أبو تيمية1
New member
- إنضم
- 03/04/2003
- المشاركات
- 71
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
بسم الله الرحمن الرحيم
أوجهُ تفسيرِ : (العذابِ الأدنَى) المذكُورِ في قوله تعالى:(و لنذِيقَنَّهم من العذاب الأدنى دون العذابِ الأكبرِ لعلَّهم يرجِعُونَ).
الحمدُ لله الذي قدَّر فهدى ، و صلَّى الله و سلَّم على خير مَنْ وطئ الحصى ، و على آله وصحبه أولي الفضائل و النُّهى ، أمَّا بعدُ :
فعند النظر و البحث في كتب التفاسير عن معنى قوله تعالى :(و لنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) نجد أنَّ ( العذاب الأدنى ) تنوَّع تفسيره ، حتى قيل : بأنه عذاب القبر !، و هو أحدُ أوجُهِ التفسيرِ المأثورةِ عن السَّلَف.
فهل هو معنًى محتمَلٌ صَحِيحٌ ؟
و قبل الانتهاءِ إلى الإجَابَة على السُّؤال = أُبيِّنُ الأوجهَ المأثورةَ في تفسير العذابِ الأدنى ثمَّ نعرِّجُ على السؤال ، فأقول – و بالله التوفيق :
الوجه الأول : أنه المصيبات التي تصيبهم من مصائب الدنيا وأسقامها مما يبتلي الله بها العباد حتى يتوبوا ، و هذا و نحوه المأثور عن ابن عباس 1و أبي بن كعب 2 و أبي العالية 3 والحسن 4و إبراهيم النخعي5 والضحاك 6و عن غيرهم.
و الثاني : أنه الحدود ، روي هذا عن ابن عباسٍ 7 .
و الثالث : أنه القتل ، و قيده بعضهم فقال : بالسيف ، و عينه بعضهم فقال : كان ذلك يوم بدر .
وهذا المأثور عن ابن مسعود 8و أبي بن كعب9 و الحسن بن علي10 و عبد الله بن الحارث بن نوفل 11 و ا لسدي 12 و غيرهم .
و الرابع: القتل و الجوع لقريش في الدنيا ، أو سنون أصابتهم أو عذاب الدنيا.
و قد جاء هذا المعنى عن : ابن مسعود 13 و مجاهد 14 و إبراهيم15 و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم 16 ، و المعاني الثلاث متداخلة ، و بعضها أخص من بعض ، و هي أفرادٌ لمعنى عامٍ.
و الخامس : أنه عذاب القبر .
و روي هذا عن : البراء بن عازب 17أو أبي عبيدة و عن مجاهد 18 ، لكنه لا يثبت عنهما .
و قد ساقه بعضهم وجها من أوجه التفسير ،بل وجَّهه بعضهم ، كما ضعَّفه آخرون :
1 – قال القشيري :(وقيل عذاب القبر وفيه نظر لقوله:(لعلهم يرجعون)) (تفسير القرطبي 14/107).
2 – و قال الطوفي :(زعم بعضهم أن العذاب الأدنى : عذاب القبر ، و العذاب الأكبر : عذاب النار ، و هو ضعيف بل باطل ، لأنه علل إذاقتهم العذاب الأدنى برجوعهم عن كفرهم بقوله:(لعلهم يرجعون) و في القبر استحال رجوعهم إلى الدنيا ، و إنما العذاب الأدنى يشبه أن يكون السنين التي أصابتهم على عهد النبوة المذكورة في سورة الدخان) ( الإشارات الإلهية 3/125).
3 – و قال ابنُ القيِّم و هو يسوق الآيات المثبتة لعذاب القبر : ومنها قوله تعالى:(ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) ، وقد احتج بهذه الآية جماعة منهم عبد الله بن عباس 19 على عذاب القبر ؛ وفي الاحتجاج بها شيء ؛ لأن هذا عذاب في الدنيا يستدعي به رجوعهم عن الكفر ولم يكن هذا ما يخفى على حبر الأمة و ترجمان القرآن ، لكن من فقهه في القرآن ودِقَّة فهمه فيه = فَهِمَ منها عذابَ القبر، فإنَّه سبحانه أخبر أن له فيهم عذابين : أدنى وأكبر ، فأخبر أنه يذيقهم بعض الأدنى ليرجعوا ، فدل على أنه بقي لهم من الأدنى بقية يعذبون بها بعد عذاب الدنيا ، ولهذا قال:(من العذاب الأدنى)ولم يقل : و لنذيقنهم العذاب الأدنى ، فتأمَّله.
و هذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم " فيفتح له طاقة إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها" و لم يقل : فيأتيه حرّها وسمومها ، فإن الذي وصل إليه بعض ذلك وبقي له أكثره ، والذي ذاقَه أعداءُ الله في الدنيا بعضَ العذاب وبقى لهم ما هو أعظم منه )( الروح ص 208-209).
و هذا توجيه حسنٌ ، و يفهم منه أن العذاب الأدنى أوَّلُه في الدُّنيا و آخرُه و منتهاه عذابُ القبر ، و الذي يذوقونه في الحياة الدنيا قبلَ الموت هو ذلك المبعَّضُ في الآية :(من العذاب) ، و لذا فلا اختلاف بين أولها وآخرها و هو قوله:(لعلهم يرجعون) ، لأنه عذاب قبل الموت .
لكن يبقى إشكال ؛ و هو أن العذاب البرزخي من غير جنس العذاب الدنيوي ، و يختلف عنه ، و الظاهر من قوله:(من العذاب الأدنى) أن العذاب جنسه واحد ، لأنه بعضٌ منه ، فكيف يستقيمُ هذا ؟
على أن بعضهم تأول قوله تعالى:(لعلهم يرجعون) على غير المعنى المعروف منها ، فقال : (أي لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه كقوله:(فارجعنا نعمل صالحاً) وسميت إرادة الرجوع رجوعا كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى:(إذا قمتم إلى الصلاة) ويدل عليه قراءة من قرأ يرجعون على البناء للمفعول ذكره الزمخشري )(تفسير القرطبي 14/108).
و هذا تأويل بعيد ، و الآيات الدالة على المعنى المعروفِ كثيرةٌ جدًّا ، كقوله تعالى:(ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) ، و قال تعالى:(لقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) ، و قال تعالى:(أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون).
خاتمة :
الذي يظهر للمتأمل أن المعاني المذكورة – عدا المعنى الأخير - لا تضادَّ بينها ، و إنما هي أفراد للعذاب الدنيوي ، الذي أُطلِقَ ، و لم يُبيَّن ، و هذا اختيار ابن جرير إمامِ المفسرين حيث قال عن كل تلك الأقوال عدا القول القائل بأنه عذاب القبر : (.. فكل ذلك من العذاب الأدنى ، و لم يخصص الله تعالى ذكره إذْ وعدهم ذلك أن يعذبهم بنوعٍ من ذلك دون نوعٍ ، وقد عذبهم بكل ذلك في الدنيا بالقتل والجوع والشدائد والمصائب في الأموال فأوفى لهم بما وعدهم ).
و أشار إلى عمومه شيخ الإسلام رحمه الله بقوله :(وكذلك قوله:(ولنذيقهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) يدخُلُ في العذاب الأدنَى ما يكون بأيدي العباد - كما قد فُسِّر بوقعة بدر بعض ما وعد الله به المشركين من العذاب). ( المجموع 15/45).
و كتب أبو تيمية الميلي حامدًا و مصليًا و مسلِّمًا
ليلة الأربعاء التاسع من شوال سنة 1424من الهجرة النبوية
*الهوامش :
1 أخرجه ابن جرير (21/108) و غيره بسند حسن .
2 أخرجه مسلم (2799) و غيره ولفظه (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى قال مصائب الدنيا والروم والبطشة أو الدخان- شعبة الشاك في البطشة أو الدخان - )و استدركه الحاكم عليهما فأخطأ.
3 أخرجه ابن جرير (21/109) و البيهقي في الشعب (9822) بسند جيِّدٍ عن أبي العالية.
4 أخرجه ابن جرير بسند صحيح و عبد الرزاق في تفسيره (2307) بسند منقطع .
5 أخرجه الثوري في تفسيره (ص 240 – رواية أبي حذيفة النهدي ) و ابن أبي شيبة ( 35396) و ابن جرير و أبو نعيم في الحلية (4/231) بسند صحيح .
6 أخرجه ابن جرير و غيره بسند يصلح مثله في باب التفسير.
7 أخرجه ابن جرير من طريق شبيب عن عكرمة عن ابن عباس ، و شبيب هو ابن بشر البجلي ، وثقه ابن معين في رواية الدوري . و قال أبو حاتم : لين الحديث حديثه حديث الشيوخ . و قال ابن حبان في الثقات : يخطئ كثيرا ، فمثله في الأصل يصلح لمثل هذا ، لكن أخشى أن يكون وهم في النقل عن ابن عباس فالرواية الأولى المتقدمة عندي أولى ، لا سيما و لها إسناد آخر تعتضد به .
8 أخرجه الثوري في تفسيره (ص 240 – رواية أبي حذيفة النهدي ) و ابن جرير و الطبراني في " الكبير " ( 9038) و الحاكم ( 4/253) و غيرهم من طرق عن الثوري عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال في الآية : يوم بدر ( دون العذاب الأكبر ) يوم القيامة ( لعلهم يرجعون) : لعل من بقي منهم أن يتوب فيرجع .و هذا سند جيِّد ، و قد رواه محمد بن كثير عن الثوري فقال : عن الأعمش بدل السدي فأخطأ ، أخرج روايته الحاكم 2/414.
9 أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن قتادة قال : كان مجاهد يحدِّث عن أبي بن كعب قال في العذاب الأدنى هو يوم بدر .قلت : فيه انقطاع في موضعين ، الأول : أن قتادة لم يسمع من مجاهد ، غير أن هذا الانقطاع لا يضر ، و ذلك لأن الواسطة معروفة ، و هي ثقة ، قال أحمد ( لم يسمع من مجاهد بينهما أبو الخليل )( المراسيل 627 للرازي ) و أبو الخليل هو صالح البصري ثقة .
و الموضع الثاني : ما بين مجاهد و أبي بن كعب ، فإنه لم يدركه ، لكن مرسلات مجاهد تصلح في مثل هذا ، ففيها قوة على غيرها كمراسيل عطاء و نحوه ، و لا أراه مخالفًا كثيرا لما ثبت أعلاه عن أبي ، فما أصاب الكفار يوم بدر من مصائب الدنيا ، فلا اختلاف ، إلا أن التعيين هنا و الإطلاق هناك فيها بعضُ اختلاف .
و قد رواه معمر عن قتادة فأرسله عن أبي دون ذكر لمجاهد . أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2306)
10 أخرجه ابن جرير بسند فيه انقطاع.
11 أخرجه ابن جرير و فيه ضعف و انقطاع.
12 انظر تفسير ابن كثير ( 3/463).
13 أخرجه النسائي في الكبرى ( 11395) و انظر التعليق رقم 16 .
14 أخرجه ابن جرير بسند صحيح عنه و لفظه (القتل و الجوع لقريش في الدنيا).
15 أخرجه ابن جرير بسند صحيح عنه و لفظه ( سنون أصابتهم ).
16 أخرجه ابن جرير بسند صحيح عنه و لفظه ( العذاب الأدنى : عذاب الدنيا ).
17 فقد أخرج هناد في " الزهد " ( 345 ) فقال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق عن البراء أو عن أبي عبيدة في قوله ( و لنذيقنهم من العذاب الأدنى ) قال : عذاب القبر.و أخرجه من طريقه : الآجري في الشريعة (363) و أبو نعيم في الحلية ( 4/206).
و قد اخطأ فيه شريك سندا و متنا ، و شريك ثقة لا سيما في أبي إسحاق لكنه لما ولي القضاء اختلط فمن حدث عنه قديما أو من كتابه فهو ذاك ، و الصواب ما رواه إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص و أبي عبيدة عن ابن مسعود فقال : سنون أصابتهم .أخرجه النسائي في الكبرى ( 11395) .
18 أخرجه ابن جرير من طريق إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد ، قلت : و هذا سند إلى مجاهد : لا تقوم به الحجة ، فأبو يحيى القتات كثير المناكير عن مجاهد ، و قد أنكر الأئمة مروياته عن مجاهد من رواية إسرائيل عنه ، و البلية منه لا من إسرائيل فإسرائيل إمام ثقة ، و قد روى عن غير أبي يحى فلم ير له مثل هذا ، لكن ذكر أحمد أن رواية الثوري عن أبي يحى مقاربة ، و عليه فالأظهر أن أبا يحيى لما حدَّث الثوري كان متماسكًا ، و لما حدَّث بها إسرائيل كان قد اختلط جدًّا فكثرت جدا منه المناكير، و هذا الأثر أظنه من تخليطه فهؤلاء أثبت الناس في مجاهد كما قد سبق – ذكروا عنه خلاف ما ذكر ، بل ومن كتابه التفسير الذي رواه القاسم بن أبي بزة عنه ، و أخذه ابن أبي نجيح و غيره .
19 لم أقف عليه مسندا إلى ابن عباس ، فلا أدري أهو كذلك أم هو وهم من ابن القيِّم ؟ .
أوجهُ تفسيرِ : (العذابِ الأدنَى) المذكُورِ في قوله تعالى:(و لنذِيقَنَّهم من العذاب الأدنى دون العذابِ الأكبرِ لعلَّهم يرجِعُونَ).
الحمدُ لله الذي قدَّر فهدى ، و صلَّى الله و سلَّم على خير مَنْ وطئ الحصى ، و على آله وصحبه أولي الفضائل و النُّهى ، أمَّا بعدُ :
فعند النظر و البحث في كتب التفاسير عن معنى قوله تعالى :(و لنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) نجد أنَّ ( العذاب الأدنى ) تنوَّع تفسيره ، حتى قيل : بأنه عذاب القبر !، و هو أحدُ أوجُهِ التفسيرِ المأثورةِ عن السَّلَف.
فهل هو معنًى محتمَلٌ صَحِيحٌ ؟
و قبل الانتهاءِ إلى الإجَابَة على السُّؤال = أُبيِّنُ الأوجهَ المأثورةَ في تفسير العذابِ الأدنى ثمَّ نعرِّجُ على السؤال ، فأقول – و بالله التوفيق :
الوجه الأول : أنه المصيبات التي تصيبهم من مصائب الدنيا وأسقامها مما يبتلي الله بها العباد حتى يتوبوا ، و هذا و نحوه المأثور عن ابن عباس 1و أبي بن كعب 2 و أبي العالية 3 والحسن 4و إبراهيم النخعي5 والضحاك 6و عن غيرهم.
و الثاني : أنه الحدود ، روي هذا عن ابن عباسٍ 7 .
و الثالث : أنه القتل ، و قيده بعضهم فقال : بالسيف ، و عينه بعضهم فقال : كان ذلك يوم بدر .
وهذا المأثور عن ابن مسعود 8و أبي بن كعب9 و الحسن بن علي10 و عبد الله بن الحارث بن نوفل 11 و ا لسدي 12 و غيرهم .
و الرابع: القتل و الجوع لقريش في الدنيا ، أو سنون أصابتهم أو عذاب الدنيا.
و قد جاء هذا المعنى عن : ابن مسعود 13 و مجاهد 14 و إبراهيم15 و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم 16 ، و المعاني الثلاث متداخلة ، و بعضها أخص من بعض ، و هي أفرادٌ لمعنى عامٍ.
و الخامس : أنه عذاب القبر .
و روي هذا عن : البراء بن عازب 17أو أبي عبيدة و عن مجاهد 18 ، لكنه لا يثبت عنهما .
و قد ساقه بعضهم وجها من أوجه التفسير ،بل وجَّهه بعضهم ، كما ضعَّفه آخرون :
1 – قال القشيري :(وقيل عذاب القبر وفيه نظر لقوله:(لعلهم يرجعون)) (تفسير القرطبي 14/107).
2 – و قال الطوفي :(زعم بعضهم أن العذاب الأدنى : عذاب القبر ، و العذاب الأكبر : عذاب النار ، و هو ضعيف بل باطل ، لأنه علل إذاقتهم العذاب الأدنى برجوعهم عن كفرهم بقوله:(لعلهم يرجعون) و في القبر استحال رجوعهم إلى الدنيا ، و إنما العذاب الأدنى يشبه أن يكون السنين التي أصابتهم على عهد النبوة المذكورة في سورة الدخان) ( الإشارات الإلهية 3/125).
3 – و قال ابنُ القيِّم و هو يسوق الآيات المثبتة لعذاب القبر : ومنها قوله تعالى:(ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) ، وقد احتج بهذه الآية جماعة منهم عبد الله بن عباس 19 على عذاب القبر ؛ وفي الاحتجاج بها شيء ؛ لأن هذا عذاب في الدنيا يستدعي به رجوعهم عن الكفر ولم يكن هذا ما يخفى على حبر الأمة و ترجمان القرآن ، لكن من فقهه في القرآن ودِقَّة فهمه فيه = فَهِمَ منها عذابَ القبر، فإنَّه سبحانه أخبر أن له فيهم عذابين : أدنى وأكبر ، فأخبر أنه يذيقهم بعض الأدنى ليرجعوا ، فدل على أنه بقي لهم من الأدنى بقية يعذبون بها بعد عذاب الدنيا ، ولهذا قال:(من العذاب الأدنى)ولم يقل : و لنذيقنهم العذاب الأدنى ، فتأمَّله.
و هذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم " فيفتح له طاقة إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها" و لم يقل : فيأتيه حرّها وسمومها ، فإن الذي وصل إليه بعض ذلك وبقي له أكثره ، والذي ذاقَه أعداءُ الله في الدنيا بعضَ العذاب وبقى لهم ما هو أعظم منه )( الروح ص 208-209).
و هذا توجيه حسنٌ ، و يفهم منه أن العذاب الأدنى أوَّلُه في الدُّنيا و آخرُه و منتهاه عذابُ القبر ، و الذي يذوقونه في الحياة الدنيا قبلَ الموت هو ذلك المبعَّضُ في الآية :(من العذاب) ، و لذا فلا اختلاف بين أولها وآخرها و هو قوله:(لعلهم يرجعون) ، لأنه عذاب قبل الموت .
لكن يبقى إشكال ؛ و هو أن العذاب البرزخي من غير جنس العذاب الدنيوي ، و يختلف عنه ، و الظاهر من قوله:(من العذاب الأدنى) أن العذاب جنسه واحد ، لأنه بعضٌ منه ، فكيف يستقيمُ هذا ؟
على أن بعضهم تأول قوله تعالى:(لعلهم يرجعون) على غير المعنى المعروف منها ، فقال : (أي لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه كقوله:(فارجعنا نعمل صالحاً) وسميت إرادة الرجوع رجوعا كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى:(إذا قمتم إلى الصلاة) ويدل عليه قراءة من قرأ يرجعون على البناء للمفعول ذكره الزمخشري )(تفسير القرطبي 14/108).
و هذا تأويل بعيد ، و الآيات الدالة على المعنى المعروفِ كثيرةٌ جدًّا ، كقوله تعالى:(ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) ، و قال تعالى:(لقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) ، و قال تعالى:(أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون).
خاتمة :
الذي يظهر للمتأمل أن المعاني المذكورة – عدا المعنى الأخير - لا تضادَّ بينها ، و إنما هي أفراد للعذاب الدنيوي ، الذي أُطلِقَ ، و لم يُبيَّن ، و هذا اختيار ابن جرير إمامِ المفسرين حيث قال عن كل تلك الأقوال عدا القول القائل بأنه عذاب القبر : (.. فكل ذلك من العذاب الأدنى ، و لم يخصص الله تعالى ذكره إذْ وعدهم ذلك أن يعذبهم بنوعٍ من ذلك دون نوعٍ ، وقد عذبهم بكل ذلك في الدنيا بالقتل والجوع والشدائد والمصائب في الأموال فأوفى لهم بما وعدهم ).
و أشار إلى عمومه شيخ الإسلام رحمه الله بقوله :(وكذلك قوله:(ولنذيقهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) يدخُلُ في العذاب الأدنَى ما يكون بأيدي العباد - كما قد فُسِّر بوقعة بدر بعض ما وعد الله به المشركين من العذاب). ( المجموع 15/45).
و كتب أبو تيمية الميلي حامدًا و مصليًا و مسلِّمًا
ليلة الأربعاء التاسع من شوال سنة 1424من الهجرة النبوية
*الهوامش :
1 أخرجه ابن جرير (21/108) و غيره بسند حسن .
2 أخرجه مسلم (2799) و غيره ولفظه (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى قال مصائب الدنيا والروم والبطشة أو الدخان- شعبة الشاك في البطشة أو الدخان - )و استدركه الحاكم عليهما فأخطأ.
3 أخرجه ابن جرير (21/109) و البيهقي في الشعب (9822) بسند جيِّدٍ عن أبي العالية.
4 أخرجه ابن جرير بسند صحيح و عبد الرزاق في تفسيره (2307) بسند منقطع .
5 أخرجه الثوري في تفسيره (ص 240 – رواية أبي حذيفة النهدي ) و ابن أبي شيبة ( 35396) و ابن جرير و أبو نعيم في الحلية (4/231) بسند صحيح .
6 أخرجه ابن جرير و غيره بسند يصلح مثله في باب التفسير.
7 أخرجه ابن جرير من طريق شبيب عن عكرمة عن ابن عباس ، و شبيب هو ابن بشر البجلي ، وثقه ابن معين في رواية الدوري . و قال أبو حاتم : لين الحديث حديثه حديث الشيوخ . و قال ابن حبان في الثقات : يخطئ كثيرا ، فمثله في الأصل يصلح لمثل هذا ، لكن أخشى أن يكون وهم في النقل عن ابن عباس فالرواية الأولى المتقدمة عندي أولى ، لا سيما و لها إسناد آخر تعتضد به .
8 أخرجه الثوري في تفسيره (ص 240 – رواية أبي حذيفة النهدي ) و ابن جرير و الطبراني في " الكبير " ( 9038) و الحاكم ( 4/253) و غيرهم من طرق عن الثوري عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال في الآية : يوم بدر ( دون العذاب الأكبر ) يوم القيامة ( لعلهم يرجعون) : لعل من بقي منهم أن يتوب فيرجع .و هذا سند جيِّد ، و قد رواه محمد بن كثير عن الثوري فقال : عن الأعمش بدل السدي فأخطأ ، أخرج روايته الحاكم 2/414.
9 أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن قتادة قال : كان مجاهد يحدِّث عن أبي بن كعب قال في العذاب الأدنى هو يوم بدر .قلت : فيه انقطاع في موضعين ، الأول : أن قتادة لم يسمع من مجاهد ، غير أن هذا الانقطاع لا يضر ، و ذلك لأن الواسطة معروفة ، و هي ثقة ، قال أحمد ( لم يسمع من مجاهد بينهما أبو الخليل )( المراسيل 627 للرازي ) و أبو الخليل هو صالح البصري ثقة .
و الموضع الثاني : ما بين مجاهد و أبي بن كعب ، فإنه لم يدركه ، لكن مرسلات مجاهد تصلح في مثل هذا ، ففيها قوة على غيرها كمراسيل عطاء و نحوه ، و لا أراه مخالفًا كثيرا لما ثبت أعلاه عن أبي ، فما أصاب الكفار يوم بدر من مصائب الدنيا ، فلا اختلاف ، إلا أن التعيين هنا و الإطلاق هناك فيها بعضُ اختلاف .
و قد رواه معمر عن قتادة فأرسله عن أبي دون ذكر لمجاهد . أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2306)
10 أخرجه ابن جرير بسند فيه انقطاع.
11 أخرجه ابن جرير و فيه ضعف و انقطاع.
12 انظر تفسير ابن كثير ( 3/463).
13 أخرجه النسائي في الكبرى ( 11395) و انظر التعليق رقم 16 .
14 أخرجه ابن جرير بسند صحيح عنه و لفظه (القتل و الجوع لقريش في الدنيا).
15 أخرجه ابن جرير بسند صحيح عنه و لفظه ( سنون أصابتهم ).
16 أخرجه ابن جرير بسند صحيح عنه و لفظه ( العذاب الأدنى : عذاب الدنيا ).
17 فقد أخرج هناد في " الزهد " ( 345 ) فقال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق عن البراء أو عن أبي عبيدة في قوله ( و لنذيقنهم من العذاب الأدنى ) قال : عذاب القبر.و أخرجه من طريقه : الآجري في الشريعة (363) و أبو نعيم في الحلية ( 4/206).
و قد اخطأ فيه شريك سندا و متنا ، و شريك ثقة لا سيما في أبي إسحاق لكنه لما ولي القضاء اختلط فمن حدث عنه قديما أو من كتابه فهو ذاك ، و الصواب ما رواه إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص و أبي عبيدة عن ابن مسعود فقال : سنون أصابتهم .أخرجه النسائي في الكبرى ( 11395) .
18 أخرجه ابن جرير من طريق إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد ، قلت : و هذا سند إلى مجاهد : لا تقوم به الحجة ، فأبو يحيى القتات كثير المناكير عن مجاهد ، و قد أنكر الأئمة مروياته عن مجاهد من رواية إسرائيل عنه ، و البلية منه لا من إسرائيل فإسرائيل إمام ثقة ، و قد روى عن غير أبي يحى فلم ير له مثل هذا ، لكن ذكر أحمد أن رواية الثوري عن أبي يحى مقاربة ، و عليه فالأظهر أن أبا يحيى لما حدَّث الثوري كان متماسكًا ، و لما حدَّث بها إسرائيل كان قد اختلط جدًّا فكثرت جدا منه المناكير، و هذا الأثر أظنه من تخليطه فهؤلاء أثبت الناس في مجاهد كما قد سبق – ذكروا عنه خلاف ما ذكر ، بل ومن كتابه التفسير الذي رواه القاسم بن أبي بزة عنه ، و أخذه ابن أبي نجيح و غيره .
19 لم أقف عليه مسندا إلى ابن عباس ، فلا أدري أهو كذلك أم هو وهم من ابن القيِّم ؟ .