أَبي أَدْرِكني.. فَأَنا لَا أُؤمِنُ بِالإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ يا أَبِي! .. (حوار تربوي)

إنضم
18/07/2010
المشاركات
537
مستوى التفاعل
2
النقاط
18
الإقامة
المدينة المنورة
تذكرت منذ ثلاث سنوات تقريبا موقفا حدث لي مع والدي رحمه الله, فاسترجعت تفاصيله, وكلما تذكرت منه جزءا كلما رغبت نفسي في تدوينه وحكايته عل الله أن ينفع به, ثم إني حينها هرعت إلى أوراقي فكتبت مقالين, الأول قدّر الله له أن يرى النور, وقد كان بعنوان: http://vb.tafsir.net/tafsir34225/#.VQ5exfysV1Y
أما الثاني ـ وهو الذي سردتُ فيه موقفا حدث لي ـ تأخر نشره عن أخيه, بل ونُسي تحت أكوام الخواطر والمقالات المهملة.. ولا أدري ما الذي ذكرني به بالأمس, فهرعت إليه أستخرجه, وأزيل ما لحقه من غبار الإهمال, لأجهزه للنشر.. وإن لأسأل الله العلي العظيم أن ينفع به.

أَبي أَدْرِكني.. فَأَنا لَا أُؤمِنُ بِالإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ يا أَبِي!

حينما كنتُ أدرس في المرحلة المتوسطة واجهتُ مشكلة عقدية كدرتْ علي صفائي وأزعجتني, وكلما حاولتُ نسيانها والتغافل عنها عادت بقوة إلى ذهني وتفكيري.
ومشكلتي هذه كانت مع حادثة الإسراء والمعراج!
نعم لقد كنت مؤمنة بالقصة إيمانا عاما يقتضيه تسليمي بكل ما يخبرني به ديني, لكني في الحقيقة كنتُ أجد صعوبة في تصديق ذلك بعقلي الذي لم ينضج بعد, فكيف يسافر الرسول صلى الله عليه وسلم منذ ألف وأربعمائة سنة من مكة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء ليعود إلى مكة وفراشه لم يبرد بعد؟!, ولِـمَ هما رحلتان معجزتان في ليلة واحدة؟ ربما لو كانت واحدة لكانت إلى الاستيعاب والتخيل أقرب, وكنتُ أتمادى في حديث نفسي ذاك حتى أقول: وهل يلام المشركون في تكذيبهم خبر الإسراء والمعراج؟!! حينها أنتفض من هول ما أصل إليه.. فأستعيذ بالله من سوء خواطري, وأتلفظ بإيماني بالإسراء والمعراج بالصوت حتى أخرس ذلك الصمت, فكأنما أنفي بلسان مقالي ما قلته بلسان حالي وخيالي, لكن يبقى إيماني بهذه الحادثة النبوية مشوها مهترئا.. أتى عن غير اقتناع, فحاولتُ منع نفسي من مجرد التفكير في الأمر وتفاصيله ومدى صعوبته وما هي طريقته وأدواته...الخ, لكن منع النفس عن التفكير يقود أحيانا إلى المزيد من الاستغراق في التأمل!, فأعيتني نفسي وخشيت أن يرق إيماني فأحدث فيه حدثا يهلكني فيؤاخذني الله بما أخفيت في صدري, فعزمت على البحث عن حل خارجي يسعفني.
وبالفعل قصدت والدي ـ رحمه الله ـ في هذه المشكلة, وكان والدي رجلا شديدا يهاب الرجال مخاطبته, فكيف بالنساء والصغار؟, وقد جئته في أمر ليس بهين.. إنه يمس الإيمان بثوابت الدين, وكان والدي ممن ينتفض غضبا لدين الله إن مس جنابه, لأنه ينزله من نفسه منزلة عظيمة, حتى أنك لترى قبسا من هيبة الإسلام يخالط هيبة شخصه فيزيده قوة ووقارا.. لذا حق لي القلق والتوجس من ردّات فعله, لكن الذهاب إليه كان خياري الأفضل والأول دائما.
فذهبتُ إلى غرفته أقدم خطوة وأؤخر خطوات, حتى أتيته على سريره, فابتدأته بالكلام وقلت: أبي.. أريدك في موضوع هام وجوهري بالنسبة لي, فلدي مشكلة كارثية في مسألة من مسائل الاعتقاد. وهي تؤرقني, لكن أرجوك.. امنحني الأمان أولا, فلا تقاطعني في الكلام حتى يبلغ شرحي منتهاه, ولا تغضب فتحدثني حديث المنفعل الغاضب لدين الله فأداهنك وأرضيك على غير اقتناع, فقط اعتبرني شخصا غريبا راشدا جاءك يستفتيك في مسألة.. فأنا حقا أريد حلا مقنعا يخلصني منها!.
ثم سكتُّ أنتظر جوابه, وأقرأ انفعالاته.. وكان رحمه الله متكأ فاعتدل, ولازلت أذكر وجهه وهو يزداد اهتماما واصغاء لكلامي, حتى بلغ به الفضول منتهاه فقال لي: تفضلي.
لم أفكر حينها في مقدمات انتقائية ولا عبارات تجميلية لأخفي خلفها شوه الحقيقة المرة التي سألقيها على مسامعه, وإنما انطلقتُ إلى قلب الاعصار مباشرة فقلتُ: أبي.. أنا لا أؤمن في قرارة نفسي بقصة الإسراء والمعراج, فهي خيالية في مقاييسي ولا تدخل عقلي مهما حاولت تسويغ حدوثها.. وليست هي الوحيدة التي أجد صعوبة في الإيمان بها وإنما هناك قصة "يا سارية الجبل!" .. كلاهما أراه فوق المنطق, فكيف أؤمن بما لا أصدق؟! وقد حاولتُ مناقشة الأمر مع إحدى معلماتي في المدرسة.. لكني أعلم أن بعض العقول لا تحسن استيعاب مثل هذه القضايا, وقد تشهق معلمتي وتستعيذ بالله مني ومن جرأتي وكفري.. بل قد يبلغ خبري الآفاق بعد مناقشتي لهذا الأمر معها, فيدفعني الثأر لذاتي ولكبريائي لمزيد من العناد في دين الله, فقررتُ السكوت عن الأمر ونسيانه, فأعياني نسيانه, حتى أنه صار يتعمق داخلي.. فخشيت أن يطال ثوابت أخرى أؤمن بها فيزعزعها هي الأخرى, لذا لجأت إليك.
أنهيت كلامي وبقيت أنتظر جوابه, لكن العجيب أن والدي وهو الشخصية المثقفة والداعية الفصيح المفوه قد فاجأني حين طلب مني تحديد وقت آخر للنقاش في هذا الموضوع, وقد أرجعتُ الأمر إلى انشغاله بالعمل, فقد كان رحمه الله تاجرا مشغولا بتجارته, ومن يعرف حياة التجار يدرك كم هي حياة صعبة مضنية, لكنه رحمه الله لم يرد أن أرجع الأمر لانشغاله وإنما فاجئني بقوله: أحتاج وقتا لأفكر في كلامك وأرتب أفكاري!.
وبالفعل.. مضى بعض الوقت قبل أن يستدعيني رحمه الله لغرفته في اليوم التالي (على ما أذكر), فجئته وأنا مترقبة متحفزة لحديث طويل مليء بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية ليقنعني بالحادثة.
وحين بدأ حديثه لم ينطلق في الكلام كما كنت أظن, وإنما فوجئت به يستجوبني في بعض النقاط, وقد بدأ رحمه الله بقصة "سارية الجبل" فقال:
- هذه قصة لا يترتب على الإيمان بها جنة أو نار.. لذا دعينا نجنبها ونركز على الإسراء والمعراج باعتبارها الأهم.. وقبل أن نبدأ موضوعنا دعينا نتحدث حول الكليات أولا قبل الجزئيات والتفاصيل, الآن أين تكمن مشكلتك.. هل هي في قدرة البراق على حمل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة؟ أم في قدرة الله؟
قلت: لا بل في قدرة البراق!
قال: إذن أنت مؤمنة بقدرة الله سبحانه وتعالى على فعل أي شيء ولا يساورك في ذلك أدنى شك؟
أجبته: نعم.
قال: وهل قدرة البراق داخلة في قدرة الله الفائقة؟
سكتُّ قليلا ثم أجبته: نعم.
إذن الأمر حسم!.. فالله قادر على فعل أي شيء بأي خلق يخلقه.. أليس كذلك؟!
قلت: بلى.
فقال.. تعالي إذن لبعض التفاصيل:
أسرع وسيلة مواصلات تعرفينها.. كم تبلغ سرعتها؟ فقلت: الصاروخ (وقد كان حينها الأسرع), وقد اخترق جدار الصوت وسبقه!
قال: وفي الخيال العلمي يتحدثون عن اختراع مركبة فضائية في المستقبل قادرة على سبق الضوء أليس كذلك؟ قلت: نعم..
قال ولو حسبناها بقدراتنا المادية المتوفرة لوجدنا أن مركبة فضائية يمكنها التحرك بسرعة الضوء إلى القدس ذهابا وإيابا ستستغرق كذا وكذا من الدقائق.. أليس كذلك؟!
إذن الموضوع بعقولنا الصغيرة ممكن جدا.. ويبدو منطقيا, وقصة الإسراء تأتي ضمن قدرات ممكنة الحدوث في خيالنا... رغم أننا نعلم ونؤمن بأن قدرة الله فوق خيالنا, فهل يا ترى سيعجزه أن يرفع محمدا صلى الله عليه وسلم للسماء السابعة ويعيده إلى الأرض في وقت قصير؟!
قلت: لا بل الأمر يبدو معقولا بالفعل!
قال: لنعترف إذن أن الصحابة كانوا أفضل منا.. فهذا الوقت الذي استغرقتِه أنت للإيمان بحادثة الإسراء والمعراج وما قمتِ به من حسابات رياضية واستدعاء لخيالك العلمي وغيره = لم يستغرق من الصديق رضي الله عنه إلا أن ينطق بقوله: إن كان محمد قال ذلك فقد صدق!
فخجلت من نفسي وانسابت دموعي! وأدركت حجم جنايتي وتفاهة تفكيري وسذاجة عقلي.

فقال لي بعد برهة وقد أسعده نتيجة الحوار: تعالي إذن إلى قصة عمر رضي الله عنه حين نادى يا سارية الجبل.. وقبلها أجيبيني: نحن الآن كيف نتحدث في الهواتف مع أناس في أقاصي الأرض دون أن تمتد أسلاك بيننا وبينهم لتحمل هذا الصوت؟. فسكت.
فتابع: هذه خاصية في الهواء, وهي ليست اختراعا اخترعناه حديثا, وإنما هي كتشاف من البشر على مقدرة الهواء حمل الصوت بطريقة معينة، واختراع الهاتف لم يكن كرامة لمخترعه وإنما كان في إطار مادي بحت، فما الذي يمنع عقلا من أن يسخر الله خاصية موجودة في الهواء أصلا لعبد من عباده الصالحين وهو القادر سبحانه على أن يسخر له ما لا يمكن اكتشافه ولا تخيله.. فما الذي يمنع؟
فأجبته بقناعة: لا شيء يمنع.
قال: ومع ذلك لا يهم إن آمنت بهذه القصة أم لم تؤمني.. فلا يترتب عليها جنة ولا نار.. لكن سيترتب على عدم إيمانك بها عدم إيمانك بالهواتف ووسائل الاتصالات الحديثة من الناحية العلمية.. وهذا تخلف لا يليق بك في هذا العصر!
وهكذا انتهت الجلسة في دقائق!
صحيح أنه قد حرص رحمه الله على الجلوس معي جلسات أخرى بعدها.. لكنه لم يناقش القضية ثانية, وإنما أراد أن يرسخ لدي فكرة واحدة وهي: أن استخدام العقل في الدين والعبادات مذموم لأنه يورد المهالك, وليس في كل مرة تسلم الجرة! فقد نلجأ مع حيرتنا لمن لا يحسن الإجابة على إشكالياتنا فيمهد لنا دون قصد منه طريقا للمروق من الإسلام كلية.
فرحمك الله يا أبي.. والله إني لم أجري في حياتي حوارات عقلية راقية ممتعة في شتى مجالات الحياة بعده, فنعم الأب كان, لقد جعل من أبناءه مشاريع حياته, فاللهم اغفر ذنبه ونور قبره وآنس وحشته, وبارك لي في والدتي وأمد عمرها في طاعتك, وارحمهما ربي كما ربياني صغيرة.

حفصة اسكندراني
 
عودة
أعلى