نعم هذه القراءة منسوبة إلى هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم ، وهي مروية في مظانها بأسانيد ، منها ما هي متصلة ومنها ما هي منقطعة .
أما فيما يتعلق بوجود هذه القراءة مكتوبة في مصحف ابن مسعود فقد روى الإمام الطبري في تفسيره بإسناد صحيح : (حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عطاء : لو أن حاجًّا أفاضَ بعدما رمى جمرة العقبة، فطاف بالبيت ولم يَسع، فأصابها -يعني: امرأته- لم يكن عليه شيء، لا حجٌّ ولا عمرة، من أجل قول الله في مصحف ابن مسعود: "فمن حج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن لا يَطوَّف بهما" ...) .
وأما أن ابن عباس قرأ بها ، فقد روى الطبري بإسناد صحيح : (حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال أخبرنا عبد الملك عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: "إن الصفا والمروة منْ شعائر الله" الآية ... "فلا جُناح عليه أنْ لا يَطوَّف بهما") ، وقد رواه أيضاً ابن أبي داود في كتاب المصاحف [تحقيق الدكتور محب الدين واعظ] عن ابن عباس برقم (186) وما بعده ، ورواه أيضاً الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن ص (290) طبعة دار ابن كثير ، تحقيق مروان العطية وآخرين .
وأما مَن من التابعين عمل بها ، فأرى أن القول يدل على العمل ، فهو قول مجاهد وغيره من التابعين كما هو قول أنس وعبد الله بن الزبير من الصحابة حيث قالوا : إن الطواف بهما تطوع وليس فرضاً ، وتجد التفاصيل في تفسير الطبري .
وأما إن كان المقصود بالعمل أن أحداً منهم قرأ بها أو لا ؟ فالجواب : أن الإمام ابن أبي داود روى في كتاب المصاحف رقم (256) : (حدثنا عبد الله حدثنا يوسف بن عبد الملك ، حدثنا معمر ، حدثنا عبد الوارث ، عن حميد ، عن مجاهد أنه كان يقرأ : "فلا جناح عليه ألا يطوَّفَ بهما") .
وذكر المحقق أن في الإسناد من لا يعرفهم وهم : يوسف بن عبد الملك ومعمر ، وكأنه يشير إلى جهالة الإسناد ، والله أعلم .
وقد أنكر الإمام الطبري هذه القراءة فقال : (فإن اعتل بقراءة من قرأ : "فلا جُناح عليه أنْ لا يَطَّوف بهما" ، قيل: ذلك خلافُ ما في مصاحف المسلمين ، غيرُ جائز لأحد أن يزيد في مصاحفهم ما ليس فيها...) .
ولكنه مع ذلك ذكر تخريجاً لهذه القراءة بإيراد احتمال ، فقال : (وقد يحتمل قراءة من قرأ: "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما" أن تكون "لا" التي مع "أن"، صلة في الكلام، إذ كان قد تقدمها جحد في الكلام قبلها، وهو قوله: (فلا جناح عليه) ، فيكون نظير قول الله تعالى ذكره: (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) بمعنى ما منعك أن تسجد) .
وأما كونها موجودة كذلك في مصحف أبي رضي الله عنه ، فقد روى الإمام ابن أبي داود في كتاب "المصاحف" تحقيق الدكتور محب الدين واعظ رقم الأثر (162) : (حدثنا عبد الله حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، نا حجاج ، نا حماد قال : وجدت في مصحف أبي "فلا جناح عليه ألا يطوف بهما") ، وهذا الإسناد فيه انقطاع كما ذكر المحقق ؛ لأن حمادًا لم يسمع من أبي ولم يلقه .
الخلاصة : أن هذه قراءة شاذة مخالفة لخط المصحف حتى لو كانت مروية عن بعض الصحابة ، لكون ذلك قبل جمع عثمان رضي الله عنه ، وأما بعد الجمع العثماني فيبعد أن يصر هؤلاء الصحابة على القراءة بما خالفه .
وأما بخصوص ترجيح أحد القولين بهذه القراءة ، فلا يصح لأنها مخالفة للقراءة الصحيحة المتواترة ، والقاعدة تنص على أن معنى القراءة المتواترة أولى بالصواب من معنى القراءة الشاذة .
وقد قرر هذه القاعدة الشيخ الدكتور حسين الحربي في كتابه "قواعد الترجيح عند المفسرين" (1/104) ، وذكر أن أئمة التفسير كالطبري اعتمد هذه القاعدة في الترجيح بين أقوال المفسرين ، قال الطبري رحمه الله في تفسيره (16/507) تحقيق محمود شاكر طبعة مكتبة ابن تيمية : ( ...كان التأويل الذي على المعنى الذي عليه قرأة الأمصار أولى بالصواب مما خالفه ، إذ كانت القراءة بما هم عليه مجمعون أحق بالصواب) .