إبراهيم الجوريشي
New member
إخفاء الميم الساكنة عند الباء
http://www.itimagine.com/hoffaz/forqan/F2005/F40/furqan40-04.htm
مجلة الفرقان العدد40
إخفاء الميم الساكنة عند الباء
أ.د. غانم قدوري الحمد*
كلية التربية - جامعة تكريت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، أما بعد :
فإن جمهور أهل الأداء في زماننا يصفون نطق الميم الساكنة قبل الباء في مثل : {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ}[النجم: 28] ، وفي مثل : {أَنْ بُورِك}[النمل:8] ،بأنه إخفاء ، ومنهم من يسميه إخفاءً شفويّاً ، لكنهم مختلفون في كيفية نطق الميم المخفاة ، فمنهم من يطبق شفتيه للميم والباء ، ومنهم من يفتح شفتيه قليلاً لنطق الميم ، ثم يطبقهما لنطق الباء .
وكنت قد درست هذا الموضوع ، وجمعت أقاويل العلماء فيه في وقت سابق(1) ، والذي جعلني أعود إليه هو أني وقفت على أدلة جديدة تعزّز ما رجحته من قبل في كيفية نطق الميم المخفاة عند الباء ، ويمكن أن أعرض تلك الأدلة من خلال تقسيمها إلى دليل نقلي وآخر عقلي:
(1) الدليل النقلي :
وقفت مؤخراً على نص يؤكد بشكل واضح انطباق الشفتين في إخفاء الميم عند الباء ، فقد قال عبد الواحد بن محمد بن علي بن أبي السداد ، أبو محمد المالقي (ت 705هـ) في كتابه : شرح التيسير للداني ، المسمى : الدر النثير والعذب النمير ، وهو يتحدث عن قلب النون الساكنة والتنوين ميماً قبل الباء : " لا خلاف في لزوم القلب في جميع هذه الأمثلة وما أشبهها ، وحقيقة القلب هنا أن تلفظ بميم ساكنة بدلاً من النون الساكنة ، ويُتَحَفَّظُ من سريان التحريك السريع ، ومعيار ذلك : أن تنظر كيف تلفظ بالميم في قولك : الخَمْر والشَّمْس، فتجد الشفتين تنطبقان حال النطق بالميم ، ولا تنفتحان إلا بالحرف الذي بعدها ، وكذا ينبغي أن يكون العمل في الباء ، فإن شرعت في فتح الشفتين قبل تمام لفظ الميم ، سرى التحريك إلى الميم ، وهو من اللحن الخفي الذي ينبغي التَّحَرُّزُ منه ، ثم تلفظ بالباء متصلة بالميم ، ومعها تنفتح الشفتان بالحركة ، وَلْيُحْرَزْ عليها ما تستحقه من الشدة والقلقلة "(2).
وهذا النص وإن كان يختص بنطق الميم المنقلبة عن النون الواقعة قبل الباء في مثل {أن م بُورِكَ} فإنه ينطبق على نطق الميم الساكنة قبل الباء في مثل : {وما لَهُمْ بِه} ، يؤكد ذلك قول عبد الوهاب القرطبي ( ت 461 هـ ) :" فلا يوجد في اللفظ فرق بين قوله : {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}[الرعد:33] ،{أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}[سـبأ: 8] ، وبين قوله : {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ}[نوح:17] ، {أَنْبِئُونِي}[البقرة:31] ، سواء كان ما قبل الباء نوناً أو ميماً ، لا فرق بينهما ، كله في اللفظ سواء" (3)، كما يدل عليه عدم تفريق أهل الأداء في زماننا بين الحالتين .
والمالقي ، صاحب القول السابق ، قال عنه ابن الجزري :" أستاذ كبير ، شرحَ كتاب التيسير شرحاً حسناً ، أفاد فيه وأجاد"(4) ، قرأ على عدد من شيوخ الإقراء في زمانه ، منهم الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص المعروف بابن الناظر ( ت 680هـ ) قاضي المرية ومالقة ، والذي قال عنه ابن الجزري :" الأستاذ المجوِّد ... تصدر للإقراء بمالقة ، وألَّف كتاباً كبيراً حسناً في التجويد ، سمَّاه : الترشيد ، قال أبو حيَّان : رحلت إليه قصداً من غرناطة لأجل الإتقان والتجويد "(5).
والتعريف بالمالقي وكتابه يحتمل تفصيلاً أكثر من هذا ، لكن خشية الإطالة تمنع من ذلك الآن ، ولعل القارئ يدرك مما ذكرته عنه منزلة الرجل وعلو قدره في علم التجويد ، وقيمة رأيه العلمي في الموضوع الذي نحن بصدد الحديث عنه ، وأحسب أن قوله السابق مستغن عن التعليق ، لوضوح دلالته على وجوب انطباق الشفتين عند نطق الميم الساكنة قبل الباء، بل هو يجعل انفتاحهما من اللحن الخفي !
(2) الدليل العقلي :
إن مذهب من يفتح شفتيه في نطق الميم الساكنة قبل الباء يثير إشكالاً صوتيّاً ، لأن التأثر بين الأصوات المتجاورة يخضع لضوابط أو قوانين محددة ، ونُطْقُ كلا الصوتين الميم والباء يقتضي انطباق الشفتين ، والفرق بينهما أن النَّفَسَ يجري مع الميم من الأنف ، ويخرج مع الباء من الشفتين ، وانفراج الشفتين أو انفتاحهما قليلاً في مذهب بعض القراء يأتي بعنصر صوتي جديد لا وجود له في العملية النطقية ، كما أنه قد يزيد العملية النطقية صعوبة ، ومن ثَمَّ فإن ذلك يرجح مذهب من يطبق شفتيه ، على نحو ما يتضح من البيان الآتي:
( أ ) انفتاح الشفتين يضيف عنصراً صوتيّاً جديداً :
يخضع التغير الذي يلحق الأصوات اللغوية بسبب المجاورة في التركيب إلى ضوابط مطّردة ، أو قوانين صوتية ثابتة ، ومن تلك القوانين أن التأثر بين صوتين متجاورين لا يأتي بعناصر صوتية جديدة ليست في أحد ذينك الصوتين ، فأي تغيير صوتي يلحق أحد الصوتين إنما يستمده من مكونات الصوت المجاور له ، فتجاور صوتين أحدهما مجهور والآخر مهموس قد يؤدي إلى تأثر أحدهما بالآخر في إحدى هاتين الصفتين ، وكذلك تجاور صوتين في أحدهما صفة الإطباق قد يؤدي إلى تأثر الصوت الآخر بها، ويمكن ملاحظة ذلك في مثل قول الله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ}[البقرة:256]، {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ}[الأحزاب:13] . وصفة انفراج الشفتين أو انفتاحهما التي تظهر في مذهب بعض أهل الأداء عند إخفاء الميم الساكنة عند الباء ليست من مكونات أيٍّ من الصوتين ، ومن ثَمَّ فإن ذلك جاء خارجاً عن القوانين الصوتية التي تخضع لها ظاهرة التأثر بين الأصوات المتجاورة في السلسلة الكلامية .
( ب ) انفتاح الشفتين يزيد النطق صعوبة :
إن تأثر الأصوات بعضها ببعض حين تتجاور في الكلام يهدف إلى تحقيق أمرين ، الأول : السهولة في النطق عن طريق التقريب بين صفات الأصوات المتجاورة ، والآخر : الاقتصاد في المجهود عن طريق اختصار حركات أعضاء النطق ، وإذا حللنا ظاهرة التقاء الميم الساكنة بالباء في ضوء هذين الأمرين سنجد أن انفتاح الشفتين بالميم يؤدي إلى زيادة في عمل أعضاء النطق ، ويأتي بعنصر صوتي جديد يتنافى مع مقصد التقريب بين الأصوات واختصار عملية النطق .
أما انطباق الشفتين في نطق الميم الساكنة والباء فإنه أقرب إلى تحقيق مقصد السهولة في النطق والاقتصاد في المجهود ، فتندمج عملية انطباق الشفتين لنطق الميم بعملية انطباقهما لنطق الباء ، سوى أن الناطق يرخي أقصى الحَنَكِ الليِّنِ عند نطق الميم ليجري الصوت في الخياشيم ، ثم يطبقه عند نطق الباء ليتحقق النطق بالباء شديدة ، ويخرج الصوت من بين الشفتين بعد انفتاحهما .
وما ذكرته من الدليل النقلي مع الدليل العقلي يرجح رواية من يطبق شفتيه عند نطق الميم المخفاة قبل الباء ، لكن ذلك الانطباق أخف من انطباقهما في الباء ، لأن انطباقهما في الميم القصد منه وضع عائق في طريق النَّفَس لمنع خروجه من الفم ، وتحويله إلى الخياشيم ، وذلك يتحقق بأدنى انطباق ، أما انطباقهما في نطق الباء فإن القصد منه تحقيق صفة الشدة ، وهي لا تتحقق إلا بتقوية الانطباق ، وصرَّح المرعشيُّ ( ت 1150 هـ ) بذلك في قوله :" وبالجملة إن الميم والباء يخرجان بانطباق الشفتين ، والباء أدخل وأقوى انطباقاً ، كما سبق في بيان المخارج ، فتلفظ بالميم في : { أنْ بُورِكَ } بغنة ظاهرة وبتقليل انطباق الشفتين جدّاً ، ثم تلفظ بالباء قبل فتح الشفتين بتقوية انطباقهما ، وتجعل المنطبق من الشفتين أدخل من المنطبق في الميم "(6) .
وختاماً ، إن ما أوردته في هذه العجالة ، وما نقلته في بحثي السابق عن الموضوع ، القصد منه تنبيه القراء وأهل الأداء في زماننا ، ولفت نظرهم إلى هذه القضية ، لمراجعتها وإعادة النظر فيها ، حتى تجتمع كلمتهم ، ويتوحد أداؤهم على أصح نطق وأثبت رواية . والله تعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
---------------------------------
الهوامش:
1- وذلك في بحث (إخفاء الميم في النطق العربي) المنشور في كتاب: أبحاث في علم التجويد (ص 134-145) طبعة دار عمار، عمان 1422هـ - 2002م.
2- شرح التيسير (ص 448) تحقيق الشيخ عادل أحمد عبدالموجود وصاحبيه، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت 1424هـ - 2003م.
3- الموضح في التجويد (ص175)، تحقيق غانم قدوري الحمد، دار عمار، عمان 1421هـ - 2000م.
4- غاية النهاية في طبقات القراء 1/477، تحقيق ج. برجستراسر، مكتبة الخانجي بمصر 1352هـ - 1933م.
5- المصدر نفسه 1/242.
6- جهد المقل ص 202، تحقيق د. سالم قدوري الحمد، دار عمار، عمان 1422هـ - 2001م.
-------------------------------------------------------
* رئيس جامعة تكريت سابقاً، له العديد من المؤلفات والتحقيقات في التجويد ورسم المصحف، منها:
- الدراسات الصوتية عن علماء التجويد
- رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية
http://www.itimagine.com/hoffaz/forqan/F2005/F40/furqan40-04.htm
مجلة الفرقان العدد40
إخفاء الميم الساكنة عند الباء
أ.د. غانم قدوري الحمد*
كلية التربية - جامعة تكريت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، أما بعد :
فإن جمهور أهل الأداء في زماننا يصفون نطق الميم الساكنة قبل الباء في مثل : {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ}[النجم: 28] ، وفي مثل : {أَنْ بُورِك}[النمل:8] ،بأنه إخفاء ، ومنهم من يسميه إخفاءً شفويّاً ، لكنهم مختلفون في كيفية نطق الميم المخفاة ، فمنهم من يطبق شفتيه للميم والباء ، ومنهم من يفتح شفتيه قليلاً لنطق الميم ، ثم يطبقهما لنطق الباء .
وكنت قد درست هذا الموضوع ، وجمعت أقاويل العلماء فيه في وقت سابق(1) ، والذي جعلني أعود إليه هو أني وقفت على أدلة جديدة تعزّز ما رجحته من قبل في كيفية نطق الميم المخفاة عند الباء ، ويمكن أن أعرض تلك الأدلة من خلال تقسيمها إلى دليل نقلي وآخر عقلي:
(1) الدليل النقلي :
وقفت مؤخراً على نص يؤكد بشكل واضح انطباق الشفتين في إخفاء الميم عند الباء ، فقد قال عبد الواحد بن محمد بن علي بن أبي السداد ، أبو محمد المالقي (ت 705هـ) في كتابه : شرح التيسير للداني ، المسمى : الدر النثير والعذب النمير ، وهو يتحدث عن قلب النون الساكنة والتنوين ميماً قبل الباء : " لا خلاف في لزوم القلب في جميع هذه الأمثلة وما أشبهها ، وحقيقة القلب هنا أن تلفظ بميم ساكنة بدلاً من النون الساكنة ، ويُتَحَفَّظُ من سريان التحريك السريع ، ومعيار ذلك : أن تنظر كيف تلفظ بالميم في قولك : الخَمْر والشَّمْس، فتجد الشفتين تنطبقان حال النطق بالميم ، ولا تنفتحان إلا بالحرف الذي بعدها ، وكذا ينبغي أن يكون العمل في الباء ، فإن شرعت في فتح الشفتين قبل تمام لفظ الميم ، سرى التحريك إلى الميم ، وهو من اللحن الخفي الذي ينبغي التَّحَرُّزُ منه ، ثم تلفظ بالباء متصلة بالميم ، ومعها تنفتح الشفتان بالحركة ، وَلْيُحْرَزْ عليها ما تستحقه من الشدة والقلقلة "(2).
وهذا النص وإن كان يختص بنطق الميم المنقلبة عن النون الواقعة قبل الباء في مثل {أن م بُورِكَ} فإنه ينطبق على نطق الميم الساكنة قبل الباء في مثل : {وما لَهُمْ بِه} ، يؤكد ذلك قول عبد الوهاب القرطبي ( ت 461 هـ ) :" فلا يوجد في اللفظ فرق بين قوله : {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}[الرعد:33] ،{أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}[سـبأ: 8] ، وبين قوله : {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ}[نوح:17] ، {أَنْبِئُونِي}[البقرة:31] ، سواء كان ما قبل الباء نوناً أو ميماً ، لا فرق بينهما ، كله في اللفظ سواء" (3)، كما يدل عليه عدم تفريق أهل الأداء في زماننا بين الحالتين .
والمالقي ، صاحب القول السابق ، قال عنه ابن الجزري :" أستاذ كبير ، شرحَ كتاب التيسير شرحاً حسناً ، أفاد فيه وأجاد"(4) ، قرأ على عدد من شيوخ الإقراء في زمانه ، منهم الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص المعروف بابن الناظر ( ت 680هـ ) قاضي المرية ومالقة ، والذي قال عنه ابن الجزري :" الأستاذ المجوِّد ... تصدر للإقراء بمالقة ، وألَّف كتاباً كبيراً حسناً في التجويد ، سمَّاه : الترشيد ، قال أبو حيَّان : رحلت إليه قصداً من غرناطة لأجل الإتقان والتجويد "(5).
والتعريف بالمالقي وكتابه يحتمل تفصيلاً أكثر من هذا ، لكن خشية الإطالة تمنع من ذلك الآن ، ولعل القارئ يدرك مما ذكرته عنه منزلة الرجل وعلو قدره في علم التجويد ، وقيمة رأيه العلمي في الموضوع الذي نحن بصدد الحديث عنه ، وأحسب أن قوله السابق مستغن عن التعليق ، لوضوح دلالته على وجوب انطباق الشفتين عند نطق الميم الساكنة قبل الباء، بل هو يجعل انفتاحهما من اللحن الخفي !
(2) الدليل العقلي :
إن مذهب من يفتح شفتيه في نطق الميم الساكنة قبل الباء يثير إشكالاً صوتيّاً ، لأن التأثر بين الأصوات المتجاورة يخضع لضوابط أو قوانين محددة ، ونُطْقُ كلا الصوتين الميم والباء يقتضي انطباق الشفتين ، والفرق بينهما أن النَّفَسَ يجري مع الميم من الأنف ، ويخرج مع الباء من الشفتين ، وانفراج الشفتين أو انفتاحهما قليلاً في مذهب بعض القراء يأتي بعنصر صوتي جديد لا وجود له في العملية النطقية ، كما أنه قد يزيد العملية النطقية صعوبة ، ومن ثَمَّ فإن ذلك يرجح مذهب من يطبق شفتيه ، على نحو ما يتضح من البيان الآتي:
( أ ) انفتاح الشفتين يضيف عنصراً صوتيّاً جديداً :
يخضع التغير الذي يلحق الأصوات اللغوية بسبب المجاورة في التركيب إلى ضوابط مطّردة ، أو قوانين صوتية ثابتة ، ومن تلك القوانين أن التأثر بين صوتين متجاورين لا يأتي بعناصر صوتية جديدة ليست في أحد ذينك الصوتين ، فأي تغيير صوتي يلحق أحد الصوتين إنما يستمده من مكونات الصوت المجاور له ، فتجاور صوتين أحدهما مجهور والآخر مهموس قد يؤدي إلى تأثر أحدهما بالآخر في إحدى هاتين الصفتين ، وكذلك تجاور صوتين في أحدهما صفة الإطباق قد يؤدي إلى تأثر الصوت الآخر بها، ويمكن ملاحظة ذلك في مثل قول الله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ}[البقرة:256]، {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ}[الأحزاب:13] . وصفة انفراج الشفتين أو انفتاحهما التي تظهر في مذهب بعض أهل الأداء عند إخفاء الميم الساكنة عند الباء ليست من مكونات أيٍّ من الصوتين ، ومن ثَمَّ فإن ذلك جاء خارجاً عن القوانين الصوتية التي تخضع لها ظاهرة التأثر بين الأصوات المتجاورة في السلسلة الكلامية .
( ب ) انفتاح الشفتين يزيد النطق صعوبة :
إن تأثر الأصوات بعضها ببعض حين تتجاور في الكلام يهدف إلى تحقيق أمرين ، الأول : السهولة في النطق عن طريق التقريب بين صفات الأصوات المتجاورة ، والآخر : الاقتصاد في المجهود عن طريق اختصار حركات أعضاء النطق ، وإذا حللنا ظاهرة التقاء الميم الساكنة بالباء في ضوء هذين الأمرين سنجد أن انفتاح الشفتين بالميم يؤدي إلى زيادة في عمل أعضاء النطق ، ويأتي بعنصر صوتي جديد يتنافى مع مقصد التقريب بين الأصوات واختصار عملية النطق .
أما انطباق الشفتين في نطق الميم الساكنة والباء فإنه أقرب إلى تحقيق مقصد السهولة في النطق والاقتصاد في المجهود ، فتندمج عملية انطباق الشفتين لنطق الميم بعملية انطباقهما لنطق الباء ، سوى أن الناطق يرخي أقصى الحَنَكِ الليِّنِ عند نطق الميم ليجري الصوت في الخياشيم ، ثم يطبقه عند نطق الباء ليتحقق النطق بالباء شديدة ، ويخرج الصوت من بين الشفتين بعد انفتاحهما .
وما ذكرته من الدليل النقلي مع الدليل العقلي يرجح رواية من يطبق شفتيه عند نطق الميم المخفاة قبل الباء ، لكن ذلك الانطباق أخف من انطباقهما في الباء ، لأن انطباقهما في الميم القصد منه وضع عائق في طريق النَّفَس لمنع خروجه من الفم ، وتحويله إلى الخياشيم ، وذلك يتحقق بأدنى انطباق ، أما انطباقهما في نطق الباء فإن القصد منه تحقيق صفة الشدة ، وهي لا تتحقق إلا بتقوية الانطباق ، وصرَّح المرعشيُّ ( ت 1150 هـ ) بذلك في قوله :" وبالجملة إن الميم والباء يخرجان بانطباق الشفتين ، والباء أدخل وأقوى انطباقاً ، كما سبق في بيان المخارج ، فتلفظ بالميم في : { أنْ بُورِكَ } بغنة ظاهرة وبتقليل انطباق الشفتين جدّاً ، ثم تلفظ بالباء قبل فتح الشفتين بتقوية انطباقهما ، وتجعل المنطبق من الشفتين أدخل من المنطبق في الميم "(6) .
وختاماً ، إن ما أوردته في هذه العجالة ، وما نقلته في بحثي السابق عن الموضوع ، القصد منه تنبيه القراء وأهل الأداء في زماننا ، ولفت نظرهم إلى هذه القضية ، لمراجعتها وإعادة النظر فيها ، حتى تجتمع كلمتهم ، ويتوحد أداؤهم على أصح نطق وأثبت رواية . والله تعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
---------------------------------
الهوامش:
1- وذلك في بحث (إخفاء الميم في النطق العربي) المنشور في كتاب: أبحاث في علم التجويد (ص 134-145) طبعة دار عمار، عمان 1422هـ - 2002م.
2- شرح التيسير (ص 448) تحقيق الشيخ عادل أحمد عبدالموجود وصاحبيه، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت 1424هـ - 2003م.
3- الموضح في التجويد (ص175)، تحقيق غانم قدوري الحمد، دار عمار، عمان 1421هـ - 2000م.
4- غاية النهاية في طبقات القراء 1/477، تحقيق ج. برجستراسر، مكتبة الخانجي بمصر 1352هـ - 1933م.
5- المصدر نفسه 1/242.
6- جهد المقل ص 202، تحقيق د. سالم قدوري الحمد، دار عمار، عمان 1422هـ - 2001م.
-------------------------------------------------------
* رئيس جامعة تكريت سابقاً، له العديد من المؤلفات والتحقيقات في التجويد ورسم المصحف، منها:
- الدراسات الصوتية عن علماء التجويد
- رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية