ذلك، فقد يرد سؤال أشار إليه أبو حيان وهو: لماذا لم يكن الله أحداً من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وهم بالإكرام أولى، وبالإعظام أحرى؟
وجوابه ما قاله الزمخشري: "قالوا: لم تكن الكنى لشيء من الأمم إلا للعرب وهي من مفاخرها"، وقد استجل السيوطي هذه الفائدة في المزهر، وهذا شائع معروف إلى يوم الناس هذا.فالعجم عندهم الألقاب كما أشار ابن القيم وعندهم النداء باسم الجد أو نحوه للرجل، وباسم الزوج للمرأة.
فإن قيل: فلماذ ما أكرم محمداً صلى الله عليه وسلم بالتكنية؟ أجيب عليه من وجوه فيقال" 1- لقد أكرم الله نبيه عليه الصلاة والسلام بما هو فوق ذلك فأشار إليه في مقامات التشريف باسم العبودية المحضة المنسوبة لرب البرية.
2- ولأن محمداً صلى الله عليه وسلم مذكور باسمه في كتب أهل الكتاب، (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ) الآية، فلما كان الخطاب لهم باسمه ناسب أن يصرح في القرآن بما ذكره لهم.
3- ووجه آخر ذكره غزالي عصره أبوعلي الحسن اليوسي في المحاضرات فقال: "وأما الكنية واللقب فيعتبران بوجهين: الأول نفس إطلاق الكنية واللقب، وهما في هذا مختلفان، فإن الكنية الكثير فيها إذا لم تكن اسماً أن يراد بها التعظيم وينبغي أن يعلم أن الناس باعتبارها ثلاثة أصناف:
1- صنف لا يكنى لحقارته، وهو معلوم من أن الحقارة أمر إضافي، فرب حقير يكون له من يراه بعين التعظيم فيكنيه، والمقصود أن التحقير من حيث هو حقير لا يكنى إلاّ هزءاً أو تلميحاً.
2- وصنف لا ينبغي أن يكنى لاستغنائه عنها وترفعه عن مقتضاها، ومن ثم لا يكنى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم أرفع من ذلك حتى إنهم أشرفت رفعتهم على أسمائهم فشرفت، فإذا ذكروا بها كانت أرفع من الكنى في حق غيرهم، وللملوك وسائر أكابر الناس نصيب من هذا المعنى.
3- وصنف متوسط بين هذين، وهو الذي يكنى تعظيماً، ثم إن كان التعظيم مطلوباً ككنية أهل العلم والدين ومن يحسن شرعاً تعظيمه فحسن، وكذا اكتناء المرء بنفسه إن كان تحدثاً بالنعمة أو تبركاً بالكنية باعتبار من صدرت عنه أو نحو ذلك من المقاصد الجميلة فحسن، وإلاّ فمن الشهوات النفسانية، فما كان تكبراً أو تعظيماً لمن لا يجوز تعظيمه بغير ضرورة ونحو ذلك فحرام، وإلاّ فمباح، وليس من هذا الباب ما يقصده به مجرد الإخبار فقط كقولك جاء
أبي أو أبو فلان هذا أي والده، ولا يقصد به معناه على وجه التفاؤل مثلاً نحو أبي الخير وأم السعد. وأما اللقب فيقصد به كل من المدح والذم وغير ذلك، والحكم كالذي قبله. الوجه الثاني النظر إلى مدلولهما الأصلي، وهما في ذلك كما مرّ في الاسم بل ذلك هنا أولى، لأن الأصل فيه أوضح".
فهذه ثلاثة أوجه تقضي على الاعتراض المذكور.
أما الاعتراض بتكنية بعض الكفار من قبل النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة فجوابه من أوجه:
- منها ما قرره النووي من اشتراط شروط لها من نحو عدم اشتهاره إلاّ بها، أو خيف من ذكره باسمه محظور أو فتنة. وكلا الوجهين استعملهما الزمخشري في تخريج آية سورة المسد.
- وقد يقال الأصل أن التكنية إكرام وهذا الأصل قد ينتقل عنه لناقل ظاهر، يفيد غير الإكرام كالتهكم مثلاً، وقد مثل له الزمخشري في تفسير الآية وغيره. كما سمى الحميم للكفار نزلاً، وقال: (إنك أنت العزيز الكريم) تهكماً، وكذلك قوله (أبي لهب * سيصلى ناراً ذات لهب)، كما يقال اليوم على سبيل التهكم: لأنتفن شاربك يا أبا الشوارب! ألا ترى أن ذلك أبلغ في السخرية إن عرف بإكرام الناس له بما أهنته به.
- وقد يقال ليس من الإكرام المنهي عنه تكنية غير الحربي أصلاً، بل هو مندرج تحت قوله: (لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) الآية، وبالأخص إذا اجتمع مع هذا قصد إلى ترغيبه في الإسلام ودعوته، ولعل هذا هو الأقرب غير أنه غير متوجه في الآية.
فإن قيل سقط الوجه الرابع في تخريج آية المسد، فبأي الأوجه الثلاثة الأخرى ينبغي أن يقال؟ قيل بجميعها فكلها صحيحة، وكل واحد منها بمجرده كفيل بإدراك سبب العدول عن التسمية فلما اجتمعت جميعها كان العدول عن ذكر الاسم إلى الكنية بديعاً بليغاً معجزاً عن الإتيان بنظير أو بديل. والله أعلم، وأحكم.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحابه أجمعين.