أهمية خطبة الجمعة ودورها في النهوض بالأمة

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
ليست الخطابة ظاهرة كلامية حديثة العهد في عالم البشر ؛ بل كانت الخُطبة - ولا تزال وستبقى - أفقًا واسعًا للتأثير ، مارسها رسل الله وأنبياؤه للبلاغ ونشر الدعوة ودحض الفِرَى ؛ واستخدمها الساسة لتحقيق أهدافهم ، وكانت وسيلة القادة والفاتحين لرفع معنويات جنودهم توطئة لفتوحاتهم ، وهي أحد الأسباب الهامة لنجاح المديرين في إداراتهم المختلفة .
وتعد الخطابة - كما يقول أبو زهرة - رحمه الله : إحدى وسائل الدعوة إلى الله جل وعلا ، وهي من أهم وسائل التربية والتوجيه والتأثير ، ولها ثمرات كثيرة فهي التي تفض المشاكل ، وتقطع الخصومات ، وهي التي تهدئ النفوس الثائرة ، وهي التي تثير حماسة ذوي النفوس الفاترة ، وهي التي ترفع الحق ، وتخفض الباطل ، وتقيم العدل ، وترد المظالم ، وهي صوت المظلومين ، وهي لسان الهداية ؛ والخطابة تثير حمية الجيوش ، وتدفعهم إلى لقاء الموت ، وتزيد قواهم المعنوية ، ولذلك كان قواد الجيوش المظفرين خطباء مصاقع ؛ فعلي بن أبي طالب وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ، وطارق بن زياد .. خطباء مصاقع ( [1] ) .
لذا كانت الخطبة جزءًا من مهمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في دعوة أقوامهم إلى توحيد الله U وطاعته ، وتحذيرهم من غضبه وبطشه وأليم عقابه ، ليقلعوا عما هم فيه من ضلال وفساد عقدي وخلقي واجتماعي .
وما زالت الخطابة وستظل وسيلة ناجحة من الوسائل التي يلجأ إليها المصلحون والعلماء والدعاة والقادة في كل العصور لتحريك العقول ، وبعث الثقة في النفوس للدفاع عن فكرة معينة ، أو النهوض بمهمة معينة ؛ أو التحذير من أعمال معينة .
وكم من خطبة أحدثت تحولًا في عادات الناس وتصوراتهم ، وكم من خطبة فتحت باب الأمل والتوبة لدى بعض المخاطبين ؛ وكم من خطبة أطفأت ثائرة فتنة ، وكم من خطبة أثرت في تثبيت قلوب جيوش فكان النصر حليفهم .
ولئن كانت الخُطبة بمفهومها الشامل أداة مهمة للتأثير في الإعلام والتعليم والدعوة والتربية ، في السلم والحرب ، وفي حال السراء والضراء والضعف والقوة ؛ فإن خطبة الجمعة تتميز عن جميع الخطب بميزات وخصائص تجعلها ذات أهمية لا يمكن أن تساويها أو تقاربها أي خطبة أخرى .
فلخطبة الجمعة - من بين الخطب - مكانة خاصة ، فهي عبادة أسبوعية تُهز بها أعواد المنابر ، ويلتقي المسلمون في مساجدهم لسماعها ، ويصدرون متأثرين بكلماتها ومعانيها ، قد أخذوا حظهم من الدعوة للخير والتحذير من الآثام والشر .
فخطبة الجمعة شعيرة من شعائر الإسلام لها دورها الفعال في صياغة سلوك الناس والتأثير عليهم في شتى المجالات ، ولها دورها البارز في خدمة الدعوة إلى الله ، فقد خصَّ الله المسلمين بيوم الجمعة ، وجعله عيدهم الأسبوعي ، وفرض عليهم فيه صلاة الجمعة وخطبتها ، وأمر المسلمين بالسعي إليها جمعًا لقلوبهم ، وتوحيدًا لكلمتهم ، وتعليمًا لجاهلهم ، وتنبيهًا لغافلهم ، وردًّا لشاردهم ، وإيقاظا للهمم ، وشحذًا للعزائم ، وتبصيرًا للمسلمين بحقائق دينهم وعقيدتهم ، ومكايد عدوهم ، ومما يجب عليهم ، وما لا يسعهم جهله ؛ وتثبيتًا لهم جميعًا على تعظيم حرمات الله .
لهذا وغيره كان لخطبة الجمعة مكانة سامية وأهمية بالغة ،

[1] - انظر ( الخطابة ) لأبي زهرة ص 21 ، 22 باختصار وتصرف .
 
ويمكن إيجاز أهم الأمور التي اكتسبت بها خطبة الجمعة مكانتها وأهميتها في الآتي :
1 – الأمر بالسعي لها ، والإنصات للخطيب ، والنهي عن اللغو والإمام يخطب ؛ والندب إلى التبكير وبيان فضله ، ذلك كله يبين أهمية خطبة الجمعة ومكانتها ، ولعل من الحكم الجليلة للندب إلى التبكير : ألا يفوت المسلم سماع شيء من الخطبة .
فجميع المسلمين يحضرونها ، ولا يتخلف عنها إلا من له عذر ، ويجلسون بآذان صاغية لاستماعها ، قد أتوا طواعية استجابة لأمر الله Y : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [ [ الجمعة : 9 ] ؛ خائفين مما حذر منه رسول الله e بقوله : " مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ " ( [1] ) .
2 - أنها من أهم وسائل نشر الدعوة العامة ، حيث إنها لا تختص بأحد دون أحد ، ولا طبقة دون طبقة ، ولا فئة دون فئة ، فجميع الحضور يستمعون خطبة الجمعة ؛ على تباين بينهم في مستوياتهم وطبقاتهم العلمية والاجتماعية ؛ فمنهم قوي الإيمان ومنهم ضعيفه ، ومنهم المتعلم ومنهم الأميُّ ، وفيهم الشاب والشيخ ، وفيهم الغنيُّ والفقيرُ ، والأمير والخفير ؛ فهي فرصة عظيمة يمكن بعون الله تعالى - مع حسن الإعداد والتحضير للخطبة - التأثير على هؤلاء الذين يحضرون باختيارهم راغبين .
أضف إلى ذلك أن هذا التنوع في الحضور يعني تذليل العقبات التي تحول دون تنفيذ طرائق الإصلاح الاجتماعية ، فإن العامل وصاحب العمل ، والطالب والمعلم ، والموظف والرئيس كلهم يخاطبون في آن واحد ، ويوضعون أمام مسؤولياتهم ، فلا تخاطب فئة منهم في غياب الفئة الأخرى ، ولا تحمل المسئولية على فئة منهم دون الأخرى . ومن جانب آخر فحضورها ليس مقصورًا على الأخيار وحدهم ، فكثير ممن لا يشهد صلاة الجماعة يحضر الجمعة ، وهذا يتيح للخطيب أن يخاطب الجميع ، وأن يتحدث للكثير ممن لا يحضرون المحاضرات والندوات ودروس المساجد ؛ إنها باختصار هي المجال الوحيد المتاح للدعاة والذي من خلاله يخاطبون الجميع .
3 - أن هؤلاء الحضور قد هيئوا أنفسهم لسماع الذكر ؛ فترى أكثرهم قد اغتسلوا وتطيبوا ولبسوا أحسن ثيابهم ، وأتوا إلى المساجد بقلوب قابلة للاستجابة ؛ فيتهيأ لخطبة الجمعة جو مهيب خاشع تكون فيه النفوس مهيئة للتلقي والاستماع ، ويشعر الْحُضُورُ فيه أنهم في عبادة وطاعة لله Y .
4 - ويدل على مكانتها وأهميتها - أيضًا - تكرارها في كل أسبوع ؛ مما يعني أن عدد الخطب في العام الواحد يربو على خمسين خطبة ؛ وهذا يمثل منهجًا دراسيًّا متكاملًا ، فإذا أُحسن إعداده كانت آثاره جليلة ، وثمراته عظيمة ؛ فلو أن كل خطيب في كل سنة يتناول خمسين موضوعًا مما يحتاجه الحضور ، ما بقي بين المسلمين جاهل في الأحكام الضرورية ، ولا غاب عن مسلم حدَثٌ وما يجب عليه تجاهه .
5 - أن خطبة الجمعة مستمرة ثابتة في كافة الأحوال : في السلم والحرب ، والأمن والخوف ، والخصب والجدب ، مما يجعل لها أهمية خاصة في التأثير والتربية والدعوة .
من هنا تكمن أهمية هذه الخطبة في النهوض بالأمة ؛ ولذا اهتم بها رسول منها e لإعلاء ذكر الله والدعوة إلى سبيله ، وإرشاد الأمة وتوجيهها إلى أقوم الطرق وتحذيرها من مغبة اتباع الهوى ؛ وقد تحدث الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) عن هديه e في خطبة الجمعة فقال : وَكَانَ يُعَلّمُ أَصْحَابَهُ فِي خُطْبَتِهِ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ ، وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فِي خُطْبَتِهِ إذَا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ ، كَمَا أَمَرَ الدّاخِلَ وَهُوَ يَخْطُبُ أَنْ يُصَلّيَ رَكْعَتَيْنِ ؛ وَنَهَى الْمُتَخَطّيَ رِقَابَ النّاسِ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ ( [2] ) ؛ وذكر من خصائص الجمعة : الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده ، والشهادة له بالوحدانية ، ولرسوله e بالرسالة ، وتذكير العباد بأيام الله ، وتحذيرهم من بأسه ونقمته ، ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جنانه ، ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره ؛ فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها ( [3] ) . وقال في موضع آخر : وَكَانَ مَدَارُ خُطَبِهِ عَلَى حَمْدِ اللّهِ وَالثّنَاءِ عَلَيْهِ بِآلَائِهِ وَأَوْصَافِ كَمَالِهِ وَمَحَامِدِهِ ، وَتَعْلِيمِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ ، وَذِكْرِ الْجَنّةِ وَالنّارِ وَالْمَعَادِ ، وَالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللّهِ ، وَتَبْيِينِ مَوَارِدِ غَضَبِهِ وَمَوَاقِعِ رِضَاهُ ؛ فَعَلَى هَذَا كَانَ مَدَارَ خُطَبِهِ .... وَكَانَ يَخْطُبُ فِي كُلّ وَقْتٍ بِمَا تَقْتَضِيهِ حَاجَةُ الْمُخَاطَبِينَ وَمَصْلَحَتُهُمْ ( [4] ) .
وهذه الجملة الأخيرة تعد قاعدة مهمة في خطبة الجمعة ، وهو أن يختار الخطيب ما يحتاجه الناس ، وما تقوم به مصالحهم في الدارين ؛ وهذا أمر جامع للدين كله .
ولا تزال خطبة الجمعة تحتل موقعًا مهمًا متميزًا في تبليغ الدين ، ونشر الدعوة وبث الإصلاح ؛ فهي أكثر الوسائل فعالية في بيان الحق ، وعرض الفكر الصحيح ، ومخاطبة مختلف الفئات والطبقات والمستويات ؛ فإذا وُجِدَ الخطيب المؤهل الموفق كان أسرع إلى فهم حاجات ومشاكل المجتمع الذي يخطب فيه ، مما يكون له الأثر الطيب في الإصلاح ؛ فمما لا شك فيه أن للخطبة الجيدة من الخطيب الجيد أثرًا مباشرًا في توجيه الرأي العام الإسلامي , في إطار كتاب الله وهدي نبيه محمد e وفق منهج يجمع بين التأصيل والمعاصرة ، بين الفهم التام الواعي للكتاب والسنة ، وفقه الواقع الذي نعيشه في عصرنا .
إن الخطيب الواعي الحامل همَّ الدعوة يقتلع بكلامه جذور الشر من نفس المجرم ، ويبعث في نفسه خشية الله وحب الحق وقبول العدل ومعاونة الناس ، إنه يعي أن عمله إصلاح الضمائر وإيقاظ العواطف النبيلة في نفوس الأمة ، وتربية هذه النفوس على الالتزام بشرع الله تعالى الذي هو أنفع شيء للبشرية .
والخطيب الواعي هو الذي يولي هموم مجتمعه وقضايا أمته اهتمامًا كبيرًا ، وتحتل هذه الهموم والقضايا موقعًا في نفسه ، فيشعر بأهمية الإسهام في حركة المجتمع والتجاوب معه بالدعوة إلى الحق وتدعيم كل خير ، والتحذير من كل شر والتنفير منه .
ومن شأن الخطيب الواعي العارف بمقاصد الشريعة والمطلع على أسرارها أن يستمد من هذا المفهوم العام الشامل للإصلاح الاجتماعي في الإسلام ، ويعمل على نشر وتقوية معناه في النفوس ، ويجعل ذلك دعوته التي يعلنها من منبره إلى الناس كل أسبوع تطبيقًا لقول الله تعالى : ] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ [ فصلت : 33 ] .
ولا يفوت الخطيب الواعي أن يربط مستمعيه بقضايا الأمة ربطًا إيمانيًا ، وينبههم إلى كيفية فهم الحدث ومعايشته في ضوء الإيمان ؛ فالعالم الإسلامي اليوم يموج بأحداث ساخنة ، ومضطربة ، والعقل المسلم يعاني من تحليلات الإعلام المضلل الذي يصور القضايا وفق منهج يرتئيه ، أو وفق ما يريد فلان ، أو غيره ! ولذا فإن المصلي ينتظر أن يسمع الكلمة الصادقة ، وعرض القضية من الخطيب الذي يثق فيما يقول ، لأنه يعرف أنه يدرك أمانة الكلمة ، ومسؤوليتها .
وثمة طائفة من المسلمين لا تتفاعل مع قضايا الساحة ، ولا تُعيرها أي اهتمام ، فلها شأن آخر مع شهوات النفس ورغباتها ؛ وهذه الفئة تحتاج لمن يغرس فيها التفاعل مع قضايا المسلمين ، والاهتمام بها ، وأقرب الناس وأقدرهم على ذلك هو خطيب الجمعة .
وحين يتحدث الخطيب عن هذه القضايا ، لا ينبغي أن يفرط في التحليلات السياسية ، والاجتهادات الخاصة ، والتي هي عرضة للخطأ والصواب ، إنما يركز على بيان وجه القضية ، والأخبار الصادقة عنها ، والمنهج الشرعي في التعامل معها .
إن الخطيب الصادق أشد فاعلية وأكثر تأثيرًا في نفوس الجماهير ، من أي وسيلة أخرى يمكن أن تؤثر في المجتمع ؛ فالخطيب الصادق كالعين العذبة نفعها دائم ، وكالغيث حيث وقع نفع ، وكل عالم مصباح زمانه يستضيء به أهل زمانه وعصره ، وكالسراج من مر به اقتبس .

[1] - رواه أحمد : 3 / 424 ، وأبو داود ( 1054 ) ، والترمذي ( 500 ) وحسنه ، والنسائي ( 1369 ) ، والحاكم ( 1034 ) وصححه على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي .

[2] - انظر ( زاد المعاد ) : 1 / 413 .

[3] - المصدر السابق : 1 / 386 .

[4] - المصدر السابق : 1 / 179 .
 
عودة
أعلى