أبو عبد المعز
Active member
- إنضم
- 20/04/2003
- المشاركات
- 711
- مستوى التفاعل
- 34
- النقاط
- 28
إبداع القرآن في استحداث المصطلحات:
الدنيا/الآخرة
لا شك أن "الدنيا " لفظ منقول ، ويعرف اللفظ المنقول بأنه اللفظٌ الذي وُضع في الأصل لمعنى، ثم نُقل إلى معنى آخر، مع وجود مناسبةٍ بين المعنيين، وأهمل المعنى الأول ، بحيث يُصبح المعنى الثاني هو المتبادر من اللفظ بدون قرينة أما المعنى الأصلي فلا بد فيه من قرينة إذا كان هو المقصود ... فدلالة "الدنيا" كدلالة "الصلاة" و"الجهاد" و"الحج" وغيرها من المصطلحات الشرعية...
ولكي تتبين كل دلالات "الدنيا " نقارنها بمصطلح "الآخرة" الذي وضعه القرآن في مقابلها...وسنرى أن المصطلحين عند التقابل يكتسبان دلالات جديدة يتوصل إليها عن طريق (الاحتباك)... والاحتباك وجه من وجوه الحذف يدل فيه المذكور على المطوي ... فدلالات كلمة "الآخرة " تفهم في كلمة الدنيا وإن لم تكن ظاهرة فيها إذ يكفي استبدال المعنى بمقابله...
1-
"الدنيا" و"الآخرة" صفتان متقابلتان الموصوف بهما واحد هي الحياة .وقد تذكر الآية الموصوف والصفة معا كما في قوله تعالى :
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [الأعلى : 16]
وفي مواضع عديدة من التنزيل تذكر الصفة وحدها ويستغنى بها عن ذكر الموصوف :
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة : 201]
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران : 22]
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [الحشر : 3]
"الدنيا" صفة للحياة قطعا، فهل "الآخرة" صفة للحياة أيضا؟
لم يرد في القرآن التركيب الوصفي " الحياة الآخرة" كما ورد مرارا تركيب "الحياة الدنيا" ،و الموصوف الذي قد يذكر قبلها "الدار" لا "الحياة":
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة : 94]
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنعام : 32]
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ [يوسف : 109]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل : 30]
فهل الموصوف المطوي هو الدار وليس الحياة (كما في آية الأنعام حيث جعل الدار الآخرة مقابلا للحياة الدنيا) ؟
لا يتأتى ذلك في كل الموارد، ففي آية (النحل) وآية (يوسف) جاءت كلمة "الآخرة" مضافة إلى الدار وليس نعتا لها : "وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ" فلا يمكن تقدير الدارهنا موصوفا محذوفا فلا يقال: دار الدار الآخرة ، بل الأظهر تقدير الحياة : ولدار الحياة الآخرة خير...
خلاصة المسألة أن الموصوف ب"الآخرة" يحتمل على وجه التوسع التقديرين معا: الدار والحياة ،التقدير الأول بالنظر إلى الاستعمال المتكررفي القرآن ، والتقدير الثاني بالنظر إلى التقابل ...نعم ،لم يرد في القرآن " الحياة الآخرة " لفظا ولكن ورد معنى :
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت : 64]
(الحيوان صيغة مصدر معناها الحياة الكاملة الدائمة...)
2-
جاءت صفة "الدنيا "على وزن صيغة التفضيل أفعل / فعلى (من الفعل الثلاثي دنا يدنو، أدنى دنيا ، مثل أعلى عليا، أقصى قصوى، أكبر كبرى....) وصيغة التفضيل لا تنفك أبدا عن معنى المقارنة سواء أكان المقارن به مذكورا أم مطويا فتقول : (زيد أقوى من عمرو) فتذكر الطرفين وقد تقول: (زيد أقوى) وتسكت، لكن المتلقي لا بد أن يستحضرعمرا ، لأن المفاضلة مقارنة ، وشرط إمكان المقارنة وجود عنصرين على الأقل...
إذن صيغة التفضيل في لفظة "الدنيا" تستوجب بالضرورة استحضار الطرف الثاني وليس هذا الطرف إلا "الآخرة" بحسب ما يمليه قانون التشاكل...
لكن كلمة "آخرة" مختلفة عن كلمة "دنيا" مادة وهيئة..
فأما مادة فلأن المقابل لكلمة "دنيا" هي "قصوى" وليس "آخرة" كما في قوله تعالى:
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأنفال : 42]
وأماهيئة فلأن المقابل لكلمة "آخرة "هي "دانية " (وليس دنيا )
فتكون كلمة "آخرة" قد أشربت معنى "قصوى" بفضل المقابلة والاحتباك ، وهو معنى صحيح بلا ريب ، لأن الآخرة أبعد في الزمن من الدنيا فلا يبدأ وقتها إلا بعد انقضاء زمن الدنيا...
وكذلك كلمة "الدنيا" قد أشربت معنى "الدانية " أو "الأولى" بفضل المقابلة والاحتباك ، وقد جاءت في التنزيل- فعلا -موصوفة ب"الأولى" في مقابل" الآخرة" :
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص : 70]
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى [النجم : 25]
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [الضحى : 4]
وبالمناسبة نورد هنا فائدة : كثير من الناس يظنون أن في صيغة (أفعل) التي للتفضيل مبالغة لا توجد في الصفة، فيعتقدون مثلا أن (الأطول ) فيه من الطول أكثر مما في الموصوف ب (طويل) وهذا لا يصح دائما....فالأمر يتعلق هنا بالمطلق والنسبي وليس بالتكثيروالتقليل أو الشدة والضعف ، ف (طويل) صفة مطلقة و(أطول) صفة نسبية : الا ترى أن حشرة طولها سنتمترواحد لا يمكن أن يقال عنها طويلة ، ولكن يقال عنها أطول بالنسبة لأختها التي طولها نصف سنتمتر!
إذن صفة الدانية صفة مطلقة أما الأولى والدنيا فصفتان نسبيتان وصفت الحياة بهما بالمقارنة مع الآخرة...
3-
وهناك معنى آخر في" الدنيا" : أن لا تكون مشتقة من( الدنو) وإنما من (الدناءة) كما في قوله تعالى:
قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْر [البقرة : 61]
فتكون كلمة " دنيا" في اصطلاح القرآن قد دلت على الوصفية وحكم القيمة معا : الوصفية باعتبار الاشتقاق من الدنو( فهي أدنى من الآخرة) وحكم القيمة باعتبار الاشتقاق من الدناءة ( الآخرة خير منها)
قال الراغب -رحمه الله- في مفرداته تحت مادة (دنا) :
( الدّنوّ: القرب بالذّات، أو بالحكم، ويستعمل في المكان والزّمان والمنزلة.
قال تعالى:
وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ [الأنعام : 99]
وقال تعالى:
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم : 8]
هذا بالحكم. ويعبّر بالأدنى تارة عن الأصغر، فيقابل بالأكبر نحو:
وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة : 7]
وتارة عن الأرذل فيقابل بالخير، نحو:
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: 61] ،
وعن الأوّل فيقابل بالآخر، نحو:
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج : 11]
وقوله:
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النحل: 122] ،
وتارة عن الأقرب، فيقابل بالأقصى نحو:
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى[الأنفال: 42] ،
وجمع الدّنيا الدّني، نحو الكبرى والكبر، والصّغرى والصّغر.
وقوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ [المائدة: 108]
أي: أقرب لنفوسهم أن تتحرّى العدالة في إقامة الشهادة،
وعلى ذلك قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ [الأحزاب: 51]
وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [البقرة:220]
متناول للأحوال التي في النشأة الأولى، وما يكون في النشأة الآخرة، ويقال: دَانَيْتُ بين الأمرين، وأَدْنَيْتُ أحدهما من الآخر. قال تعالى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ
[الأحزاب: 59]
وأَدْنَتِ الفرسُ: دنا نتاجها.
وخصّ الدّنيء بالحقير القدر، ويقابل به السّيّئ، يقال: دنيء بيّن الدّناءة. وما روي «إذا أكلتم فدنّوا» من الدّون، أي: كلوا ممّا يليكم.)
الدنيا/الآخرة
لا شك أن "الدنيا " لفظ منقول ، ويعرف اللفظ المنقول بأنه اللفظٌ الذي وُضع في الأصل لمعنى، ثم نُقل إلى معنى آخر، مع وجود مناسبةٍ بين المعنيين، وأهمل المعنى الأول ، بحيث يُصبح المعنى الثاني هو المتبادر من اللفظ بدون قرينة أما المعنى الأصلي فلا بد فيه من قرينة إذا كان هو المقصود ... فدلالة "الدنيا" كدلالة "الصلاة" و"الجهاد" و"الحج" وغيرها من المصطلحات الشرعية...
ولكي تتبين كل دلالات "الدنيا " نقارنها بمصطلح "الآخرة" الذي وضعه القرآن في مقابلها...وسنرى أن المصطلحين عند التقابل يكتسبان دلالات جديدة يتوصل إليها عن طريق (الاحتباك)... والاحتباك وجه من وجوه الحذف يدل فيه المذكور على المطوي ... فدلالات كلمة "الآخرة " تفهم في كلمة الدنيا وإن لم تكن ظاهرة فيها إذ يكفي استبدال المعنى بمقابله...
1-
"الدنيا" و"الآخرة" صفتان متقابلتان الموصوف بهما واحد هي الحياة .وقد تذكر الآية الموصوف والصفة معا كما في قوله تعالى :
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [الأعلى : 16]
وفي مواضع عديدة من التنزيل تذكر الصفة وحدها ويستغنى بها عن ذكر الموصوف :
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة : 201]
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران : 22]
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [الحشر : 3]
"الدنيا" صفة للحياة قطعا، فهل "الآخرة" صفة للحياة أيضا؟
لم يرد في القرآن التركيب الوصفي " الحياة الآخرة" كما ورد مرارا تركيب "الحياة الدنيا" ،و الموصوف الذي قد يذكر قبلها "الدار" لا "الحياة":
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة : 94]
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنعام : 32]
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ [يوسف : 109]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل : 30]
فهل الموصوف المطوي هو الدار وليس الحياة (كما في آية الأنعام حيث جعل الدار الآخرة مقابلا للحياة الدنيا) ؟
لا يتأتى ذلك في كل الموارد، ففي آية (النحل) وآية (يوسف) جاءت كلمة "الآخرة" مضافة إلى الدار وليس نعتا لها : "وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ" فلا يمكن تقدير الدارهنا موصوفا محذوفا فلا يقال: دار الدار الآخرة ، بل الأظهر تقدير الحياة : ولدار الحياة الآخرة خير...
خلاصة المسألة أن الموصوف ب"الآخرة" يحتمل على وجه التوسع التقديرين معا: الدار والحياة ،التقدير الأول بالنظر إلى الاستعمال المتكررفي القرآن ، والتقدير الثاني بالنظر إلى التقابل ...نعم ،لم يرد في القرآن " الحياة الآخرة " لفظا ولكن ورد معنى :
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت : 64]
(الحيوان صيغة مصدر معناها الحياة الكاملة الدائمة...)
2-
جاءت صفة "الدنيا "على وزن صيغة التفضيل أفعل / فعلى (من الفعل الثلاثي دنا يدنو، أدنى دنيا ، مثل أعلى عليا، أقصى قصوى، أكبر كبرى....) وصيغة التفضيل لا تنفك أبدا عن معنى المقارنة سواء أكان المقارن به مذكورا أم مطويا فتقول : (زيد أقوى من عمرو) فتذكر الطرفين وقد تقول: (زيد أقوى) وتسكت، لكن المتلقي لا بد أن يستحضرعمرا ، لأن المفاضلة مقارنة ، وشرط إمكان المقارنة وجود عنصرين على الأقل...
إذن صيغة التفضيل في لفظة "الدنيا" تستوجب بالضرورة استحضار الطرف الثاني وليس هذا الطرف إلا "الآخرة" بحسب ما يمليه قانون التشاكل...
لكن كلمة "آخرة" مختلفة عن كلمة "دنيا" مادة وهيئة..
فأما مادة فلأن المقابل لكلمة "دنيا" هي "قصوى" وليس "آخرة" كما في قوله تعالى:
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأنفال : 42]
وأماهيئة فلأن المقابل لكلمة "آخرة "هي "دانية " (وليس دنيا )
فتكون كلمة "آخرة" قد أشربت معنى "قصوى" بفضل المقابلة والاحتباك ، وهو معنى صحيح بلا ريب ، لأن الآخرة أبعد في الزمن من الدنيا فلا يبدأ وقتها إلا بعد انقضاء زمن الدنيا...
وكذلك كلمة "الدنيا" قد أشربت معنى "الدانية " أو "الأولى" بفضل المقابلة والاحتباك ، وقد جاءت في التنزيل- فعلا -موصوفة ب"الأولى" في مقابل" الآخرة" :
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص : 70]
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى [النجم : 25]
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [الضحى : 4]
وبالمناسبة نورد هنا فائدة : كثير من الناس يظنون أن في صيغة (أفعل) التي للتفضيل مبالغة لا توجد في الصفة، فيعتقدون مثلا أن (الأطول ) فيه من الطول أكثر مما في الموصوف ب (طويل) وهذا لا يصح دائما....فالأمر يتعلق هنا بالمطلق والنسبي وليس بالتكثيروالتقليل أو الشدة والضعف ، ف (طويل) صفة مطلقة و(أطول) صفة نسبية : الا ترى أن حشرة طولها سنتمترواحد لا يمكن أن يقال عنها طويلة ، ولكن يقال عنها أطول بالنسبة لأختها التي طولها نصف سنتمتر!
إذن صفة الدانية صفة مطلقة أما الأولى والدنيا فصفتان نسبيتان وصفت الحياة بهما بالمقارنة مع الآخرة...
3-
وهناك معنى آخر في" الدنيا" : أن لا تكون مشتقة من( الدنو) وإنما من (الدناءة) كما في قوله تعالى:
قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْر [البقرة : 61]
فتكون كلمة " دنيا" في اصطلاح القرآن قد دلت على الوصفية وحكم القيمة معا : الوصفية باعتبار الاشتقاق من الدنو( فهي أدنى من الآخرة) وحكم القيمة باعتبار الاشتقاق من الدناءة ( الآخرة خير منها)
قال الراغب -رحمه الله- في مفرداته تحت مادة (دنا) :
( الدّنوّ: القرب بالذّات، أو بالحكم، ويستعمل في المكان والزّمان والمنزلة.
قال تعالى:
وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ [الأنعام : 99]
وقال تعالى:
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم : 8]
هذا بالحكم. ويعبّر بالأدنى تارة عن الأصغر، فيقابل بالأكبر نحو:
وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة : 7]
وتارة عن الأرذل فيقابل بالخير، نحو:
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: 61] ،
وعن الأوّل فيقابل بالآخر، نحو:
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج : 11]
وقوله:
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النحل: 122] ،
وتارة عن الأقرب، فيقابل بالأقصى نحو:
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى[الأنفال: 42] ،
وجمع الدّنيا الدّني، نحو الكبرى والكبر، والصّغرى والصّغر.
وقوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ [المائدة: 108]
أي: أقرب لنفوسهم أن تتحرّى العدالة في إقامة الشهادة،
وعلى ذلك قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ [الأحزاب: 51]
وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [البقرة:220]
متناول للأحوال التي في النشأة الأولى، وما يكون في النشأة الآخرة، ويقال: دَانَيْتُ بين الأمرين، وأَدْنَيْتُ أحدهما من الآخر. قال تعالى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ
[الأحزاب: 59]
وأَدْنَتِ الفرسُ: دنا نتاجها.
وخصّ الدّنيء بالحقير القدر، ويقابل به السّيّئ، يقال: دنيء بيّن الدّناءة. وما روي «إذا أكلتم فدنّوا» من الدّون، أي: كلوا ممّا يليكم.)