لايكاد يخلو المرء منا من أن يُعتدى أو يخطأ عليه في حياته ، إما في بدنه أو ماله أو عرضه أو غير ذلك .
وماأكثر مايحصل البغي والعدوان في مقابلة ذلك حتى من بعض أهل الخير والصلاح ، وقد جاء القرآن هاديا وموجها في هذا .
فالأحوال – في مقابلة ذلك الاعتداء - ثلاثة:
1.القصاص: و هذا جائز.
2.الظلم: وهذا ممنوع.
3.العفو: وهذا مندوب ، ولكن يقيد بما إذا كان فيه إصلاح.
فطريقـة القرآن إباحة الاقتصاص من المعتـدي ومقابلتـه بمثل عدوانـه وهذه الحالة الأولى .
والنهي عن ظلمه ، وهذه الثانية .
والندب إلى العفو والإحسان ، وهذه الثالثة .
وجمعت هذه المراتب الثلاث في قوله تعالى ]وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[ (الشورى:40) .
وهذا التوجيه السامي وارد في آيات كثيرة كقوله ]وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ[ (النحل:126) ، ولما كان القتال في المسجد الحرام محرماً قال تعالى: ]فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ[ (البقرة:91) ]فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ(193)الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ[ (البقرة:193-194) وهو كل ما حرمه الله وأمر باحترامه، فمن انتهكه فقد أباح الله الاقتصاص منه بقدر ما اعتدى به لا أكثر، وقوله: ]فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ[ (البقرة:194) .
وقال سبحانه : ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى..[ (البقرة:178) ]وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ..[ (المائدة:45) ]لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ[ (النساء:148) .
وفي النهي عن مقابلة العدوان بالظلم قال تعالى : ]وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا[ (الإسراء:33) والآيات في هذا المعنى كثيرة والله أعلم .
انظر : القواعد الحسان – مع تصرف وزيادة – وتعليقات الشيخ ابن عثيمين عليها ، وإنني أنصح إخواني بسماع تلك التعليقات لما فيها من التهذيب والتحرير ، كما في كلامه على قصة الغرانيق ورأيه في ذلك مثلا ، بل ربما ناقش شيخه وخالفه كما في تحقيقه لقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف:110) .
من آذاه الناس الناس في ماله أو عرضه أو نفسه شرع له أن يصبر ، وهذا النوع من الصائب يصعب الصبر عليه جداً، لأن النفس تستعدي المؤذي لها، وهي تكره الغلبة، فتطلب الانتقام، فلا يصبر على هذا النوع إلا الأنبياء والصديقون، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا أوذي يقول «يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» وأخبر عن نبي من الأنبياء أنه ضربه قومه فجعل يقول : « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه جرى له هذا مع قومه، فجعل يقول مثل ذلك.
فجمع في هذا ثلاثة أمور: العفو عنهم، والاستغفار لهم، والاعتذار عنهم بأنهم لا يعلمون، وهذا النوع من الصبر يثمر النصر والعز والسرور والأمن والقوة في ذات الله، وزيادة محبة الله ومحبة الناس له وزيادة العلم، ولهذا قال الله تعالى : {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} (السجدة 24) فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين؛ فإن انضاف الى هذا الصبر قوة اليقين والإيمان ترقى العبد في درجات السعادة بفضل الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ولهذا قال الله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم «34» وما يلقاها} يعني الأعمال الصالحة مثل العفو والصفح { إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حـظ عظيم }فصلت 34-35 ، نصيب وافر وهي الجنة، ويعين العبد على هذا الصبر عدة أشياء ذكرها غابن القيم في مدارج السالكين :
أحدهـا
أن يشهد أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد حركاتهم وسكناتهم وإراداتهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العلوي والسفلي ذرة إلا بإذنه ومشيئته، فانظر إلى الذي سلطهم عليك، ولا تنظر إلى فعلهم بك؛ تستريح من الهم والغم والحزن.
الثانــي
أن يشهد ذنوبه ، وأن الله إنما سلطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (الشورى 30) فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتغل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطتهم عليه، عن ذمهم ولومهم والوقيعة فيهم، وإذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار فاعلم أن مصيبته مصيبة حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال : هذا بذنوبي صارت في حقه نعمه.
قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه كلمة من جواهر الكلام: « لايرجونّ عبد إلا ربه ، ولا يخافنّ عبد إلا ذنبه » وروى عنه وعن غيره : ( ما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا رفع إلا بتوبة ).
الثـالـث
أن يشهد العبد حسن الثواب الذي وعده الله لمن عفى وصبر ، كما قال تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الـظالمين}، ولما كان الناس عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام : ظالم يأخذ فوق حقه؛ ومقتصد يأخذ بقدر حقه؛ ومحسن يعفو ويترك حقه. ذكر الأقسام الثلاثة في هذه الآية فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها للظالمين، ويشهد نداء المنادي يوم القيامة { ألا ليقم من وجب أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفى وأصلح } وإذا شهد مع ذلك فوت الأجر بالانتقام والاستيفاء سهل عليه الصبر والعفو.
الرابع
أن يشهد أنه إذا عفى وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه، ونقائه من الغش، والغل، وطلب الانتقام، وإرادة الشر، وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلاً وآجلا على المنفعة الحاصلة له بالإنتقام أضعافاً مضاعفة، ويدخل في قوله تعالى { والله يحب المحسنين} آل عمران ، فيصير محبوبا لله، ويصير حاله حال من أخذ منه دراهم فعوض عنها الوفا من الدنانير، فحينئذ يفرح بما من الله عليه أعظم ما يكون فرحا.
الخامس
أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلا وجده في نفسه فإذا عفى أعزه الله، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام حيث يقول : « ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا» رواه مسلم فالعز الحاصل له بالعفو أحب إليه وأنفع له من العز الحاصل له بالانتقام، فإن هذا عز في الظاهر وهو يورث في الباطن ذلا؛ والعفو ذل في الظاهر وهو يورث العز باطناً وظاهراً.
السادس
وهي من أعظم الفوائد- أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل وأنه نفسه ظالم مذنب، وأن من عفى عن الناس عفى الله عنه، ومن غفر غفر الله له، فإذا شهد أن عفوه عنهم وصفحه وإحسانه مع إساءتهم إليه، سبب لأن يجزيه الله كذلك من جنس عمله فيعفو عنه ويصفح ويحسن إليه على ذنوبه، سهل عليه عفوه وصبره ويكفي العاقل هذه الفائدة.
السابع
أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه زمانه وتفرق عليه قلبه، وفاته من مصالحه، ما لا يمكن استدراكه، ولعل هذا يكون أعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهتهم، فإذا عفى وصفح فرغ قلبه وجسمه لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام.
الثامـن
أن انتقامه واستيفائه وانتصاره لنفسه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط، فإذا كان هذا خير خلق الله وأكرمهم على الله لم يكن ينتقم لنفسه مع أن أذاه أذى لله ويتعلق به حقوق الدين، ونفسه أشرف الأنفس، وأزكاها، وأبرها وأبعدها من كل خلق مذموم، وأحقها بكل خلق جميل، ومع هذا فلم يكن ينتقم لها، فكيف ينتقم أحدنا لنفسه التي هو أعلم بها وبما فيها من العيوب والشرور بل الرجل العارف لا تساوي نفسه عنده أن ينتقم لها، ولا قدر لها عنده يوجب عليه انتصاره لها.
التـاسـع
إن أوذي على ما فعله لله أو على ما أمره به من طاعته ونهى عنه من معصيته وجب عليه الصبر ولم يكن له الانتقام، فإنه قد أوذى في الله، فأجره على الله، ولهذا لما كان المجاهدون في سبيل الله ذهبت دماؤهم وأموالهم في الله لم تكن مضمونة، فإن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلب الثمن منهم لم يكن له على الله ثمن، فإنه من كان في الله نفقه كان على الله خلفه.
وإن كان قد أوذي على معصية فليرجع باللوم على نفسه، ويكون في لومه لها شغل عن لومه لمن آذاه.
وإن كان قد أوذي على حظ، فليوطن نفسه على الصبر، فإن نيل الحظوظ دونه أمرٌ أمرُّ من الصبر، فمن لم يصبر على حر الهواجر، والامطار والثلوج، ومشقة الاسفار، ولصوص الطريق، وإلا فلا حاجة له في المتاجر وهذا أمر معلوم عند الناس أن من صدق في طلب شيء من الأشياء بذل من الصبر في تحصيله بقدر صدقة في طلبه.
العاشـر
أن يشهد معية الله معه إذا صبر، ومحبة الله له ورضاه، ومن كان الله معه دفع عنه من أنواع الأذى والمضرات ما لايدفع عنه أحد من خلقه، قال الله تعالى : { واصبروا إن الله مع الصابرين} الانفال 46 وقال : { والله يحب الصابرين} آل عمران
الحادي عشر
أن يشهد أن الصبر نصف الإيمان، فلا يبدل من إيمانه جزء في نصرة نفسه، فإن صبر فقد أحرز إيمانه وصانه من النقص والله تعالى يدافع عن الذين آمنوا.
الثاني عشر
أن يشهد أن صبره حكم منه على نفسه وقهر لها، وغلبة لها، فمتى كانت النفس مقهورة معه مغلوبة، لم تطمع في استرقاقة، وأسره وإلقائه في المهالك، ومتى كان مطيعاً لها سامعاً منها مقهوراً معها لم تزل به حتى تهلكه، أو تتداركه رحمة من ربه. فلو لم يكن في الصبر إلا قهره لنفسه ولشيطانه؛ فحينئذ يظهر سلطان القلب ويثبت جنوده، فيفرح ويقوى ويطرد العدو عنه.
الثالث عشر
أن يعلم أنه إن صبر فالله ناصره ولابد، فإن الله وكيل من صبر وأحال ظالمه عليه، ومن انتصر بنفسه لنفسه وكله الله إلى نفسه فكان هو الناصر لها، فأين من ناصر الله خير الناصرين، إلى من ناصره نفسه أعجز الناصرين وأضعفه.
الرابع عشر
أن صبره على من آذاه واحتماله له يوجب رجوع خصمه عن ظلمه وندامته واعتذاره، ولوم الناس له فيعود بعد إيذائه له مستحيا منه، نادماً على ما فعله؛ بل يصير موالياً له وهذا معنى قوله : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم «34» وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}. فصلت
الخامس عشر
ربما كان انتقامه سبباً لزيادة شر خصمه وقوة نفسه وفكرته في أنواع الأذى التي يوصلها إليه كما هو المشاهد، فإذا صبر وعفى أمن من هذا الضرر، والعاقل لا يختار أعظم الضررين بدفع أدناهما، وكم قد جلب الانتقام والمقابلة من شر عجز صاحبه عن دفعه، وكم قد ذهبت به نفوس ورياسات وأموال وممالك لو عفى المظلوم لبقيت عليه.
السادس عشر
أن من اعتاد الانتقام ولم يصبر ، لابد أن يقع في الظلم، فإن النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها. لا عملاً، ولا إرادة وربما عجزت عن الاقتصار على قدر الحق، فإن الغضب يخرج بصاحبه إلى حد لا يعقل ما يقول وما يفعل، فبين هو مظلوم ينتظر النصر والعز إذا انقلب ظالماً ينتـظر المقت والعقوبة.
السابع عشر
أن هذه المظلمة التي ظلمها هي سبب، إما لتكفير سيئة، أو رفع درجة، فإذا انتقم ولم يصبر لم تكن مكفرة لسيئته ولا رافعة لدرجته.
الثامن عشر
أن عفوه وصبره من أكبر الجند له على خصمه، فإن من صبر وعفى كان صبره وعفوه موجبا لذل عدوه، وخوفه وخشيته منه، ومن الناس، فإن الناس لا يسكتون عن خصمه وإن سكت هو، فإذا انتقم زال ذلك كله ولهذا تجد كثيراً من الناس إذا شتم غيره أو آذاه يحب أن يستوفي منه، فإذا قابله استراح وألقى عنه ثقلاً كان يجده.
التاسع عشر
أنه إذا عفى عن خصمه، استشعرت نفس خصمه أنه فوقه، وأنه قد ربح عليه فلا يزال يرى نفسه دونه وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعفو.
العشرون
أنه إذا عفى وصفح كانت هذه الحسنة، فتولد له حسنة أخرى، وتلك الأخرى تولد أخرى، وهلم جرا، فلا تزال حسناته في مزيد، فإن من ثواب الحسنة الحسنة، كما أن من عقاب السيئة السيئة بعدها، وربما كان هذا سبباً لنجاته وسعادته الأبدية، فإذا انتقم وانتصر زال ذلك.
هذا النقل الذي تفضل أخونا ابو مجاهد بنقله عن ابن القيم ، يكاد يكون بحروفه في قاعدة كتبها شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية ، عنوانها : (قاعدة في الصبر) ضمن جامع المسائل 1/165 .
أشكر أخي الكريم عمر المقبل على تنبيهه السابق .
ومن باب الأمانة في النقل أنبه على أني قد نقلت الموضوع السابق من موقع صيد الفوائد ، وقد ذكر بلا مرجع ، ولما قرأت المشاهد المذكورة فيه ذكرتني بكلام لابن القيم في مدارج السالكين ، فأضفت الإحالة إليه من عندي وهي ليست في المقال السابق الذي يظهر أنه منقول من المرجع الذي ذكره الشيخ عمر .
وأما كلام ابن القيم فهذا نصه في مدارج السالكين عند كلامه عن منزلة الخُلق . قال رحمه الله :
( وههنا للعبد أحد عشر مشهداً فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه.
أحدها: المشهد الذي ذكره الشيخ رحمه الله. وهو مشهد القدر وأن ما جرى عليه: بمشيئة الله وقضائه وقدره. فيراه كالتأذي بالحر والبرد، والمرض والألم، وهبوب الرياح، وانقطاع الأمطار. فإن الكل أوجبته مشيئة الله. فما شاء الله كان. ووجب وجوده. وما لم يشأ لم يكن. وامتنع وجوده. وإذا شهد هذا: استراح. وعلم أنه كائن لا محالة. فما للجزع منه وجه. وهو كالجزع من الحر والبرد والمرض والموت.
فصـل
المشهد الثاني: مشهد الصبر فيشهده ويشهد وجوبه، وحسن عاقبته، وجزاء أهله، وما يترتب عليه من الغبطة والسرور. ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام. فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة. وعلم أنه إن لم يصبر اختياراً على هذا -وهو محمود- صبر اضطراراً على أكبر منه. وهو مذموم.
فصـل
المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته: لم يعدل عنه إلا لعشى في بصيرته. فإنه "ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً" كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعلم بالتجربة والوجود. وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل.
هذا، وفي الصفح والعفو الحلم: من الحلاوة والطمأنينة والسكينة، وشرف النفس، وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام: ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام.
فصـل
المشهد الرابع: مشهد الرضى وهو فوق مشهد العفو والصفح وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، سيما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله. فإذا كان ما أصيب به في الله، وفي مرضاته ومحبته: رضيت بما نالها في الله. وهذا شأن كل محب صادق، يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره. ومتى تسخط به وتشكي منه، كان ذلك دليلا على كذبه في محبته. والواقع شاهد بذلك، والمحب الصادق كما قيل:
من أجلك جعلت خدي أرضـا__للشامت والحسود حتى ترضى
ومن لم يرض بما يصيبه في سبيل محبوبه، فلينزل عن درجة المحبة. وليتأخر فليس من ذا الشأن.
فصـل
المشهد الخامس: مشهد الإحسان وهو أرفع مما قبله. وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان. فيحسن إليه كلما أساء هو إليه. ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه. وأنه قد أهدى إليه حسناته، ومحاها من صحيفته. وأثبتها في صحيفة من أساء إليه. فينبغي لك أن تشكره، وتحسن إليه بما لا نسبة له إلى ما أحسن به إليك.
وههنا ينفع استحضار مسألة اقتضاء الهبة الثواب. وهذا المسكين قد وهبك حسناته. فإن كنت من أهل الكرم فأثبه عليها، لثبت الهبة. وتأمن رجوع الواهب فيها.
وفي هذا حكايات معروفة عن أرباب المكارم. وأهل العزائم.
ويهونه عليك أيضاً: علمك بأن الجزاء من جنس العمل. فإن كان هذا عملك في إساءة المخلوق إليك عفوت عنه. وأحسنت إليه، مع حاجتك وضعفك وفقرك وذلك. فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في إساءتك. يقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك. فهذا لابد منه. وشاهده في السنة من وجوه كثيرة لمن تأملها.
فصـل
المشهد السادس: مشهد السلامة وبرد القلب وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه، وذاق حلاوته. وهو أن لا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى، وطلب الوصول إلى درك ثأره، وشفاء نفسه. بل يفرغ قلبه من ذلك. ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له. وألذ وأطيب. وأعون على مصالحه. فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ماهو أهم عنده، وخير له منه. فيكون بذلك مغبوناً. والرشيد لا يرضى بذلك. ويرى أنه من تصرفات السفيه. فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس، وإعمال الفكر في إدراك الانتقام؟.
فصـل
المشهد السابع: مشهد الأمن فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام: أمن ماهو شر من ذلك. وإذا انتقم: واقعه الخوف ولابد. فإن ذلك يزرع العداوة. والعاقل لا يأمن عدوه، ولو كان حقيرا. فكم من حقير أردى عدوه الكبير؟ فإذا غفر، ولم ينتقم، ولم يقابل: أمن من تولد العداوة، أو زيادتها. ولابد أن عفوه وحلمه وصفحه يكسر عنه شوكة عدوه. ويكف من جزعه، بعكس الانتقام. والواقع شاهد بذلك أيضا.
فصـل
المشهد الثامن: مشهد الجهاد وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله. وأمرهم بالمعروف. ونهيهم عن المنكر. وإقامة دين الله، وإعلاء كلماته.
وصاحب هذا المقام: قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن. فإن أراد أن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها. فلا حق له على من آذاه. ولا شيء له قبله، إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع. فإنه قد وجب أجره على الله.
وهذا ثابت بالنص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم. ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين من سكنى مكة -أعزها الله- ولم يرد على أحد منهم داره ولا ماله الذي أخذه الكفار. ولم يضمنهم دية من قتلوه في سبيل الله.
ولما عزم الصديق رضي الله عنه على تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم. قال له عمر بن الخطاب -بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم- تلك دماء وأموال ذهبت في الله. وأجورها على الله، ولا دية لشهيد فأصفق الصحابة على قول عمر. ووافقه عليه الصديق.
فمن قام لله حتى أوذي في الله: حرم الله عليه الانتقام. كما قال لقمان لابنه " وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ".
فصـل
المشهد التاسع: مشهد النعمة وذلك من وجوه.
أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلوماً يترقب النصر. ولم يجعله ظالما يترقب المقت والأخذ. فلو خير العاقل بين الحالتين -ولابد من إحداهما- لاختار أن يكون مظلوماً.
ومنها: أن يشهد نعمة الله في التكفير بذلك من خطاياه. فإنه ما أصاب المؤمن هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه. فذلك في الحقيقة دواء يستخرج به منه داء الخطايا والذنوب. ومن رضي أن يلقى الله بأدوائه كلها وأسقامه، ولم يداوه في الدنيا بدواء يوجب له الشفاء: فهو مغبون سفيه. فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك. فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته ومن كان على يديه. وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك، وبعثه إليك على يدي من نفعك بمضرته.
ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها. فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر. فإن لم يكن فوقها محنة في البدن والمال فلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده. وأن كل مصيبة دون مصيبة الدين فهينة. وأنها في الحقيقة نعمة. والمصيبة الحقيقية مصيبة الدين.
ومنها: توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة. وفي بعض الآثار: أنه يتمنى أناس يوم القيامة لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض، لما يرون من ثواب أهل البلاء.
هذا. وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قبل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض. فالعاقل يعد هذا ذخراً ليوم الفقر والفاقة. ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئاً.
فصـل
المشهد العاشر: مشهد الأسوة وهو مشهد شريف لطيف جداً. فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله، وأنبيائه وأوليائه، وخاصته من خلقه. فإنهم أشد الخلق امتحاناً بالناس، وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحدور. ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم. وشأن نبينا صلى الله عليه وسلم وأذى أعدائه له بما لم يؤذه من قبله. وقد قال له ورقة بن نوفل لتكذبن. ولتخرجن. ولتؤذين وقال له ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وهذا مستمر في ورثته كما كان في مورثهم صلى الله عليه وسلم.
أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله، وخواص عباده: الأمثل فالأمثل؟.
ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء، وأذى الجهال لهم. وقد صنف في ذلك ابن عبد البر كتاباً سماه محن العلماء.
فصـل
المشهد الحادي عشر: مشهد التوحيد وهو أجل المشاهد وأرفعها. فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله، والإخلاص له ومعاملته، وإيثار مرضاته، والتقرب إليه، وقرة العين به، والأنس به، واطمأن إليه. وسكن إليه. واشتاق إلى لقائه، واتخذه ولياً دون من سواه، بحيث فوض إليه أموره كلها. ورضي به وبأقضيته. وفني بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه، عن كل ما سواه: فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له ألبتة. فضلا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة. فهذا لا يكون إلا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ويعوضه منه. فهو قلب جائع غير شبعان. فإذا رأى أي طعام رآه هفت إليه نوازعه. وانبعثت إليه دواعيه. وأما من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها: فإنه لا يلتفت إلى ما دونها. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم.) انتهى من مدارج السالكين 3/94-103 بتحقيق عبدالعزيز الجليل . طبعة دار طيبة .