طارق منينة
New member
- إنضم
- 19/07/2010
- المشاركات
- 6,330
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
ترجمة جديدة للقرآن الكريم
رسالة للأمير شكيب أرسلان
رسالة للأمير شكيب أرسلان
جمادى الأولى - 1348هـ
نوفمبر - 1929م
نوفمبر - 1929م
من المستشرقين الكبار الذين يليق ذكرهم ويصح الاستشهاد بأقوالهم الأستاذ
إدوار مونته
Montet Edouard مدرس الألسن الشرقية في جامعة جنيف ، وهو
مشهور بين الاوربيين من جميع الأجناس ، فتجد مؤلفيهم يستشهدون بكلامه في
المسائل الشرقية والإسلامية ويقدرون آراءه قدرها .
والأستاذ مونته هو من القسم المنصف بين المستشرقين لا يتحامل على
الإسلام ، ولا يقصد في مباحثه إظهار عورات ومثالب للإسلام كما يفعل غيره ، بل
يحاكم عقيدة الإسلام وتاريخ الإسلام ، وكل شيء عائد للإسلام محاكمة من ينظر إلى
الأشياء كما هي لا كما يخيلها الوهم ، أو كما يصورها الضلع ، مما هو دأب كثير
من الأوربيين الذين يخوضون في هذه المباحث وصدورهم ملأى بالضغن وسوء
النية ، وليس المسيو إدوار مونته مع ذلك بمسلم ليقال إنه في أحكامه وآرائه هذه
متأثر بالتربية الدينية الإسلامية ، أو إنه اقتنع بالإسلام فاتخذه دينًا ، وأصبح لا يجد
فيه عيبًا ولا يقبل عليه مطعنًا ، لا إن المسيو مونته لم يتخذ الإسلام دينًا ، وربما
كان غير معتقد بكل ما في النصرانية أيضًا ، فهو يقول فيهما آراءه بكل صراحة ،
ويحسِّن منهما ما يراه بحسب نظره هو حسنًا وينتقد ما يراه خليقًا بالانتقاد ، وقد
بدرت منه انتقادات ومؤاخذات في كلامه على تاريخ الإسلام تدل على كونه غير
دائن بدين محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لكنها تدل أيضًا على أنه غير مضمر سوءًا
ولا متعمد ثلبًا ، ولهذا آثرنا أن ننقل بعض كلامه لأنه لا يمكن أن يؤتى من قبل
تعصب للإسلام ، ولا أن يقال عنه : إنه مسلم يدافع عن عقيدته .
وقد نضطر إلى تصحيح بعض معلومات ناقصة جاءت في كلام الأستاذ
المذكور أو إلى بيان رأينا في المسائل التي تختلف وجهتنا عن وجهته فيها .
فمن الكتب التي صنفها الأستاذ إدوار مونته كتاب جليل اسمه الإسلام
Lislam أخرجه سنة 1923 ، وطالعناه وأشرنا على مواضع كثيرة منه لنقلها إلى
اللسان العربي ، وكانت تعوقنا عن ذلك كثرة الأشغال . وكتاب آخر أخرجه في
السنة الماضية يحتوي على ترجمة القرآن المجيد بتمامه إلى اللغة الفرنسية طالعنا
جانبًا منه ، وقابلنا الترجمة بالأصل فوجدنا الترجمة حَرِيَّة بأن توضع في الطبقة
الأولى من تراجم القرآن الكثيرة ، وقد صدَّر الأستاذ مونته هذه الترجمة القيمة
بمقدمة نفيسة سننقل إلى قراء المنار عدة أنموذجات منها ، وها أنذا أنشر الترجمة
الحرفية لديباجة مقدمته لها كما يلي :
( القرآن في الحقيقة هو ذو قيمة خارقة للعادة ، فهو بين الكتب الدينية من
أعظمها شأنًا ، وهو يشتمل على الحياة الروحية لقسم من النوع الإنساني يقدَّر
بمائتين وخمسين مليونًا على الأقل ، ومن أهم ما في القرآن استقاؤه من المنابع
اليهودية والمسيحية : التوراة العبرانية والتقاليد اليهودية من جهة ، والإنجيل
والتقاليد النصرانية من أخرى [1] .
فالعقيدة القرآنية إذًا هي ذات علاقة وثيقة مع العقيدة اليهودية والعقيدة
المسيحية ، والآثار التاريخية اليهودية المتعلقة بالأنبياء والآباء ، وكذلك الآثار
النصرانية المتعلقة بالمسيح هي موضوع صفحات عديدة من القرآن ، فهذا التشابه
في الفكرة الدينية بين الإسلام والنصرانية هو واصل إلى الحد الذي لا يفهم معه
الإنسان لماذا وُجد المسيحيون والمسلمون أعداء إلى هذه الدرجة [2] مدة هذه الأعصر
الطويلة ، وقام بعضهم على بعض بمصارعات هي في الواقع مصارعات إخوان
لإخوان ؛ لكنها صبغت القرون الغابرة بالدم الغزير .
على أنه لا ينبغي أن يفهم من هذا الاتحاد في أصليْ الإسلام والنصرانية أن
الإسلام القرآني فاقد للاستقلال ، وأنه ليس ذا صفة خاصة أصلية ، فالأمر بالعكس
والإسلام دين لا يمكن خلطه مع دين آخر من الأديان السامية ، فهو دين سامي تحت
صورة عربية خاصة تتجلى فيه روح اللغة العربية .
ولا ينبغي لقارئ القرآن أن يُعجب من التكرار الذي يجده فيه ؛ فإن مثل هذا
التكرار معهود في أعظم الكتب الدينية مثل التوراة ومثل كتاب الاقتداء بالمسيح
الذي هو الغذاء الروحي للنفوس المسيحية [3] والقارئ يجد في القرآن صفحات في
غاية الإبداع سواء من جهة الفكر ، أو جهة القالب الذي وُضع فيه الفكر ، وكذلك
يجد فيه لآلئ فريدة في علم الروح معروضة في آيات هي أعلى ما يمكن من
الأسلوب الشعري [4] ، وهو فيه أسلوب قائم بذاته ، وفي القرآن منازع دينية ذات
سعة مدهشة لا سيما بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه ذلك المصلح العربي ،
فالإبداع يتلألأ في هاتيك القطع الباهرة تلألؤ الكواكب الكبرى ، ولا غرو أن ينظر
إليها القارئ كمثال أعلى للأسلوب الشعري الشرقي .
ومما يجعل للقرآن هذه الأهمية أنه الكتاب الديني للأمم الإسلامية التي تمثل
في شرقي أوربة ، وفي العالم الآسيوي وفي ماليزيا وفي أفريقية دورًا ليس مهمًّا
وحسب ، بل دورًا ذا صلة شديدة بالأمم الغربية المسيحية .
وتظهر عظمة هذا الدور بزيادة في المستعمرات الأوربية التي هي في مختلف
أقسام العالم الشرقي والأفريقي ، وفي البلدان التي تحت الحماية الأوربية والبلدان
التي تحت الانتداب المتولد من الحرب الكبرى .
فأوربة مكافلة في وجودها اليومي للأمم الإسلامية التي هي تحت حكومتها ،
أو هي ذات علاقة شديدة معها ، ولقد ثبت هذا الأمر ثبوتًا كل أحد يعلم مقداره في
الحرب العالمية من 1914 إلى 1918 .
وأخيرًا نقول : إن الذي يجعل للقرآن هذه الأهمية الخاصة التي نشير إليها هو
المستقبل المدَّخَر للشعوب الإسلامية ، إذ لا ينكر أن مستقبلاً فخمًا ينتظر هذه
الشعوب على مقدار ما يقتبسون من الحضارة الأوربية .
فتركيا وسورية وبلاد العرب وفارس و أفغانستان وشعوب شمالي إفريقية ،
والثمانون مليون مسلم الذين في الهند الإنكليزية ، والثلاثون مليون مسلم الذين في
الصين ، والشعوب الإسلامية التي لا تكاد تحصى في ماليزيا ( جاوى ، سومطره ...
إلخ ) هي كلها على مراحل متفاوتة من قبول الحياة الاقتصادية والصناعية والفكرية
التي عليها أوربة .
وإن هذه النتيجة قد تكون غير منتظرة عند من يجهل هذه الأمم ، أو من لم
يقدر أن يفهمهما حق الفهم ، أو لم يُوفق لفهم عقيدتها التوحيدية التي هي أعلى
صورة روحية وُجدت في دين بشري سواء عند الأمم السامية أو الآرية ) انتهى .
ولا بد لنا أن نعقب على هذه الديباجة ببعض ملاحظات ، منها أن المؤلف قال
عن عدد المسلمين أنه 250 مليونًا على الأقل ، ولقد أصاب جدًّا في قوله ( على
الأقل ) لأن المسلمين على التحقيق يزيدون على 300 مليون نسمة ، وربما كانوا
330 مليونًا ، وأما قوله ( إن للمسلمين مستقبلاً عظيمًا على قدر ما يقتبسون من
الحضارة الأوربية ) فليس معناه ما تذهب إليه ملاحدة تركيا وما يقلدهم فيه هذا النفر
القليل الملحد المتفرنج في مصر و العراق وسورية من أنه يجب عليهم نبذ التعليم
الديني الإسلامي ، وأن يستبدلوا به تعليمًا لا دينيًّا مارقًا من كل صبغة دينية إسلامية ،
لا ، هذا لم يخطر ببال الأستاذ العلامة مونته ، ولا هو من أبحاثه في كثير ولا قليل ،
ولو كان هذا مقصده لما كان معجبًا إلى ذلك الحد بأكثر مبادئ الإسلام وأصوله ،
ولما كان ألف فيه هذه التآليف الممتعة ، ولما قال ( إنه أعلى صورة روحية وجدت
في دين بشري سواء عند الأمم السامية أو الأم الآرية ) ( أي الأوربية ) .
وإنما كان مقصد الأستاذ مونته العلوم الاقتصادية والصناعات التي تفوقت بها
أوربة اليوم ، والأساليب الصحيحة التي تسير عليها في حضارتها ، وهذه يندب
شرعًا الاطلاع عليها والتحقق بها ، حتى لا يفوت المسلمين شيء من أسباب القوة
والمنعة ، وحتى لا يكونوا مقصرين فيها عن شأو أعدائهم أو أندادهم ، وهي لعمري
مما يقترن بالتعليم الديني الإسلامي ، بل مما تزداد الرغبة فيه بقوة هذا التعليم
وتأثيره ، كما أن الأمم الأوربية واليابانية قد بلغت هذه المبالغ القاصية من هذه
العلوم الحديثة والصناعات الناشئة عنها ، ولم تزل متمسكة بأديانها وعقائدها ، ولم
يبرح التعليم الديني عندها سائرًا جنبًا إلى جنب مع التعليم الطبيعي ، والروح فيها
متآخية مع المادة .
... ... ... ... ... ... لوزان 9 أكتوبر 1929 ...
... شكيب أرسلان
__________
(1) المنار : إن جميع المسلمين يخالفون المترجم في هذا الرأي ، ويؤمنون بأن جميع ما في القرآن من عقائد اليهود والنصارى وأحوالهم وتاريخهم هو وحي من الله تعالى وافق ما عندهم من الحق ، وأبطل ما ابتدعوا من الباطل ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميًّا هو وقومه كما قال تعالى :
[ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا ] (هود : 49) .
(2) سبب هذا نزعة الحرب الصليبية التي أشعلت نارها الكنيسة الكاثوليكية ، ولا تزال تراعى في التربية العامة في مدارس أوربة وبيوتها كما صرح به الدكتور غوستاف لوبون الحكيم الفرنسي
الشهير ، وقد وجد الساسة الاستعماريون أن في مصلحتهم بقاء هذه النار مستعرة .
(3) المنار : لا ترسخ العقائد ولا الآراء العامة في الأنفس إلا بتكرار ورودها عليها والتكرار في القرآن من أساليب بلاغته المعجزة للبشر كما هو مبين في محله .
(4) المنار : يريد الكاتب بالأسلوب الشعري التعبير المؤثر في النفس من التشبيه والتمثيل والاستعارات الجميلة والكنايات اللطيفة لا صناعة نظم الشعر التي نزَّه الله القرآنَ والنبي عنها .
(30/377)مشهور بين الاوربيين من جميع الأجناس ، فتجد مؤلفيهم يستشهدون بكلامه في
المسائل الشرقية والإسلامية ويقدرون آراءه قدرها .
والأستاذ مونته هو من القسم المنصف بين المستشرقين لا يتحامل على
الإسلام ، ولا يقصد في مباحثه إظهار عورات ومثالب للإسلام كما يفعل غيره ، بل
يحاكم عقيدة الإسلام وتاريخ الإسلام ، وكل شيء عائد للإسلام محاكمة من ينظر إلى
الأشياء كما هي لا كما يخيلها الوهم ، أو كما يصورها الضلع ، مما هو دأب كثير
من الأوربيين الذين يخوضون في هذه المباحث وصدورهم ملأى بالضغن وسوء
النية ، وليس المسيو إدوار مونته مع ذلك بمسلم ليقال إنه في أحكامه وآرائه هذه
متأثر بالتربية الدينية الإسلامية ، أو إنه اقتنع بالإسلام فاتخذه دينًا ، وأصبح لا يجد
فيه عيبًا ولا يقبل عليه مطعنًا ، لا إن المسيو مونته لم يتخذ الإسلام دينًا ، وربما
كان غير معتقد بكل ما في النصرانية أيضًا ، فهو يقول فيهما آراءه بكل صراحة ،
ويحسِّن منهما ما يراه بحسب نظره هو حسنًا وينتقد ما يراه خليقًا بالانتقاد ، وقد
بدرت منه انتقادات ومؤاخذات في كلامه على تاريخ الإسلام تدل على كونه غير
دائن بدين محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لكنها تدل أيضًا على أنه غير مضمر سوءًا
ولا متعمد ثلبًا ، ولهذا آثرنا أن ننقل بعض كلامه لأنه لا يمكن أن يؤتى من قبل
تعصب للإسلام ، ولا أن يقال عنه : إنه مسلم يدافع عن عقيدته .
وقد نضطر إلى تصحيح بعض معلومات ناقصة جاءت في كلام الأستاذ
المذكور أو إلى بيان رأينا في المسائل التي تختلف وجهتنا عن وجهته فيها .
فمن الكتب التي صنفها الأستاذ إدوار مونته كتاب جليل اسمه الإسلام
Lislam أخرجه سنة 1923 ، وطالعناه وأشرنا على مواضع كثيرة منه لنقلها إلى
اللسان العربي ، وكانت تعوقنا عن ذلك كثرة الأشغال . وكتاب آخر أخرجه في
السنة الماضية يحتوي على ترجمة القرآن المجيد بتمامه إلى اللغة الفرنسية طالعنا
جانبًا منه ، وقابلنا الترجمة بالأصل فوجدنا الترجمة حَرِيَّة بأن توضع في الطبقة
الأولى من تراجم القرآن الكثيرة ، وقد صدَّر الأستاذ مونته هذه الترجمة القيمة
بمقدمة نفيسة سننقل إلى قراء المنار عدة أنموذجات منها ، وها أنذا أنشر الترجمة
الحرفية لديباجة مقدمته لها كما يلي :
( القرآن في الحقيقة هو ذو قيمة خارقة للعادة ، فهو بين الكتب الدينية من
أعظمها شأنًا ، وهو يشتمل على الحياة الروحية لقسم من النوع الإنساني يقدَّر
بمائتين وخمسين مليونًا على الأقل ، ومن أهم ما في القرآن استقاؤه من المنابع
اليهودية والمسيحية : التوراة العبرانية والتقاليد اليهودية من جهة ، والإنجيل
والتقاليد النصرانية من أخرى [1] .
فالعقيدة القرآنية إذًا هي ذات علاقة وثيقة مع العقيدة اليهودية والعقيدة
المسيحية ، والآثار التاريخية اليهودية المتعلقة بالأنبياء والآباء ، وكذلك الآثار
النصرانية المتعلقة بالمسيح هي موضوع صفحات عديدة من القرآن ، فهذا التشابه
في الفكرة الدينية بين الإسلام والنصرانية هو واصل إلى الحد الذي لا يفهم معه
الإنسان لماذا وُجد المسيحيون والمسلمون أعداء إلى هذه الدرجة [2] مدة هذه الأعصر
الطويلة ، وقام بعضهم على بعض بمصارعات هي في الواقع مصارعات إخوان
لإخوان ؛ لكنها صبغت القرون الغابرة بالدم الغزير .
على أنه لا ينبغي أن يفهم من هذا الاتحاد في أصليْ الإسلام والنصرانية أن
الإسلام القرآني فاقد للاستقلال ، وأنه ليس ذا صفة خاصة أصلية ، فالأمر بالعكس
والإسلام دين لا يمكن خلطه مع دين آخر من الأديان السامية ، فهو دين سامي تحت
صورة عربية خاصة تتجلى فيه روح اللغة العربية .
ولا ينبغي لقارئ القرآن أن يُعجب من التكرار الذي يجده فيه ؛ فإن مثل هذا
التكرار معهود في أعظم الكتب الدينية مثل التوراة ومثل كتاب الاقتداء بالمسيح
الذي هو الغذاء الروحي للنفوس المسيحية [3] والقارئ يجد في القرآن صفحات في
غاية الإبداع سواء من جهة الفكر ، أو جهة القالب الذي وُضع فيه الفكر ، وكذلك
يجد فيه لآلئ فريدة في علم الروح معروضة في آيات هي أعلى ما يمكن من
الأسلوب الشعري [4] ، وهو فيه أسلوب قائم بذاته ، وفي القرآن منازع دينية ذات
سعة مدهشة لا سيما بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه ذلك المصلح العربي ،
فالإبداع يتلألأ في هاتيك القطع الباهرة تلألؤ الكواكب الكبرى ، ولا غرو أن ينظر
إليها القارئ كمثال أعلى للأسلوب الشعري الشرقي .
ومما يجعل للقرآن هذه الأهمية أنه الكتاب الديني للأمم الإسلامية التي تمثل
في شرقي أوربة ، وفي العالم الآسيوي وفي ماليزيا وفي أفريقية دورًا ليس مهمًّا
وحسب ، بل دورًا ذا صلة شديدة بالأمم الغربية المسيحية .
وتظهر عظمة هذا الدور بزيادة في المستعمرات الأوربية التي هي في مختلف
أقسام العالم الشرقي والأفريقي ، وفي البلدان التي تحت الحماية الأوربية والبلدان
التي تحت الانتداب المتولد من الحرب الكبرى .
فأوربة مكافلة في وجودها اليومي للأمم الإسلامية التي هي تحت حكومتها ،
أو هي ذات علاقة شديدة معها ، ولقد ثبت هذا الأمر ثبوتًا كل أحد يعلم مقداره في
الحرب العالمية من 1914 إلى 1918 .
وأخيرًا نقول : إن الذي يجعل للقرآن هذه الأهمية الخاصة التي نشير إليها هو
المستقبل المدَّخَر للشعوب الإسلامية ، إذ لا ينكر أن مستقبلاً فخمًا ينتظر هذه
الشعوب على مقدار ما يقتبسون من الحضارة الأوربية .
فتركيا وسورية وبلاد العرب وفارس و أفغانستان وشعوب شمالي إفريقية ،
والثمانون مليون مسلم الذين في الهند الإنكليزية ، والثلاثون مليون مسلم الذين في
الصين ، والشعوب الإسلامية التي لا تكاد تحصى في ماليزيا ( جاوى ، سومطره ...
إلخ ) هي كلها على مراحل متفاوتة من قبول الحياة الاقتصادية والصناعية والفكرية
التي عليها أوربة .
وإن هذه النتيجة قد تكون غير منتظرة عند من يجهل هذه الأمم ، أو من لم
يقدر أن يفهمهما حق الفهم ، أو لم يُوفق لفهم عقيدتها التوحيدية التي هي أعلى
صورة روحية وُجدت في دين بشري سواء عند الأمم السامية أو الآرية ) انتهى .
ولا بد لنا أن نعقب على هذه الديباجة ببعض ملاحظات ، منها أن المؤلف قال
عن عدد المسلمين أنه 250 مليونًا على الأقل ، ولقد أصاب جدًّا في قوله ( على
الأقل ) لأن المسلمين على التحقيق يزيدون على 300 مليون نسمة ، وربما كانوا
330 مليونًا ، وأما قوله ( إن للمسلمين مستقبلاً عظيمًا على قدر ما يقتبسون من
الحضارة الأوربية ) فليس معناه ما تذهب إليه ملاحدة تركيا وما يقلدهم فيه هذا النفر
القليل الملحد المتفرنج في مصر و العراق وسورية من أنه يجب عليهم نبذ التعليم
الديني الإسلامي ، وأن يستبدلوا به تعليمًا لا دينيًّا مارقًا من كل صبغة دينية إسلامية ،
لا ، هذا لم يخطر ببال الأستاذ العلامة مونته ، ولا هو من أبحاثه في كثير ولا قليل ،
ولو كان هذا مقصده لما كان معجبًا إلى ذلك الحد بأكثر مبادئ الإسلام وأصوله ،
ولما كان ألف فيه هذه التآليف الممتعة ، ولما قال ( إنه أعلى صورة روحية وجدت
في دين بشري سواء عند الأمم السامية أو الأم الآرية ) ( أي الأوربية ) .
وإنما كان مقصد الأستاذ مونته العلوم الاقتصادية والصناعات التي تفوقت بها
أوربة اليوم ، والأساليب الصحيحة التي تسير عليها في حضارتها ، وهذه يندب
شرعًا الاطلاع عليها والتحقق بها ، حتى لا يفوت المسلمين شيء من أسباب القوة
والمنعة ، وحتى لا يكونوا مقصرين فيها عن شأو أعدائهم أو أندادهم ، وهي لعمري
مما يقترن بالتعليم الديني الإسلامي ، بل مما تزداد الرغبة فيه بقوة هذا التعليم
وتأثيره ، كما أن الأمم الأوربية واليابانية قد بلغت هذه المبالغ القاصية من هذه
العلوم الحديثة والصناعات الناشئة عنها ، ولم تزل متمسكة بأديانها وعقائدها ، ولم
يبرح التعليم الديني عندها سائرًا جنبًا إلى جنب مع التعليم الطبيعي ، والروح فيها
متآخية مع المادة .
... ... ... ... ... ... لوزان 9 أكتوبر 1929 ...
... شكيب أرسلان
__________
(1) المنار : إن جميع المسلمين يخالفون المترجم في هذا الرأي ، ويؤمنون بأن جميع ما في القرآن من عقائد اليهود والنصارى وأحوالهم وتاريخهم هو وحي من الله تعالى وافق ما عندهم من الحق ، وأبطل ما ابتدعوا من الباطل ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميًّا هو وقومه كما قال تعالى :
[ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا ] (هود : 49) .
(2) سبب هذا نزعة الحرب الصليبية التي أشعلت نارها الكنيسة الكاثوليكية ، ولا تزال تراعى في التربية العامة في مدارس أوربة وبيوتها كما صرح به الدكتور غوستاف لوبون الحكيم الفرنسي
الشهير ، وقد وجد الساسة الاستعماريون أن في مصلحتهم بقاء هذه النار مستعرة .
(3) المنار : لا ترسخ العقائد ولا الآراء العامة في الأنفس إلا بتكرار ورودها عليها والتكرار في القرآن من أساليب بلاغته المعجزة للبشر كما هو مبين في محله .
(4) المنار : يريد الكاتب بالأسلوب الشعري التعبير المؤثر في النفس من التشبيه والتمثيل والاستعارات الجميلة والكنايات اللطيفة لا صناعة نظم الشعر التي نزَّه الله القرآنَ والنبي عنها .