أهل القيروان حول خلق القرآن

موراني

New member
إنضم
10/05/2004
المشاركات
1,236
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
ألمانيا
ان العنوان لهذه الرسالة الوجيزة ( أهل القيروان ...ألخ) لا يعني به اسمي المستعار في هذا الملتقى , لكي لا يظن أحد ولا يخيل عليه من قريب أو بعيد انني بصدد الحوار حول خلق القرآن على لسان المعتزلة !

كان هذا الموضوع بالغ الأهمية في دوائر أهل السنة بالقيروان كما يتبين ذلك من خلال
بعض القطع المتفرقة والأوراق المتبقية في المكتبة العتيقة بالقيروان (التي تسمى أيضا بالمكتبة الأثرية ) .

كان بكر بن حماد , أبو عبد الرحمان الزناتي ( ت 296 ) من محدثي أهل القيروان غير أنه ليس لدينا الا بعض الأخبار عنه في كتب تراجم الافريقيين مثل معالم الايمان , ج 2 , ص 281 ورياض النفوس , ج 2 , 20 الى 26 . وانظر حوله أيضا شجرة النور الزكية , الرقم 91 , والورقات لحسن حسني عبد الوهاب , ج 1 , ص 255 الى 257 .
رحل الى المشرق ودرس على محدثي أهل الكوفة وأهل البصرة . وعاد بعد رحلته الى افريقيا ونزل القيروان وتركها هاربا الى بلاده تاهرت بعد ما سعي به الى الأمير ابراهيم بن أحمد الأغلبي . وذلك ربما لرفضه لما رأت الفرقة المعتزلة من خلق القرآن ومن انفاء الرؤية في ذلك العصر .
مما لا شك فيه أن المؤرخ المشهور أبا العرب التميمي ( ت 333 في المعركة ضد الشيعة في الوادي المالح , على الطريق بين مدينة سوسة والمهدية ) قد درس في حلقة بكر بن حماد هذا قبل خروجه الى بلاده وكتب عنه في حلقاته بالقيروان , اذ لدينا بعض الاوراق على الرق بخط أبي العرب التميمي يذكر فيها شيخه بكر بن حماد بأسانيده عدة مرات : (وحدثني بكر بن حماد قال ....) كذلك يذكره أبو العرب في كتاب المحن له في أخبار المحنة في خلافة مأمون .
أما هذه الأوراق المتبقية من كتاب أو رسالة ما ( ليس لدينا عنوان لهذه المجموعة من الأخبار حول المحنة) بخط أبي العرب التميمي فيروي بكر بن حماد فيها خبرا عن المحنة عن شيخه كما يلي :

حدثنا أحمد بن ابراهيم الدورقي قال :
حدثنا أبو زكرياء يحيى بن يوسف الزمّي قال :
قدمنا من مكة فقال لي رفيقي : هل لك في عبد الله بن ادريس نأتيه فنسلم عليه .
قال : فأتنياه وسلمنا عليه فقال له رفيقي : يا أبا محمد , انّا قبلنا تاسا يقولون : القرآن مخلوق .
قال : من اليهود ؟ قلت : لا .
قال : فمن النصارى ؟
قلت : لا .
قال : من المجوس ؟
قلت : لا .
قال : فممّن ؟
قلت : من الموحّدين .
قال : كذبوا , ليس هؤلاء من الموحّدين , هؤلاء زنادقة . من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله مخلوق . ومن زعم ا، الله مخلوق فقد كفر .
قال أحمد : وزادني رجل عن الزمي قال : وقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم , وقال : الله مخلوق , والرحمن مخلوق والرحيم مخلوق , هؤلاء زنادقة .
..................................................................
انّ هذا الخبر يأتي من العراق وانتهى الى القيروان من طريق بكر بن حماد المذكور أعلاه .
أما الدورقي و فهو من شيوخ ابن حنبل , توفي ببغداد عام 246 .
أما الزمي , وهو من خراسان , نزل بغداد حيث توفي عام 229 , وهو الذي التقى بعبد الله بن ادريس ( ت 192 ) في الحجاز . وهذا الأخير طلب العلم بالمدينة وبمكة وكانت له علاقات بمالك بن أنس .
..............................................................

نظرا الى أن عبد الله بن ادريس توفي عام 192 فالحديث بينه وبين يحيى بن يوسف الزمي جرى قبل هذا التأريخ أي ما سبق على المحنة في خلافة مأمون بأكثر من 20 سنة .
وفي هذه الأوراق نجد اشارة واضحة الى أنّ أصحاب انفاء الرؤية اعتبروا مرتدين عن الاسلام الى جانب صفتهم (زنادقة) , وذلك بالرواية القيروانية التالية عن محمد بن وضاح الأندلسي :
وحدثني عمر بن يوسف وسعيد بن شعبان قالا .
حدثنا ابن وضاح قال : وحدثنا سعيد بن منصور قال : سمعت ابن الماجشون يقول :
من زعم أنّ الله لا يرى يوم القيامة استتيب .

أما بكر بن حماد فانه يروي في هذه الأوراق برواية بقي بن مخلد ( وهو أيضا من العلماء الاندلسيين مثل ابن وضاح القرطبي ) خلاف قول ابن الماجشون , وقال :
سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : أصحابنا في الثغر لا يستتيبون من قال : القرآن مخلوق .
قال ابن حنبل : أنا أستتيبهم . قال بقيّ أبو عبد الرحمان في تفسير ابن حنبل ( لا يستتيبون من قال ذلك ) , يقول : زنادقة , يقتلون ولا يستتابون .

..............................................

لقد اعتصم أهل القيروان بتعاليم أهل السنة والجماعة ورفض رأي المعتزلة وتعاليمها
وأظهر هذا الاعتصام بالسنة ورفضه لخلق القرآن حتى على شواهد القبور بالقيروان
حيث نشاهد الى يومنا هذا :
.......... بعد الشهادة :
ان القرآن كلام الله وليس بمخلوق ( من صفر عام 292 )
وأيضا : بعد الشهادة :
أن الله عز وجل يرى يوم القيامة ( من شعبان عام 392 )


موراني
 
هذا خير دليل على وصفي ذات يوم في هذا الملتقى المبارك لمشكل "خلق القرآن" بأنه أكبر مشكلة امتصت طاقات الأمة لألف سنة مما تعدون.
والسبب في ذلك أن المجموعتين المتشاجرتين في المسالة لم تُحْسنا التعامل ولا التعبير عن الفكرة.
فالقرآن كلام الله لا ينبغي ان يوصف إلا بما ورد فيه من وصف له وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما تلقاه الناس بالقبول وبما أجمع عليه أصحابه في المسالة إن وُجد. ومقتضى مذهب السلف ان لا يخوضوا في "كيفٍ " أبدًا. ووصْف "الخلق" إذا حللنا المصطلح إلى معانيه وجدناه يتضمن معنيين على الاقل أولهما : (الحدوث الزمني) فالله تعالى نفسه خالق الزمان والمكان وكان ولم يكن معه شيء فهو في عقيدتنا الإسلامية "أزليّ قديم" عبر عن ذلك بلغة القرآن بأنه "أول" وكان ابو سعيد السيرافي قد سئل هل تجد العرب يعرفون القديم لما لا أول له فقال لا أجدهم يعرفونه. وعليه فالأفضل والاولى وصفه تعالى بأنه "أول" وإن كان معنى القدم الفلسفي متضمن داخل المعنى اللغوي ، حتى لو لم يكن العرب قبل الإسلام يعرفون ذلك.
فالمعنى الأول لمخلوق أي كونه محدثا لا يناقض العقيدة بشيء، اما المعنى الثاني وهو حقيقة الخلق، وكان قصدهم من هذا الوصف بظنهم تنزيه الله تعالى عن التغير، ظنا منهم أن هذا مبالغة في التنزيه، ولكنه قول مردود على القائلين به لأنه أقل ما يقال فيه إنه "خوضٌ في كيف" ونحن نتبع السلف في ان لا يجوز عندنا الخوض في كيف.
وكم تمنينا أن تكون المجموعة المحقة أي المجموعة المنكرة على المجموعة التي ابتدعت مصطلح "مخلوق" كم تمنينا أن تكون قد عبرت عن الفكرة الصحيحة تعبيرا صحيحا فقالت : "محدَث لا يوصَف بمخلوق" إذا لكنا ربحنا كثيرا من الوقت ألف سنة ولما تبددت طاقات الأمة في ترسيخ لإساءات الفهوم تكللت بقرار الخليفة القادر امير المؤمنين عام 408هـ "ومن قال بخلق القرآن فهو حلال الدم"، وبان وصلنا إلى حد كتابة العبارات على القبور كما اورد البروفيسور موراني. ولكن أهل الحق قد عبروا عن الفكرة بقولهم "غير مخلوق" فقط وهذه عبارة نحن متأكدون أنهم لم يكونوا يعنون معها أنه غير محدث كما توهم بعض العلماء عفا الله عنهم، وهذا البعض الذي ظن أن غير مخلوق تعني غير محدث وتبناه تعصبا لانتماء هو قطعا أسوأ من كلا المجموعتين المختلفتين الأوليين، ولكن علماء الحديث الذين وقفوا في وجه المعتزلة كانوا يعنون أنه "كلام الله محدثٌ لا يوصف بمخلوق".
فالقول الحق هو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه محدث غير مخلوق وهو يعني ايضا لا يوصف بمخلوق.
والسبب في ردنا على المعتزلة أنهم ابتدعوا في المصطلح وفي المعنى إذ خاضوا بكيف.
أما أهل الحق وهم اهل الحديث فقد أرادوا الخير ولكنهم لم يوفقوا في التعبير الحق عن المصطلح بأنه "محدث لا يوصف بمخلوق"

والسبب الذي صرنا نعلمه اليوم بسبب مجيئنا في عصر انتقلت فيه البشرية من "ثقافة الأذن" وهي عمياء إلى "ثقافة العين" وهي مبصرة، ونجاحها في ابتداع المنطق الرمزي الرياضي لترميز الاشياء والتعبير عنها فتطور معه عقلنا إلى حيث نتمكن معه من تبين اخطاء الماضين التعبيرية وهذا معنى قول غيبون:"لا يمكننا فهم الماضي إلا بما هو اعلى في الحاضر" وأن "من حقنا أن نحاكم رجال الماضي في ضوء معارف الحاضر".
وأما من ظن او من ما يزال يظن من أصحابنا ان النجاة هو في الانخراط في مجموعة "الفرقة الناجية" حتى بتعبيرها عن الفكرة دون تفحصها، فهو خارج التاريخ إذ لا يدخل التاريخ من لم يحلل ويتفهم كل العبارات عن اي فكرة، ويرى ما وافقت فيه الصواب وما جانفته.فقد تكون محقة في الفكرة مخطئة في التعبير عنها/ وهل من عاصم لأي مجموعة من ذلك؟
نشكر الاستاذ موراني الذي نقل لنا صورة عن انخراط الامة من مشرقها إلى مغربها في قضية لم تحسن التعبير عنها فسببت لها شجارات وهمية وأراقت حبرا كثيرا دون جدوى. والحمد لله ان الناس منذ زمن قد اصبحوا يتعالون عن كل جدال لا يحقق لهم نفعا وأعظم النفع هو "التقوى العملية" ومن يتق الله يجعل له مخرجا.
 
ممكن د. عبدالرحمن الصالح أن تحدثنا عن القيمة المعرفية والثمرة التي سيجنيها من إثبتَ بأن القرآن مخلوق
يعني ما الفرق بين شخصين: أحدهما يؤمن بأن القرآن مخلوق، والثاني لا يقول بذلك ؟
 
كانت المشكلة تاريخية فزال سببها التاريخي وبقي صداه الفكري وتصنيفه العقدي في علم الفرَق.
وأول من نحسبه أضاء الفهم المعاصر للأسباب السياسية (التاريخية) لمحنة خلق القرآن هو بعض المفكرين المغاربة معتمدا على كتابة مؤرخي الفكر الإسلامي من الألمان ولكوني لم أطلع على الكتاب الواسع الصيت ليوسف فان إس عن علم الكلام الإسلامي في القرون الأولى فإني لا أدري ماذا سوف تضيف قراءته لي من وعي في المسألة.
لكن ما يهمنا اليوم هو الفكرة "العقدية" بحد ذاتها ، دون أسبابها السياسية التاريخية. فالأسباب السياسية التاريخية هي سبب للمشكلة في المجتمع الإسلامي في القرن الثالث الهجري اما الاسباب الفكرية العقدية فقد تأثرت بالصراع الاجتماعي السياسي حتما ولكنها ما تزال قابلة للفهم بذاتها.
أما الأسباب السياسية فملخصها أن الخلفاء العباسيين حين اتجهوا إلى ترجمة كتب الإغريق بهدف سياسي هو مواجهة اللامعقول الشيعي الإمامي المتأثر بالعرفان الغنوصي الشرقي، وهو تقديم الإيمان على العقل في كل شيء. ويدخل في ضمن المواجهة السياسية للفرس قيام المأمون بمصاهرة علي الرضا وإعطائه ولاية العهد، وقد يكون المأمون مؤمنا بضرورة استلال سخيمة الخلاف بين الهاشميين وإحداث مصالحة تاريخية، وحين همّ المأمون بلعن معاوية على المنابر ونكص لأسباب سياسية وهي "خشية إغضاب العامة" تجمعت لدى المحدثين مجموعة من الاسباب لأظهار التذمر من الدولة واتجاهها الذي ظنوه ممالئا للفرس الإمامية المتبنين (أو المتقنعين بـ) التشيع للخط العلوي من الهاشميين، وهذه الأسباب لدى المحدّثين هي وأسبابها:
- أنهم تأثروا برد فعل على الفرس الإمامية الذين أثبتوا وصية ليخوِّنوا أصحاب محمد كلهم والشعب العربي الذي كان معاصرا للنبي بأكمله، وهم من أسماهم المحدثون "صحابة". فقاموا برد الاعتبار لمعاوية في العصر الذي همّ فيه المامون بلعنه على المنابر.
- وتذمروا من ترجمة كتب الإغريق وانخراط بعض المثقفين في قراءتها قالوا "كل الشر في علوم الأوائل: وقال الشافعي مستنكرا الاهتمام بعلوم الأوائل من فلاسفة الروم اليونانيين:
[poem=]كل العلوم سوى القرآن مشغلة = إلا الحديث وعلم الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قيل "حدثنا" = وما سوى ذاك وسواس الشياطين
[/poem]
- تجمعت خيوط من هذا النوع حتى وصل التذمر إلى الدولة فأراد الخلفاء التضييق على الخصوم السياسيين بقضية "خلق القرآن"، فأرادوا تضليل المحدثين [عدّهم ضالين] لا لتذمرهم من القضايا السابقة بل "لخلل في توحيدهم"، فجاءوا بنصراني وقالوا له ماذا تقول في المسيح، فقال أليس القرآن يقول هو {كلمته} قالوا بلى فقال، فنحن نقول فيه غنه كلمة الله غير مخلوقة، كما تقولون أنتم كلام الله غير مخلوق، فقالوا بل كلمة الله مخلوقة وكلام الله مخلوق ومن قال غير ذلك فمختل العقيدة في التوحيد. وهذه الحكايات مما شاع في ذلك العصر.
ولما عاقبت الدولة اهل العلم وكانت لهم شعبية طاغية جدا أدى صنيعها إلى عمل عكسي ليس على الدولة وحدها بل لأن عصرهم كان "عصر التدوين" وتشكيل الوعي والفكر وعلم أصول الدين والفقه والنحو وترجمة المنطق فقد أصبح ذلك الصرع اسطورة أدت إلى "طرد" المعتزلة من الأمة، ووضعها علماء القرن الخامس من علماء الفرق في خانات الضالين من المنشقين عن الامة كالروافض والقرامطة والغلاة.
هذا عن الاسباب السياسية اما تحليل المسالة فكريا فـإن من قال إن القرآن مخلوق، ويجب ان لا نغفل عن انها ليست من "الاصول الخمسة" للمعتزلة ، ولكن من قال بذلك فنحسبه كان متاثرا بترجمات بعض الافكار التي أشار إليها الكندي برده على الفقهاء والمحدثين "بأنهم يتاجرون بالدين" و"اعلم أن الصادق صلوات الله عليه لم يجئ بشيء إلا وفي الفلسفة ما يشهد له، وهؤلاء الذين يعادون الفلسفة إنما هم عدماء الدين، وليس أخرق ممن عاند قنية علم الاشياء بحقائقها فسماها كفراً".
فمن قال القرآن مخلوق فقد كان قصده أن الله تعالى يستحيل عليه التغير الناشيء من الكلام فالكلام البشري أنفاس تحدث أصواتا تنشأ في زمن متتابع، وتقرر لديهم أن هذا لا يجوز في حق الله عز وجل فقالوا إنه تكلم بالقرآن بمعنى أنه خلقه كما جعل الشجرة تكلم نبيا من الانبياء. وهذا اجتهاد منهم في التنزيه ولكنهم مخطئون لأن مذهب السلف أقرب إلى مقاصد الدين وإلى ما كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
فقول السلف الإيمان قول وعمل يشبهه جعل المعتزلة "الامر بالمعروف والنهي عن المنكر" آكد فرائض الإسلام وأحد الأصول الخمسة فهذا إدخال لنوع من العمل في الإيمان، ولكن الخوض في "كيف" تكلم الله تعالى بالقرآن دون الاكتفاء بأنه كلام الله تعالى أمر يرفضه الاتقياء الورعون المحترِمون لما كان عليه اسلافهم من اهل العلم ولذلك انكروه بشدة، وأحسن ما اطلعت عليه في ذلك قول الكرابيسي عن احمد بن حنبل: "قلنا مخلوق فقال بدعة، قلنا غير مخلوق فقال بدعة". وهذا مقتضى مذهب السلف.
لكن حين تعقدت المسالة إلى درجة قانون الحكم بالإعدام لمن قال "مخلوق" عام 408 هـ علمنا أن المسألة قد خرجت عن سياقها التاريخي إلى سياق اسطوري لا معنى له، بحيث انك تحدد فقط المجموعة التي تنتمي إليها بأن تُقرر "مخلوق" أو "غير مخلوق" دون أن تفهم معناها.

وقد تخاصم الناس واشتجروا في القضية لأنهم لم يتمكنوا من وضع الأفكار في سياقها الصحيح.
وعصرنا اليوم عصر تحليل ومن العلوم التي نشأت في داخل "اللسانيات" فن تحليل الكلمات إلى معانم جزئية مما هو معروف في علم الدلالة.
وحين نحلل كلمة مخلوق نجد أن الحد الأدنى لعدد معانيها الجزئية أن تعني (محدث غير أزلي) وأن تعني (صوتا أو كلاما مخلوقا ) وفي المعنى الاول لا نجد ما يجانف الصواب قالقرآن العظيم لا يمكن أن يكون إلا محدثا له أول إذ لو كان أزليا لا أول له لكان خوضا فيما ليس لنا به علم ولأدى فلسفيا إلى جعل اللغة نفسها أزلية وإلى كون "تبت يدا ابي لهب" جزءا من الله تعالى، وهذا ضلال ولا ريب. واما المعنى الثاني من معاني الخلق وهو أن الكلام تغيُّر وحركة زمنية لا يجوز بحق الله، ولذلك فيكون قد خلق القرآن نوعا من الخلق في قلب النبي أو في شيء خارج النبي تعلمه النبي صلى الله عليه وسلم منه وهذا قول مردود لأنه بدعة وخوضٌ في كيف، وهذا المعنى هو الذي انكره المحدثون الكبار كالإمام أحمد وغيره، اما إنكار أنه محدث فلا يمكن نسبته إليهم لأنه يخالف الورع عن الخوض فيما لا سلف فيه. وقد نشرت كتب منسوبة إلى علماء من المئة الثالثة لا يمكن أن يكونوا قد قالوا بكل ما فيها لأنهم عندنا في غاية الورع والإخلاص لله تعالى.

وكما ترى فالحق في المسألة أن "القرآن كلام الله تعالى لا ينبغي أن يوصف بمخلوق " لأن الكلام كسائر صفات الله تعالى لا نخوض فيه بكيف لأن الخوض بكيف ابتداع وزيغ عن طريق الحق.

أرجو ان تكون هذه السطور قد اجابت عن بعض ما دار في خلدكم بشأن القضية معتذرا إن داخل بعض عباراتها شيء من غموض إذ أنكم تعلمون انها من كبريات المسائل التي "انتطح فيها الكباش"، وما هي إلا محاولة لإيضاح جنباتها والله اعلم

أما القيمة المعرفية للمسألة التي أثارها فضيلتكم فهي من وجهة نظري المتواضعة أن فهم المسألة في سياقها التاريخي وتحليلها إلى معانيها يقرب بين أسلافنا في المئة الثالثة ويقرب التيارات المتأثرة بالمعتزلة كالزيدية والإباضية من أهل السنة ويزيد وحدة الأمة في وجه التيارات المنشقة عنها المبرمجة لأتباعها عاطفيا على كرهها ومعاداتها. وإن لم يكن فيها إلا الفهم والتفقه في الدين المبعد للمؤمن عن ظلم الناس أحياء وأمواتا والمقرب له أن يتقي الله على بصيرة لكان كافيا. والله من وراء القصد
 
شكرا لكم دكتور عبدالرحمن الصالح على تواضعكم وتفضلكم بالإجابة المطولة وعنايتكم بإثرائها بهذا الزخم من المعلومات التاريخية، ولعل بعض الدقة تنقصها في ترتيب بعض أحداثها، لكن المقام ليس مقام نقد تفصيلي
وإن كانت لي أيضاً ملاحظات على نزعة (التفسير المادي للتاريخ) الواضحة فيما تكرمتم بكتابته
إلا أن السؤال الكليّ الأكثر أهمية: هل شكلت - بحسب رأيكم ومطالعاتكم الواسعة - نظرية خلق القرآن منطلقاً لمتبني نظرية تاريخية النص القرآني وأنسنته كمحمد أركون ونصر حامد أبو زيد وغيرهم؟
وشكراٌ لكم مقدماً
 
ممكن د. عبدالرحمن الصالح أن تحدثنا عن القيمة المعرفية والثمرة التي سيجنيها من إثبتَ بأن القرآن مخلوق
يعني ما الفرق بين شخصين: أحدهما يؤمن بأن القرآن مخلوق، والثاني لا يقول بذلك ؟
القيمة المعرفية؟ لا لا، أفضل عبارة "الإنحطاط المعرفي" فالقيمة في هذا السياق في غير محلها، و لو كانت قيمة لكانت قد أضافت شيئا نافعا الى تطور "العلم التسخيري" و إستقرار "علم الهداية".

إن إستقرار "علم الهداية" أي التفقه في الدين، الذي إختاره الله للبشرية و اصطفى تعالى من خلقه مخلوقات بشرية مرسلة متتابعة لتجديده {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، لا يكون إلا بعدم الخوض فيما لم يخض فيه الأولون المُستَخلفون الراشدون، و لذلك عندما قال الإمام أحمد رضي الله عنه القرآن كلام الله غير مخلوق سأله بعضهم لم إضافة غير مخلوق إلى كونه كلام الله فأجابهم أن السبب هو قولهم أنه مخلوق، فهكذا ساهم عدم استقرار "العلوم الاهتدائية" في الإنحطاط المعرفي الذي كان أكسجين تسيير و توجيه و رسم خريطة الصراع السياسي بين العباسيين من جهة و بقايا الامويين و الطالبيين من جهة أخرى. عندما يخرج واحد يعد من (أهل الحديث) معلنا بإعادة الإعتبار لأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ثم يربّع بدل التثليث القائم بإضافة الإمام علي كرم الله وجهه إلى "قائمة الراشدين" أبي بكر و عمر و عثمان رضي الله عنهم فعندها لابد من إعمال خطة "تصفية و تمييز الصفوف" السياسية بإقحام "عقلية التصنيف" - التي مازلنا نعاني منها - في المعترك السياسي. إذا ذهب (أهل الحديث) مذهبا فما علينا إلا أن نسلك مسلكا مغايرا في حدود تضمن لنا عدم سخط الجمهور من العامة. أنا شخصيا أظن أن عدم مخالفة (أهل الحديث) بإختراع جديد في قضية "ختم النبوة" ثم إقحامها ضمن الترسيم الفكراني (الايديولوجي) للعقيدة هو أن جهات هرمسية باطنية كانت أيضا حاضرة في حزب المعارضين. هذا من الناحية السياسية و لقضية "خلق القرآن" أبعاد أخرى تتعلق بالمتغير و الثابت و من ثم توسيع دائرة "القابل للابتداع". أما إذا القينا نظرة على هذا الترسيم الفكراني للعقيدة في ذلك العصر بغض النظر عن الحراك السياسي فأنا أختلف تماما مع الأخ الدكتور عبدالرحمن الصالح في ذهابه الإختزالي لهذا الاختلاف. إن الاعتقاد بأن الإشكال حصل في 'التواصل' دون أية علاقة بالترسيم القائم على الأصول الخمسة لهو إعتقاد باطل بحيث أعتقد أنا أن إختزال الاختلاف في صيغة التعبير يستلزم إمكانية فصل "خلق القرآن" عن الأصل الأول وهو التوحيد، لكن لسوء الحظ هذا الفصل غير ممكن بأي حال من الأحوال بل إن القول بخلق القرآن نابع عن التصور المعتزلي للتوحيد بالضرورة و لا يمكن لا باللغة الطبيعية و لا باللغة الصورية الجمع بين كون الشيء محدثا و كونه قديما كما يستحيل التوفيق بين كون الشيء محدثا و كونه محدثا عينا و قديما نوعا، وهذا سواء إعتقد الأخ عبدالرحمن أن المعتزلة كانوا معطلة ملحدة في الصفات أو اعتقد أنهم كانوا مبتدعة مؤولة فيها.

فيما يخص تطور "العلوم التسخيرية" فنحن نرى بينما القرآن الكريم يوجه أنظار الناس إلى العالم المنظور، أو الكتاب المخلوق، ليتفكروا فيه و يستفيدوا من المسخرات السماوية و الأرضية، و بينما نرى أن أحد الراشدين رضي الله عنه كان يأمر بتعلم صناعة ما كانوا يكتفون باستهلاكه، ونرى راشدا آخر رضي الله يوجه و يعلم أن الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها، فاجئتنا عقلية التصنيف تأمر بترجمة و ترويج سفسطات اليونان التي تتوجه الى ما وراء العالم و تهتم به بدل أن تنظر في العالم نفسه و تدرسه و تختبر الصور الطبيعية بالتجربة كما فعل إبن الهيثم و تستخرج المنطق من الواقع المعلوم وما اتفقت عليه العقول كما نظّر له إبن تيمية لا أن تبحث عن قواعد التفكير في الذهنيات و السفسطات التي ما ظهر العلم الحديث الا بعد زلزلة عرشها و من ثم عرش المدرسية التي قامت على اس ارسطاطليسي رشدي، وكانت النتيجة ما نعلم جميعا قليل من النافع و كثير من الاباطيل أخّرت الحضارة لقرون و أججت الصراعات و اختلط كثير من الحق بالباطل و لو لم تكن الرسالة المحمدية آخر الرسالات قيض الله لها أئمة لا يخشون في الله لومة لائم كما قيض الله لها جنودا صدقوا ما عاهدوا الله عليه لعصفت السياسة و السفسطة و الثرثرة بهذه الرسالة كما عصفت من قبل برسالة سيدنا المسيح عليه السلام، ولله الامر من قبل و من بعد.
 
يوما ما ستعود الأمة أمة واحدة وهذا ما أسعى له وهذا ما أراه كثمرة من ثمار عودة المسلمين لإحياء تدبر القرآن والعودة إليه بعد هجره من أكثر الناس .بإذن الله
 
قال الإمام أحمد
الجواب للجهمي إذا سأل فقال: أخبرونا عن القرآن: هو الله أو غير الله؟
قيل له: وإن الله -جل ثناؤه- لم يقل في القرآن: إن القرآن أنا، ولم يقل: غيري،
وقال هو كلامي فسميناه باسم سماه الله به. فقلنا: كلام الله
فمن سمى القرآن باسم سماه الله به كان من المهتدين، ومن سماه باسم غيره كان من الضالين.
وقد فصل الله بين قوله وبين خلقه، ولم يسمه قولا، فقال: " ألا له الخلق والأمر " [الأعراف: 54] .
فلما قال: " ألا له الخلق " لم يبق شيء مخلوق إلا كان داخلا في ذلك، ثم ذكر ما ليس بخلق، فقال: " والأمر " .
فأمره هو قوله،
تبارك رب العالمين أن يكون قوله خلقا.
 
فيما يخص تطور "العلوم التسخيرية" فنحن نرى بينما القرآن الكريم يوجه أنظار الناس إلى العالم المنظور، أو الكتاب المخلوق، ليتفكروا فيه و يستفيدوا من المسخرات السماوية و الأرضية، و بينما نرى أن أحد الراشدين كان يأمر بتعلم صناعة ما كانوا يكتفون باستهلاكه، ونرى راشدا آخر رضي الله يوجه و يعلم أن الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها، فاجئتنا عقلية التصنيف تأمر بترجمة و ترويج سفسطات اليونان التي تتوجه الى ما وراء العالم و تهتم به بدل أن تنظر في العالم نفسه و تدرسه و تختبر الصور الطبيعية بالتجربة كما فعل إبن الهيثم و تستخرج المنطق من الواقع المعلوم وما اتفقت عليه العقول كما نظّر له إبن تيمية لا أن تبحث عن قواعد التفكير في الذهنيات و السفسطات التي ما ظهر العلم الحديث الا بعد زلزلة عرشها و من ثم عرش المدرسية التي قامت على اس ارسطاطليسي رشدي، وكانت النتيجة ما نعلم جميعا قليل من النافع و كثير من الاباطيل أخّرت الحضارة لقرون و أججت الصراعات و اختلط كثير من الحق بالباطل و لو لم تكن الرسالة المحمدية آخر الرسالات قيض الله لها أئمة لا يخشون في الله لومة لائم كما قيض الله لها جنودا صدقوا ما عاهدوا الله عليه لعصفت السياسة و السفسطة و الثرثرة بهذه الرسالة كما عصفت من قبل برسالة سيدنا المسيح ، ولله الامر من قبل و من بعد.
من المشاركات القيمة جدا بارك الله في صاحبها..والحق ان الخائضين من الجانبين في طبقة الامام احمد قد وقع فيهم تقصير وان كان بعضهم اولى من بعض..و الا فان الحق ان الطبقات التي قبلها ما كانت اصلا توافق على مثل هذا الخوض بل ما اطفأ الواثق الفتنة الا بقوة حجة عدم الخوض في مثل هذا...و الحق ان ماذكرته هذه المشاركة القيمة على ايجازها هو ما يفسر كل تلك الاضظرابات تفسيرا طبيعيا تاريخيا الذي تعضده الشواهد ..ومن خالط اجواء تلك الأيام تيقن ان ما ذكره الأستاذ عبد الرحمن لا يقوم على اساس تاريخي الا على الظن ..و كما اشارت هذه المشاركة القيمة فهذا السلوك الطبيعي له نظائره في الديانات السابقة من البداية بتقدير الواقع المعاش و البحث العلمي المادي و الجنوح اخيرا الى الباطنية و الغنوصية الغيبية الفكرية..
 
عودة
أعلى