إبداع القرآن في استحداث المصطلحات.

أبو عبد المعز

Active member
إنضم
20/04/2003
المشاركات
711
مستوى التفاعل
34
النقاط
28
إبداع القرآن في استحداث المصطلحات:

الدنيا/الآخرة

لا شك أن "الدنيا " لفظ منقول ، ويعرف اللفظ المنقول بأنه اللفظٌ الذي وُضع في الأصل لمعنى، ثم نُقل إلى معنى آخر، مع وجود مناسبةٍ بين المعنيين، وأهمل المعنى الأول ، بحيث يُصبح المعنى الثاني هو المتبادر من اللفظ بدون قرينة أما المعنى الأصلي فلا بد فيه من قرينة إذا كان هو المقصود ... فدلالة "الدنيا" كدلالة "الصلاة" و"الجهاد" و"الحج" وغيرها من المصطلحات الشرعية...

ولكي تتبين كل دلالات "الدنيا " نقارنها بمصطلح "الآخرة" الذي وضعه القرآن في مقابلها...وسنرى أن المصطلحين عند التقابل يكتسبان دلالات جديدة يتوصل إليها عن طريق (الاحتباك)... والاحتباك وجه من وجوه الحذف يدل فيه المذكور على المطوي ... فدلالات كلمة "الآخرة " تفهم في كلمة الدنيا وإن لم تكن ظاهرة فيها إذ يكفي استبدال المعنى بمقابله...

1-

"الدنيا" و"الآخرة" صفتان متقابلتان الموصوف بهما واحد هي الحياة .وقد تذكر الآية الموصوف والصفة معا كما في قوله تعالى :

بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [الأعلى : 16]

وفي مواضع عديدة من التنزيل تذكر الصفة وحدها ويستغنى بها عن ذكر الموصوف :

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة : 201]

أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران : 22]

وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [الحشر : 3]

"الدنيا" صفة للحياة قطعا، فهل "الآخرة" صفة للحياة أيضا؟

لم يرد في القرآن التركيب الوصفي " الحياة الآخرة" كما ورد مرارا تركيب "الحياة الدنيا" ،و الموصوف الذي قد يذكر قبلها "الدار" لا "الحياة":

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة : 94]

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنعام : 32]

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ [يوسف : 109]

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل : 30]

فهل الموصوف المطوي هو الدار وليس الحياة (كما في آية الأنعام حيث جعل الدار الآخرة مقابلا للحياة الدنيا) ؟

لا يتأتى ذلك في كل الموارد، ففي آية (النحل) وآية (يوسف) جاءت كلمة "الآخرة" مضافة إلى الدار وليس نعتا لها : "وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ" فلا يمكن تقدير الدارهنا موصوفا محذوفا فلا يقال: دار الدار الآخرة ، بل الأظهر تقدير الحياة : ولدار الحياة الآخرة خير...

خلاصة المسألة أن الموصوف ب"الآخرة" يحتمل على وجه التوسع التقديرين معا: الدار والحياة ،التقدير الأول بالنظر إلى الاستعمال المتكررفي القرآن ، والتقدير الثاني بالنظر إلى التقابل ...نعم ،لم يرد في القرآن " الحياة الآخرة " لفظا ولكن ورد معنى :

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت : 64]

(الحيوان صيغة مصدر معناها الحياة الكاملة الدائمة...)

2-

جاءت صفة "الدنيا "على وزن صيغة التفضيل أفعل / فعلى (من الفعل الثلاثي دنا يدنو، أدنى دنيا ، مثل أعلى عليا، أقصى قصوى، أكبر كبرى....) وصيغة التفضيل لا تنفك أبدا عن معنى المقارنة سواء أكان المقارن به مذكورا أم مطويا فتقول : (زيد أقوى من عمرو) فتذكر الطرفين وقد تقول: (زيد أقوى) وتسكت، لكن المتلقي لا بد أن يستحضرعمرا ، لأن المفاضلة مقارنة ، وشرط إمكان المقارنة وجود عنصرين على الأقل...

إذن صيغة التفضيل في لفظة "الدنيا" تستوجب بالضرورة استحضار الطرف الثاني وليس هذا الطرف إلا "الآخرة" بحسب ما يمليه قانون التشاكل...

لكن كلمة "آخرة" مختلفة عن كلمة "دنيا" مادة وهيئة..

فأما مادة فلأن المقابل لكلمة "دنيا" هي "قصوى" وليس "آخرة" كما في قوله تعالى:

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأنفال : 42]

وأماهيئة فلأن المقابل لكلمة "آخرة "هي "دانية " (وليس دنيا )

فتكون كلمة "آخرة" قد أشربت معنى "قصوى" بفضل المقابلة والاحتباك ، وهو معنى صحيح بلا ريب ، لأن الآخرة أبعد في الزمن من الدنيا فلا يبدأ وقتها إلا بعد انقضاء زمن الدنيا...

وكذلك كلمة "الدنيا" قد أشربت معنى "الدانية " أو "الأولى" بفضل المقابلة والاحتباك ، وقد جاءت في التنزيل- فعلا -موصوفة ب"الأولى" في مقابل" الآخرة" :

وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص : 70]

فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى [النجم : 25]

وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [الضحى : 4]

وبالمناسبة نورد هنا فائدة : كثير من الناس يظنون أن في صيغة (أفعل) التي للتفضيل مبالغة لا توجد في الصفة، فيعتقدون مثلا أن (الأطول ) فيه من الطول أكثر مما في الموصوف ب (طويل) وهذا لا يصح دائما....فالأمر يتعلق هنا بالمطلق والنسبي وليس بالتكثيروالتقليل أو الشدة والضعف ، ف (طويل) صفة مطلقة و(أطول) صفة نسبية : الا ترى أن حشرة طولها سنتمترواحد لا يمكن أن يقال عنها طويلة ، ولكن يقال عنها أطول بالنسبة لأختها التي طولها نصف سنتمتر!

إذن صفة الدانية صفة مطلقة أما الأولى والدنيا فصفتان نسبيتان وصفت الحياة بهما بالمقارنة مع الآخرة...

3-

وهناك معنى آخر في" الدنيا" : أن لا تكون مشتقة من( الدنو) وإنما من (الدناءة) كما في قوله تعالى:

قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْر [البقرة : 61]

فتكون كلمة " دنيا" في اصطلاح القرآن قد دلت على الوصفية وحكم القيمة معا : الوصفية باعتبار الاشتقاق من الدنو( فهي أدنى من الآخرة) وحكم القيمة باعتبار الاشتقاق من الدناءة ( الآخرة خير منها)



قال الراغب -رحمه الله- في مفرداته تحت مادة (دنا) :

( الدّنوّ: القرب بالذّات، أو بالحكم، ويستعمل في المكان والزّمان والمنزلة.

قال تعالى:

وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ [الأنعام : 99]

وقال تعالى:

ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم : 8]

هذا بالحكم. ويعبّر بالأدنى تارة عن الأصغر، فيقابل بالأكبر نحو:

وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة : 7]

وتارة عن الأرذل فيقابل بالخير، نحو:

أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: 61] ،

وعن الأوّل فيقابل بالآخر، نحو:

خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج : 11]

وقوله:

وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النحل: 122] ،

وتارة عن الأقرب، فيقابل بالأقصى نحو:

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى[الأنفال: 42] ،

وجمع الدّنيا الدّني، نحو الكبرى والكبر، والصّغرى والصّغر.

وقوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ [المائدة: 108]

أي: أقرب لنفوسهم أن تتحرّى العدالة في إقامة الشهادة،

وعلى ذلك قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ [الأحزاب: 51]

وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [البقرة:220]

متناول للأحوال التي في النشأة الأولى، وما يكون في النشأة الآخرة، ويقال: دَانَيْتُ بين الأمرين، وأَدْنَيْتُ أحدهما من الآخر. قال تعالى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ

[الأحزاب: 59]

وأَدْنَتِ الفرسُ: دنا نتاجها.

وخصّ الدّنيء بالحقير القدر، ويقابل به السّيّئ، يقال: دنيء بيّن الدّناءة. وما روي «إذا أكلتم فدنّوا» من الدّون، أي: كلوا ممّا يليكم.)
 
ننبه إلى أمر هام :

المعنى المنقول المتبادر إلى ذهن المتلقي ليس مقصودا دائما فقد يقصد المعنى الأصلي إذا دلت عليه قرينة ...

الموصوف المحذوف في" الدنيا "و"الآخرة" هي الحياة ولكن قد يكون غيرها...ونبين ذلك بمثال :

وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء : 104]

كل المفسرين ذهبوا إلى أن المراد بالآخرة الساعة أو يوم القيامة وأن المجيء بهم لفيفا هوالحشر من قبورهم مختلطين قد التف بعضهم على بعض...

وعذرهم في هذا النفسير الانسياق خلف المعنى المتبادر من كلمة الآخرة وقدروا المحذوف بالدار أو الحياة كما هو معتاد...

ونحن لا نتردد في تضعيف هذا التفسير- ولو أجمعوا عليه- لأنهم لم ينتبهوا إلى القرينة المانعة وإلى دلالة السياق الخاص:

عبارة:

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ

لم ترد في القرآن إلا في سورة الإسراء...ووردت فيها مرتين:


إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء : 7]

وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء : 104]


جاءت العبارة مرتين ،في سورة واحدة ، بالتركيب نفسه وباللفظ نفسه وهذا التشابه المطلق في المبنى يرجح بدون شك التشابه في المعنى ، خاصة وأن الموضوع موحد يتعلق ببني إسرائيل

في الآية الأولى لا يجوز أن يكون المراد الدار الآخرة لأن دخول المسجد كما دخلوه أول مرة لا يتصورإلا في الدنيا لا يوم القيامة...فالمحذوف المقدر هو عاقبة الإفساد، والتقدير: فإذا جاء وعد عاقبة الإفساد الثاني ....الخ

وعندما نتأمل الآية الثانية ونجد فيها العبارة نفسها التي قرأناها من قبل في السورة فلماذا لا نفهمها هنا كما فهمناها من قبل والسياق مؤكد للمعنى : فهو يلخص اللحظات الأساسية في تاريخ بني اسرائيل بعد موسى:

- تسكنون الأرض بعد الخروج من مصر

- تفسدون مرة أولى ويسلط عليكم قوم ذوو بأس شديد

- تفسدون مرة ثانية فيؤتى بكم لفيفا للعقاب ....

ونأخذ على بعض المعاصرين أيضا التأويل الشاذ حين زعموا أن المفسدين هم المسلمون وليس اليهود ...فإن كانت الآية الأولى تحتمل هذا التأويل ويفهم منها أن المخاطبين هم المسلمون "انْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا..." لكن الآية الثانية لا تحتمل ذلك فالآية صريحة في كون المخاطبين بوعد الآخرة هم بنو إسرائيل لا غيرهم ...

فلماذا لا نفهم هذه العبارة " فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ" في المرة الأولى كما نفهمها هنا ... والسياق مؤكد للمعنى!!
 
"الصلاة "

للصلاة وضع متميز بين العبادات ولها أيضا وضع متميز بين المصطلحات..



1-

المعنى الوضعي للصلاة ( الدعاء) ، وقد حافظ المعنى الاصطلاحي – الشرعي- على هذا المعنى وأشفعه بمعاني أخرى، فتكون العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي علا قة عموم وخصوص مطلق...

الصلاة شرعا لا تنفك عن الدعاء ولا تصح بدونه...ولا نقصد بالدعاء ما يقوله المصلي في سجوده فهذا دعاء حر ليس ركنا ولا تتقوم به الصلاة (فقد لا يدعو في السجود ومع ذلك فقد صلى...) بل المقصود الدعاء المتضمن في الفاتحة، والفاتحة - كما هو معلوم - ثناء ودعاء ،الثناء في مقدمتها : الحمد لله رب العالمين....والدعاء في خاتمتها :اهدنا الصراط المستقيم...فلا صلاة لمن لم يتل فيها بفاتحة الكتاب ، ومن تلاها فقد دعا ربه...فتكون الصلاة دعاء كما في الوضع اللغوي مع زيادات كالذكر وقراءة القرآن وأوضاع الجسد من قيام وركوع وسجود....

2-

الصلاة يمكن إسنادها إلى الجميع إلى الخالق وإلى المخلوق :

الله يصلي

الملائكة تصلي

النبي يصلي

المؤمن يصلي

الطير تصلي

الفعل المسند واحد لكنه يتخذ في كل مرة معنى تبعا لتغير الفاعل!

هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب : 43]

فاعل يصلي هو الله تعالى ، والملائكة معطوفة على الفاعل، لكن شتان بين معاني الصلاة ...فصلاة الله هي رحمته - كما بينت خاتمة الآية- ،وصلاة الملائكة هي دعاؤهم واستغفارهم لاخراج الناس من الظلمات الى النور..

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب : 56]

الصلاة اسم لفعل من الله ومن الملائكة ومن المؤمنين :

صلاة الله ثناؤه على عبده في الملإ الأعلى...صلاة الملائكة دعاؤهم ... وصلاة المؤمنين معروفة بصيغها الثابتة في السنة مثل: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ..." والعجيب هنا أن التلفظ بهذه الصيغة صلاة على النبي ومضمونها دعاء الله أن يصلي على النبي!! فتكون الصلاة وسيلة وغاية في وقت واحد..

ومن الطريف أيضا في الصلاة أن تكون من الله إلى الإنسان (رحمة منه وفضل ) ومن الإنسان إلى الله (دعاء منه وتضرع)...

ونختم بهذه الآية التي تبين شمولية الصلاة :

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور : 41]
 
بارك الله فيكم يا أبا عبدالمعز

كيف تجيب على سؤال : كيف نقول (مصطلحات القرآن) ونحن نعلم أن المصطلح يستلزم اتفاق أهل تخصص معين كالنحو أو التفسير على دلالة معينة لتصبح مصطلحاً محدد الدلالة فيما بينهم، والقرآن كلام الله ولم يشارك أحد من البشر في تحديد دلالة أي مفهوم من مفاهيمه؟
وهذا السؤال شائع ، ومطروح في كثير من البحوث والمقالات المعاصرة اعتراضاً على إطلاق المصطلح القرآني أو مصطلحات القرآن ونحو ذلك.
 
لاصطلاح هو وضع دال لمدلول خاص، وهذا المدلول في الغالب يكون تقنيا يتعلق بمفهوم مستحدث أو منقح في مجال فكري أو علمي أو فني، ويمكن جمعها في كتاب على ترتيب الحروف الهجائية فيقال : معجم مصطلحات الفلسفة ، معجم مصطلحات السينما، معجم مصطلحات الفزياء ، معجم مصطلحات البلاغة الخ..ولا فرق بين هذه المعاجم والمعاجم اللغوية في مادة المفردات ، إلا أن الإصطلاحي تهمه المعاني الجديدة التي تدل على مجاله التخصصي بينما اللغوي تهمه الدلالات الوضعية في الاستعمال العام ...ف "أنا" و "هو" عنده ضميران الأول يدل على المتكلم الحاضر والثاني يدل على الغائب، وفي اصطلاح علم النفس "الأنا" هي الذات الواعية بنفسها و"الهو" هو اللاشعور او الذات غير الواعية بنفسها ويجعلون النفس التي يحللونها مكونة من ثلاث طبقات: الأنا، الأنا الأعلى ، الهو.... "أنا" و "هو" عندهم طبقتان في النفس وهما عند اللغوي ضميران يدلان على ذات حاضرة وذات غائبة....

ولا نعني بمصطلحات القرآن إلا الدلالات الشرعية الجديدة التي أضافها القرآن للمفردات العربية السائدة عند العرب قبل النزول ، مثل "الصلاة" و"الزكاة" و"الصوم" و"الحج" و"الجنة" و"النار"و القيامة".....

ولو فتحت أي كتاب في الفقه- مثلا- فستجد في كل باب تعريف المفهوم بذكر معنييه: المعنى اللغوي والمعنى الشرعي...وليس المعنى الشرعي إلا الدلالات الجديدة التى قصدها القرآن وبينتها السنة... هذا هو المصطلح القرآني ، ومن أنكره فقد خرج عن إجماع المصنفين في التمييز بين الدلالتين...وقد لمسنا هذه البدعة عند الطائفة الجاهلة المسماة (القرآنيين) قالوا: إن الصلاة في القرآن" الدعاء" - كما هي في كلام العرب الذين نزل القرآن بلسانهم-لا ركوع فيها ولا سجود ولا تشهد ...وسموا الصلاة التي ابتدعها المسلمون وما نزل بها قرآن "الصلاة الحركية" !!!

والشبهة التي نقلها الاستاذ الفاضل (عبد الرحمن الشهري) عن كتاب المقالات والبحوث المعاصرة شبهة واهية..فإبداع المصطلح يكون في الغالب عمل فرد واحد وليس عمل لجنة مختصة فيها مداولات وتصويت واتفاق...عندما وضع( ماركس) مصطلح "البنية التحتية " لم يطرحه في الحزب الشيوعي للمصادقة عليه! بل وضعه كإبداع شخصي واستعمله بعده التلاميذ والمخالفون فشاع في الناس وهو مصطلح حقا ولو بقي مهملا في مخطوطات كارل ماركس...لأن المصطلح في التعريف هو كل كلمة تضمنت معنى مختلفا قليلا أو كثيرا عن المعنى السائد في الناس بالمواضعة ،وأما اشتراط اتفاق أهل التخصص فلا يتقوم التعريف به...وهكذا مصطلحات القرآن : أخذ القرآن كلمة عربية (الصلاة مثلا) ثم أضاف إليها معاني جديدة تفهم بالقرائن والإشارات اللغوية وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم- ببيان التفاصيل...فواضع المصطلح واحد هو رب العالمين وفهم المصطلح شائع بين الناس استنادا إلى البيان القرآني والنبوي...وهؤلاء المعاصرون الذين أشار إليهم أخونا الدكتور (عبد الرحمان )بنو شبهتهم على عدم التمييز بين الوضع والفهم مثل من لا يميز بين الاستهلاك والانتاج فإذا رأوا الاستهلاك جماعيا ظنوا أن الانتاج لا بد أن يكون جماعيا أيضا!

باختصار لا يوجد مانع عقلي أو شرعي من أن يأتي القرآن بكلمة عربية ويحملها دلالات أخرى وهذا شائع في كل العلوم والفنون وفي كل حضارات البشر...فإن لم تعجبهم عبارة (مصطلحات القرآن) فليأتوا بمصطلح آخر فلا مشاحة في الاصطلاح كما قيل ...ولكن لا يمكن أن ينكروا وقوع الظاهرة في حد ذاتها في القرآن سواء أعجبهم المصطلح أم لم يعجبهم...
 
عودة
أعلى