محمد محمود إبراهيم عطية
Member
الغضب نوعان : محمود ومذموم ؛ فالمحمود ما كان في جانِب الدِّين والحق ، والمذمومُ ما كان في خِلافه ؛ ذلك لأن الغضب إنما يثور به دم القلب لمحبة الانتقام - كما تقدم ؛ وهذا الانتقام إذا لم يكن كما ينبغي ، وعلى من ينبغي ، وعلى مقدار ما ينبغي ؛ فهو مذموم .
وفي صحيح مسلم عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ ، وَلاَ امْرَأَةً ، وَلاَ خَادِمًا ، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ ؛ إِلاَّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عز وجل [1] .
وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم : وَلا تُغْضِبُهُ الدُّنْيَا ، وَلا مَا كَانَ لَهَا ؛ فَإِذَا تُعُوطِيَ الْحَقَّ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ ، وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ ، لا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ ، وَلا يَنْتَصِرُ لَهَا [2] .
وبوب البخاري بابًا سماه ( بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الْغَضَبِ وَالشِّدَّةِ لِأَمْرِ اللَّهِ ؛ وَقَـالَ اللَّهُ : { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } ) ، ثم أورد تحته أحاديث ، منها :
عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ، ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ ؛ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ " [3] .
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ : أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ ، مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ ؛ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا ، قَالَ : فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ، قَالَ : فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ ؛ فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ ، وَالْكَبِيرَ ، وَذَا الْحَاجَةِ " [4] .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب يتغير وجهه ويحمر ، كأنه فقأ فيه حب الرمان ، فروى أحمد وابن ماجة عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ ، قَالَ : وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنْ الْغَضَبِ ، قَالَ : فَقَالَ لَهُمْ : " مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ ؟! بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ " [5] ؛ وفي الصحيحين عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ ، فَقَالَ : " عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ، ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا ؛ فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ " ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَضَالَّةُ الْغَنَمِ ؟ قَالَ : " خُذْهَا ؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ ، أَوْ لِأَخِيكَ ، أَوْ لِلذِّئْبِ " ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَضَالَّةُ الْإِبِلِ ؟ قَالَ : فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ ، أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ ؛ ثُمَّ قَالَ : " مَا لَكَ وَلَهَا ؟! مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا " [6] .
فهذا الغضب محمود ، إذ به يكون إظهار الحق وبيانه والدفاع عنه ؛ وقد غضب موسى عليه السلام غضبًا شديدًا من عبادة قومه العجل ، قال الله تعالى : } وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ { [ لأعراف : 150 ] ، ثم قال عز وجل : } وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ } [ لأعراف : 154 ] .
ومن الغضب المحمود - أيضًا - ما يكون في القتال الذي هو كمال القوة الغضبية ، وكذلك ما يكون في الغيرة على الحرم ونحو ذلك .
قال الماوردي في ( أدب الدنيا والدين ) : وَمَنْ فَقَدَ الْغَضَبَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُغْضِبَةِ حَتَّى اسْتَوَتْ حَالَتَاهُ قَبْلَ الْإِغْضَابِ وَبَعْدَهُ ، فَقَدْ عَدِمَ مِنْ فَضَائِلِ النَّفْسِ : الشَّجَاعَةَ ، وَالْأَنَفَةَ ، وَالْحَمِيَّةَ ، وَالْغَيْرَةَ ، وَالدِّفَاعَ ، وَالْأَخْذَ بِالثَّأْرِ ؛ لِأَنَّهَا خِصَالٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْغَضَبِ .
فَإِذَا عَدِمَهَا الْإِنْسَانُ هَانَ بِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ لِبَاقِي فَضَائِلِهِ فِي النُّفُوسِ مَوْضِعٌ ، وَلَا لِوُفُورِ حِلْمِهِ فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعٌ .ا.هـ .
وقد قسَّم الغزالي الغضب إلى درجات ثلاثة : تفريط ، وإفراط ، واعتدال ؛ والتفريط والإفراط مذمومان ؛ ومرتبة الاعتدال هي المرتبة المحمودة ؛ إذ الغضب لا يكون مذمومًا إلا إذا أعمل في غير أوانه ، وعلى غير ما يأذن الناموس الحق به .
فمن الناسِ مَنْ يبلغُ من أحدهمِ الغضبُ - إذا غضبَ - أن يحملهُ ذلك على الكلوحِ والقطوبِ في وجهِ غيرِ من أغضبهُ ، وسوء اللفظ لمن لا ذنب لهُ ، والعقوبةِ لمن لم يكن يهم بمعاقبتهِ ، وشدةِ المعاقبةِ باللسانِ واليد لمن لم يكن يريدُ به إلا دون ذلكَ .
فهذا إفراط مذموم ، إذ هو ظلم بَيِّنٌ ، والظلم ظلمات يوم القيامة .
قال الغزالي - رحمه الله : ففَقْدُ الغضب مذموم ؛ وإنما المحمود غضبٌ ينتظر إشارة العقل والدين ، فينبعث حيث تجب الحمية ، وينطفئ حيث يحسن الحلم ، وحفظه على حد الاعتدال ، هو الاستقامة التي كلَّف الله بها عباده ، وهو الوسط ؛ وخير الأمور أوساطها .
فمن مال غضبه إلى الفتور ، حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة ، وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله ، فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه .
ومن مال غضبه إلى الإفراط حتى جرَّه إلى التهور واقتحام الفواحش ، فينبغي أن يعالج نفسه لينقص من سورة الغضب ، ويقف على الوسط الحق بين الطرفين ، فهو الصراط المستقيم ، وهو أرق من الشعرة ، وأحد من السيف ؛ فإن عجز عنه فليطلب القرب منه ، فليس كل من عجز عن الإتيان بالخير كله ، ينبغي أن يأتي بالشرِّ كله ، ولكن بعض الشر أهون من بعض ، وبعض الخير أرفع من بعض .
نسأل الله حسن التوفيق لما يرضيه ، إنه على ما يشاء قدير [7] .
--------------------------------------------
[1] رواه مسلم ( 2328 ) .
[2] جزء من حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي e ، رواه الترمذي في الشمائل المحمدية : 1 /34 ( 8 ) ، والطبراني : 22 / 155 ( 414 ) ، والبيهقي في شعب الإيمان ( 1430 ) ، وفيه من لم يسم .
[3] البخاري ( 5758 ) .
[4] البخاري ( 5759 ) .
[5] أحمد : 2 / 178 ، وابن ماجة ( 85 ) .
[6] البخاري ( 5761 ) ، ومسلم ( 1722 ) .
[7] انظر ( إحياء علوم الدين ) : 3 / 168 .
وفي صحيح مسلم عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ ، وَلاَ امْرَأَةً ، وَلاَ خَادِمًا ، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ ؛ إِلاَّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عز وجل [1] .
وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم : وَلا تُغْضِبُهُ الدُّنْيَا ، وَلا مَا كَانَ لَهَا ؛ فَإِذَا تُعُوطِيَ الْحَقَّ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ ، وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ ، لا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ ، وَلا يَنْتَصِرُ لَهَا [2] .
وبوب البخاري بابًا سماه ( بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الْغَضَبِ وَالشِّدَّةِ لِأَمْرِ اللَّهِ ؛ وَقَـالَ اللَّهُ : { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } ) ، ثم أورد تحته أحاديث ، منها :
عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ، ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ ؛ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ " [3] .
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ : أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ ، مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ ؛ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا ، قَالَ : فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ، قَالَ : فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ ؛ فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ ، وَالْكَبِيرَ ، وَذَا الْحَاجَةِ " [4] .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب يتغير وجهه ويحمر ، كأنه فقأ فيه حب الرمان ، فروى أحمد وابن ماجة عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ ، قَالَ : وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنْ الْغَضَبِ ، قَالَ : فَقَالَ لَهُمْ : " مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ ؟! بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ " [5] ؛ وفي الصحيحين عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ ، فَقَالَ : " عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ، ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا ؛ فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ " ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَضَالَّةُ الْغَنَمِ ؟ قَالَ : " خُذْهَا ؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ ، أَوْ لِأَخِيكَ ، أَوْ لِلذِّئْبِ " ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَضَالَّةُ الْإِبِلِ ؟ قَالَ : فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ ، أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ ؛ ثُمَّ قَالَ : " مَا لَكَ وَلَهَا ؟! مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا " [6] .
فهذا الغضب محمود ، إذ به يكون إظهار الحق وبيانه والدفاع عنه ؛ وقد غضب موسى عليه السلام غضبًا شديدًا من عبادة قومه العجل ، قال الله تعالى : } وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ { [ لأعراف : 150 ] ، ثم قال عز وجل : } وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ } [ لأعراف : 154 ] .
ومن الغضب المحمود - أيضًا - ما يكون في القتال الذي هو كمال القوة الغضبية ، وكذلك ما يكون في الغيرة على الحرم ونحو ذلك .
قال الماوردي في ( أدب الدنيا والدين ) : وَمَنْ فَقَدَ الْغَضَبَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُغْضِبَةِ حَتَّى اسْتَوَتْ حَالَتَاهُ قَبْلَ الْإِغْضَابِ وَبَعْدَهُ ، فَقَدْ عَدِمَ مِنْ فَضَائِلِ النَّفْسِ : الشَّجَاعَةَ ، وَالْأَنَفَةَ ، وَالْحَمِيَّةَ ، وَالْغَيْرَةَ ، وَالدِّفَاعَ ، وَالْأَخْذَ بِالثَّأْرِ ؛ لِأَنَّهَا خِصَالٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْغَضَبِ .
فَإِذَا عَدِمَهَا الْإِنْسَانُ هَانَ بِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ لِبَاقِي فَضَائِلِهِ فِي النُّفُوسِ مَوْضِعٌ ، وَلَا لِوُفُورِ حِلْمِهِ فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعٌ .ا.هـ .
وقد قسَّم الغزالي الغضب إلى درجات ثلاثة : تفريط ، وإفراط ، واعتدال ؛ والتفريط والإفراط مذمومان ؛ ومرتبة الاعتدال هي المرتبة المحمودة ؛ إذ الغضب لا يكون مذمومًا إلا إذا أعمل في غير أوانه ، وعلى غير ما يأذن الناموس الحق به .
فمن الناسِ مَنْ يبلغُ من أحدهمِ الغضبُ - إذا غضبَ - أن يحملهُ ذلك على الكلوحِ والقطوبِ في وجهِ غيرِ من أغضبهُ ، وسوء اللفظ لمن لا ذنب لهُ ، والعقوبةِ لمن لم يكن يهم بمعاقبتهِ ، وشدةِ المعاقبةِ باللسانِ واليد لمن لم يكن يريدُ به إلا دون ذلكَ .
فهذا إفراط مذموم ، إذ هو ظلم بَيِّنٌ ، والظلم ظلمات يوم القيامة .
قال الغزالي - رحمه الله : ففَقْدُ الغضب مذموم ؛ وإنما المحمود غضبٌ ينتظر إشارة العقل والدين ، فينبعث حيث تجب الحمية ، وينطفئ حيث يحسن الحلم ، وحفظه على حد الاعتدال ، هو الاستقامة التي كلَّف الله بها عباده ، وهو الوسط ؛ وخير الأمور أوساطها .
فمن مال غضبه إلى الفتور ، حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة ، وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله ، فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه .
ومن مال غضبه إلى الإفراط حتى جرَّه إلى التهور واقتحام الفواحش ، فينبغي أن يعالج نفسه لينقص من سورة الغضب ، ويقف على الوسط الحق بين الطرفين ، فهو الصراط المستقيم ، وهو أرق من الشعرة ، وأحد من السيف ؛ فإن عجز عنه فليطلب القرب منه ، فليس كل من عجز عن الإتيان بالخير كله ، ينبغي أن يأتي بالشرِّ كله ، ولكن بعض الشر أهون من بعض ، وبعض الخير أرفع من بعض .
نسأل الله حسن التوفيق لما يرضيه ، إنه على ما يشاء قدير [7] .
--------------------------------------------
[1] رواه مسلم ( 2328 ) .
[2] جزء من حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي e ، رواه الترمذي في الشمائل المحمدية : 1 /34 ( 8 ) ، والطبراني : 22 / 155 ( 414 ) ، والبيهقي في شعب الإيمان ( 1430 ) ، وفيه من لم يسم .
[3] البخاري ( 5758 ) .
[4] البخاري ( 5759 ) .
[5] أحمد : 2 / 178 ، وابن ماجة ( 85 ) .
[6] البخاري ( 5761 ) ، ومسلم ( 1722 ) .
[7] انظر ( إحياء علوم الدين ) : 3 / 168 .