محمد بن جماعة
New member
- إنضم
- 23/01/2007
- المشاركات
- 1,211
- مستوى التفاعل
- 2
- النقاط
- 38
- الإقامة
- كندا
- الموقع الالكتروني
- www.muslimdiversity.net
أهمية الشاهد النحوي في تفسير القرآن الكريم: تفسير(جامع البيان لابن جرير الطبري) نموذجا
د. لخضر روبحي
جامعة المسيلة - الجزائر
المصدر: مجلة الأثر الصادرة عن كلية الآداب بجامعة ورقلة - الجزائر (مجلة أكاديمية محكمة)
من الحقائق الثابتة أن علم النحو لم يكن معروفا عند العرب قبل الإسلام، والسبب يكمل في جودة قرائحهم ونطقهم بالسليقة التي جبلوا عليها، فقد نشأت اللغة في أحضان الجزيرة العربية خالصة لأبنائها نقية سليمة مما يكدر صفائها وبيانها أو يخدش كرامتها. ولهذا السبب اتفق جمهور العلماء على أن العربي صاحب لغة يصرفها كيف يشاء. فاللحن يتناقض مع إعرابه وإفصاحه بل يحط من قدره ويتنافى مع شخصيته. ويكاد يجمع علماء العرب القدماء والمحدثين على أنه لا لحن في الجاهلية، ويحددون ظهور اللحن بحدود ظهور الإسلام أو بعده بقليل .يقول أبو بكر الزبيدي:"فاختلط العربي بالنبطي والتقى الحجازي بالفارسي ودخل الدين أخلاط الأمم وسواقط البلدان فوقع الخلل في الكلام وبدأ اللحن في ألسنة العوام(1). كما ذهب الرافعي إلى القول: "نقطع بأن اللحن لم يكن في الجاهلية البتة وكل ما كان من بعض القبائل في خور الطباع وانحراف الألسنة فإنما هو لغات لا أكثر"(2). وكان ظهوره خفيفا ونادرا أيام الرسول صلى الله عليه وسلم فقد روي أن وفدا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعلن إسلامه فلما قام خطيبهم من بين يديه يتكلم لحن في كلامه فاستفظعوا لحنه فقال النبي للوفد:"أر شدوا أخاكم فإنه قد ضل(3).
وأخذ اللحن ينتشر أكثر منذ العصر الأموي لاسيما بعد تأسيس البصرة والكوفة وتضخم المجتمع الإسلامي بها بدخول أقوام أعجمية مختلفة إلى أن أصبح يعد الذين لا يلحون قليلا وفي هذا السياق يقول أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي(ت379):"ولم تزل العرب تنطق على سجيتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها حتى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان فدخل الناس فيه أفواجا وأقبلوا عليه أرسالا، واجتمعت فيه الألسة المتفرقة واللغات المختلفة ففشا الفساد في اللغة العربية واستبان منها في الإعراب الذي هو حليها لمعانيها والموضح فتفطن لذلك من نافر بطباعه سوء إفهام الناطقين من دخلاء الأمم بغير المتعارف من كلام العرب فعظم الإشفاق من فشو ذلك وغلبته حتى دعاهم الحذر من ذهاب لغتهم وفساد كلامهم إلى أن سببوا الأسباب في تقييدها لمن ضاعت عليه وتثقيفها لمن زاغت عنه"(4).
صلة النحو بالقرآن الكريم:
يمثل النحو خطوة كبيرة في العناية بالقرآن الكريم والمحافظة على سلامته. والروايات التي تثبت وقوع بعض الأخطاء اللغوية والإعرابية في قراءة القرآن كثيرة (5). وكلها تجمع بأن اللحن وما ترتب عليه من الخطأ في النطق واختلال الألسنة كان سببا فعالا في نشأة النحو. فوظيفة هذا العلم لا تقتصر على ضبط الكلمات ومعرفة المرفوع و المنصوب والمجرور والمعنى والمعرب وإنما تتسع إلى توجيه النصوص والتحكم في دلالتها ومقاصدها. ففي قول الله تعالى: )إنما يخشى الَّلهَ من عباده العُلَمَاء’( (6). يفرض المعنى رفع العلماء (فاعلا) ونصب اسم الجلالة (مفعولا به) لأن المراد هو حصر الخوف من الله في العلماء.
فالنحو ليس علامات لفظية فحسب بل هو مناط إيضاح المعنى يقول ابن فارس(ت 395 ﻫ)" فأما الإعراب فبه تميز المعاني ويوقف على أغراض المتكلمين وذلك أن قائلا لو قال: (ما أحسن زيد) غير معرب أو (ضرب عمر زيد) غير معرب لم يوقف على مراده فإذا قال (ما أحسن زيدا) أو (ما أحسن زيد؟) أو (ما أحسن زيد) أبان بالإعراب عن المعنى الذي أراده"(7).
كما بين ابن جني (ت 392هـ) قيمته أيضا في باب أفرده من كتاب الخصائص بعنوان: (باب القول على الإعراب) فقال:"هو الإبانة عن المعنى بالألفاظ ألا ترى أنك إذا سمعت: أكرم سعيد أباه علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول؟ ولو كان الكلام شرجا واحد لا ستبهم أحدهما على صاحبه"(8). فالرفع هو الذي حدد الفاعل ولو لا هذه العلامات الإعرابية لما أمكن تحديد أحدهما من صاحبه.
اهتمام علماء النحو والتفسير بالشاهد النحوي:
يعد الاحتجاج بالشاهد النحوي من أبكر صور الدراسات اللغوية فكتب (معاني القرآن) جمعت المحاولات الأولى في تحليل الآيات تحليلا لغويا وذكر ما تعلق بها من شواهد نحوية. وخير دليل على ذلك (معاني القرآن) للفراء الذي جمع بين التحليل اللغوي والتفسير الأثري لما يحتويه من: تفسير، ونحو، وصرف، وبلاغة. ودأب علماء عصره على دراسة القرآن حيث هو مصدر التشريع ومصدر حفظ اللغة العربية.فمن أساتذة الفراء: الرؤاسي (ت175ﻫ)، والكسائي (ت189ﻫ) ويونس بن حبيب(ت182ﻫ) الذين لهم كتب في معاني القرآن أيضا.
وكتب (إعراب القرآن الكريم) تعتبر فرعا عن (المعاني) بتناولها أحد مقاصدها أو اهتماماتها وهو الإعراب،عنى أصحابها بالشواهد النحوية ككتاب(إعراب القرآن) للزجاج (ت 310ﻫ) وأبي جعفر النحاس (ت 338ﻫ).
وإذا عدنا إلى كتاب سيويه (ت 182ﻫ) فإننا نجده يجمع بين دفتيه شواهد كثيرة من القرآن ومن الشعر والنثر وبعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. فغدا سوق الشواهد أمرا تقليديا يمارسه المصنفون في كل ماله علاقة بالدرس النحوي على تفاوت واضح بين المصنفات في جمعها وعرضها مع تأثرهم بما حفظوا من القرآن الكريم ومن الشعر وبما وعوا من كتب السابقين فبعضهم عنى بالشواهد من القرآن الكريم وأولاها عناية ففاقت الشواهد الشعرية عددا كما فعل ابن هشام في (شرح شذ ور الذهب) إذ بلغ عدد الآيات ست مائة وتسعا وخمسين (359) آية، وعدد الأبيات ثلاث مائة وتسع وثلاثين (339) بيتا، وكما فعل ابن معطي في كتابه (الفصول الخمسون) إذ بلغ عدد الآيات مائة وثلاثا وعشرين(123)آية، وعدد الأبيات سبعة وستون (67) بيتا. وبعضهم عنى بشواهد الشعر ففاقت في العدد الشواهد من القرآن الكريم كما فعل سيبويه في (الكتاب) إذ بلغ عدد الآيات أربع مائة وسبعا وأربعين(447) آية، وبلغ عدد الأبيات ألفا وخمس مائة(1500) بيتا.
وتأتي كتب التفسير لتستفيد مما ورد من شواهد في تفسير الآيات، فكتاب (جامع البيان) لابن جرير الطبري مثلا لم ينطق إلا من أرضية خصبة زرعت فيها الآراء النحوية، حتى إذا ما نضجت واستوت أعمل علمه الواسع وفكره الثاقب فاستفاد وأفاد. ومن خلال استقراءنا لهذا التفسير لمسنا عناية كبيرة بالشواهد النحوية، وقد أحصيت شواهد القرآن فوجدت عدتها ستة وعشرين ومائة( 126) شاهد، وشواهد القراءات نحو خمسة وخمسين مائة(155) شاهدا، وهي نسبة عالية تبرز اهتمامه بالقراءات واعتماده عليها، وعدد الشواهد الشعرية نحو ثلاثة وأربعين ومائة (143) شاهد، أما الشواهد النثرية فأكثرها أمثلة تعليمية.
فاعتماد الطبري على المأثور في تفسير آي الذكر الحكيم وعنايته الفائقة بالقراءات لم يصرفه عن الاهتمام البالغ بالمباحث النحوية وكثرة الاستشهاد عليها حتى أصبح الإعراب معلما أساسيا من معالم منهجه في التفسير. نجده يفسر الآية من القرآن الكريم ويربط بينها والإعراب فيعدد آراء النحاة، ويوازن، ويرجح بينها ثم يذكر شاهدا أو أكثر على ما اختاره من توجه نحوي أو تفصيل مذهب من المذاهب. وكل ذلك وفق تمكن نحوي وقدرة في التحليل والاستنباط، جعلت من تفسيره اتجاها جديدا"إذ تجاوز المأثور إلى غيره، وتخطى التفسير المحكي إلى موضوعات أخرى تدخله في جانب منه في كتب التفسير العقلي بالرأي والاجتهاد، وتجعله نقطة تحول في تاريخ التفسير وإلتقاء مع بعض الاتجاهات الأخرى في التفسير،كما تجعله معلما من معالم نشأة التفسير العقلي"(9).ففي تفسيره لقوله:)غير المغضوب عليهم((10) قال:"والقراء مجمعون على قراءة(غير)بجر الراء،والخفض بآيتها من وجهين:
أحدهما: أن يكون (غير) صفة لـ(الذين) ونعتا لهم فتخفضها إذ كان (الذين) خفضا، وهي لهم نعت وصفة، وإنما جاز أن يكون (غير) نعتا ل (الذين) و(الذين) معرفة، و(غير) نكرة،لأن الذين بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة(11). كالأسماء التي هي أمارات بين الناس،مثل: زيد وعمرو وما أشبه ذلك...وفي النهاية يدلي الطبري برأيه فيقول:« والصواب من القول في تأويله وقراءته عندنا القول الأول وهو قراءة:(غير المغضوب عليهم)بخفض الراء من(غير)بتأويل أنها من صفة للذين أنعمت عليهم ونعمت لهم-لما قدمنا من البيان-إن شئت،وإن شئت فبتأويل تكرير(صراط) كل ذلك صواب حسن"(12).
ذكر القرطبي في تفسيره لهذه الآية:"قرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب غير المغضوب عليهم وغير الضالين وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين، فالخفض على البدل من الذين أو من الهاء والميم في عليه، أو صفة للذين والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف، إلا أن الذين ليس بمقصود قصدهم فهو عام، فالكلام بمنزلة قولك: إني لأمر بمثلك فأكرمه، أو لأن غير تعرفت لكونها بين شيئين لا وسط بينهما، كما تقول: الحي غير الميت، والساكن غير المتحرك، والقائم غير القاعد، قولان: الأول للفارسي، والثاني للزمخشري. والنصب في الراء على وجهين: على الحال من الذين، أو من الهاء والميم في عليهم، كأنك قلت: أنعمت عليهم لا مغضوباً عليهم. أو على الاستثناء، كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم. ويجوز النصب بأعني، وحكي عن الخلي" (13).
كما اهتم الطبري بالقواعد النحوية من خلال عرضه لمباحث النحو، فكثيرا ما نجده يعرف بها ويصوغها ويثبت أحكامها بالشواهد ومختلفة الآراء من ذلك:
- يرى أن (اليوم) إذا أضيف إلى فعل ماض نصبوه. ففي تأويله للآية: )يوم لا تملك نفس( (14). ذكر اختلاف القراء(15) فقال:"قرأته عامة قراء الحجاز والكوفة بنصب (يوم) إذ كانت إضافته غير محضة. وقرأ بعض قراء البصرة بضم (يوم) ورفعه ردا على اليوم الأول، والرفع فيه أفصح في كلام العرب، وذلك أن اليوم مضاف إلى (يفعل). والعرب إذا أضافت اليوم إلى تفعل أو يفعل أو أفعل رفعوه، فقالوا: هذا يوم أفعل كذا، وإذا أضافته إلى فعل ماض نصبوه"(16).
- إذا كان في الكلام مدح أو ذم، فالاسم المدخلة عليه (الباء) في موضع رفع: يقول الطبري في تأويله لقوله تعالى: )وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا((17). أدخلت الباء في قوله: (بربك) وهو في محل رفع، لأن معنى الكلام: وكفاك ربك ... وكذلك تفعل العرب في كل كلام كان بمعنى المدح أو الذم فتدخل في الاسم الباء، والاسم المداخلة عليه(الباء)في موضع رفع لتدل بدخولها على المدح أو الذم كقولهم:أكرم به رجلا، وناهيك به رجلا، وجاء بثوبك ثوبا، وطاب بطعامك طعاما وما أشبه ذلك من الكلام. ولو أسقطت الباء مما دخلت فيه من هذه الأسماء رفعت لأنها في محل رفع، كقول الشاعر(18):
ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
فأما إذا لم يكن مدح أو ذم فلا يدخلون في الاسم الباء، ولا يجوز أن يقال: قام بأخيك، وأنت تريد: قام أخوك، إلا أن تريد: قام رجل آخر به، وذلك معنى غير المعنى الأول»(19). فالاسم يكون في موضع رفع سواء دخلت عليه الباءأوحذفت مادام في الكلام المعنى المدح أو الذم.
وهذه القاعدة ذكرها الفراء في تفسيره لقوله عز وجل: )كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا( (20) قال: «وكل ما في القرآن من قوله: وكفى بربك، وكفى بنفسك، فلو ألقيت الباء كان الحرف مرفوعا... ولو لم يكن مدحا أو ذما لم يجز دخولها »(21)
- ويقول الطبري بأن (أما) لابد لها من أن تجاب بالفاء وتسقط الفاء إذ سقط الفعل الذي أضمر. ففي تأويله لقوله تعالى: )وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين((22) قال: « يقول تعالى ذكره وأما الذين جحدوا وحدانية الله وأبوا إفراده في الدين بالألوهية فيقال لهم: ألم تكن آياتي في الدنيا تتلى عليكم. فإن قال قائل: أو ليست (أما) تجاب(بالفاء) فأين هي، فإن الجواب أن يقال هي الفاء التي في قوله (أفلم)، وإنما وجه الكلام في العربية لو نطق على بيانه وأصله أن يقال: وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم،لأن معنى الكلام: وأما الذين كفروا فيقال لهم: ألم تكن آياتي تتلى عليكم"(23).
- ويرى الطبري بأن الاسم إذا ورد بعد (من) التبعيضية فإنه يحذ ف لدلالتها عليه في قوله:" أن (من) في قوله تعالى: )ومن آيته يريكم البرق خوفا وطعاما( (24)، تدل على المحذوف، وذلك أنها تأتي بمعنى التبعيض، وإذا كانت كذالك كان معلوما أنها تقتضي البعض، فلذلك تحذف العرب معها الاسم لدلالتها عليه"(25). وهذا الذي ذهب إليه الفراء باستشهاده بقول الشاعر (26):
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغى العيش أكدح
« كأنه أراد فمنهما ساعة أموتها وساعة أعيشها »(27).
- ومن تأصيله لقواعد عامة في النحو ما ذكره في الفرق بين (بلى) و(نعم) مستفادة من تأويله بقوله تعالى: ) بلى من كسب سيئة( (28) قال:" وأما(بلى) فإنها إقرار في كل كلام في أوله جحد، كما نعم إقرار في الاستبهام الذي لا جحد فيه، وأصلها بل التي هي رجوع عن الجحد المحض في قولك: ما قام عمرو بل زيد، فزيدت فيها الياء ليصلح عليها الوقوف إذ كانت عطفا ورجوعا عن الجحد، وتكون أعني (بلى) رجوعا عن الجحد فقط وإقرار بالفعل الذي بعد الجحد فدخلت الياء منها على معنى الإقرار والإنعام، ودل لفظ ( بل) على الرجوع عن الجحد"(29).
تخريجه لعدد من الآيات الكريمة تخريجا نحويا معززا بالشواهد:
اعتمد ابن جرير على الشواهد النحوية أيضا في تخريجه لعدد من الآيات تخريجا نحويا يتفق مع المعنى الذي يقتضيه النص القرآني. ومن تخريجاته ما يلي:
- تخريج )إن هذان لساحران( (30): من ظوهر المثنى التي ارتبطت بآية من آيات القرآن وأثارت نقاشا وجدا لا بين العلماء قديما وحديثا إعراب كلمة (هذان). فالقياس أن تكون بالياء (هذين) نصبا لوجود (إن). قال الطبري:"والصواب من القراءة في ذلك عندنا (إن) بتشديد نونها و(هذان) بالألف لإجماع الحجة من القراءة عليه. وأنه كذالك هو في خط المصحف. وأقر في جميع الأحوال الإعراب على حال واحدة وهي لغة بلحرث بن كعب وخثعم وزبيد ومن وليهم من قبائل اليمن" (31). وهذا التخريج اختاره ابن يعيش فقال: "فأمثل الأقوال فيها أن تكون على لغة بني الحارث في جعلهم المثنى بالألف على كل حال" (32).
وكذلك أبو حيان في تفسيره بإسناده هذه اللغة إلى عدد من العشائر العربية "والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائما، وهي لغة الكنانة، حكى ذلك أبو لخطاب، ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد، وأهل تلك الناحية حكى ذلك عنهم الكسائي" (33).
- تخريجه)وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين(: من الظواهر النحوية التي بحث فيها الطبري ووجه من خلالها القراءة التي اختارها ظاهرة الاتباع في الإعراب مع استقلال في المعنى (إلى حد ما) لكل من التابع والمتبوع.
هذه الظاهرة التي أثارت خلافا بين العلماء ودار النقاش حولها بينهم: وذلك في كلمة (أرجلكم) من قوله تعالى: )وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين( (34). فقد رأى بعض العلماء أن (أرجلكم) جر على الجوار(35)، ورفض كثيرا من العلماء هذه الظاهرورأى بعضهم أنها تقع قليلا في النعت ولا تقع في العطف(36). وأعرض هنا رأي الإمام الطبري حيث قال: « اختلفت القراء (37) في قراءة ذلك فقرأه جماعة من قراء الحجاز والعراق )وأرجلكم إلى الكعبين( نصبا فتأويله: إذ قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم وإذا قرئ كذلك كان من المؤخر الذي معناه التقديم، وتكون الأرجل منصوبة عطفا على الأيدي. وتأول قارئو ذلك كذلك أن الله جل ثناؤه إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح بها. وقرأ ذلك آخرون من قراء الحجاز والعراق بخفض الأرجل وتأول قارئو ذلك أن الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل في الوضوء دون غسلها وجعلوا الأرجل عطفا عل الرأس فخفضوها لذلك.
والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم. وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقا (اسم ماسح غاسل)، لأن غسلهما إمرار اليد أو مقام اليد عليهما فإذا فعل ذلك بهما فاعل هو غاسل ماسح"(38).
- المخالفة في الإعراب بين المتعاطفين: ففي تأويله بقوله تعالى: ) ولَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِم ِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء( (39) قال": وأما(لصابرين) فنصب وهو من نعت (من) على وجه المدح، لأن من شأن العرب إذا تطاولت صفة الواحد الاعتراض بالمدح والذم بالنصب أحيانا وبالرفع أحيانا. كما قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
وذا الرأي حين تغم الأمور بذات الصليل وذات اللجم
فنصب(ليث الكتيبة) و(ذا الرأي)على المدح والاسم قبلها مخفوض، لأنه من صفة واحدة " (40).
- قبح العطف بظاهر من الأسماء على مكنى في حال الخفض: ففي تأويله بقوله تعالى: )واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام( (41) قال الطبري": والقراءة التي لا نستجير القارئ أن يقرأ غيرها في ذلك النصب لما قد بينا أن العرب لا تعطف بظاهر من الأسماء على مكنى في حال الخفض إلا في ضرورة شعر(42).
ومن خلال هذه الوقفة مع تفسير (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) لابن جرير الطبري وصلنا لنتيجة عامة تمثلت في صلة النحو بالقرآن الكريم، فهو وسيلة المفسر في تفسيره وكشف تأويله. كما تبين لنا أن الشواهد النحوية قد ملأت هذا السفر الكبير على امتداد ثلاثين جزءا صيغت من خلالها قواعد نحوية كثيرة وتخريجات معززة بشواهد من القرآن الكريم وشعر منسوب إلى شعراء يحتج بشعرهم. وأحسب أن هذه الدراسة من شأنهاأن تضيف لهذا التفسير قيمة أخرى بالتعريف بشواهده النحوية والاستفادة منها في البحوث القرآنية والدراسات اللغوية.
الإحالات
1 – أبو بكر الزبيدي : لحن العوام ، تحقيق رمضان عبد التواب ، المطبعة الكمالية القاهرة ،1964، ص 4 .
2- الرافعي : تاريخ آداب العرب ، ط 2 ، 1359 هـ – 1940 م ج 1، ص 239
3- أبو البركات
4- أبو بكر الزبيدي : طبقات النحويين واللغويين، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف ، ط2، ص 11.
5- انظر مثلا : ابن خلدون: المقدمة ، دار الرائد العربي بيروت ،ط 5 ، 1402 هـ – 1982 م، ص 546. والقرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، دار الفكر، ط 2 ، 1407 ه – 1987 م ، ج 1 ، ص 24 .
6- فاطر: 28.
7- ابن فارس: الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها،تحقيق مصطفى الشويمي،بيروت، 1964م ص309.
8- ابن جني : الخصائص ، تحقيق محمد علي النجار، دار الهدى للطباعة والنشر ، بيروت ( د .ت )ج 1 ،ص 35.
9- عبد الله رفيده : النحو وكتب التفسير ، دار الجامهرية للنشر والتوزيع ، ط 3، ج 1 ، ص 547 .
10- الفاتحة:7.
11- أي المحددة .
12- الطبري : جامع البيان ، دار المعرفة بيروت ، لبنان ، 1986 م ، ج 1، ص 61.
13- القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، دار الكتب العلمية بيروت لبنان ، ج 1 ص 67.
14- الانفطار : 19.
15- قرأ بالنصب زيد بن علي والحسين وأبو جعفر وشيبة والأعرج وباقي السبعة ( أبو حيان : البحر المحيط ج 8 ، ص 437).
16- الطبري : جامع البيان ، ج 30 ، ص 57.
17- الإسراء: 17.
18- هو زياد بن زيد العدوي : ابن منظور : اللسان ج 20 ، ص 231 (هدى)
19- الطبري : جامع البيان ، ج 15، ص 44 .
20- الإسراء : 14.
21- الفراء : معاني القرآن ، تح: محمد علي النجار وأحمد يوسف نجاتي،عالم الكتب ،بيروت ،ط 3، 1983م، ج 2 ص 219 –220.
22- الجاثية : 31 .
23- الطبري : جامع البيان ج 25 ص 95 .
24- الروم : 24 .
25- الطبري : جامع البيان ج 21 ص 22 .
26- البيت من الطويل وهو لتميم بن مقبل في ديوانه .
27- الفراء : معاني القرآن ج 2 ،ص 223 .
28- البقرة : 81 وتمامها ﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ .
29- الطبري : جامع البيان ج 1 ، ص 304 – 305 .
30- طه : 23 .
31- الطبري : جامع البيان ، ج 16 ، ص 136 – 137 .
32- ابن يعيش : شرح المفصل ، مطبعة الطباعة المنيرة ، القاهرة ، ج 3 ، ص 130 – 131 .
33- أبو حيان : البحر المحيط ، ج 6 ،ص 255 .
34- المائدة : 6.
35- الزجاج : إعراب القرآن ج 1 ص 173 ، وابن الأنباري : الإنصاف في مسائل الخلاف ج 2 ، ص 603 .
36- السيوطي : الإتقان في علوم القرآن ، دار المعرفة بيروت لبنان ج 2 ص 256.
37- قرأ نافع وابن عامر (وأرجلكم) بالنصب . وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ ( وأرجلكم ) بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة (وأرجلكم ) بالخفض . وبحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون.
38- الطبري : جامع البيان ج 6 ص 81 – 84.
39- البقرة : 177 .
40- الفراء: معاني القرآن ج 1 ص 105.
41- النساء :1
42- الطبري : جامع البيان ج 4 ص 151 – 152.
د. لخضر روبحي
جامعة المسيلة - الجزائر
المصدر: مجلة الأثر الصادرة عن كلية الآداب بجامعة ورقلة - الجزائر (مجلة أكاديمية محكمة)
من الحقائق الثابتة أن علم النحو لم يكن معروفا عند العرب قبل الإسلام، والسبب يكمل في جودة قرائحهم ونطقهم بالسليقة التي جبلوا عليها، فقد نشأت اللغة في أحضان الجزيرة العربية خالصة لأبنائها نقية سليمة مما يكدر صفائها وبيانها أو يخدش كرامتها. ولهذا السبب اتفق جمهور العلماء على أن العربي صاحب لغة يصرفها كيف يشاء. فاللحن يتناقض مع إعرابه وإفصاحه بل يحط من قدره ويتنافى مع شخصيته. ويكاد يجمع علماء العرب القدماء والمحدثين على أنه لا لحن في الجاهلية، ويحددون ظهور اللحن بحدود ظهور الإسلام أو بعده بقليل .يقول أبو بكر الزبيدي:"فاختلط العربي بالنبطي والتقى الحجازي بالفارسي ودخل الدين أخلاط الأمم وسواقط البلدان فوقع الخلل في الكلام وبدأ اللحن في ألسنة العوام(1). كما ذهب الرافعي إلى القول: "نقطع بأن اللحن لم يكن في الجاهلية البتة وكل ما كان من بعض القبائل في خور الطباع وانحراف الألسنة فإنما هو لغات لا أكثر"(2). وكان ظهوره خفيفا ونادرا أيام الرسول صلى الله عليه وسلم فقد روي أن وفدا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعلن إسلامه فلما قام خطيبهم من بين يديه يتكلم لحن في كلامه فاستفظعوا لحنه فقال النبي للوفد:"أر شدوا أخاكم فإنه قد ضل(3).
وأخذ اللحن ينتشر أكثر منذ العصر الأموي لاسيما بعد تأسيس البصرة والكوفة وتضخم المجتمع الإسلامي بها بدخول أقوام أعجمية مختلفة إلى أن أصبح يعد الذين لا يلحون قليلا وفي هذا السياق يقول أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي(ت379):"ولم تزل العرب تنطق على سجيتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها حتى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان فدخل الناس فيه أفواجا وأقبلوا عليه أرسالا، واجتمعت فيه الألسة المتفرقة واللغات المختلفة ففشا الفساد في اللغة العربية واستبان منها في الإعراب الذي هو حليها لمعانيها والموضح فتفطن لذلك من نافر بطباعه سوء إفهام الناطقين من دخلاء الأمم بغير المتعارف من كلام العرب فعظم الإشفاق من فشو ذلك وغلبته حتى دعاهم الحذر من ذهاب لغتهم وفساد كلامهم إلى أن سببوا الأسباب في تقييدها لمن ضاعت عليه وتثقيفها لمن زاغت عنه"(4).
صلة النحو بالقرآن الكريم:
يمثل النحو خطوة كبيرة في العناية بالقرآن الكريم والمحافظة على سلامته. والروايات التي تثبت وقوع بعض الأخطاء اللغوية والإعرابية في قراءة القرآن كثيرة (5). وكلها تجمع بأن اللحن وما ترتب عليه من الخطأ في النطق واختلال الألسنة كان سببا فعالا في نشأة النحو. فوظيفة هذا العلم لا تقتصر على ضبط الكلمات ومعرفة المرفوع و المنصوب والمجرور والمعنى والمعرب وإنما تتسع إلى توجيه النصوص والتحكم في دلالتها ومقاصدها. ففي قول الله تعالى: )إنما يخشى الَّلهَ من عباده العُلَمَاء’( (6). يفرض المعنى رفع العلماء (فاعلا) ونصب اسم الجلالة (مفعولا به) لأن المراد هو حصر الخوف من الله في العلماء.
فالنحو ليس علامات لفظية فحسب بل هو مناط إيضاح المعنى يقول ابن فارس(ت 395 ﻫ)" فأما الإعراب فبه تميز المعاني ويوقف على أغراض المتكلمين وذلك أن قائلا لو قال: (ما أحسن زيد) غير معرب أو (ضرب عمر زيد) غير معرب لم يوقف على مراده فإذا قال (ما أحسن زيدا) أو (ما أحسن زيد؟) أو (ما أحسن زيد) أبان بالإعراب عن المعنى الذي أراده"(7).
كما بين ابن جني (ت 392هـ) قيمته أيضا في باب أفرده من كتاب الخصائص بعنوان: (باب القول على الإعراب) فقال:"هو الإبانة عن المعنى بالألفاظ ألا ترى أنك إذا سمعت: أكرم سعيد أباه علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول؟ ولو كان الكلام شرجا واحد لا ستبهم أحدهما على صاحبه"(8). فالرفع هو الذي حدد الفاعل ولو لا هذه العلامات الإعرابية لما أمكن تحديد أحدهما من صاحبه.
اهتمام علماء النحو والتفسير بالشاهد النحوي:
يعد الاحتجاج بالشاهد النحوي من أبكر صور الدراسات اللغوية فكتب (معاني القرآن) جمعت المحاولات الأولى في تحليل الآيات تحليلا لغويا وذكر ما تعلق بها من شواهد نحوية. وخير دليل على ذلك (معاني القرآن) للفراء الذي جمع بين التحليل اللغوي والتفسير الأثري لما يحتويه من: تفسير، ونحو، وصرف، وبلاغة. ودأب علماء عصره على دراسة القرآن حيث هو مصدر التشريع ومصدر حفظ اللغة العربية.فمن أساتذة الفراء: الرؤاسي (ت175ﻫ)، والكسائي (ت189ﻫ) ويونس بن حبيب(ت182ﻫ) الذين لهم كتب في معاني القرآن أيضا.
وكتب (إعراب القرآن الكريم) تعتبر فرعا عن (المعاني) بتناولها أحد مقاصدها أو اهتماماتها وهو الإعراب،عنى أصحابها بالشواهد النحوية ككتاب(إعراب القرآن) للزجاج (ت 310ﻫ) وأبي جعفر النحاس (ت 338ﻫ).
وإذا عدنا إلى كتاب سيويه (ت 182ﻫ) فإننا نجده يجمع بين دفتيه شواهد كثيرة من القرآن ومن الشعر والنثر وبعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. فغدا سوق الشواهد أمرا تقليديا يمارسه المصنفون في كل ماله علاقة بالدرس النحوي على تفاوت واضح بين المصنفات في جمعها وعرضها مع تأثرهم بما حفظوا من القرآن الكريم ومن الشعر وبما وعوا من كتب السابقين فبعضهم عنى بالشواهد من القرآن الكريم وأولاها عناية ففاقت الشواهد الشعرية عددا كما فعل ابن هشام في (شرح شذ ور الذهب) إذ بلغ عدد الآيات ست مائة وتسعا وخمسين (359) آية، وعدد الأبيات ثلاث مائة وتسع وثلاثين (339) بيتا، وكما فعل ابن معطي في كتابه (الفصول الخمسون) إذ بلغ عدد الآيات مائة وثلاثا وعشرين(123)آية، وعدد الأبيات سبعة وستون (67) بيتا. وبعضهم عنى بشواهد الشعر ففاقت في العدد الشواهد من القرآن الكريم كما فعل سيبويه في (الكتاب) إذ بلغ عدد الآيات أربع مائة وسبعا وأربعين(447) آية، وبلغ عدد الأبيات ألفا وخمس مائة(1500) بيتا.
وتأتي كتب التفسير لتستفيد مما ورد من شواهد في تفسير الآيات، فكتاب (جامع البيان) لابن جرير الطبري مثلا لم ينطق إلا من أرضية خصبة زرعت فيها الآراء النحوية، حتى إذا ما نضجت واستوت أعمل علمه الواسع وفكره الثاقب فاستفاد وأفاد. ومن خلال استقراءنا لهذا التفسير لمسنا عناية كبيرة بالشواهد النحوية، وقد أحصيت شواهد القرآن فوجدت عدتها ستة وعشرين ومائة( 126) شاهد، وشواهد القراءات نحو خمسة وخمسين مائة(155) شاهدا، وهي نسبة عالية تبرز اهتمامه بالقراءات واعتماده عليها، وعدد الشواهد الشعرية نحو ثلاثة وأربعين ومائة (143) شاهد، أما الشواهد النثرية فأكثرها أمثلة تعليمية.
فاعتماد الطبري على المأثور في تفسير آي الذكر الحكيم وعنايته الفائقة بالقراءات لم يصرفه عن الاهتمام البالغ بالمباحث النحوية وكثرة الاستشهاد عليها حتى أصبح الإعراب معلما أساسيا من معالم منهجه في التفسير. نجده يفسر الآية من القرآن الكريم ويربط بينها والإعراب فيعدد آراء النحاة، ويوازن، ويرجح بينها ثم يذكر شاهدا أو أكثر على ما اختاره من توجه نحوي أو تفصيل مذهب من المذاهب. وكل ذلك وفق تمكن نحوي وقدرة في التحليل والاستنباط، جعلت من تفسيره اتجاها جديدا"إذ تجاوز المأثور إلى غيره، وتخطى التفسير المحكي إلى موضوعات أخرى تدخله في جانب منه في كتب التفسير العقلي بالرأي والاجتهاد، وتجعله نقطة تحول في تاريخ التفسير وإلتقاء مع بعض الاتجاهات الأخرى في التفسير،كما تجعله معلما من معالم نشأة التفسير العقلي"(9).ففي تفسيره لقوله:)غير المغضوب عليهم((10) قال:"والقراء مجمعون على قراءة(غير)بجر الراء،والخفض بآيتها من وجهين:
أحدهما: أن يكون (غير) صفة لـ(الذين) ونعتا لهم فتخفضها إذ كان (الذين) خفضا، وهي لهم نعت وصفة، وإنما جاز أن يكون (غير) نعتا ل (الذين) و(الذين) معرفة، و(غير) نكرة،لأن الذين بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة(11). كالأسماء التي هي أمارات بين الناس،مثل: زيد وعمرو وما أشبه ذلك...وفي النهاية يدلي الطبري برأيه فيقول:« والصواب من القول في تأويله وقراءته عندنا القول الأول وهو قراءة:(غير المغضوب عليهم)بخفض الراء من(غير)بتأويل أنها من صفة للذين أنعمت عليهم ونعمت لهم-لما قدمنا من البيان-إن شئت،وإن شئت فبتأويل تكرير(صراط) كل ذلك صواب حسن"(12).
ذكر القرطبي في تفسيره لهذه الآية:"قرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب غير المغضوب عليهم وغير الضالين وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين، فالخفض على البدل من الذين أو من الهاء والميم في عليه، أو صفة للذين والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف، إلا أن الذين ليس بمقصود قصدهم فهو عام، فالكلام بمنزلة قولك: إني لأمر بمثلك فأكرمه، أو لأن غير تعرفت لكونها بين شيئين لا وسط بينهما، كما تقول: الحي غير الميت، والساكن غير المتحرك، والقائم غير القاعد، قولان: الأول للفارسي، والثاني للزمخشري. والنصب في الراء على وجهين: على الحال من الذين، أو من الهاء والميم في عليهم، كأنك قلت: أنعمت عليهم لا مغضوباً عليهم. أو على الاستثناء، كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم. ويجوز النصب بأعني، وحكي عن الخلي" (13).
كما اهتم الطبري بالقواعد النحوية من خلال عرضه لمباحث النحو، فكثيرا ما نجده يعرف بها ويصوغها ويثبت أحكامها بالشواهد ومختلفة الآراء من ذلك:
- يرى أن (اليوم) إذا أضيف إلى فعل ماض نصبوه. ففي تأويله للآية: )يوم لا تملك نفس( (14). ذكر اختلاف القراء(15) فقال:"قرأته عامة قراء الحجاز والكوفة بنصب (يوم) إذ كانت إضافته غير محضة. وقرأ بعض قراء البصرة بضم (يوم) ورفعه ردا على اليوم الأول، والرفع فيه أفصح في كلام العرب، وذلك أن اليوم مضاف إلى (يفعل). والعرب إذا أضافت اليوم إلى تفعل أو يفعل أو أفعل رفعوه، فقالوا: هذا يوم أفعل كذا، وإذا أضافته إلى فعل ماض نصبوه"(16).
- إذا كان في الكلام مدح أو ذم، فالاسم المدخلة عليه (الباء) في موضع رفع: يقول الطبري في تأويله لقوله تعالى: )وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا((17). أدخلت الباء في قوله: (بربك) وهو في محل رفع، لأن معنى الكلام: وكفاك ربك ... وكذلك تفعل العرب في كل كلام كان بمعنى المدح أو الذم فتدخل في الاسم الباء، والاسم المداخلة عليه(الباء)في موضع رفع لتدل بدخولها على المدح أو الذم كقولهم:أكرم به رجلا، وناهيك به رجلا، وجاء بثوبك ثوبا، وطاب بطعامك طعاما وما أشبه ذلك من الكلام. ولو أسقطت الباء مما دخلت فيه من هذه الأسماء رفعت لأنها في محل رفع، كقول الشاعر(18):
ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
فأما إذا لم يكن مدح أو ذم فلا يدخلون في الاسم الباء، ولا يجوز أن يقال: قام بأخيك، وأنت تريد: قام أخوك، إلا أن تريد: قام رجل آخر به، وذلك معنى غير المعنى الأول»(19). فالاسم يكون في موضع رفع سواء دخلت عليه الباءأوحذفت مادام في الكلام المعنى المدح أو الذم.
وهذه القاعدة ذكرها الفراء في تفسيره لقوله عز وجل: )كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا( (20) قال: «وكل ما في القرآن من قوله: وكفى بربك، وكفى بنفسك، فلو ألقيت الباء كان الحرف مرفوعا... ولو لم يكن مدحا أو ذما لم يجز دخولها »(21)
- ويقول الطبري بأن (أما) لابد لها من أن تجاب بالفاء وتسقط الفاء إذ سقط الفعل الذي أضمر. ففي تأويله لقوله تعالى: )وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين((22) قال: « يقول تعالى ذكره وأما الذين جحدوا وحدانية الله وأبوا إفراده في الدين بالألوهية فيقال لهم: ألم تكن آياتي في الدنيا تتلى عليكم. فإن قال قائل: أو ليست (أما) تجاب(بالفاء) فأين هي، فإن الجواب أن يقال هي الفاء التي في قوله (أفلم)، وإنما وجه الكلام في العربية لو نطق على بيانه وأصله أن يقال: وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم،لأن معنى الكلام: وأما الذين كفروا فيقال لهم: ألم تكن آياتي تتلى عليكم"(23).
- ويرى الطبري بأن الاسم إذا ورد بعد (من) التبعيضية فإنه يحذ ف لدلالتها عليه في قوله:" أن (من) في قوله تعالى: )ومن آيته يريكم البرق خوفا وطعاما( (24)، تدل على المحذوف، وذلك أنها تأتي بمعنى التبعيض، وإذا كانت كذالك كان معلوما أنها تقتضي البعض، فلذلك تحذف العرب معها الاسم لدلالتها عليه"(25). وهذا الذي ذهب إليه الفراء باستشهاده بقول الشاعر (26):
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغى العيش أكدح
« كأنه أراد فمنهما ساعة أموتها وساعة أعيشها »(27).
- ومن تأصيله لقواعد عامة في النحو ما ذكره في الفرق بين (بلى) و(نعم) مستفادة من تأويله بقوله تعالى: ) بلى من كسب سيئة( (28) قال:" وأما(بلى) فإنها إقرار في كل كلام في أوله جحد، كما نعم إقرار في الاستبهام الذي لا جحد فيه، وأصلها بل التي هي رجوع عن الجحد المحض في قولك: ما قام عمرو بل زيد، فزيدت فيها الياء ليصلح عليها الوقوف إذ كانت عطفا ورجوعا عن الجحد، وتكون أعني (بلى) رجوعا عن الجحد فقط وإقرار بالفعل الذي بعد الجحد فدخلت الياء منها على معنى الإقرار والإنعام، ودل لفظ ( بل) على الرجوع عن الجحد"(29).
تخريجه لعدد من الآيات الكريمة تخريجا نحويا معززا بالشواهد:
اعتمد ابن جرير على الشواهد النحوية أيضا في تخريجه لعدد من الآيات تخريجا نحويا يتفق مع المعنى الذي يقتضيه النص القرآني. ومن تخريجاته ما يلي:
- تخريج )إن هذان لساحران( (30): من ظوهر المثنى التي ارتبطت بآية من آيات القرآن وأثارت نقاشا وجدا لا بين العلماء قديما وحديثا إعراب كلمة (هذان). فالقياس أن تكون بالياء (هذين) نصبا لوجود (إن). قال الطبري:"والصواب من القراءة في ذلك عندنا (إن) بتشديد نونها و(هذان) بالألف لإجماع الحجة من القراءة عليه. وأنه كذالك هو في خط المصحف. وأقر في جميع الأحوال الإعراب على حال واحدة وهي لغة بلحرث بن كعب وخثعم وزبيد ومن وليهم من قبائل اليمن" (31). وهذا التخريج اختاره ابن يعيش فقال: "فأمثل الأقوال فيها أن تكون على لغة بني الحارث في جعلهم المثنى بالألف على كل حال" (32).
وكذلك أبو حيان في تفسيره بإسناده هذه اللغة إلى عدد من العشائر العربية "والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائما، وهي لغة الكنانة، حكى ذلك أبو لخطاب، ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد، وأهل تلك الناحية حكى ذلك عنهم الكسائي" (33).
- تخريجه)وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين(: من الظواهر النحوية التي بحث فيها الطبري ووجه من خلالها القراءة التي اختارها ظاهرة الاتباع في الإعراب مع استقلال في المعنى (إلى حد ما) لكل من التابع والمتبوع.
هذه الظاهرة التي أثارت خلافا بين العلماء ودار النقاش حولها بينهم: وذلك في كلمة (أرجلكم) من قوله تعالى: )وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين( (34). فقد رأى بعض العلماء أن (أرجلكم) جر على الجوار(35)، ورفض كثيرا من العلماء هذه الظاهرورأى بعضهم أنها تقع قليلا في النعت ولا تقع في العطف(36). وأعرض هنا رأي الإمام الطبري حيث قال: « اختلفت القراء (37) في قراءة ذلك فقرأه جماعة من قراء الحجاز والعراق )وأرجلكم إلى الكعبين( نصبا فتأويله: إذ قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم وإذا قرئ كذلك كان من المؤخر الذي معناه التقديم، وتكون الأرجل منصوبة عطفا على الأيدي. وتأول قارئو ذلك كذلك أن الله جل ثناؤه إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح بها. وقرأ ذلك آخرون من قراء الحجاز والعراق بخفض الأرجل وتأول قارئو ذلك أن الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل في الوضوء دون غسلها وجعلوا الأرجل عطفا عل الرأس فخفضوها لذلك.
والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم. وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقا (اسم ماسح غاسل)، لأن غسلهما إمرار اليد أو مقام اليد عليهما فإذا فعل ذلك بهما فاعل هو غاسل ماسح"(38).
- المخالفة في الإعراب بين المتعاطفين: ففي تأويله بقوله تعالى: ) ولَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِم ِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء( (39) قال": وأما(لصابرين) فنصب وهو من نعت (من) على وجه المدح، لأن من شأن العرب إذا تطاولت صفة الواحد الاعتراض بالمدح والذم بالنصب أحيانا وبالرفع أحيانا. كما قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
وذا الرأي حين تغم الأمور بذات الصليل وذات اللجم
فنصب(ليث الكتيبة) و(ذا الرأي)على المدح والاسم قبلها مخفوض، لأنه من صفة واحدة " (40).
- قبح العطف بظاهر من الأسماء على مكنى في حال الخفض: ففي تأويله بقوله تعالى: )واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام( (41) قال الطبري": والقراءة التي لا نستجير القارئ أن يقرأ غيرها في ذلك النصب لما قد بينا أن العرب لا تعطف بظاهر من الأسماء على مكنى في حال الخفض إلا في ضرورة شعر(42).
ومن خلال هذه الوقفة مع تفسير (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) لابن جرير الطبري وصلنا لنتيجة عامة تمثلت في صلة النحو بالقرآن الكريم، فهو وسيلة المفسر في تفسيره وكشف تأويله. كما تبين لنا أن الشواهد النحوية قد ملأت هذا السفر الكبير على امتداد ثلاثين جزءا صيغت من خلالها قواعد نحوية كثيرة وتخريجات معززة بشواهد من القرآن الكريم وشعر منسوب إلى شعراء يحتج بشعرهم. وأحسب أن هذه الدراسة من شأنهاأن تضيف لهذا التفسير قيمة أخرى بالتعريف بشواهده النحوية والاستفادة منها في البحوث القرآنية والدراسات اللغوية.
الإحالات
1 – أبو بكر الزبيدي : لحن العوام ، تحقيق رمضان عبد التواب ، المطبعة الكمالية القاهرة ،1964، ص 4 .
2- الرافعي : تاريخ آداب العرب ، ط 2 ، 1359 هـ – 1940 م ج 1، ص 239
3- أبو البركات
4- أبو بكر الزبيدي : طبقات النحويين واللغويين، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف ، ط2، ص 11.
5- انظر مثلا : ابن خلدون: المقدمة ، دار الرائد العربي بيروت ،ط 5 ، 1402 هـ – 1982 م، ص 546. والقرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، دار الفكر، ط 2 ، 1407 ه – 1987 م ، ج 1 ، ص 24 .
6- فاطر: 28.
7- ابن فارس: الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها،تحقيق مصطفى الشويمي،بيروت، 1964م ص309.
8- ابن جني : الخصائص ، تحقيق محمد علي النجار، دار الهدى للطباعة والنشر ، بيروت ( د .ت )ج 1 ،ص 35.
9- عبد الله رفيده : النحو وكتب التفسير ، دار الجامهرية للنشر والتوزيع ، ط 3، ج 1 ، ص 547 .
10- الفاتحة:7.
11- أي المحددة .
12- الطبري : جامع البيان ، دار المعرفة بيروت ، لبنان ، 1986 م ، ج 1، ص 61.
13- القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، دار الكتب العلمية بيروت لبنان ، ج 1 ص 67.
14- الانفطار : 19.
15- قرأ بالنصب زيد بن علي والحسين وأبو جعفر وشيبة والأعرج وباقي السبعة ( أبو حيان : البحر المحيط ج 8 ، ص 437).
16- الطبري : جامع البيان ، ج 30 ، ص 57.
17- الإسراء: 17.
18- هو زياد بن زيد العدوي : ابن منظور : اللسان ج 20 ، ص 231 (هدى)
19- الطبري : جامع البيان ، ج 15، ص 44 .
20- الإسراء : 14.
21- الفراء : معاني القرآن ، تح: محمد علي النجار وأحمد يوسف نجاتي،عالم الكتب ،بيروت ،ط 3، 1983م، ج 2 ص 219 –220.
22- الجاثية : 31 .
23- الطبري : جامع البيان ج 25 ص 95 .
24- الروم : 24 .
25- الطبري : جامع البيان ج 21 ص 22 .
26- البيت من الطويل وهو لتميم بن مقبل في ديوانه .
27- الفراء : معاني القرآن ج 2 ،ص 223 .
28- البقرة : 81 وتمامها ﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ .
29- الطبري : جامع البيان ج 1 ، ص 304 – 305 .
30- طه : 23 .
31- الطبري : جامع البيان ، ج 16 ، ص 136 – 137 .
32- ابن يعيش : شرح المفصل ، مطبعة الطباعة المنيرة ، القاهرة ، ج 3 ، ص 130 – 131 .
33- أبو حيان : البحر المحيط ، ج 6 ،ص 255 .
34- المائدة : 6.
35- الزجاج : إعراب القرآن ج 1 ص 173 ، وابن الأنباري : الإنصاف في مسائل الخلاف ج 2 ، ص 603 .
36- السيوطي : الإتقان في علوم القرآن ، دار المعرفة بيروت لبنان ج 2 ص 256.
37- قرأ نافع وابن عامر (وأرجلكم) بالنصب . وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ ( وأرجلكم ) بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة (وأرجلكم ) بالخفض . وبحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون.
38- الطبري : جامع البيان ج 6 ص 81 – 84.
39- البقرة : 177 .
40- الفراء: معاني القرآن ج 1 ص 105.
41- النساء :1
42- الطبري : جامع البيان ج 4 ص 151 – 152.