أنبياء الله في القرآن العظيم - سلسلة متجددة

إنضم
24/07/2010
المشاركات
309
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين , وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة..
ثم أما بعد : قال تعالى " أفلا يتدبرون القرأن "...
وفي محاولة لتدبر القرأن العظيم نعيش مع آنبياء الله تعالى , بحسب ورود ذكرهم عبر سور القرأن الكريم.. نأخذ منها العبرة والدروس المستفادة ونعيش معها كأننا نراها.
ونبدأ بعون الله تعالى بنبي الله " أدم " عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

ونتناولها إن شاء الله من خلال أجزاء القرأن العظيم..
نسأل الله تعالى أن يوفقنا وأن يعيننا على الفهم والأخلاص..

الجزء الأول
وبعض آيات من سورة البقرة


وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ – 30
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ – 31
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ – 32
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ – 33


********

القرآن العظيم كتاب دعوة , ودستور نظام , ومنهج حياة , لا كتاب رواية ولا تسلية ولا تاريخ .

وفي سياق الدعوة يجيء القصص المختار , بالقدر وبالطريقة التي تناسب الجو والسياق ويعتمد على إبداع العرض , وقوة الحق , وجمال الأداء .

وقصص الأنبياء في القرآن يمثل موكب الإيمان في طريقه الممتد الواصل الطويل .

ويعرض قصة الدعوة إلى الله واستجابة البشرية لها جيلا بعد جيل ; كما يعرض طبيعة الإيمان في نفوس هذه النخبة المختارة من البشر , وطبيعة تصورهم للعلاقة بينهم وبين ربهم الذي خصهم بهذا الفضل العظيم .
وتتبع هذا الموكب الكريم يفيض على القلب رضى ونورا وشفافية ; ويشعره بنفاسة هذا العنصر العزيز - عنصر الإيمان - وأصالته في الوجود . كذلك يكشف عن حقيقة التصور الإيماني ويميزه في الحس من سائر التصورات الدخيلة . . ( المصدر في ظلال القرآن )

********

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً..


تكريم ومنزلة عظيمة , منزلة هذا الإنسان , في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة . وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم..
وندرك ذلك حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة , ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض..

قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ؟
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ.


يوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال , أو من تجارب سابقة في الأرض , أو من إلهام البصيرة , ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق , أو من مقتضيات حياته على الأرض ; وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض , وأنه سيسفك الدماء . . ثم هم - بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق , وإلا السلام الشامل - يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له , هو وحده الغاية المطلقة للوجود , وهو وحده العلة الأولى للخلق . .
وهو متحقق بوجودهم هم , يسبحون بحمد الله ويقدسون له ,ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته !
لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا , في بناء هذه الأرض وعمارتها , وفي تنمية الحياة وتنويعها , وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها , على يد خليفة الله في أرضه .
هذا الذي قد يفسد أحيانا , وقد يسفك الدماء أحيانا , ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل . خير النمو الدائم , والرقي الدائم . خير الحركة الهادمة البانية . خير المحاولة التي لا تكف , والتطلع الذي لا يقف , والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير .

قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ .

قال الله تعالى للملائكة: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ ﴾ من هذا الخليفة ﴿ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم, وأنا عالم بالظواهر والسرائر, وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة.
إن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين, والشهداء والصالحين, ولتظهر آياته للخلق, ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة, كالجهاد وغيره.
وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان, وليتبين عدوه من وليه, وحزبه من حربه, وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه, واتصف به, فهذه حكم عظيمة, يكفي بعضها في ذلك.
( المصدر تفسير السعدي )

*********

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ – 31
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ – 32
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ – 33


نشهد طرفا من ذلك السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري , وهو يسلمه مقاليد الخلافة .
سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات . سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها - وهي ألفاظ منطوقة - رموزا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة . وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض .
ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى , لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات , والمشقة في التفاهم والتعامل , حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه . .
الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة ! الشأن شأن جبل . فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل ! الشأن شأن فرد من الناس فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بتحضير هذا الفرد من الناس . . . إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة !

وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات .
فأما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية , لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم . ومن ثم لم توهب لهم . فلما علم الله آدم هذا السر , وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الأسماء . لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للأشياء والشخوص . .
وجهروا بعجزهم ولجأوا إلى تسبيح ربهم , والإقرار بحدود علمهم .

قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ .


قال الله تعالى : ﴿ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ﴾ أي: أسماء المسميات التي عرضها الله على الملائكة; فعجزوا عنها،
﴿ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ﴾ تبين للملائكة فضل آدم عليهم; وحكمة الباري وعلمه في استخلاف هذا الخليفة، ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ وهو ما غاب عنا; فلم نشاهده، فإذا كان عالما بالغيب; فالشهادة من باب أولى،
﴿ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ﴾ أي : تظهرون ﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾...

**********
وإلى اللقاء القادم إن شاء الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(أدم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الأعراف

﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ )

مازلنا نعيش مع الذكرى الحية إلى أن يرث الأرض ومن عليها,
فإذا نظرت إلى أي إنسان على وجه الأرض لرآيت هذا الإمتداد للنسيج البشري منذ عهد آبينا أدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

قال تعالى في سورة الحجرات :

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ - 13


يخبر تعالى أنه خلق بني آدم، من أصل واحد، وجنس واحد، وكلهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء ، وفرقهم، وجعلهم شعوبًا وقبائل أي: قبائل صغارًا وكبارًا، وذلك لأجل أن يتعارفوا، فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه، لم يحصل بذلك، التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون، والتوارث، والقيام بحقوق الأقارب.
فأكرمهم عند الله، أتقاهم، وهو أكثرهم طاعة وانكفافًا عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقومًا، ولا أشرفهم نسبًا..
إن الله تعالى عليم خبير، يعلم من يقوم منهم بتقوى الله، ظاهرًا وباطنًا، ممن يقوم بذلك، ظاهرًا لا باطنًا، فيجازي كلا، بما يستحق.

والعدو منذ أبينا آدم إلى يومنا هذا إبليس وأتباعه من الجن والإنس...

قال تعالى في سورة فاطر :

إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ – 6


فكان يجب على البشرية أن تذعن لكلام خالقنا سبحانه وتتوحد وتتعاون في مواجهة هذا العدو وأتباعه..
فإن الدول الكبرى لكي توحد بين أفراد شعبها تفترض لها عدو لكي تستحث الهمم والتوجهات والدعوى الدائمة لليقظة بالعمل والتفوق والإستعداد لمواجهة ذلك العدو المفترض...( والمثال على ذلك الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتى السابق ..فلقد كانت روسيا هي العدو المفترض للولايات المتحدة بما يسمى بالحرب الباردة.. فبعد سقوط الدولة الشيوعية لم يعد لهم عدو .. فأعلنوا أن العدو الجديد هوالإسلام العالمي وصنعوا لذلك جماعات تبث الرعب في أنحاء العالم بسم الإسلام والإسلام منهم براء )

فالإسلام يحرم الإنتحار ويحرم قتل الأبرياء من النساء والشيوخ والأطفال..

والإسلام يدعو للتعاون بين جميع البشر بالبر والتقوى في مواجهة الخطر الحقيقي المتمثل في الفساد والإفساد على الأرض بواسطة أعوان شياطين الإنس والجن..
فالإسلام لا يصنع صراعا وهميا ضد الأبرياء حتى ولو كان ذلك يوحد بين شعب الدولة..

إن إتخاذ العدو يجب أن يكون حقيقيا وليس وهما وظلما وعدوانا .

فالإسلام حدد العدو الحقيقي الذي يريد تدمير البشرية ليس في الدنيا فقط ولكن في الأخرة حيث الجنة والخلود للمؤمنين..

إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ – 6

فلنحشد الهمم والقوى وكل ما نملك لمحاربة ذلك الشيطان وحزبه .. بكثرة ذكر الله تعالى .. والحرص على إقامة الصلاة .. وإيتاء الزكاة ليعم الخير على أبناء الجنس البشري .. والصوم الذي هو مفتاح التقوى والإخلاص لله تعالى ..ثم حج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا حيث يتجمع الناس في ثوب واحد متجهين لقبلة واحدة يدعون الخالق الواحد الأحد..
وينعكس كل ذلك النشاط ليكون سلوكا في التعامل بين الناس بالعدل والبر والإحسان في كل مانعمل لصالح حضارة الجنس البشري على الأرض.. وحاميا ومدافعا عن المؤمن في مواجهة الشيطان وحزبه..

********

فإن صورة إبينا أدم مازالت أمامنا نراها ونحن نسمع كلام الله تعالى في القرآن العظيم إلى يوم القيامة إن شاء الله تعالى.


وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ – 11 قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ – 12 قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ - 13 قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ – 14 قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ - 15


*******
دمتم في رعاية الله وأمنه
وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 

بسم الله الرحمن الرحيم
أنبياء الله في القرآن العظيم
(أدم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الأعراف

لقد سأل إبليس ربه أن ينظره إلى يوم البعث . وهو يعلم أن هذا الذي يطلبه لا يقع إلاّ بإرادة الله وقدره . ولقد أجابه الله إلى طلبه في الإنظار , ولكن إلى ( يوم الوقت المعلوم )
قال تعالى في سورة ص :
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ - 79 قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ – 80 إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ - 81

قال الله له : فإنك ممن أخَّرْتُ هلاكهم إلى اليوم الذي يموت فيه كل الخلق بعد النفخة الأولى , لا إلى يوم البعث,
وإنما أُجيبَ إلى ذلك استدراجًا له وإمهالا وفتنة للثقلين.

وهنا يعلن إبليس في تبجح خبيث - وقد حصل على قضاء بالبقاء الطويل - أنه سيرد على تقدير الله له الغواية ...

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ - 16 ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ – 17 قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ – 18

إنه سيقعد لآدم وذريته على صراط الله المستقيم , يصد عنه كل من يهم منهم باجتيازه - والطريق إلى الله لا يمكن أن يكون حساً , فالله سبحانه جل عن التحيز , فهو إذن طريق الإيمان والطاعات المؤدي إلى رضى الله - وإنه سيأتي البشر من كل جهة : ( من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ). . للحيلولة بينهم وبين الإيمان والطاعة . . وهو مشهد حي شاخص متحرك لإطباق إبليس على البشر في محاولته الدائبة لإغوائهم , فلا يعرفون الله ولا يشكرونه , اللهم إلا القليل الذي يفلت ويستجيب:

( ولا تجد أكثرهم شاكرين ). .

لبيان السبب في قلة الشكر ; وكشف الدافع الحقيقي الخفي , من حيلولة إبليس دونه , وقعوده على الطريق إليه ! ليستيقظ البشر للعدو الكامن الذي يدفعهم عن الهدى ; وليأخذوا حذرهم حين يعرفون من أين هذه الآفة التي لا تجعل أكثرهم شاكرين ...

وفي الواقع أن الشكر ليس كلمة تقال وحسب ولكن الشكر عمل ..

قال تعالى في سورة سبأ :

اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ – 13


الشكر: تصور النعمة وإظهارها ، ويضاده الكفر، وهو: نسيان النعمة، وسترها،

ودابة شكور: مظهرة بسمنها إسداء صاحبها إليها ،
وقيل: أصله من عين شكرى، أي : ممتلئة وتفيض، فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه والإفاضة من تلك النعم على من حولك من العالمين.

والشكر ثلاثة أضرب:

أولا - شكر القلب، وهو تصور النعمة.
ثانيا - شكر اللسان ، وهو الثناء على المنعم .
ثالثا - شكر سائر الجوارح ، وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقه . وقوله تعالى : اعملوا آل داود شكرا
وذكر اعملوا ولم يقل اشكروا؛ لينبه على التزام الأنواع الثلاثة من الشكر بالقلب واللسان وسائر الجوارح.
وإذا وصف الله بالشكر في قوله تعالى ) : والله شكور حليم - التغابن/17
فإنما يعني به إنعامه على عباده، وجزاؤه بما أقاموا من العبادة.

هل أدركنا قيمة الشكر ؟ وكيف ركز إبليس على صد الناس عنه ؟
فتجد الشح بين البشر , وتجد الإحتكار والبخل ..سواء في المال أو المعلومات أو المساعدات في كافة مجالات الحياة ...

********
دمتم في رعاية الله وأمنه
وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(أدم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الأعراف


وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ – 19
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ – 20

يتجه الخطاب إلى آدم وزوجه , ليعهد إليهما ربهما بأمره في حياتهما ; ولتبدأ تربيته لهما وإعدادهما لدورهما الأساسي , الذي خلق الله له هذا الكائن . وهو دور الخلافة في الأرض - كما صرح بذلك في سورة البقرة : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ). .

( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ). .

أمر اللّه تعالى آدم وزوجته حواء ، التي أنعم اللّه بها عليه ليسكن إليها، أن يأكلا من الجنة حيث شاءا ويتمتعا فيها بما أرادا، إلا أنه عين لهما شجرة، ونهاهما عن أكلها، واللّه أعلم ما هي، وليس في تعيينها فائدة لنا. وحرم عليهما أكلها، بدليل قوله : ﴿ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ

إن هذا الكائن المتفرد ( الإنسان ) ; الذي كرمه الله كل هذا التكريم ; والذي أعلن ميلاده في الملأ الأعلى في ذلك الحفل المهيب ; والذي أسجد له الملائكة فسجدوا ; والذي أخرج بسببه إبليس من الجنة وطرده من الملأ الأعلى . . إن هذا الكائن مزدوج الطبيعة ; مستعد للاتجاهين على السواء . وفيه نقط ضعف معينة يقاد منها - ما لم يلتزم بأمر الله فيها - ومن هذه النقط تمكن إصابته , ويمكن الدخول إليه . . إن له شهوات معينة . . ومن شهواته يمكن أن يقاد !

وراح إبليس يداعب هذه الشهوات:

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ – 20

إن الإغواء على الشر يقع في صورة من الصور ; وإيحاء بارتكاب المحظور يتم في هيئة من الهيئات . وأن هذا الإيحاء وذلك الإغواء يعتمدان على نقط الضعف الفطرية في الإنسان .

وأن هذا الضعف يمكن إتقاؤه بالإيمان والذكر ; حتى ما يكون للشيطان سلطان على المؤمن الذاكر ; وما يكون لكيده الضعيف حينئذ من تأثير . .

فلم يزالا ممتثلين لأمر اللّه، حتى تغلغل إليهما عدوهما إبليس بمكره، فوسوس لهما وسوسة خدعهما بها، وموه عليهما
فدخل عليهما من باب الناصح المحب لهما الخير والملك والخلود..
ونسي أدم أنه عدو ...ولا يصدر النصح من العدو أبدا..

وقال: ﴿ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ ﴾ أي: من جنس الملائكة ﴿ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾ كما قال في الآية الأخرى : ﴿ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى -120 طه

وهكذا وسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما . . فهذا كان هدفه . . لقد كانت لهما سوآت , ولكنها كانت مواراة عنهما لا يريانها - وسنعلم من السياق أنها سوآت حسية جسدية تحتاج إلى تغطية مادية , فكأنها عوراتهما - ولكنه لم يكشف لهما هدفه بطبيعة الحال..

إنما جاءهما من ناحية رغائبهما العميقة :

بذلك داعب رغائب "الإنسان" الكامنة . . إنه يحب أن يكون خالداً لا يموت أو معمرا أجلا طويلاً كالخلود.... ويحب أن يكون له ملك غير محدد بالعمر القصير المحدد . .

فكيف أقنعهما الشيطان بمخالفة أمر الله تعالى ؟؟
هذا ما نراه لاحقا إن شاء الله تبارك تعالى.


******
دمتم في رعاية الله وأمنه
وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى​
 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(أدم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الأعراف

كيف أقنعهما الشيطان بمخالفة أمر الله تعالى ؟؟

هذا ما نراه اليوم إن شاء الله تبارك تعالى.

وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ – 21 فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ – 22
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ – 23


ونسي آدم وزوجه - تحت تأثير الشهوة الدافعة والقسم المخدر - أنه عدوهما الذي لا يمكن أن يدلهما على خير .. وأن الله أمرهما أمراً عليهما طاعته سواء عرفا علته أم لم يعرفاها ! وأنه لا يكون شيء إلا بقدر من الله , فإذا كان لم يقدر لهما الخلود والملك الذي لا يبلى فلن ينالاه ..

نسيا هذا كله , واندفعا يستجيبان للإغراء..
تحت تأثير القسم والخديعة بالنصيحة ونسيا أن ذلك الشيطان عدو لئيم ..استغل نقاء الفطرة الطاهرة التي لا تتصور أن يقسم مخلوق بالله تعالى وفي نفس الوقت هو كاذب أثيم..
قال تعالى في سورة ن :
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ...

أي: كثير الحلف، فإنه لا يكون كذلك إلا وهو كذاب، ولا يكون كذابًا إلا وهو ﴿ مُهِينٌ ﴾ أي : خسيس النفس ، ناقص الهمة ، ليس له همة في الخير، بل إرادته في شهوات نفسه الخسيسة.

*******

فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ..


لقد تمت الخدعة وآتت ثمرتها المرة . لقد أنزلهما الشيطان بهذا الغرور من طاعة الله إلى معصيته , فأنزلهما إلى مرتبة دنيا : ( فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ )

ولقد شعرا الآن أن لهما سوآت , تكشفت لهما بعد أن كانت مواراة عنهما .

( فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ )

فراحا يجمعان من ورق الجنة ويشبكانه بعضه في بعض ( يخصفان ) ويضعان هذا الورق المشبك على سوآتهما - مما يوحي بأنها العورات الجسدية التي يخجل الإنسان بفطرته من كشفها , ولا يتعرى ويتكشف إلا بفساد في هذه الفطرة التي تصنعها شياطين الإنس والجن في كل عصر منذ النشأة الأولى للإنسان ...

وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ..

وسمعا هذا العتاب والتأنيب من ربهما على المعصية وعلى إغفال النصيحة .
وأمام النداء العلوي يتكشف الجانب الآخر في طبيعة هذا الكائن المتفرد . .

إنه ينسى ويخطئ . إن فيه ضعفاً يدخل منه الشيطان . إنه لا يلتزم دائماً ولا يستقيم دائماً . .
ولكنه يدرك خطأه ; ويعرف زلته ; ويندم ويطلب العون من ربه والمغفرة . . إنه يثوب ويتوب , ولا يلح كالشيطان في المعصية , ولا يكون طلبه من ربه هو العون على المعصية...كما فعل إبليس..

*******

قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ – 24
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ – 25

وهبطوا جميعا . . هبطوا إلى هذه الأرض
هبطوا ليصارع بعضهم بعضاً , وليعادي بعضهم بعضاً ; ولتدور المعركة بين طبيعتين وخليقتين : إحداهما ممحضة للشر , والأخرى مزدوجة الاستعداد للخير والشر ; وليتم الابتلاء ويجري قدر الله تعالى بما شاء .

********

وتتبين لنا من الآيات السابقة عدة حقائق..

الحقيقة الأولى
الإنسان وعلاقته بالكون

نحن - بحمد الله وبهداه - ننظر إلى هذا الكون الهائل فلا نشعر بالذعر والهلع الذي يقول عنه بعض فلاسفة الغرب..
إنما نشعر بالرهبة والإجلال لبارىء هذا الكون ; ونشعر بالعظمة والجمال المتجليين في خلقه ; ونشعر بالطمأنينة والأنس , لهذا الكون الصديق , الذي أنشأه الله وأنشأنا فيه عن توافق وتنسيق . . وتروعنا ضخامته كما تروعنا دقته , ولكننا لانفزع ولا نجزع , ولا نشعر بالضياع , ولا نتوقع الهلاك . . فإن ربنا وربه الله . .
ونتعامل معه في يسر ومودة وأنس وثقة ; ونتوقع أن نجد فيه أرزاقنا وأقواتنا ومعايشنا ومتاعنا . . ونرجو أن نكون من الشاكرين..

قال تعالى في سورة الأعراف

( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش . قليلا ما تشكرون -10 ). .

********
الحقيقة الثانية
تكريم الإنسان في هذا الكون

لقد أُعلن ميلاد هذا الكائن المتفرد الميلاد في حفل كوني كان شهوده الملأ الأعلى .
وأعلن ميلاده الجليل العظيم في هذا الملأ وفي الوجود كله . .
وفي الآية الأخرى في سورة البقرة أنه أعلن كذلك خلافته في الأرض منذ خلقه ; وكان الابتلاء الأول له في الجنة تمهيداً وإعداداً لهذه الخلافة . كما تعلن الآيات القرآنية في سور متعددة , أن الله جعل هذا الكون - لا الأرض وحدها - عوناً له في هذه الخلافة . وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه . .

وكذلك تظهر ضخامة الدور الذي أعطاه بارئه له . فإن عمارة كوكب وسيادته بخلافة الله فيه - أياً كان حجم هذا الكوكب - إنها لأمر عظيم..

والذي يتضح من القصة ومن مجموعة النصوص القرآنية أنه كذلك خلق متفرد لا في الأرض وحدها , ولكن في الكون كله .

فالعوالم الأخرى من ملائكة وجن وما لايعلمه إلا الله من الخلق ; لها وظائف أخرى , كما أنها خلقت من طبائع أخرى تناسب هذه الوظائف .

وتفرد الإنسان وحده بخصائصه هذه ووظائفه .

يدل على ذلك قول الله تعالى :
( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها , وحملها الإنسان , إنه كان ظلوماً جهولا – 72 الأحزاب ). .


**********

الحقيقة الثاثة
ضعف الإنسان في بعض جوانبه

أن هذا الكائن - على كل تفرده هذا - ضعيف في بعض جوانب تكوينه , حتى ليمكن قيادته إلى الشر والارتكاس إلى الدرك الأسفل , من خطام شهواته . .

وفي أولها ضعفه تجاه حبِّ البقاء , وضعفه تجاه حب الملك . .
وهو يكون في أشد حالات ضعفه وأدناها حين يبعد عن هدى الله , ويستسلم لهواه , أو يستسلم لعدوه العنيد الذي أخذ على عاتقه إغواءه , في جهد ناصب , لايكل ولا يدع وسيلة من الوسائل ..

وقد اقتضت رحمة الله به - من ثم - ألا يتركه لفطرته وحدها , ولا لعقله وحده , وأن يرسل إليه الرسل للإنذار والتذكير - كما سيجيء في آية تالية ...
وهذا هو حبل النجاة بالنسبة له . . . النجاة من شهواته بالتخلص من هواه والفرار إلى الله . والنجاة من عدوه الذي يخنس ويتوارى عند ذكره لربه , وتذكر رحمته وغضبه , وثوابه وعقابه . .

وهذه كلها مقويات لإرادته , حتى يستعلي على ضعفه وشهواته . . وقد كان أول تدريب له في الجنة هو فرض "المحظور" عليه ; لتقوية هذه الإرادة وإبرازها في مواجهة الإغراء والضعف .

وإذا كان قد فشل في التجربة الأولى , فقد كانت هذه التجربة رصيداً له فيما سيأتي ...

ومن رحمة الله به كذلك أن جعل باب التوبة مفتوحاً له في كل لحظة .

فإذا نسي ثم تذكر ; وإذا عثر ثم نهض ; وإذا غوى ثم تاب . . وجد الباب مفتوحاً له , وقبل الله توبته , وأقال عثرته .

فإذا استقام على طريقه بدل الله سيئاته حسنات , وضاعف له ما شاء . ولم يجعل خطيئته الأولى لعنة مكتوبة عليه وعلى ذريته .
فليست هنالك خطيئة أبدية . وليست هنالك خطيئة موروثة - ولا تزر وازرة وزر أخرى .

وهذه الحقيقة في التصور الإسلامي تنقذ كاهل البشرية من أسطورة الخطيئة الموروثة التي تقوم عليها التصورات الكنسية في المسيحية ..

إن الأمر في التصور الإسلامي أيسر من هذا بكثير . .

لقد نسي آدم وأخطأ . . ولقد تاب واستغفر . ولقد قبل الله توبته وغفر له . . وانتهى أمر تلك الخطيئة الأولى . ولم يبق منها إلا رصيد التجربة الذي يعين الجنس البشري في صراعه الطويل المدى . .

أية بساطة ! وأي وضوح ! وأي يسر في هذه العقيدة ! ؟؟؟

عقيدة الإسلام الواضحة


********

دمتم في رعاية الله وأمنه
وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(أدم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الأعراف


قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ - 23
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ – 24


إنها خصيصة " الإنسان " التي تصله بربه , وتفتح له الأبواب إليه . . الاعتراف , والندم , والاستغفار , والشعور بالضعف , والاستعانة به , وطلب رحمته . مع اليقين بأنه لا حول له ولا قوة إلا بعون الله ورحمته . . وإلا كان من الخاسرين . .

وهنا تكون التجربة الأولى قد تمت . وتكشف خصائص الإنسان الكبرى . وعرفها هو وذاقها . واستعد - بهذا التنبيه لخصائصه الكامنة - لمزاولة اختصاصه في الخلافة ; وللدخول في المعركة التي لا تهدأ أبداً مع عدوه ..إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..

*********

قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ – 25


يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ – 26


أي: لما أهبط اللّه آدم وزوجته وذريتهما إلى الأرض، أخبرهما بحال إقامتهم فيها، وأنه جعل لهم فيها حياة يتلوها الموت،
مشحونة بالامتحان والابتلاء، وأنهم لا يزالون فيها، يرسل إليهم رسله، وينزل عليهم كتبه، حتى يأتيهم الموت، فيدفنون فيها،
ثم إذا استكملوا, بعثهم اللّه وأخرجهم منها إلى الدار التي هي دار الخلد والإقامة الحقيقية.

*******

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا..


ثم امتن عليهم بما يسر لهم من اللباس الضروري، واللباس الذي المقصود منه الستر في الأساس والجمال في المظهر..
فإن الذي ترتب على المعصية كشف العورات والمنظر السئ للإنسان بدون كساء..
ولكن بعد التوبة من أدم وزوجه إمتن الله تعالى بقبول تلك التوبة وأنزل عليهم لباسا يواري سوآتهم وذريتهم إلى يوم القيامة..

وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ – 26


و لباس التقوى يستر المعاصي ويستر سوء الأخلاق ولباس التقوى يستمر مع العبد، ولا يبلى ولا يبيد، وهو جمال القلب والروح.

********

وهكذا تتركز المعركة الكبرى الطويلة الضارية في المعركة مع الشيطان ذاته ومع أوليائه .
بين العفة والستر والأخلاق الفاضلة وبين الفساد والعري وسوء الأخلاق..

ويشعر المسلم وهو يخوض المعركة مع هواه وشهواته ; وهو يخوضها كذلك مع أولياء الشيطان من الطواغيت في الأرض وأتباعهم وأذنابهم ; وهو يخوضها مع الشر والفساد والانحلال الذي ينشئونه في الأرض من حولهم . .
ويستمر هذا الصراع لأن عدوه فيها مصرٌّ ماض في طريقه . . وأن جهاد الفساد والإنحلال ماض إلى يوم القيامة . في كل صوره ومجالاته .

******

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ – 27

يقول تعالى، محذرا لبني آدم أن يفعل بهم الشيطان كما فعل بأبيهم : ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ﴾ بأن يزين لكم العصيان، ويدعوكم إليه، ويرغبكم فيه، فتنقادون له ﴿ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾ وأنزلهما من المحل العالي إلى أنزل منه ،
فأنتم يريد أن يفعل بكم كذلك، ولا يألو جهده عنكم، حتى يفتنكم، إن استطاع، فعليكم أن تجعلوا الحذر منه في بالكم، وأن لا تغفُلوا عن المواضع التي يدخل منها إليكم....

﴿ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا
إن العري فطرة حيوانية . ولا يميل الإنسان إليه إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان .
وإن رؤية العري جمالاً هو انتكاس في الذوق البشري قطعاً .
والمتخلفون في أواسط إفريقية عراة . والإسلام حين يدخل بحضارته إلى هذه المناطق يكون أول مظاهر الحضارة اكتساء العراة...

والذين يحاولون تعرية الجسم من اللباس , وتعرية النفس من التقوى , ومن الحياء من الله ومن الناس , والذين يطلقون ألسنتهم وأقلامهم وأجهزة التوجيه والإعلام كلها لتأصيل هذه المحاولة - في شتى الصور والأساليب الشيطانية الخبيثة - هم الذين يريدون سلب " الإنسان " خصائص فطرته , وخصائص " إنسانيته " التي بها صار إنساناً .
وهم الذين يريدون إخضاع الإنسان لعدوه الشيطان وما يريده به من نزع لباسه وكشف سوآته..

فـ ﴿ إِنَّهُ ﴾ أي الشيطان يراقبكم على الدوام، و ﴿ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ ﴾ من شياطين الجن ﴿ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
فعدم الإيمان هو الموجب لعقد الولاية بين الإنسان والشيطان.

هل أدركنا أن التجربة العظيمة التي مر بها أبينا أدم وزوجه تعد درسا لنا وإلى بني أدم إلى يوم القيامة ؟؟؟

********
دمتم في رعاية الله وأمنه
وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى

 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(أدم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الأعراف

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ – 28

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ – 29

فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ – 30


لقد أمر الله بالعدل والاعتدال في الأمور كلها لا بالفحش والتجاوز . وأمر بالاستقامة على منهج الله في العبادة والشعائر , والاستمداد مما جاء في كتابه القرآن العظيم وسنة رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ولم يجعل المسألة فوضى , يقول فيها كل إنسان بهواه , ثم يزعم أنه من الله .
وأمر بأن تكون الدينونة خالصة له , والعبودية كاملة له ; فلا يدين أحد لأحد لذاته ولا يخضع أحد لأمر أحد لذاته :

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ..


هذا ما أمر الله به , وهو يضاد للشرائع التي وضعها العباد لعباد مثلهم , مع دعواهم أن الله أمرهم بها . . ويضاد العري والتكشف.
وقد امتن الله على بني آدم بأنه أنزل عليهم لباساً يواري سوآتهم وريشاً يتجملون به كذلك . .

********

كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ...


وعند هذا المقطع من البيان يجيء التذكير والإنذار ; ويلوّح لهم بالمعاد إلى الله بعد انتهاء ما هم فيه من أجل مرسوم للابتلاء ; وبمشهدهم في العودة وهم فريقان :
الفريق الذي اتبع أمر الله , والفريق الذي اتبع أمر الشيطان..

فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ .


إنها لقطة واحدة عجيبة تجمع نقطة البدء في الرحلة الكبرى ونقطة النهاية .
نقطة الانطلاق في البدء ونقطة المآب في الانتهاء:

كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ..

وقد بدأوا الرحلة فريقين : آدم وزوجه . والشيطان وقبيله . .

وكذلك سيعودون . . الطائعون سيعودون فريقاً مع أبيهم آدم وأمهم حواء المسلمين المؤمنين بالله المتبعين لأمر الله . .

والعصاة سيعودون مع إبليس وقبيله , يملأ الله منهم جهنم , بولائهم لإبليس وولايته لهم . وهم يحسبون أنهم مهتدون .

لقد هدى الله من جعل ولايته لله . وأضل من جعل ولايته للشيطان . .

وهاهم أولاء عائدين فريقين :

فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ .

﴿ فَرِيقًا ﴾ منكم ﴿ هَدَى ﴾ اللّه، أي : وفقهم للهداية ، ويسر لهم أسبابها ، وصرف عنهم موانعها .
﴿ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾ أي : وجبت عليهم الضلالة بما تسببوا لأنفسهم وعملوا بأسباب الغواية.
فـ ﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وقال تعالى في الأية 119 من سورة النساء : ﴿ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً
فحين انسلخوا من ولاية الرحمن، واستحبوا ولاية الشيطان، حصل لهم النصيب الوافر من الخذلان ، ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران.
﴿ وَهم يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ لأنهم انقلبت عليهم الحقائق ، فظنوا الباطل حقا والحق باطلا ..

فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فلا يضل إلا عليها.. حيث لا عذر بعد هذا البيان القرأني العظيم..

********

دمتم في رعاية الله وأمنه
وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(أدم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الأعراف

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ - 31

والخطاب لبني أدم لتذكيرهم بأبيهم , والنعيم في ظل الطاعة لشريعة الله تعالى, والشقاء المترتب على المعصية...

جاء في تفسير القرطبي المسمى ( أحكام القرآن ) : " قيل إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسماً في أيام حجهم , ويكتفون باليسير من الطعام , ويطوفون عراة . فقيل لهم : ( خذوا زينتكم عند كل مسجد , وكلوا واشربوا , ولا تسرفوا ) أي لا تسرفوا في تحريم ما لم يحرم عليكم " ..

والإسراف يكون بتجاوز الحد , كما قد يكون بتحريم الحلال . كلاهما تجاوز للحد . هذا باعتبار , وذاك باعتبار .

ولا يكتفي السياق بالدعوة إلى اتخاذ الزينة عند كل مسجد , وإلى الاستمتاع بالطيب من الطعام والشراب . بل يستنكر تحريم هذه الزينة التي أخرجها الله لعباده , وتحريم الطيبات من الرزق .
فمن المستنكر أن يحرم أحد - برأيه - ما أخرجه الله للناس من الزينة أو من الطيبات . فتحريم شيء أو تحليله لا يكون إلا بشرع من الله تعالى..

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ,
قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ – 32
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ – 33


يقول تعالى منكرا على من تعنت، وحرم ما أحل اللّه من الطيبات ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾ من أنواع اللباس على اختلاف أصنافه، والطيبات من الرزق، من مأكل ومشرب بجميع أنواعه ، أي : مَن هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم اللّه بها على العباد ، ومن ذا الذي يضيق عليهم ما وسَّعه اللّه ؟".

وهذا التوسيع من اللّه لعباده بالطيبات، جعله لهم ليستعينوا به على عبادته، فلم يبحه إلا لعباده المؤمنين،
ولهذا قال: ﴿ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ أي : لا تبعة عليهم فيها.
ومفهوم الآية أن من لم يؤمن باللّه، بل استعان بها على معاصيه، فإنها غير خالصة له ولا مباحة، بل يعاقب عليها وعلى التنعم بها، ويُسأل عن النعيم يوم القيامة.

﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ ﴾ أي : نوضحها ونبينها ﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ لأنهم الذين ينتفعون بما فصله اللّه من الآيات، ويعلمون أنها من عند اللّه، فيعقلونها ويفهمونها.
ثم ذكر المحرمات التي حرمها اللّه في كل شريعة من الشرائع فقال : ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ﴾ أي : الذنوب الكبار التي تستفحش وتستقبح لشناعتها وقبحها، وذلك كالزنا واللواط ونحوهما.

وقوله : ﴿ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ أي : الفواحش التي تتعلق بحركات البدن، والتي تتعلق بحركات القلوب، كالكبر والعجب والرياء والنفاق، ونحو ذلك، ﴿ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ أي : الذنوب التي تؤثم وتوجب العقوبة في حقوق اللّه، والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فدخل في هذا الذنوبُ المتعلقةُ بحق اللّه، والمتعلقةُ بحق العباد.

﴿ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ﴾ أي : حجة، بل أنزل الحجة والبرهان على التوحيد. والشركُ هو أن يشرك مع اللّه في عبادته أحد من الخلق، وربما دخل في هذا الشرك الأصغر كالرياء والحلف بغير اللّه، ونحو ذلك.
﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه.

فكل هذه قد حرمها اللّه، ونهى العباد عن تعاطيها، لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة، ولما فيها من الظلم والتجري على اللّه، والاستطالة على عباد اللّه، وتغيير دين اللّه وشرعه. ( تفسير السعدي )

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ,


وهكذا ندرك أن الاختبار الذي تعرض له أبينا أدم من النعيم في الجنة والتمتع بالإكل من كل ثمارها وتحريم شجرة واحدة , نموذج حي لحياة البشرية على الأرض إلى قيام الساعة..وأن السعادة في الطاعة والشقاء في المعصية..

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ - 31


********

دمتم في رعاية الله وأمنه
وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم


أنبياء الله في القرآن العظيم
( أدم عليه السلام )
بعض آيات من سورة الإسراء


وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا -61
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا - 62
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا - 63
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا - 64
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا – 65


ينبه تبارك وتعالى عباده على شدة عداوة الشيطان وحرصه على إضلالهم وأنه لما خلق الله آدم استكبر عن السجود له و ﴿ قَالَ ﴾ متكبرا: ﴿ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ﴾ أي : من طين وبزعمه أنه خير منه لأنه خلق من نار. وقد تقدم فساد هذا القياس الباطل من عدة أوجه.
إنه حسد إبليس لآدم يجعله يذكر الطين ويغفل نفخة الله في هذا الطين !
فلما تبين لإبليس تفضيل الله لآدم ﴿ قَالَ ﴾ مخاطبا لله: ﴿ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ﴾ أي : لأستأصلنهم بالإضلال ولأغوينهم ﴿ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ عرف الخبيث أنه لا بد أن يكون منهم من يعاديه ويعصيه. ( تفسير السعدي )

( يقول الشهيد سيد قطب في ظلال القرآن )
ويغفل إبليس عن استعداد الإنسان للخير والهداية استعداده للشر والغواية . عن حالته التي يكون فيها متصلا بالله فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية , ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة التي لا تعرف إلا طريقا واحدا تسلكه بلا إرادة . فالإرادة هي سر هذا المخلوق العجيب .
فقال الله له: ﴿ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ
اذهب فحاول محاولتك . اذهب مأذونا في إغوائهم . فهم مزودون بالعقل والإرادة , يملكون أن يتبعوك أو يعرضوا عنك ﴿ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ ﴾ مغلبا جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية , معرضا عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان , غافلا عن آيات الله في الكون , وآيات الله المصاحبة للرسالات.. واختارك على ربه ووليه الحق، ﴿ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ﴾ أي : مدخرا لكم موفرا جزاء أعمالكم.

ثم أمره الله أن يفعل كل ما يقدر عليه من إضلالهم فقال : ﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ﴾ ويدخل في هذا كل داع إلى المعصية.
﴿ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ﴾ ويدخل فيه كل راكب وماش في معصية الله فهو من خيل الشيطان ورجله.

وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة , والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول . فهي المعركة الصاخبة , تستخدم فيها جميع الوسائل..
ولعل أشد الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة ; وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة . فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة , ويزين لها الخطيئة وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة ! ( الظلال )


يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ – 6 الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ - 7 الانفطار


يا أيها الإنسان ما الذي جعلك تغتَرُّ بربك الجواد كثير الخير الحقيق بالشكر والطاعة , أليس هو الذي خلقك فسوَّى خلقك فعَدَلك, وركَّبك لأداء وظائفك, في أيِّ صورة شاءها خلقك ؟

******

﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ ﴾ وذلك شامل لكل معصية تعلقت بأموالهم وأولادهم من منع الزكاة والكفارات والحقوق الواجبة، وعدم تأديب الأولاد وتربيتهم على الخير وترك الشر وأخذ الأموال بغير حقها أو وضعها بغير حقها أو استعمال المكاسب الردية.
بل ذكر كثير من المفسرين أنه يدخل في مشاركة الشيطان في الأموال والأولاد ترك التسمية عند الطعام والشراب والجماع، وأنه إذا لم يسم الله في ذلك شارك فيه الشيطان كما ورد فيه الحديث.
﴿ وَعِدْهُمْ ﴾ الوعود المزخرفة التي لا حقيقة لها ولهذا قال: ﴿ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ أي : باطلا مضمحلا كأن يزين لهم المعاصي والعقائد الفاسدة ويعدهم عليها الأجر لأنهم يظنون أنهم على الحق، وقال تعالى في سورة البقرة : ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ﴾

ولما أخبر عما يريد الشيطان أن يفعل بالعباد وذكر ما يعتصم به من فتنته وهو عبودية الله والقيام بالإيمان والتوكل فقال: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ أي : تسلط وإغواء بل الله يدفع عنهم - بقيامهم بعبوديته - كل شر ويحفظهم من الشيطان الرجيم ويقوم بكفايتهم. ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ لمن توكل عليه وأدى ما أمر به.

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا..


********
دمتم في رعاية الله وأمنه
وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(أدم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الكهف

تعرض مشاهد اليوم ضمن معرض مشاهد القيامة والصور الحية التي تعرض في الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا – 50


تعرض الآيات حقيقة إبليس لعنه الله , فكان من الجن وليس من الملائكة, ثم إنه فسق أي خرج عن طاعة الله تعالى.
فهل يعقل أن يتخذه الإنسان ولي من دون الله ؟؟؟ وقد حسد أبينا أدم وامتنع عن السجود , إذ كان الأمر بالسجود للملائكة ويشمله أيضا..

ومما يثيرالعجب أن من أبناء آدم يتخذون الشياطين أولياء , وقد علموا أنهم لهم أعداء , وبذلك ينتهون إلى العذاب في يوم الحساب مع المشركين.

هؤلاء الذين وقفوا ذلك الموقف كانوا يعرفون أن الشيطان عدو لهم , ولكنهم تولوه فقادهم إلى ذلك الموقف العصيب .
فما أعجب أن يتولوا إبليس وذريته وهم لهم عدو منذ ما كان بين آدم وإبليس..1

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا...


يخبر تعالى، عن عداوة إبليس لآدم وذريته، وأن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم، إكراما وتعظيما، وامتثالا لأمر الله، فامتثلوا ذلك ..
﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ وقال : ﴿ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا – 61 الإسراء ﴾ وقال: ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ -76 ص ﴾ فتبين بهذا عداوته لله ولأبيكم ولكم.
فكيف تتخذونه وذريته أي : الشياطين ﴿ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ أي: بئس ما اختاروا لأنفسهم من ولاية الشيطان ، الذي لا يأمرهم إلا بالفحشاء والمنكر عن ولاية الرحمن ، الذي كل السعادة والفلاح والسرور في ولايته.

وفي هذه الآية، الحث على اتخاذ الشيطان عدوا ، وذكر السبب الموجب لذلك .

وأي : ظلم أعظم من اتخذ عدوه الحقيقي وليا ، وترك الولي الحميد ؟ ".

قال تعالى : ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ البقرة

وقال تعالى : ﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ30 الأعراف

********

مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا – 51

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا – 52


واتخاذ إبليس وذريته أولياء يتمثل في تلبية دواعي المعصية والتولي عن دواعي الطاعة .
ولماذا يتولون أعداءهم هؤلاء ؟؟؟ وليس لديهم علم ولا لهم قوة .
فالله لم يشهدهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم فيطلعهم على غيبه . والله لا يتخذهم عضدا فتكون لهم قوة...

بل المنفرد بالخلق والتدبير، والحكمة والتقدير، هو الله، خالق الأشياء كلها، المتصرف فيها بحكمته، فكيف يجعل له شركاء من الشياطين، يوالون ويطاعون، كما يطاع الله، وهم لم يخلقوا ولم يشهدوا خلقا، ولم يعاونوا الله تعالى؟! ولهذا قال: ﴿ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ﴾ أي: معاونين، مظاهرين لله على شأن من الشئون، أي: ما ينبغي ولا يليق بالله، أن يجعل لهم قسطا من التدبير، لأنهم ساعون في إضلال الخلق والعداوة لربهم، فاللائق أن يقصيهم ولا يدنيهم.

ولما ذكر حال من أشرك به في الدنيا، وأبطل هذا الشرك غاية الإبطال، وحكم بجهل صاحبه وسفهه، أخبر عن حالهم مع شركائهم يوم القيامة، وأن الله يقول لهم : ﴿ نَادُوا شُرَكَائِيَ ﴾ بزعمكم أي: على موجب زعمكم الفاسد، وإلا فبالحقيقة ليس لله شريك في الأرض، ولا في السماء، أي: نادوهم، لينفعوكم، ويخلصوكم من الشدائد،
﴿ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ﴾ لأن الحكم والملك يومئذ لله، لا أحد يملك مثقال ذرة من النفع لنفسه ولا لغيره.

﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ ﴾ أي : بين المشركين وشركائهم ﴿ مَوْبِقًا ﴾ أي، مهلكا، يفرق بينهم وبينهم، ويبعد بعضهم من بعض، ويتبين حينئذ عداوة الشركاء لشركائهم، وكفرهم بهم، وتبريهم منهم، كما قال تعالى ﴿ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾.....2

********

وهكذا نرى الصورة واضحة تماما لا غموض فيها , صورة إبليس وتكبره على أمر الله تعالى , ثم حسده لأدم وتوعده بإغواء بني أدم وصدهم عن طريق الحق...وتزين طريق الشر بكل السبل..
ومع هذا الوضوح التام في الصورة تجد من البشر من يخذ الشياطين أولياء من دون الله..

نعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

1-في ظلال القرآن
2- تفسير السعدي

*********

دمتم في رعاية الله وأمنه
وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(أدم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة طه


وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا - 113

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا -114

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا - 115


تعرض قصة نبي الله آدم في صورة طه وربطها بالواقع , واقع رسالة الإسلام الذي يأخذ بيد البشرية إلى النجاة إلى جنات الخلد والنعيم الأبدي يوم الدين..

قال تعالى في سورة يونس :

وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - 25
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ – 26

فالقرآن العظيم هو كلام الله تعالى لأهل الأرض , ففيه علم الأولين والأخرين , وهو حبل النجاة من ظلمات الجهل والضلال..

حيث ورد في ذلك الكتاب عقيدة التوحيد , وأسماء و صفات الجلال لله تعالى...فمن أين لبشر معرفتها ؟
وشريعة متكاملة صالحة لكل زمان ومكان , ودارسي القانون يعلمون أن الشرائع تتكون عبر مئات السنين , ولا تكتمل .
فمن جاء بشريعة الإسلام المتكاملة بهذا المستوى الراقي الذي يشيع العدل والأمان في المجتمعات الإنسانية.

وجاء القرآن بدستور للأخلاق رفيعة عالية شهد لها العالم, فدخلوا في دين الله أفواجا بسبب تلك الأخلاق.

كما جاء بأخبار الأمم السابقة التي لايعرفها إلا متخصصون في علوم التاريخ ,

وأخبار الدار الأخرة , فمن أين لبشر معرفتها ؟

وبيان بدأ الخلق . حيث لا يستطيع عقل بشري أن يخوض في ذلك الأمر.

وورد في القرآن العظيم من العلوم التي تم إكتشافها حديثا , ومازال عطاء القرآن متجدد في هذا المجال .

والقرآن معجز في بيانه ونظمه وترتيب آياته .

وقد أعجز العرب والعجم أن يأتوا بمثله .

قال تعالى :

قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا – 88 الإسراء

وقال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ -107 الأنبياء


******

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا - 113


أي: وكذلك أنزلنا هذا الكتاب، باللسان الفاضل العربي، الذي تفهمونه وتفقهونه، ولا يخفى عليكم لفظه، ولا معناه.
﴿ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ ﴾ أي : نوعناها أنواعا كثيرة، تارة بذكر أسمائه الدالة على العدل والانتقام ،
وتارة بذكر المثلات التي أحلها بالأمم السابقة، وأمر أن تعتبر بها الأمم اللاحقة،
وتارة بذكر آثار الذنوب، وما تكسبه من العيوب،
وتارة بذكر أهوال القيامة، وما فيها من المزعجات والمقلقات،
وتارة بذكر جهنم وما فيها من أنوع العقاب وأصناف العذاب،
كل هذا رحمة بالعباد، لعلهم يتقون الله فيتركون من الشر والمعاصي ما يضرهم، ﴿ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴾ فيعملون من الطاعات والخير ما ينفعهم،...1

*******

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا
-114

فتعالى الله الملك الحق الذي تعنو له الوجوه ; ويخيب في حضرته الظالمون ويأمن في ظله المؤمنون الصالحون . . هو منزل هذا القرآن من عليائه , فلا يعجل به لسانك , فقد نزل القرآن لحكمة , ولن يضيعه . إنما عليك أن تدعو ربك ليزيدك من العلم , وأنت مطمئن إلى ما يعطيك , لا تخشى عليه الذهاب . وما العلم إلا ما يعلمه الله فهو الباقي الذي ينفع ولا يضيع . ويثمر ولا يخيب..

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا - 115

وعهد الله إلى آدم كان هو الأكل من كل الثمار سوى شجرة واحدة , تمثل المحظور الذي لا بد منه لتربية الإرادة , وتأكيد الشخصية , والتحرر من رغائب النفس وشهواتها بالقدر الذي يحفظ للروح الإنسانية حرية الانطلاق من الضرورات عندما تريد ; فلا تستعبدها الرغائب وتقهرها .

وهذا هو المقياس الذي لا يخطئ في قياس الرقي البشري . فكلما كانت النفس أقدر على ضبط رغائبها والتحكم فيها والاستعلاء عليها كانت أعلى في سلم الرقي البشري . وكلما ضعفت أمام الرغبة وتهاوت كانت أقرب إلى البهيمية وإلى المدارج الأولى .

من أجل ذلك شاءت العناية الإلهية التي ترعى هذا الكائن الإنساني أن تعده لخلافة الأرض باختبار إرادته , وتنبيه قوة المقاومة فيه , وفتح عينيه على ما ينتظره من صراع بين الرغائب التي يزينها الشيطان , وإرادته وعهده للرحمن ...2

( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ ) أي: ولقد وصينا آدم وأمرناه، وعهدنا إليه عهدا ليقوم به، فالتزمه، وأذعن له وانقاد، وعزم على القيام به، ومع ذلك نسي ما أمر به، وانتقضت عزيمته المحكمة، فجرى عليه ما جرى،
فصار عبرة لذريته على مر العصور، وصارت طبائعهم مثل طبيعته، نسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ فخطئوا، ولم يثبت على العزم المؤكد، وهم كذلك، وبادر بالتوبة من خطيئته، وأقر بها واعترف، فغفرت له،....1
وكذلك لبني أدم إلى قيام الساعة فباب التوبة مفتوح لا يغلق حتي تطلع الشمس من مغربها...

1 – تفسير السعدي
2 – في ظلال القرآن


*********

وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 


بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(أدم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة طه


وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى - 116

فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى – 117
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى - 118 وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى – 119

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى - 120
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى - 121

ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى - 122


*****

وهكذا تختم قصة نبي الله " آدم " عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء الصلاة والسلام..
تختم بالاصطفاء والتوبة والقرب من الله العلي الحكيم لأبينا آدم..
ونلاحظ من الآيات السابقة طبيعة الحياة على الأرض ...

( فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى )

فالحياة على الأرض تتسم بالمكابدة والكفاح وبذل الجهد للوصول إلى العيش الكريم , قال تعالى في سورة البلد : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ )
والمؤمن يبذل جهده في وجوه الخير طيلة العمر حتى يلاقي ربه مخلصا من كل شوائب الشرك , فالغاية عنده هي رضى الله تعالى , حيث النعيم الأبدي.
أما غير المؤمن يبذل جهده في هذه الدنيا لغايات عديدة منها صالحة وغير صالحة , فيحصل على نتائج ما يريد في الدنيا ولا نصيب له في الأخرة إلا الشقاء . فقد شقي في الدنيا والأخرة .

قال تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا – 20 الإسراء

******

وفي ظل رسالة الله تعالى يعيش المؤمن في نعيم رغم عناء الدنيا ومشقتها .. ففي الحديث الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة..

فنعيم الأخرة وجنات الخلد والعتق من النار هو الخروج من سجن الدنيا..

بينما تكون الدنيا جنة للكافرين والمتكبرين لما يرونه من سجن الأخرة..

ففي الحديث الشريف : الذي رواه الترمذي في سننه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يسمى : بولس تعلوهم نار الأنيار ، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال..

******

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى - 123

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى -124
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا - 125 قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى - 126 وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى - 127

*******

( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى )

أي الكتب والرسل، فإن من اتبعه اتبع ما أمر به ، واجتنب ما نهي عنه ، فإنه لا يضل في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا يشقى فيهما ، بل قد هدي إلى صراط مستقيم ، في الدنيا والآخرة ، وله السعادة والأمن في الآخرة.

وقد نفى عنه الخوف والحزن في آية أخرى، بقوله : ﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ -38 البقرة
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ﴾ أي : كتابي الذي يتذكر به جميع المطالب العالية ، وأن يتركه على وجه الإعراض عنه ، أو ما هو أعظم من ذلك، بأن يكون على وجه الإنكار له، والكفر به ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ أي : فإن جزاءه ، أن نجعل معيشته ضيقة مشقة ، ولا يكون ذلك إلا عذابا.

وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، وأنه يضيق عليه قبره، ويحصر فيه ويعذب ، جزاء لإعراضه عن ذكر ربه ..

وبعض المفسرين، يرى أن المعيشة الضنك، عامة في دار الدنيا، بما يصيب المعرض عن ذكر ربه ، من الهموم والغموم والآلام ، التي هي عذاب معجل ، وفي دار البرزخ ، وفي الدار الآخرة ، لإطلاق المعيشة الضنك ، وعدم تقييدها.

﴿ وَنَحْشُرُهُ ﴾ أي: هذا المعرض عن ذكر ربه ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ أي أعمى البصر على الصحيح ، كما قال تعالى : ﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا – 97 الإسراء ﴾... ( تفسير السعدي )

قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا - 125 قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى - 126 وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى - 127


******

وهكذا ندرك مدى أهمية القصص القرآني في بناء العقيدة الصحيحة لدى الإنسان ..وتبصرته بحقيقة وجوده على الأرض , والمصير في البرزخ , والخلود الأبدي في الآخرة حيث النعيم للؤمنين , والعذاب للكافرين..

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده المؤمنين المخلصين..
مع النبين والصديقين والشهداء والصالحين.

*******

وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة البقرة


وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
– 124


وإبراهيم عليه السلام، هو أفضل الأنبياء كلهم بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، وهو الذي دعا الخلق إلى الله، وصبر على ما ناله من العذاب العظيم، فدعا القريب والبعيد، واجتهد في دعوة أبيه، بقدر ما أمكنه... ( السعدي )

ويجيء الحديث عن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ; والحديث عن البيت الحرام وبنائه وعمارته وشعائره . . في جوه المناسب , لتقرير الحقائق الخالصة في ادعاءات اليهود والنصارى والمشركين جميعا حول هذا النسب وهذه الصلات .

ولتقرير قضية القبلة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلمون . . كذلك تجيء المناسبة لتقرير حقيقة دين إبراهيم - وهي التوحيد الخالص - وبعد ما بينها وبين العقائد المشوهة المنحرفة التي عليها أهل الكتاب والمشركون سواء ;

وقرب ما بين عقيدة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب - وهو إسرائيل الذي ينتسبون إليه - وعقيدة الجماعة المسلمة بآخر دين .

ولتقرير وحدة دين الله , واطراده على أيدي رسله جميعا , ونفي فكرة احتكاره في أيدي أمة أو جنس . وبيان أن العقيدة تراث القلب المؤمن لا تراث العصبية العمياء .

وأن وراثة هذا التراث لا تقوم على قرابة الدم والجنس ولكن على قرابة الإيمان والعقيدة . فمن آمن بهذه العقيدة ورعاها في أي جيل ومن أي قبيل فهو أحق بها من أبناء الصلب واقرباء العصب...

فالدين دين الله . وليس بين الله وبين أحد من عباده نسب ولا صهر ...

هذه الحقائق التي تمثل شطرا من الخطوط الأساسية في التصور الإسلامي , يجلوها القرآن الكريم هنا في نسق من الأداء عجيب , وفي عرض من الترتيب والتعبير بديع . . يسير بنا خطوة خطوة من لدن إبراهيم - عليه السلام - منذ أن ابتلاه ربه واختبره فاستحق اختياره واصطفاءه , وتنصيبه للناس إماما . . إلى أن نشأت الأمة المسلمة المؤمنة برسالة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] استجابة من الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت الحرام ; فاستحقت وراثة هذه الأمانة دون ذرية إبراهيم جميعا ,

بذلك السبب الوحيد الذي تقوم عليه وراثة العقيدة . سبب الإيمان بالرسالة , وحسن القيام عليها , والاستقامة على تصورها الصحيح .


وفي ثنايا هذا العرض التاريخي يبرز السياق :

أن الإسلام - بمعنى إسلام الوجه لله وحده - كان هو الرسالة الأولى , وكان هو الرسالة الأخيرة . .

هكذا اعتقد إبراهيم , وهكذا اعتقد من بعده إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط , حتى أسلموا هذه العقيدة ذاتها إلى موسى وعيسى . . ثم آلت أخيرا إلى ورثة إبراهيم من المسلمين . .

فمن استقام على هذه العقيدة الواحدة فهو وريثها , ووريث عهودها وبشاراتها . ومن فسق عنها , ورغب بنفسه عن ملة إبراهيم , فقد فسق عن عهد الله , وقد فقد وراثته لهذا العهد وبشاراته .

عندئذ تسقط كل دعاوى اليهود والنصارى في اصطفائهم واجتبائهم , لمجرد أنهم أبناء إبراهيم وحفدته , وهم ورثته وخلفاؤه....

لقد سقطت عنهم الوراثة منذ ما انحرفوا عن هذه العقيدة . . وعندئذ تسقط كذلك كل دعاوى قريش في الاستئثار بالبيت الحرام وشرف القيام عليه وعمارته , لأنهم قد فقدوا حقهم في وراثة باني هذا البيت ورافع قواعده بانحرافهم عن عقيدته . .


ثم تسقط كل دعاوى اليهود فيما يختص بالقبلة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلمون . فالكعبة هي قبلتهم وقبلة أبيهم إبراهيم . . ( في ظلال القرآن )


وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى,

وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
– 125


كل ذلك في نسق من العرض والأداء والتعبير المعجز ; حافل بالإشارات الموحية , والوقفات العميقة ...

نعيش معها وإياكم في اللقاءات القادمة إن شاء الله تعالى.

*******

دمتم في رعاية الله وأمنه
 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة البقرة
(2)

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ – 124


الدلالة , والإيضاح القوي التأثير . فنأخذ في استعراض هذا النسق العالي في ظل هذا البيان المنير:


الدرس الأول:
إمامة إبراهيم وشرط الإمامة في ذريته .


وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ..

يقول الله تعالى للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] : اذكر ما كان من ابتلاء الله لإبراهيم بكلمات من الأوامر والتكاليف , فأتمهن وفاء وقضاء . . وقد شهد الله لإبراهيم في موضع آخر بالوفاء بالتزاماته على النحو الذي يرضى الله عنه فيستحق شهادته الجليلة : ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى -37 النجم ). . وهو مقام عظيم ذلك المقام الذي بلغه إبراهيم . مقام الوفاء والتوفية بشهادة الله عز وجل .

والإنسان بضعفه وقصوره لا يوفي ولا يستقيم !

عندئذ استحق إبراهيم تلك البشرى . أو تلك الثقة:

قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً.

إماما يتخذونه قدوة , ويقودهم إلى الله , ويقدمهم إلى الخير , ويكونون له تبعا , وتكون له فيهم قيادة .

قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي.

وجاءه الرد من ربه الذي ابتلاه واصطفاه , يقرر القاعدة الكبرى التي أسلفنا . . إن الإمامة لمن يستحقونها بالعمل والشعور , وبالصلاح والإيمان , وليست وراثة أصلاب وأنساب .

فالقربى ليست وشيجة لحم ودم , إنما هي وشيجة دين وعقيدة..
ودعوى القرابة والدم والجنس والقوم تصطدم اصطداما أساسيا بالتصور الإيماني الصحيح:

قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ..

والظلم أنواع وألوان:ظلم النفس بالشرك , وظلم الناس بالبغي .

والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة : امامة الرسالة , وإمامة الخلافة , وإمامة الصلاة .

فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية صورة من صورها .
ومن ظلم - أي لون من الظلم - فقد جرد نفسه من حق الإمامة وأسقط حقه فيها ; بكل معنى من معانيها .
وهذا الذي قيل لإبراهيم - عليه السلام - وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض ...( في ظلال القرآن )


*********

وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة البقرة
(3)

المسجد الحرام أمن للعابدين.

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

لقد أراد الله تعالى البيت "الكعبة" مثابة يثوب إليها الناس جميعا , فلا يروعهم أحد ; بل يأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم . فهو ذاته أمن وطمأنينة وسلام .
ولقد أمروا أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى - ومقام إبراهيم يشير هنا إلى البيت كله وهذا ما نختاره في تفسيره ..

فاتخاذ البيت قبلة للمسلمين هو الأمر الطبيعي , الذي لا يثير اعتراضا . وهو أولى قبلة يتوجه إليها المسلمون , ورثة إبراهيم بالإيمان والتوحيد الصحيح , بما أنه بيت الله , لا بيت أحد من الناس . وقد عهد الله تعالى - صاحب البيت - إلى عبدين من عباده صالحين أن يقوما بتطهيره وإعداده للطائفين والعاكفين والركع السجود - أي للحجاج الوافدين عليه , وأهله العاكفين فيه , والذين يصلون فيه ويركعون ويسجدون..

فحتى إبراهيم وإسماعيل لم يكن البيت ملكا لهما , فيورث بالنسب عنهما , إنما كانا سادنين له بأمر ربهما , لإعداده لقصاده وعباده من المؤمنين .

**********


تأدب "إبراهيم" عليه السلام في دعائه لله تعالى.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

ومرة أخرى يؤكد دعاء إبراهيم صفة الأمن للبيت . ومرة أخرى يؤكد معنى الوراثة للفضل والخير . .

إن إبراهيم قد أفاد من عظة ربه له في الأولى . لقد وعى منذ أن قال له رب العزة : ( قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ). .


فقد وعى إبراهيم عليه السلام هذا الدرس . . فهو هنا , في دعائه أن يرزق الله أهل هذا البلد من الثمرات , يحترس ويستثني ويحدد من يعني :
(مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ). .

إنه إبراهيم الأواه الحليم القانت المستقيم , يتأدب بالأدب الذي علمه ربه , فيراعيه في طلبه ودعائه . . وعندئذ يجيئه رد ربه مكملا ومبينا عن الشطر الآخر الذي سكت عنه . شطر الذين لا يؤمنون , ومصيرهم الأليم. .-1
( قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ). .

فلما دعا "إبراهيم" عليه السلام, لأهل مكة بالرزق, وقيده بالمؤمن, وكان رزق الله شاملا للمؤمن والكافر, والعاصي والطائع, قال تعالى: ﴿ وَمَنْ كَفَرَ ﴾ أي : أرزقهم كلهم, مسلمهم وكافرهم،

أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله, ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة،

وأما الكافر, فيتمتع فيها قليلا ﴿ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ ﴾ أي : ألجئه وأخرجه مكرها ﴿ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾-2

وهكذا نتعلم أدب الدعاء إلى الله تعالى..

اللهم نسألك علما نافعا وقلبا خاشعا ورزقا واسعا وعملا متقبلا والسلامة من كل مكروه وسوء.

********
1- في ظلال القرآن
2- تفسير السعدي

وإلى لقادم قادم إن شاء الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة البقرة
(4)

دعاء إبراهيم وإسماعيل
عند بناء البيت


وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)


يرسم المشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود . . يرسمه مشهودا كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن:

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ

إنهما أمامنا حاضران , نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان:

رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

فالدعاء حاضر نسمعه كأنه يقع اللحظة حي شاخص متحرك .

تفيض منه الحياة . . وهذا من معجزات القرآن العظيم.

وماذا في ثنايا الدعاء ? إنه أدب النبوة , وإيمان النبوة , وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود . وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء , وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء:

رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

إنه طلب القبول . . هذه هي الغاية . . فهو عمل خالص لله . الاتجاه به في قنوت وخشوع إلى الله . والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول . . والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع للدعاء ...

*********

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.

إنه رجاء العون من ربهما في الهداية إلى الإسلام ; والشعور بأن قلبيهما بين أصبعين من أصابع الرحمن ; وأن الهدى هداه , وأنه لا حول لهما ولا قوة إلا بالله...

فهما يتجهان ويرغبان , والله المستعان .

ثم هو طابع الأمة المسلمة . . التضامن . . تضامن الأجيال في العقيدة: -1

وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ.
وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.


أي : علمناها على وجه الإراءة والمشاهدة, ليكون أبلغ.
يحتمل أن يكون المراد بالمناسك : أعمال الحج كلها, كما يدل عليه السياق والمقام، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك وهو الدين كله, والعبادات كلها , كما يدل عليه عموم اللفظ .
لأن النسك: التعبد, ولكن غلب على متعبدات الحج , تغليبا عرفيا ، فيكون حاصل دعائهما , يرجع إلى التوفيق للعلم النافع , والعمل الصالح ، ولما كان العبد - مهما كان - لا بد أن يعتريه التقصير, ويحتاج إلى التوبة .-2

فقالا : وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ..

1- في ظلال القرآن
2- تفسير السعدي

*********

وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة البقرة
(5)

الدعوة المستجابة ورسالة الإسلام

واستكمالا لقافلة النور ( أنبياء الله ) نعيش اليوم مع دعوة إبراهيم وإسماعيل بإرسال رسولا من العرب يبلغ آيات الله للعالمين, ويبين لهم شريعة ربهم ويهديهم إلى مكارم الأخلاق...

ونستمع إلى تلك الدعوات.

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ – 129

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ – 130

إنها دعوة تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن . إن أمر العقيدة هو شغله الشاغل , وهو همه الأول . وشعور إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - بقيمة النعمة التي أسبغها الله عليهما . . نعمة الإيمان . . تدفعهما إلى الحرص عليها في عقبهما , وإلى دعاء الله ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام الذي لا يكافئه إنعام .

لقد دعوا الله ربهما أن يرزق ذريتهما من الثمرات ولم ينسيا أن يدعواه ليرزقهم من الإيمان ; وأن يريهم جميعا مناسكهم , ويبين لهم عباداتهم , وأن يتوب عليهم . بما أنه هو التواب الرحيم .

ثم ألا يتركهم بلا هداية في أجيالهم البعيدة:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ.

وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بعد قرون وقرون .

بعثة رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل , يتلو عليهم آيات الله , ويعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من الأرجاس والأدناس .

إن الدعوة المستجابة تستجاب , ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته . غير أن الناس يستعجلون ! وغير الواصلين يملون ويقنطون !

وبعد فإن لهذا الدعاء دلالته ووزنه فيما كان يشجر بين اليهود والمسلمين من نزاع عنيف متعدد الأطراف .
إن إبراهيم وإسماعيل اللذين عهد الله إليهما برفع قواعد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والمصلين , وهما أصل سادني البيت من قريش . .

إنهما يقولان باللسان الصريح :

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.

كما يقولان باللسان الصريح :

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ.

وهما بهذا وذاك يؤكدان أن وراثة الأمة المسلمة لإمامة إبراهيم , ووراثتها للبيت الحرام سواء .

وإذن فهو بيت الأمة المسلمة الذي تتجه إليه , وهي أولى به من المشركين.

وهو أولى بها من قبلة اليهود والمسيحيين..

وإذن فمن كان يربط ديانته بإبراهيم من اليهود والنصارى , ويدعي دعاواه العريضة في الهدى والجنة بسبب تلك الوراثة , ومن كان يربط نسبه بإسماعيل من قريش . .

فليسمع : إن إبراهيم حين طلب الوراثة لبنيه والإمامة , قال له ربه :

قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.

ولما أن دعا إبراهيم لأهل البلد بالرزق والبركة خص بدعوته :

مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.

وحين قام هو وإسماعيل بأمر ربهما في بناء البيت وتطهيره كانت دعوتهما : أن يكونا مسلمين لله , وأن يجعل الله من ذريتهما أمة مسلمة , وأن يبعث في أهل بيته رسولا منهم . . فاستجاب الله لهما , وأرسل من أهل البيت محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وسلم ) , وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة بأمر الله . الوارثة لدين الله . (في ظلال القرآن)

*********

وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة البقرة
(6)

الإسلام في وصية إبراهيم ويعقوب
(عليهما السلام)

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ - 130
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - 131
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - 132
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ - 133

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ - 134


ورد في تفسير السعدي:

أي: ما يرغب ﴿
عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ بعد ما عرف من فضله ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ أي: جهلها وامتهنها, وباعها بصفقة المغبون،

كما أنه لا أرشد وأكمل, ممن رغب في ملة إبراهيم، ثم أخبر عن حالته في الدنيا والآخرة فقال : ﴿
وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ أي: اخترناه ووفقناه للأعمال, التي صار بها من المصطفين الأخيار.

﴿
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الذين لهم أعلى الدرجات.

﴿
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ﴾ امتثالا لربه ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إخلاصا وتوحيدا, ومحبة, وإنابة فكان التوحيد لله نعته.

ثم ورثه في ذريته, ووصاهم به, وجعلها كلمة باقية في عقبه , وتوارثت فيهم , حتى وصلت ليعقوب فوصى بها بنيه.

هذه هي ملة إبراهيم . . الإسلام الخالص الصريح . . لا يرغب عنها وينصرف إلا ظالم لنفسه , سفيه عليها ,


فأنتم - يا بني يعقوب - قد وصاكم أبوكم بالخصوص, فيجب عليكم كمال الانقياد, واتباع خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم,

قال: ﴿
يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ أي: اختاره وتخيره لكم, رحمة بكم, وإحسانا إليكم, فقوموا به, واتصفوا بشرائعه, وانصبغوا بأخلاقه, حتى تستمروا على ذلك فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه, لأن من عاش على شيء, مات عليه, ومن مات على شيء, بعث عليه.

ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم, ومن بعده يعقوب, قال تعالى منكرا عليهم:
﴿
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ أي: حضورا ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ أي: مقدماته وأسبابه، فقال لبنيه على وجه الاختبار, ولتقر عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ ؟

فأجابوه بما قرت به عينه فقالوا : ﴿
نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ فلا نشرك به شيئا, ولا نعدل به أحدا، ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ فجمعوا بين التوحيد والعمل.

ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب, لأنهم لم يوجدوا بعد، فإذا لم يحضروا, فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية, لا باليهودية.

وها هي ذي الفرصة سانحة , فقد جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يدعوهم إلى الإسلام , وهو ثمرة الدعوة التي دعاها أبوهم إبراهيم عليه السلام . (في ظلال القرآن)


********

وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 
السلام عليكم , والحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
هل كان يوسف عليه السلام مع إخوته عندما وصاهم يعقوب عليه السلام ؟
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأخ الكريم/ أحمد أبو شنب - دمتم بكل خير..

أشكركم على متابعة هذا الموضوع الهام ...
أسأل الله تعالى أن يتقبله الله منا وأن يرزقنا الإخلاص دوما وأبدا...

ربِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ -101 يوسف

لما أتم الله ليوسف ما أتم من التمكين في الأرض والملك، وأقر عينه بأبويه وإخوته، وبعد العلم العظيم الذي أعطاه الله إياه، قال مقرا بنعمة الله شاكرا لها داعيا بالثبات على الإسلام:

تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.

وبذلك يتفق المبدأ على الثبات على الإسلام حتى لقاء الله تعالى.

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - 132 البقرة

فالإسلام هو دعوة جميع الأنبياء ويوسف كان من الأنبياء..

دمتم في رعاية الله وأمنه​
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة البقرة
(7)

ملة إبراهيم
(عليه السلام)

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ -135

أي: دعا كل من اليهود والنصارى المسلمين إلى الدخول في دينهم, زاعمين أنهم هم المهتدون وغيرهم ضال.
قل لهم مجيبا جوابا شافيا : ﴿
بَلْ ﴾ نتبع ﴿ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ أي : مقبلا على الله, معرضا عما سواه, قائما بالتوحيد, تاركا للشرك والتنديد.
فهذا الذي في اتباعه الهداية, وفي الإعراض عن ملته الكفر والغواية. (تفسير السعدي)

********

الدعوة الإلهية للمسلمين لإعلان الوحدة الكبرى للدين , من لدن إبراهيم أبي الأنبياء إلى عيسى بن مريم..

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ – 136

هذه الآية الكريمة, قد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به.
واعلم أن الإيمان الذي هو تصديق القلب التام, بهذه الأصول, وإقراره المتضمن لأعمال القلوب والجوارح، وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه الإسلام, وتدخل فيه الأعمال الصالحة كلها،

فهي من الإيمان, وأثر من آثاره، فحيث أطلق الإيمان, دخل فيه ما ذكر،
وكذلك الإسلام, إذا أطلق دخل فيه الإيمان، فإذا قرن بينهما, كان الإيمان اسما لما في القلب من الإقرار والتصديق،

والإسلام, اسما للأعمال الظاهرة وكذلك إذا جمع بين الإيمان والأعمال الصالحة،

فقوله تعالى : ﴿
قُولُوا ﴾ أي : بألسنتكم, متواطئة عليها قلوبكم، وهذا هو القول التام, المترتب عليه الثواب والجزاء،

فكما أن النطق باللسان, بدون اعتقاد القلب, نفاق وكفر، فالقول الخالي من العمل عمل القلب, عديم التأثير, قليل الفائدة,

وفي قوله : ﴿
قُولُوا ﴾ إشارة إلى الإعلان بالعقيدة, والصدع بها, والدعوة لها, إذ هي أصل الدين وأساسه.
وفي قوله : ﴿
آمَنَّا ﴾ ونحوه مما فيه صدور الفعل, منسوبا إلى جميع الأمة, إشارة إلى أنه يجب على الأمة, الاعتصام بحبل الله جميعا, والحث على الائتلاف حتى يكون داعيهم واحدا, وعملهم متحدا, وفي ضمنه النهي عن الافتراق، وفيه : أن المؤمنين كالجسد الواحد.


وقوله : ﴿
آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾ أي : بأنه سبحانه الموجود, الواحد الأحد, المتصف بكل صفة كمال, والمنزه عن كل نقص وعيب, المستحق لإفراده بالعبادة كلها, وعدم الإشراك به في شيء منها, بوجه من الوجوه.

﴿
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾ يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى : ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ -113 النساء ﴾ فيدخل فيه الإيمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله, من صفات الباري, وصفات رسله, واليوم الآخر, والغيوب الماضية والمستقبلة, والإيمان بما تضمنه ذلك من الأحكام الشرعية الأمرية, وأحكام الجزاء وغير ذلك.


﴿
وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ إلى آخر الآية، فيه الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء، والإيمان بالأنبياء عموما وخصوصا, ما نص عليه في الآية, لشرفهم ولإتيانهم بالشرائع الكبار. فالواجب في الإيمان بالأنبياء والكتب, أن يؤمن بهم على وجه العموم والشمول، ثم ما عرف منهم بالتفصيل, وجب الإيمان به مفصلا.

وقوله: ﴿
لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ﴾ أي: بل نؤمن بهم كلهم، هذه خاصية المسلمين, التي انفردوا بها عن كل من يدعي أنه على دين.

فاليهود والنصارى والصابئون وغيرهم - وإن زعموا أنهم يؤمنون بما يؤمنون به من الرسل والكتب - فإنهم يكفرون بغيره، فيفرقون بين الرسل والكتب,
بعضها يؤمنون به وبعضها يكفرون به، وينقض تكذيبهم تصديقهم،

فإن الرسول الذي زعموا, أنهم قد آمنوا به, قد صدق سائر الرسل وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كذبوا محمدا, فقد كذبوا رسولهم فيما أخبرهم به, فيكون كفرا برسولهم.

وفي قوله : ﴿
وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ دلالة على أن عطية الدين, هي العطية الحقيقية المتصلة بالسعادة الدنيوية والأخروية.

لم يأمرنا أن نؤمن بما أوتي الأنبياء من الملك والمال ونحو ذلك، بل أمرنا أن نؤمن بما أعطوا من الكتب والشرائع.

وفيه أن الأنبياء مبلغون عن الله, ووسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ دينه, ليس لهم من الأمر شيء.

وفي قوله : ﴿
مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده, أن ينزل عليهم الكتب, ويرسل إليهم الرسل, فلا تقتضي ربوبيته, تركهم سدى ولا هملا.

﴿
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ أي: خاضعون لعظمته, منقادون لعبادته, بباطننا وظاهرنا, مخلصون له العبادة.

فقد اشتملت هذه الآية الكريمة - على إيجازها واختصارها - على أنواع التوحيد الثلاثة:

توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية, وتوحيد الأسماء والصفات،

واشتملت على الإيمان بجميع الرسل, وجميع الكتب، وعلى التصديق بالقلب واللسان والجوارح والإخلاص لله في ذلك،

وعلى تعليم الباري عباده, كيف يقولون, ورحمته وإحسانه عليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة،

فسبحان من جعل كتابه تبيانا لكل شيء, وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.

وبهذا ندرك قيمة الرسل فهم كوكبة النور الإيماني عبر العصور , إلى أن أتم الله تعالى نوره للبشرية ببعثة خير البرية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

***********

وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة البقرة
(8)

جدال إبراهيم مع الملك الكافر


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ – 258



نشاهد اليوم حوارا بين إبراهيم - عليه السلام - وملك في أيامه يجادله في الله تعالى....
لا يذكر السياق اسمه , لأن ذكر اسمه لا يزيد من العبرة التي تمثلها الآية شيئا .
وهذا الحوار يعرض علينا في أسلوب التعجيب من هذا المجادل , الذي حاج إبراهيم في ربه ;

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.

إن هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه لم يكن منكرا لوجود الله أصلا إنما كان منكرا لوحدانيته في الألوهية والربوبية ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجري فيه وحده ,
كما كان بعض المنحرفين في الجاهلية يعترفون بوجود الله ولكنهم يجعلون له اندادا ينسبون إليها فاعلية وعملا في حياتهم !

وكذلك كان منكرا أن الحاكمية لله وحده , فلا حكم إلا حكمه في شؤون الأرض وشريعة المجتمع . ( في ظلال القرآن )

إن هذا الملك المنكر المتعنت إنما ينكر ويتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن ويشكر . هذا السبب هو ( أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ). . وجعل في يده السلطان !

لقد كان ينبغي أن يشكر ويعترف , لولا أن الملك يطغي ويبطر من لا يقدرون نعمة الله , ولا يدركون مصدر الإنعام . ومن ثم يضعون الكفر في موضع الشكر ; ويضلون بالسبب الذي كان ينبغي أن يكونوا به مهتدين ! فهم حاكمون لأن الله حكمهم ,

وهو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم . فهم كالناس عبيد لله , يتلقون مثلهم الشريعة من الله , ولا يستقلون دونه بحكم ولا تشريع فهم خلفاء لا أصلاء !

ومن ثم يعجب الله من أمر ذلك الطاغية وهو يعرضه على نبيه:

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ? ). .

ألم تر ? إنه تعبير التشنيع والتفظيع ; وإن الإنكار والاستنكار لينطلقان من بنائه اللفظي وبنائه المعنوي سواء .

فالفعلة منكرة حقا : أن يأتي الجدال بسبب النعمة والعطاء !
وأن يدعي عبد لنفسه ما هو من اختصاص الرب , وأن يستقل حاكم بحكم الناس بهواه دون أن يستمد قانونه من الله تعالى خالق الكون.

( إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ ). .

والإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكرورتان في كل لحظة , المعروضتان لحس الإنسان وعقله . وهما - في الوقت نفسه - السر الذي يحير , والذي يلجيء الإدراك البشري الجاء إلى مصدر آخر غير بشري . وإلى أمر آخر غير أمر المخاليق . ولا بد من الالتجاء إلى الألوهية القادرة على الإنشاء والإفناء لحل هذا اللغز الذي يعجز عنه كل الأحياء .

إننا لا نعرف شيئا عن حقيقة الحياة وحقيقة الموت حتى اللحظة الحاضرة . ولكننا ندرك مظاهرهما في الأحياء والأموات . ونحن ملزمون أن نكل مصدر الحياة والموت إلى قوة ليست من جنس القوى التي نعرفها على الإطلاق . .

ولكنها هي قوة الله الحي القيوم. .

ومن ثم عرف إبراهيم - عليه السلام - ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد , ولا يمكن أن يزعمها أحد , وقال وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية ويراه مصدر الحكم والتشريع غيره . . قال : ربي الذي يحيي ويميت فهو من ثم الذي يحكم ويشرع .

فذلك عمل الرب المتفرد الذي لا يشاركه فيه أحد من خلقه .

ولكن الذي حاج إبراهيم في ربه رأى في كونه حاكما لقومه وقادرا على إنفاذ أمره فيهم بالحياة والموت مظهرا من مظاهر الربوبية .

فقال لإبراهيم : أنا سيد هؤلاء القوم وأنا المتصرف في شأنهم , فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له , وتسلم بحاكميته: ( قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ ) !

عند ذلك لم يرد إبراهيم - عليه السلام - أن يسترسل في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة . حقيقة منح الحياة وسلبها . هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئا .

. وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الخفية , إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية ; وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله : ( رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ ). . إلى طريقة التحدي , وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويتعنت ويجادل في الله ; ليريه أن الرب ليس حاكم قوم في ركن من الأرض , إنما هو مصرف هذا الكون كله . ومن ربوبيته هذه للكون يتعين أن يكون هو رب الناس المشرع لهم:

( قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ). .

وهي حقيقة كونية مكرورة كذلك ; تطالع الأنظار والمدارك كل يوم ; ولا تتخلف مرة ولا تتأخر . وهي شاهد يخاطب الفطرة - حتى ولو لم يعرف الإنسان شيئا عن تركيب هذا الكون , ولم يتعلم شيئا من حقائق الفلك ونظرياته - والرسالات تخاطب فطرة الكائن البشري في أية مرحلة من مراحل نموه العقلي والثقافي والاجتماعي , لتأخذ بيده من الموضع الذي هو فيه . ومن ثم كان هذا التحدي الذي يخاطب الفطرة كما يتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل : ( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ). .

فالتحدي قائم , والأمر ظاهر , ولا سبيل إلى سوء الفهم , أو الجدال والمراء . . وكان التسليم أولى والإيمان أجدر . ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق يمسك بالذي كفر , فيبهت ويبلس ويتحير . ولا يهديه الله إلى الحق لأنه لم يتلمس الهداية , ولم يرغب في الحق ; ولم يلتزم القصد والعدل:

( وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ). .

**********
وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى

 

بسم الله الرحمن الرحيم


أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة البقرة
(9)

إبراهيم ومعاينة إحياء الموتى


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى,
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ؟
قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي,
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ – 260



نعيش اليوم مع أعظم دلالة حسية على قدرة الله تعالى وإحيائه الموتى للبعث والجزاء،

أخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى، لأنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى،

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى,

إنه تشوف لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره ; وليس طلبا للبرهان أو تقوية للإيمان .
إنما هو أمر آخر , له مذاق آخر . . إنه أمر الشوق الروحي , إلى ملابسة السر الإلهي , في أثناء وقوعه العملي .
ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب ولو كان هو إيمان إبراهيم الخليل , الذي يقول لربه , ويقول له ربه . وليس وراء هذا إيمان , ولا برهان للإيمان .

ولكنه أراد أن يرى يد القدرة وهي تعمل ; ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيستروح بها , ويتنفس في جوها , ويعيش معها . . وهي أمر آخر غير الإيمان الذي ليس بعده إيمان..


فلهذا قال الله له : ﴿
أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ﴾ وذلك أنه بتوارد الأدلة اليقينية مما يزداد به الإيمان ويكمل به الإيقان ويسعى في نيله أولو العرفان،

ولقد استجاب الله لهذ الشوق والتطلع في قلب إبراهيم , ومنحه التجربة الذاتية المباشرة:

فقال له ربه ﴿
فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ﴾ أي : ضمهن ليكون ذلك بمرأى منك ومشاهدة وعلى يديك.

﴿
ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ﴾ أي : مزقهن، اخلط أجزاءهن بعضها ببعض، واجعل على كل جبل، أي : من الجبال التي في القرب منه، جزء من تلك الأجزاء ﴿ ثم ادعهن يأتينك سعيا ﴾ أي : تحصل لهن حياة كاملة بأمر الله، ويأتينك في هذه القوة وسرعة الطيران،

ورأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه . وهو السر الذي يقع في كل لحظة . ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه . إنه سر هبة الحياة . الحياة التي جاءت أول مرة بعد أن لم تكن ; والتي تنشأ مرات لا حصر لها في كل حي جديد .

فنرى الأطفال يخرجون إلى الحياة بعد أن كانوا لا شئ..
وترى الفرخ يخرج من البيض حيا ولم يكن شئ..
وها نرى مع نبي الله إبراهيم الطيور تعود للحياة بعد ذبحها وتقطيعها..

رأى إبراهيم هذا السر يقع بين يديه . . طيور فارقتها الحياة , وتفرقت مزقها في أماكن متباعدة . تدب فيها الحياة مرة أخرى , وتعود إليه سعيا !
كيف ؟؟
هذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه .

﴿
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين -75 الأنعام

فالإنسان قد يراه كما رآه إبراهيم . وقد يصدق به كما يصدق به كل مؤمن . ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته...

إنه من أمر الله . والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه , لأنه أكبر منهم ..ولا حاجة لهم به في خلافتهم على الأرض.

ثم قال تعالى : ﴿
واعلم أن الله عزيز حكيم ﴾ أي : ذو قوة عظيمة سخر بها المخلوقات، فلم يستعص عليه شيء منها، بل هي منقادة لعزته خاضعة لجلاله..

وهكذا ندرك اليقين وعين اليقين مع نبي الله إبراهيم , فهي صورة حية نعيش معها وتعيش معها الأجيال إلى يوم القيامة.

*********

وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى

 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الأنعام
(10)

تجلية عقيدة التوحيد في مناظرة
نبي الله ( إبراهيم ) مع المشركين



وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ – 73

قوله الحق في جميع مخلوقاته . . فأولى أن يستسلم له وحده من يشركون به ما لا ينفع ولا يضر من خلقه . ومن يتبعون قول غيره كذلك في التفسير للوجود وتشريعه للحياة . في أي اتجاه .

إن الملك لله وحده , وأنه لا سلطان إلا سلطانه , ولا إرادة إلا إرادته . . فأولى للبشرية- العائدة إلى ربها حتما- الاستسلام له في الدنيا طائعين, أن يستسلموا قبل أن يستسلموا لسلطانه المطلق يوم ينفخ في الصور .

هذه الحقائق تعرض قبل مشاهدة اللقاء الحي بين إبراهيم عليه السلام وقومه , والمناظرة القوية أمام الملأ وأمام عبدة الأصنام وعبدة الكواكب والنجوم ..
والمناقشة الواضحة الصريحة التي يقر بها العقل والفطرة السليمة..


**********

إبراهيم يقيم الحجة على قومه

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ – 83


إنها قصة الفطرة مع الحق والباطل . وقصة العقيدة كذلك يصدع بها المؤمن ولا يخشى فيها لومة لائم ;
ولا يجامل على حسابها أبا ولا أسرة ولا عشيرة ولا قوما . . كما وقف إبراهيم من أبيه وقومه هذه الوقفه الصلبة الحاسمة الصريحة :

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ – 74

وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ – 75

وتجهر بكلمة الحق وتصدع , حينما يكون الأمر هو أمر العقيدة ,

كلمة يقولها إبراهيم - عليه السلام - لأبيه . وإبراهيم هو الأواه الحليم الرضي الخلق السمح اللين , كما ترد أوصافه في القرآن الكريم . ولكنها العقيدة هنا .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ.

والعقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة , وفوق مشاعر الحلم والسماحة . وإبراهيم هو القدوة التي أمر الله المسلمين من بنيه أن يتأسوا بها . والقصة تعرض لتكون أسوة ومثالا . .

وكذلك استحق إبراهيم - عليه السلام - بصفاء فطرته وخلوصها للحق أن يكشف الله لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون , والدلائل الموحية بالهدى في الوجود...


وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.

بمثل هذه الفطرة السليمة , وهذه البصيرة المفتوحة ; وعلى هذا النحو من الخلوص للحق , ومن إنكار الباطل في قوة . .
نري إبراهيم حقيقة هذا الملك . . ملك السماوات والأرض . . ونطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون , ونكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود , ونصل بين قلبه وفطرته وموحيات الإيمان ودلائل الهدى في هذا الكون العجيب . لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة , إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق . .

وهذا هو طريق الفطرة البديهي العميق . . وعي لا يطمسه الركام . وبصر يلحظ ما في الكون من عجائب صنع الله . وتدبر يتبع المشاهد حتى تنطق له بسرها المكنون . . وهداية من الله جزاء على الجهاد فيه . .

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ – 83


مصدر تفسير هذا اللقاء
(في ظلال القرآن)

************

نستكمل تلك المناظرة الحية في اللقاء القادم
بإذن الله تعالى..


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الأنعام
(11)

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ


فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ – 76

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ – 77

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ – 78

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - 79


التوجه لعباد الكواكب بالمناظرة أولا

﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ﴾ أي : أظلم ﴿ رَأَى كَوْكَبًا ﴾ لعله من الكواكب المضيئة، لأن تخصيصه بالذكر، يدل على زيادته عن غيره، ولهذا - والله أعلم - قال من قال : إنه الزهرة.

﴿ قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾ أي : على وجه التنزل مع الخصم أي: هذا ربي، فهلم ننظر، هل يستحق الربوبية ؟
وهل يقوم لنا دليل على ذلك ؟
فإنه لا ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهه هواه، بغير حجة ولا برهان.

﴿ فَلَمَّا أَفَلَ ﴾ أي: غاب ذلك الكوكب ﴿ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾ أي : الذي يغيب ويختفي عمن عبده، فإن المعبود لا بد أن يكون قائما بمصالح من عبده، ومدبرا له في جميع شئونه،
أما ذلك الكوكب له مسار محدد يسير فيه طبقا لقانون وضعه الله له..فذلك الكوكب مخلوق مثلي ومثلك تماما لا يملك من أمره شئ..
فمن أين يستحق العبادة ؟! وهل اتخاذه إلها إلا من أسفه السفه، وأبطل الباطل ؟!
وبذلك أبطل عبادة الكواكب..

ثم ذهب لعباد القمر ...

﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا ﴾ أي: طالعا، رأى زيادته على نور الكواكب ﴿ قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾ تنزلا ومجاراة الخصم.
﴿ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ
فالقمر مسير في مداره كذلك لا يملك من أمره شئ ولا يملك لأي مخلوق ضر ولا نفع .. فيجب أن نتضرع إلى الخالق الحق أن يهدينا. وإلا لكنا من الضالين التائهين عن المعبود الحق.
وبذلك أسقط عبادة القمر..

ثم ذهب لعباد الشمس...

﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ﴾ من الكوكب ومن القمر.
﴿ فَلَمَّا أَفَلَتْ ﴾ أي غابت وأنها مسخرة في مدارها لا تستطيع الضر أو النفع..
وهكذا أسقط عبادة الشمس..

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ حيث قام البرهان الصادق الواضح، على بطلان جميع الشركاء من أصنام وكواكب والقمر والشمس.

﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ﴾ أي: لله وحده، مقبلا عليه، معرضا عن من سواه.
سبحان الله العلي العظيم ...ما أعظم ذلك الدين القيم ملة إبراهيم..

﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ فتبرأ من الشرك، وأذعن بالتوحيد، وأقام على ذلك البرهان..


وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ – 80

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - 81

الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ – 82

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ - 83

وتلك الحجة التي حاجَّ بها إبراهيم عليه السلام قومه هي حجتنا التي وفقناه إليها حتى انقطعت حجتهم. نرفع مَن نشاء من عبادنا مراتب في الدنيا والآخرة. إن ربك حكيم في تدبير خلقه, عليم بهم.

كانت مصادر التفسير لهذا اللقاء :
( التفسير الميسر – تفسير السعدي )


**********

وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة هود
(12)

لقاء الملائكة بإبراهيم عليه السلام

نعيش اليوم مع نبي الله " إبراهيم عليه السلام " وضيوفه الكرام من الملائكة , نسمعهم , ونرى الحوار الحي بينهم ..ونشاهد كرم الضيافة , ونلاحظ البشرى والرحمة والبركة على إبراهيم وأله...
وإعلامه بإهلاك قوم لوط الذين خالفوا الفطرة واتبعوا الشذوذ ..

*******

وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ - 69

فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ -70

وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ – 71

قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ – 72

قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ – 73

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ – 74

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ – 75

يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ – 76


*******

﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا ﴾ من الملائكة الكرام، رسولنا ﴿ إِبْرَاهِيمَ ﴾ الخليل ﴿ بِالْبُشْرَى ﴾ أي : بالبشارة بالولد، حين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط، وأمرهم أن يمروا على إبراهيم، فيبشروه بإسحاق، فلما دخلوا عليه ﴿ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ ﴾ أي : سلموا عليه، ورد عليهم السلام.

ففي هذا مشروعية السلام، وأنه لم يزل من ملة إبراهيم عليه السلام، وأن السلام قبل الكلام، وأنه ينبغي أن يكون الرد، أبلغ من الابتداء, لأن سلامهم بالجملة الفعلية، الدالة على التجدد، ورده بالجملة الاسمية، الدالة على الثبوت والاستمرار، وبينهما فرق كبير كما هو معلوم في علم العربية.

﴿ فَمَا لَبِثَ ﴾ إبراهيم لما دخلوا عليه ﴿ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ أي: بادر لبيته، فاستحضر لأضيافه عجلا مشويا على الرضف سمينا،
فقربه إليهم فقال : ألا تأكلون ؟.

﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ ﴾ أي: إلى تلك الضيافة ﴿ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ وظن أنهم أتوه بشر ومكروه، وذلك قبل أن يعرف أمرهم.

فـ ﴿ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ أي : إنا رسل الله, أرسلنا الله إلى إهلاك قوم لوط.

وامرأة إبراهيم ﴿ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ ﴾ حين سمعت بحالهم، وما أرسلوا به، تعجبا.

﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ فتعجبت من ذلك.
و ﴿ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا ﴾ فهذان مانعان من وجود الولد ﴿ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾...

﴿ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ فإن أمره لا عجب فيه ، لنفوذ مشيئته التامة في كل شيء، فلا يستغرب على قدرته شيء ، وخصوصا فيما يدبره ويمضيه ، لأهل هذا البيت المبارك...

﴿ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾ أي : لا تزال رحمته وإحسانه وبركاته، وهي: الزيادة من خيره وإحسانه ﴿ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ أي: حميد الصفات، لأن صفاته صفات كمال، حميد الأفعال لأن أفعاله إحسان، وجود، وبر، وحكمة، وعدل، وقسط.

مجيد، والمجد: هو عظمة الصفات وسعتها، فله صفات الكمال، وله من كل صفة كمال أكملها وأتمها وأعمها.

﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ ﴾ الذي أصابه من خيفة أضيافه ﴿ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى ﴾ بالولد، التفت حينئذ، إلى مجادلة الرسل في إهلاك قوم لوط ، وقال لهم : ﴿
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ – 32 العنكبوت )

﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ ﴾ أي : ذو خلق حسن وسعة صدر، وعدم غضب، عند جهل الجاهلين.
﴿ أَوَّاهٌ ﴾ أي : متضرع إلى الله في جميع الأوقات، ﴿ مُنِيبٌ ﴾ أي: رجَّاع إلى الله بمعرفته ومحبته ، والإقبال عليه , والإعراض عمن سواه ، فلذلك كان يجادل عمن حتَّم الله بهلاكهم.

فقيل له : ﴿ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ﴾ الجدال ﴿ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ﴾ بهلاكهم ﴿ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ﴾ فلا فائدة في جدالك.

مصدر التفسير في هذا اللقاء ( تفسير السعدي )
************

وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى

 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الأنبياء
(12)

تحمل أمانة الدعوة وتحمل التبعات

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ – 51 إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ – 52 قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ – 53 قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ – 54 قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ – 55 قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ – 56

********

( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل , وكنا به عالمين ). .
آتينا رشده أي الهداية إلى التوحيد , وكنا عالمين بحاله وباستعداده لحمل الأمانة التي يحملها المرسلون .

( إذ قال لأبيه وقومه : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ? ). .

فكانت قولته هذه دليل رشده . . سمى تلك الأحجار والخشب باسمها : ( هذه التماثيل ) ولم يقل إنها آلهة , واستنكر أن يعكفوا عليها بالعبادة .
و كلمة ( عاكفون ) تفيد الانكباب الدائم المستمر . و هم لايقضون وقتهم كله في عبادتها . ولكنهم يتعلقون بها . فهو عكوف معنوي لا زمني . وهو يسخف هذا التعلق ويبشعه بتصويرهم منكبين أبدا على هذه التماثيل !
فكان جوابهم وحجتهم أن ( قالوا : وجدنا آباءنا لها عابدين ) !

وهو جواب يدل على التحجر العقلي والنفسي داخل قوالب التقليد الميتة , في مقابل حرية الإيمان , وانطلاقه للنظر والتدبر , وتقويم الأشياء والأوضاع بقيمها الحقيقية لا التقليدية .

فالإيمان بالله طلاقة وتحرر من القداسات الوهمية التقليدية , والوراثات المتحجرة التى لا تقوم على دليل :
( قال : لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ). .

وما كانت عبادة الآباء لتكسب هذه التماثيل قيمة ليست لها , ولا لتخلع عليها قداسة لا تستحقها . فالقيم لا تنبع من تقليد الآباء وتقديسهم , إنما تنبع من التقويم المتحرر الطليق .

وعندما واجههم إبراهيم بهذه الطلاقة في التقدير , وبهذه الصراحة في الحكم , راحوا يسألون :
( قالوا : أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ? ). .

وهو سؤال المزعزع العقيدة , الذي لا يطمئن إلى ما هو عليه , لأنه لم يتدبره ولم يتحقق منه . ولكنه كذلك معطل الفكر والروح بتأثير الوهم والتقليد . فهو لا يدري أي الأقوال حق . والعبادة تقوم على اليقين لا على الوهم المزعزع الذي لا يستند إلى دليل !

وهذا هو التيه الذي يخبط فيه من لا يدينون بعقيدة التوحيد الناصعة الواضحة المستقيمة في العقل والضمير .

فأما إبراهيم فهو مستيقن واثق عارف بربه , متمثل له في خاطره وفكره , يقولها كلمة المؤمن المطمئن لإيمانه :

( قال : بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن , وأنا على ذلكم من الشاهدين ).
فهو رب واحد . رب الناس ورب السماوات والأرض . ربوبيته ناشئة عن كونه الخالق . فهما صفتان لا تنفكان : ( بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن ). .

فهذه هي العقيدة المستقيمة الناصعة , لا كما يعتقد المشركون أن الآلهة أرباب , في الوقت الذي يقرون أنها لا تخلق , وأن الخالق هو الله . ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق شيئا وهم يعلمون !

إنه واثق وثوق الذي يشهد على واقع لا شك فيه : ( وأنا على ذلكم من الشاهدين ). . وإبراهيم - عليه السلام - لم يشهد خلق السماوات والأرض , ولم يشهد خلق نفسه ولا قومه . . ولكن الأمر من الوضوح والثبوت إلى حد أن يشهد المؤمنون عليه واثقين . .

إن كل ما في الكون لينطق بوحدة الخالق المدبر . وإن كل ما في كيان الإنسان ليهتف به إلى الإقرار بوحدانية الخالق المدبر , وبوحدة الناموس الذي يدبر الكون ويصرفه .

*********

كيف تعامل إبراهيم –عليه السلام- مع تلك الأصنام ؟؟ وكيف تحمل تبعات الوقوف وحده أمام عبدة الأصنام ؟؟

هذا ما نراه في اللقاء القادم إن شاء الله تعالى.

كانت مصادر التفسير في هذا اللقاء ( في ظلال القرآن )

 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الأنبياء
(13)

المواجهة الفعالة
والمحاكمة العلنية لخليل الله (إبراهيم)


عشنا في اللقاء السابق مع نبي الله إبراهيم عليه السلام وهو يحاول أن يقنع قومه بعقيدة التوحيد والتوجه الصحيح للعبادة وأن لا تكون إلا لخالق هذا الكون ( الله سبحانه وتعالى ) ولكن كان من قومه العناد والتمسك بعبادة الأصنام...
واليوم بعون من الله تعالى نعاين موقف إبراهيم عليه السلام من عناد قومه ومن الأصنام التي تعبد من دون الله تعالى..


قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ – 55 قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ – 56

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ – 57 فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ – 58

قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ – 59 قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ – 60 قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ – 61 قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ – 62


يعلن إبراهيم لمن كان يواجههم من قومه بهذا الحوار . أنه قد اعتزم في شأن آلهتهم أمرا لا رجعة فيه :

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ..

ويترك ما اعتزمه من الكيد للأصنام مبهما لا يفصح عنه . . ولا يذكر السياق كيف ردوا عليه . ولعلهم كانوا مطمئنين إلى أنه لن يستطيع لآلهتهم كيدا . فتركوه !
ولكنه كان صادق القول .. فها هو يذهب إلى معبدهم حيث الأصنام التي لا تضر ولا تنفع..

فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ..

وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة . . إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم ( لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ) فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغار الآلهة ! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها , فيرجعون إلى صوابهم , ويدركون منه ما في عبادة هذه الأصنام من سخف وتهافت .


وعاد القوم ليروا آلهتهم جذاذا إلا ذلك الكبير ! ولكنهم لم يرجعوا إليه يسألونه ولا إلى أنفسهم يسألونها : إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئا . وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها ?

لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال , لأن الخرافة قد عطلت عقولهم عن التفكير , ولأن التقليد قد غل أفكارهم عن التأمل والتدبر .

فإذا هم يدعون هذا السؤال الطبيعي لينقموا على من حطم آلهتهم , وصنع بها هذا الصنيع :
قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ..

عندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه ومن معه عبادة هذه التماثيل , ويتوعدهم أن يكيد لآلهتهم بعد انصرافهم عنها !

قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ..


وهناك احتمال أن يكون قولهم: ( قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ )
يقصد به إلى تصغير شأنه بدليل تجهيلهم لأمره في قولهم : ( يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ) للتقليل من أهميته , وإفادة أنه مجهول لا خطر له...

قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ..

وقد قصدوا إلى التشهير به , وإعلان فعلته على رؤوس الأشهاد !

بدء المحاكمة

قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ.. ؟

فهم ما يزالون يصرون على أنها آلهة وهي جذاذ مهشمة . فأما إبراهيم فهو يتهكم بهم ويسخر منهم , وهو فرد وحده وهم كثير . ذلك أنه ينظر بعقله المفتوح وقلبه الواصل فلا يملك إلا أن يهزأ بهم ويسخر , وأن يجيبهم إجابة تناسب هذا المستوى العقلي الدون :

********
كانت مصادر تفسير هذا اللقاء ( في ظلال القرأن )

وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الأنبياء
(14)


بدء المحاكمة

قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ.. ؟

فهم ما يزالون يصرون على أنها آلهة وهي جذاذ مهشمة . فأما إبراهيم فهو يتهكم بهم ويسخر منهم , وهو فرد وحده وهم كثير . ذلك أنه ينظر بعقله المفتوح وقلبه الواصل فلا يملك إلا أن يهزأ بهم ويسخر , وأن يجيبهم إجابة تناسب هذا المستوى العقلي الدون :

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ - 63

والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر . فلا داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم - عليه السلام - والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون .

فالأمر أيسر من هذا بكثير ! إنما أراد أن يقول لهم : إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكا . فهي جماد لا إدراك له أصلا .

وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل . فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أم إن هذا التمثال هو الذي حطمها !

فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ..!

ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا , وردهم إلى شيء من التدبر والتفكر:

فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ – 64

وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف , وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم . وأن تتفتح بصيرتهم لأول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم , وذلك الظلم الذي هم فيه سادرون .

وصاح الغوغاء وسدنة الأصنام وضجت القاعة بالأصوات.

ولكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام , وإلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود:

ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ - 65

وحقا لقد كانت الأولى رجعة إلى النفوس , وكانت الثانية نكسة على الرؤوس ; كما يقول التعبير القرآني المصور العجيب . .

كانت الأولى حركة في النفس للنظر والتدبر . أما الثانية فكانت انقلابا على الرأس فلا عقل ولا تفكير . وإلا فإن قولهم هذا الأخير هو الحجة عليهم .

وأية حجة لإبراهيم أقوى من أن هؤلاء لا ينطقون ?!

ومن ثم يجبههم بعنف وضيق على غير عادته وهو الصبور الحليم . لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم :

قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ – 66 أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ – 67

وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدر , وغيظ النفس , والعجب من السخف الذي يتجاوز كل مألوف .

ونتوقف لنسمع النطق بالحكم في اللقاء القادم إن شاء الله تعالى..

*******
مصدر التفسير في هذا اللقاء ( في ظلال القرأن )

دمتم في رعاية الله وأمنه.
وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى.


 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الأنبياء
(15)

النطق بالحكم

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68)

أخذتهم العزة بالإثم كما تأخذ الطغاة دائما حين يفقدون الحجة ويعوزهم الدليل , فيلجأون إلى القوة الغاشمة والعذاب الغليظ :

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ.

فيالها من آلهة ينصرها عبادها , وهي لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا ; ولا تحاول لها ولا لعبادها نصرا !

*******

الإنتصار من الله تعالى
لإبراهيم عليه السلام.

ولكن كلمة أخرى قد قيلت من خالق هذا الكون . . فأبطلت كل قول , وأحبطت كل كيد . ذلك أنها الكلمة العليا التي لا ترد :

قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)

والمشهود المعروف أن النار تحرق الأجسام الحية ....
فالذي قال للنار : كوني حارقة . هو الذي قال لها : كوني بردا وسلاما . وهي الكلمة الواحدة التي تنشيء مدلولها عند قولها كيفما كان هذا المدلول . مألوفا للبشر أو غير مألوف .

وما كان تحويل النار بردا وسلاما على إبراهيم إلا مثلا تقع نظائره في صور شتى . ولكنها قد لا تهز المشاعر كما يهزها هذا المثل الظاهر الجاهر .
فكم من ضيقات وكربات تحيط بالأشخاص والجماعات من شأنها أن تكون القاصمة القاضية , وإن هي إلا لفتة صغيرة , فإذا هي تحيي ولا تميت , وتنعش ولا تخمد , وتعود بالخير على المؤمنين والدعاة في الدنيا والأخرة.

*******

وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)

وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)


وقد روي أن الملك المعاصر لإبراهيم كان يلقب "بالنمرود" وهو ملك الآراميين بالعراق . وأنه قد هلك هو والملأ من قومه بعذاب من عند الله .

تختلف الروايات في تفصيلاته , فالمهم أن الله قد أنجى إبراهيم من الكيد الذي أريد به , وباء الكائدون له بخسارة ما بعدها خسارة...

فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ.

هكذا على وجه الإطلاق دون تحديد !

وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ..

وهي أرض الشام التي هاجر إليها هو وابن أخيه لوط . فكانت مهبط الوحي فترة طويلة , ومبعث الرسل من نسل إبراهيم . وفيها الأرض المقدسة . وثاني الحرمين . وفيها بركة الخصب والرزق , إلى جانب بركة الوحي والنبوة جيلا بعد جيل .

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ.

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ.

لقد ترك إبراهيم - عليه السلام - وطنا وأهلا وقوما . فعوضه الله الأرض المباركة وطنا خيرا من وطنه . وعوضه ابنه إسحاق وحفيده يعقوب أهلا خيرا من أهله . وعوضه من ذرية ابنه إسماعيل أمة عظيمة العدد قوما خيرا من قومه . وجعل من نسله خير البرية ( رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ) وأئمة يهدون الناس بأمر الله, إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..

وأوحى إليهم أن يفعلوا الخيرات على اختلافها , وأن يقيموا الصلاة , ويؤتوا الزكاة . وكانوا طائعين لله عابدين . . فنعم العوض , ونعم الجزاء , ونعمت الخاتمة التي قسمها الله لإبراهيم . لقد ابتلاه بالضراء فصبر , فكانت الخاتمة الكريمة اللائقة بصبره الجميل...

انها حياة نابضة نشاهدها من خلال آيات القرآن العظيم لتكون لنا نورا على الطريق إلى الله تعالى.

مصادر التفسير لهذا اللقاء (في ظلال القرآن)

********

دمتم في رعاية الله وأمنه
وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى..

 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الصافات
(16)

قال إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ

نستكمل بعون الله تعالى تلكم المسيرة الطاهرة لنبي الله (إبراهيم عليه السلام) ..فبعد أن نجاه الله تعالى من النار, عزم على الهجرة إلى الله تعالى..

لقد انتهى أمره مع أبيه وقومه . لقد أرادوا به الهلاك في النار التي أسموها الجحيم , وأراد الله أن يكونوا هم الأسفلين ; ونجاه من كيدهم أجمعين .
عندئذ استدبر إبراهيم مرحلة من حياته ليستقبل مرحلة ; وطوى صفحة لينشر صفحة:


وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ – 99 رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ – 100 فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ – 101

هكذا . . إني ذاهب إلى ربي . . إنها الهجرة . وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية . هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته . يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض , وبهؤلاء الناس . ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل . ويهاجر إلى ربه متخففاً من كل شيء , طارحاً وراءه كل شيء , مسلماً نفسه لربه لا يستبقي منها شيئاً . موقن أن ربه سيهديه , وسيرعى خطاه , وينقلها في الطريق المستقيم .

إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال , ومن وضع إلى وضع , ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء . إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين .

وكان إبراهيم عليه السلام حتى هذه اللحظة وحيداً لا عقب له ; وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى , والصحبة والمعرفة . وكل مألوف له في ماضي حياته , وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها , والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم....
فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه . اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح :

رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ.

واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد , الذي ترك وراءه كل شيء , وجاء إليه بقلب سليم . .

فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ.

هو إسماعيل عليه السلام - كما يرجح سياق السيرة والسورة - وسنرى آثار حلمه الذي وصفه ربه به وهو غلام . ولنا أن نتصور فرحة إبراهيم الوحيد المفرد المهاجر المقطوع من أهله وقرابته . لنا أن نتصور فرحته بهذا الغلام , الذي يصفه ربه بأنه حليم .

والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم . بل في حياة البشر أجمعين . وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن العظيم أمام المثل الموحي الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم عليه السلام . .

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ – 102

******

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.


يالله ! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم . .
هذا إبراهيم الشيخ عليه السلام . المقطوع من الأهل والقرابة . المهاجر من الأرض والوطن . ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام . طالما تطلع إليه .
فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم .
وها هو ذا ما يكاد يأنس به , وصباه يتفتح , ويبلغ معه السعي , ويرافقه في الحياة . . ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد , حتى يرى في منامه أنه يذبحه . ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية .

فماذا ? إنه لا يتردد , ولا يخالجه إلا شعور الطاعة , ولا يخطر له إلا خاطر التسليم . . نعم إنها إشارة . مجرد إشارة . وليست وحياً صريحاً , ولا أمراً مباشراً . ولكنها إشارة من ربه . . وهذا يكفي . . هذا يكفي ليلبي ويستجيب . ودون أن يعترض . ودون أن يسأل ربه . . لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد ?!

ولكنه لا يلبي في انزعاج , ولا يستسلم في جزع , ولا يطيع في اضطراب . . كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء . يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب:

قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى.

فهي كلمات المالك لأعصابه , المطمئن للأمر الذي يواجهه , والواثق بأنه يؤدي واجبه . وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن , الذي لا يهوله الأمر فيؤديه , في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي , ويستريح من ثقله على أعصابه !

والأمر شاق - ما في ذلك شك - فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة . ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته . . إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده . يتولى ماذا ? يتولى ذبحه . . وهو - مع هذا - يتلقى الأمر هذا التلقي , ويعرض على ابنه هذا العرض ; ويطلب إليه أن يتروى في أمره , وأن يرى فيه رأيه !

إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه . وينتهي . إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر . فالأمر في حسه هكذا .

ربه يريد . فليكن ما يريد . على العين والرأس . وابنه ينبغي أن يعرف . وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً , لا قهراً واضطراراً . لينال هو الآخر أجر الطاعة , وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم !

إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها ; وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى . .

فماذا يكون من أمر الغلام , الذي يعرض عليه الذبح , تصديقاً لرؤيا رآها أبوه ?
إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه:

قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.
.
إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب . ولكن في رضى كذلك وفي يقين . .

( يَا أَبَتِ ) . . في مودة وقربى . فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده . بل لا يفقده أدبه ومودته .
( افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ) . . فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه . يحس أن الرؤيا إشارة . وأن الإشارة أمر . وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب .

ثم هو الأدب مع الله , ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال ; والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية , ومساعدته على الطاعة :

سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.

ولم يأخذها بطولة . ولم يأخذها شجاعة . ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة .
ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً . . إنما أرجع الفضل كله لله تعالى إن هو أعانه على ما يطلب إليه , وأصبره على ما يراد به :

ونستكمل هذه المشاهد الحية بعون الله تعالى في اللقاء القادم.

كانت مصادر التفسير في هذا اللقاء:
( في ظلال القرآن )


*******

فإلى الملتقى إن شاء الله تعالى..

 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الصافات
(17)


سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.

يا للأدب مع الله ! ويالروعة الإيمان . ويالنبل الطاعة . ويالعظمة التسليم !
ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام . . يخطو إلى التنفيذ :

فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ – 103

ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة . وعظمة الإيمان . وطمأنينة الرضى وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان . .
إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعداداً . وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعاً .

وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ – 104

قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ – 105

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ – 106

وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ – 107

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ – 108

سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ – 109

كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - 110 إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ – 111

وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ – 112


قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلاً . فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه , ولو كان هو الابن فلذة الكبد . ولو كانت هي النفس والحياة .

وأنت - يا إبراهيم - قد فعلت . جدت بكل شيء . وبأعز شيء . وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين . فلم يبق إلا اللحم والدم . وهذا ينوب عنه ذبح . أي ذبح من دم ولحم !

ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت .
يفديها بذبح عظيم . قيل : إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلاً من إسماعيل !


وقيل له : ( كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ). . نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء . ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء . ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء . ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء !

ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى , ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان . وجمال الطاعة . وعظمة التسليم . والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم عليه السلام , الذي تتبع ملته , والذي ترث نسبه وعقيدته .

ولتدرك الأمة طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا ?
ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه . ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا , ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم !

ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء , ولا أن يؤذيها بالبلاء , إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدية . مستسلمة لا تقدم بين يديه , ولا تتألى عليه , فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام . واحتسبها لها وفاء وأداء . وقبل منها وفدّاها . وأكرمها كما أكرم أباها . .

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ.

فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون . وهو أمة . وهو أبو الأنبياء . وهو أبو هذه الأمة المسلمة . وهي وارثة ملته . وقد كتب الله لها وعليها قيادة البشرية على ملة إبراهيم . فجعلها الله له عقباً ونسباً إلى يوم الدين .

سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.

سلام عليه من ربه . سلام يسجل في كتابه الباقي . ويرقم في طوايا الوجود الكبير .

كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.

كذلك نجزيهم بالبلاء . . والوفاء . والذكر . والسلام . والتكريم .

إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.

وهذا جزاء الإيمان . وتلك حقيقته فيما كشف عنه البلاء المبين .

وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ.

ثم يتجلى عليه ربه بفضله مرة أخرى ونعمته فيهب له إسحاق في شيخوخته . ويباركه ويبارك إسحاق . ويجعل إسحاق نبياً من الصالحين :

وتتلاحق من بعدهما ذريتهما . ولكن وراثة هذه الذرية لهما ليست وراثة الدم والنسب إنما هي وراثة الملة والمنهج : فمن اتبع فهو محسن . ومن انحرف فهو ظالم لا ينفعه نسب قريب أو بعيد...

كانت مصادر التفسير في هذا اللقاء:
( في ظلال القرآن )

*******

فإلى الملتقى إن شاء الله تعالى..
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(1)

قصة موسى عليه السلام

إن هناك قوة واحدة في هذا الوجود ,هي قوة الله ; وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون , هي قيمة الإيمان .
فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه , ولو كان مجردا من كل مظاهر القوة ,
ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى,
ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله , ومن فقد هذه القيمة فليس بنافعه شيء أصلا .

وهذه المقدمة ضرورية لنفهم القصة ونعيش معها مطمئنين في سير أحداثها العظيمة بدءا بقتل الذكور من المواليد وإنتهاءا بفلق البحر ونجاة نبي الله موسى ومن معه وهلاك فرعون وجنوده..

*******

تبدأ قصة موسى عليه السلام منذ ولادته ...

فجنود فرعون في كل مكان بمصر يبحثون عن أي طفل يولد لبني إسرائيل فيقتلوه حذرا من أنه سوف يولد في هذا العام مولود يضيع على يديه ملك فرعون .

لقد علا فرعون في الأرض , واتخذ أهلها شيعا , واستضعف بني إسرائيل , يذبح أبناءهم , ويستحيي نساءهم , وهو على حذر منهم , وهو قابض على أعناقهم .

ولكن قوة فرعون وجبروته , وحذره ويقظته , لا تغني عنه شيئا ;
بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير , المجرد من كل قوة وحيلة ,

فموسى في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة ترعاه عين العناية , وتدفع عنه السوء , وتعمي عنه العيون , وتتحدى به فرعون وجنده تحديا ظاهرا , فتدفع به إلى حجره , وتدخل به عليه عرينه , بل تقتحم به عليه قلب امرأته وهو مكتوف اليدين إزاءه , مكفوف الأذى عنه , يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه !

لقد بغى فرعون على بني إسرائيل واستطال بجبروت الحكم والسلطان..
تدخلت يد القدرة فوضعت حدا للبغي والفساد , حينما عجز الناس عن الوقوف للبغي والفساد .

ونعيش مع المشاهد الحية لقصة من أعظم القصص على وجه الأرض وهي نموذج حي لكفاح الأنبياء في موجهة الكفر والشرك ختمها سيد الرسل سيدنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه..

********

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
(4)


الجو العام قبل ولادة موسى عليه السلام

إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا , يستضعف طائفة منهم , يذبح أبناءهم , ويستحيي نساءهم , إنه كان من المفسدين . ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة , ونجعلهم الوارثين . ونمكن لهم في الأرض , ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون . .

ولا يعرف على وجه التحديد من هو الفرعون الذي تجري حوادث القصة في عهده , فالتحديد التاريخي ليس هدفا من أهداف القصة القرآنية ; ولا يزيد في دلالتها شيئا . ويكفي أن نعلم أن هذا كان بعد زمان يوسف - عليه السلام - الذي استقدم أباه وإخوته . وأبوه يعقوب وهو " إسرائيل " وهؤلاء كانوا ذريته . وقد تكاثروا في مصر وأصبحوا شعبا كبيرا .

فلما كان ذلك الفرعون الطاغية ( علا في الأرض ) وتكبر وتجبر , وجعل أهل مصر شيعا , كل طائفة في شأن من شئونه . ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل , لأن لهم عقيدة غير عقيدته هو وقومه ; فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم وأبيهم يعقوب ; ومهما يكن قد وقع في عقيدتهم من فساد وانحراف , فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد ; وإنكار ألوهية فرعون والوثنية الفرعونية جميعا .

وكذلك أحس الطاغية أن هناك خطرا على عرشه وملكه من وجود هذه الطائفة في مصر ; ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها وهم جماعة كبيرة أصبحت تعد مئات الألوف , فقد يصبحون إلبا عليه مع جيرانه الذين كانت تقوم بينهم وبين الفراعنة الحروب , فابتكر عندئذ طريقة جهنمية خبيثة للقضاء على الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة التي لا تعبده ولا تعتقد بألوهيته ,

تلك هي تسخيرهم في الشاق الخطر من الأعمال , واستذلالهم وتعذيبهم بشتى أنواع العذاب . وبعد ذلك كله تذبيح الذكور من أطفالهم عند ولادتهم , واستبقاء الإناث كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم . وبذلك يضعف قوتهم بنقص عدد الذكور وزيادة عدد الإناث , فوق ما يصبه عليهم من نكال وعذاب .

وروي أنه وكل بالحوامل من نسائهم قوابل مولدات يخبرنه بمواليد بني إسرائيل , ليبادر بذبح الذكور , فور ولادتهم حسب خطته الجهنمية الخبيثة , التي لا تستشعر رحمة بأطفال أبرياء لا ذنب لهم ولا خطيئة .

هذه هي الظروف التي تجري فيها قصة موسى - عليه السلام - عند ولادته , كما وردت في سورة القصص :

*******

وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)

وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)


فهؤلا ء المستضعفون الذين يتصرف الطاغية في شأنهم كما يريد له هواه البشع النكير , فيذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم , ويسومهم سوء العذاب والنكال . وهو مع ذلك يحذرهم ويخافهم على نفسه وملكه ; فيبث عليهم العيون والأرصاد , ويتعقب نسلهم من الذكور فيذبحهم..

هؤلاء المستضعفون يريد الله أن يمن عليهم بهباته من غير تحديد ; وأن يجعلهم أئمة وقادة لا عبيدا ولا تابعين ; وأن يورثهم الأرض المباركة التي أعطاهم إياها عندما استحقوها بعد ذلك بالإيمان والصلاح..

وأن يمكن لهم فيها فيجعلهم أقوياء راسخي الأقدام مطمئنين . وأن يحقق ما يحذره فرعون وهامان وجنودهما , وما يتخذون الحيطة دونه , وهم لا يشعرون !

*******

هكذا يعلن السياق قبل أن يأخذ في عرض القصة ذاتها . يعلن واقع الحال , وما هو مقدر في المآل .
ويرسم بهذا الإعلان حقيقة الأمر للقصة قبل أن تبدأ في العرض.

والقلوب معلقة بأحداثها ومجرياتها , وما ستنتهي إليه , وكيف تصل إلى تلك النهاية التي أعلنها قبل البدء في عرضها .

ومن ثم تنبض القصة بالحياة ; وكأنها تعرض لأول مرة ..


ودل ذلك العرض أنه حين يتمحض الشر ويسفر الفساد ويقف الخير عاجزا والصلاح حسيرا ; ويخشى من الفتنة بالبأس والفتنة بالمال .
عندئذ تتدخل يد القدرة واضحة متحدية , بلا ستار من الخلق , ولا سبب من قوى الأرض , لتضع حد للشر والفساد .

وقد قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا - 57 القصص . فاعتذروا عن عدم اتباعهم الهدى بخوفهم من تخطف الناس لهم , لو تحولوا عن عقائدهم القديمة التي من أجلها يخضع الناس لهم , ويعظمون البيت الحرام ويدينون للقائمين عليه .

فساق الله إليهم في هذه السورة قصة موسى وفرعون , تبين لهم أين يكون الأمن وأين تكون المخافة ; وتعلمهم أن الأمن إنما يكون في جوار الله , ولو فقدت كل أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها الناس ; وأن الخوف إنما يكون في البعد عن ذلك الجوار ولو تظاهرت أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها الناس ..

وبذلك ندرك أهداف القصة في تربية العقيدة وجعل القلب معلق بقوة الله تعالى الذي له ما في السماوات والأرض فالكل مكشوف لديه لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء..

******
وإن شاء الله تعالى نعيش مع المشاهد الحية للقصة في اللقاء القادم..

دمتم في رعاية الله وأمنه
 
موضوع رائع

موضوع رائع

جزاك الله خيرا..على هذا الموضوع
هل من الممكن التواصل للاستفادة من أبحاثكم ...لأني أريد أن أكتب بحثاً عن الأنبياء في القرآن والحضارة عندهم
فاذا امكن التواصل عن طريق الايميل
وشكرا
 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(2)

وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ..

تبدأ القصة في سورة القصص منذ ميلاد موسى عليه السلام, ذلك أن الحلقة الأولى من قصة موسى , والظروف القاسية التي ولد فيها ; وتجرده في طفولته من كل قوة ومن كل حيلة ; وضعف قومه واستذلالهم في يد فرعون . .

ذلك كله هو الذي يؤدي إلى الهدف الرئيسي من القصة ; ويبرز يد القدرة ظاهرة متحدية تعمل وحدها بدون ستار من البشر ; وتضرب الظلم والطغيان والبغي ضربة مباشرة عندما يعجز عن ضربها البشر ; وتنصر المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة ; وتمكن للمعذبين الذين لا حيلة لهم ولا وقاية .

وهو المعنى الذي كانت القلة المسلمة المستضعفة في مكة في حاجة إلى تقريره وتثبيته ; وكانت الكثرة المشركة الباغية الطاغية في حاجة إلى معرفته واستيقانه .

إن الشر حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته ; والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر ; بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم , فتنقذهم وتستنقذ عناصر الخير فيهم , وتربيهم , وتجعلهم أئمة , وتجعلهم الوارثين .

حفظ الله لموسى الرضيع وإعادته إلى أمه .

تبدأ القصة . ويبدأ التحدي وتنكشف يد القدرة تعمل واضحة بلا ستار:
لقد ولد موسى في ظل تلك الأوضاع القاسية التي رسمها قبل البدء في القصة ; ولد والخطر محدق به , والموت يتلفت عليه , والشفرة مشرعة على عنقه , تهم أن تحتز رأسه . .

وها هي ذي أمه حائرة به , خائفة عليه , تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين , وترجف أن تتناول عنقه السكين ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة , عاجزة عن حمايته , عاجزة عن إخفائه , عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه ; عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة . .

ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة .

هنا تتدخل يد القدرة , فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة , وتلقي في روعها كيف تعمل , وتوحي إليها بالتصرف :

وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)

وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)


يا لله ! يا للقدرة ! يا أم موسى أرضعيه . فإذا خفت عليه وهو في حضنك . وهو في رعايتك . إذا خفت عليه وفي فمه ثديك , وهو تحت عينيك . إذا خفت عليه ( فألقيه في اليم )!!

( ولا تخافي ولا تحزني ) إنه هنا . أو في اليم . . في رعاية التي لا خوف معها . اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها . اليد التي تجعل النار بردا وسلاما , وتجعل البحر ملجأ ومناما . اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب .

( إنا رادوه إليك ). فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده .( وجاعلوه من المرسلين ). .
وتلك بشارة الغد , ووعد الله أصدق القائلين .

هذا هو المشهد الأول في القصة . مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح .

وينزل هذا الإيحاء على القلب المؤمن الواجف المحرور بردا وسلاما .

وينتقل المشهد مع موسى وهو في التابوت وقد أمر اليم أن ينقله إلى الساحل حيث قصر فرعون.

قال تعالى في سورة طه : أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ .
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ.


وتمر الخواطر في رأس الإنسان العادي ..
أهذا هو الأمن ? أهذا هو الوعد ? أهذه هي البشارة ?

وهل كانت المسكينة تخشى عليه إلا من آل فرعون ?

وهل كانت ترجف إلا أن ينكشف أمره لآل فرعون ? وهل كانت تخاف إلا أن يقع في أيدي آل فرعون ?

نعم ! ولكنها القدرة تتحدى بطريقة واضحة جلية .
تتحدى فرعون وهامان وجنودهما . إنهم ليتتبعون الذكور من مواليد قوم موسى خوفا على ملكهم وعرشهم وذواتهم . ويبثون العيون والأرصاد على قوم موسى كي لا يفلت منهم طفل ذكر . .

فها هي ذي يد القدرة تلقي في أيديهم بلا بحث ولا كد بطفل ذكر . وأي طفل ? إنه الطفل الذي على يديه هلاكهم أجمعين !

ها هي ذي يد القدرة تلقيه في أيديهم مجردا من كل قوة ومن كل حيلة , عاجزا عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد !

ها هي ذي يد القدرة تقتحم به على فرعون حصنه وهو الطاغية السفاح المتجبر , ولا تتعبه في البحث عنه في بيوت بني إسرائيل , وفي أحضان نسائهم الوالدات !

لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً.

ليكون لهم عدوا يتحداهم وحزنا يدخل الهم على قلوبهم :

إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ.

ولكن كيف ? كيف وها هو ذا بين أيديهم , مجردا من كل قوة , مجردا من كل حيلة ? لندع السياق يجيب :

وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.

لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون قلب امرأته , بعد ما اقتحمت به عليه حصنه . لقد حمته بالمحبة . ذلك الستار الرقيق الشفيف .
لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال . حمته بالحب الحاني في قلب امرأة .
قال تعالى في سورة طه : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي - 39

وتحدت يد القدرة به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره . . وهان فرعون على الله أن يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف !

قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ..

وهو الذي تدفع به يد القدرة إليهم ليكون لهم عدوا وحزنا - فيما عدا المرأة وأي مؤمن أخر.

لَا تَقْتُلُوهُ ..

***********
كانت مصادر تفسير هذا اللقاء
( في ظلال القرآن )


وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(3)

قلب أم موسى
بين الفراغ والرباط


وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)

لقد سمعت الإيحاء , وألقت بطفلها إلى الماء . ولكن أين هو يا ترى وماذا فعلت به الأمواج ? ولعلها سألت نفسها:كيف ? كيف أمنت على فلذة كبدي أن أقذف بها في اليم ? كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أم ? كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة ? وكيف استسلمت لذلك الهاتف الغريب ?

والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية :

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ..

وأصبح فؤاد أم موسى خاليًا من كل شيء في الدنيا إلا من همِّ موسى وذكره,
وقاربت أن تُظهِر أنه ابنها لولا أن ثبتناها, فصبرت ولم تُبْدِ به ; لتكون من المؤمنين بوعد الله الموقنين به المؤمنين بوعد الله , الصابرين على ابتلائه , السائرين على هداه .

ولم تسكت أم موسى عن البحث والمحاولة ..

وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ..

اتبعي أثره , واعرفي خبره , إن كان حيا , أو أكلته دواب البحر أو وحوش البر . . أو أين مقره ومرساه ?

وذهبت أخته تقص أثره في حذر وخفية , وتتلمس خبره في الطرق والأسواق . فإذا بها تعرف أين ساقته القدرة التي ترعاه ; وتبصر به عن بعد في أيدي خدم فرعون يبحثون له عن مرضع :

وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ.

إن القدرة التي ترعاه تدبر أمره , وتكيد به لفرعون وآله ; فتجعلهم يلتقطونه , وتجعلهم يحبونه , وتجعلهم يبحثون له عن مرضع , وتحرم عليه المراضع , لتدعهم يحتارون به ; وهو يرفض الثدي كلما عرضت عليه , وتمر الساعات دون رضاع ...
ولكنها بركة الله في أخر رضعة, إذ كانت بأمر من الله مباشرة : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ. ) فكيف تمر ساعات ولا يشعر الطفل بالجوع أو العطش ولا يبكي ولا ينفر أحدا ممن ينظرون إليه ولا يرفعون نظرهم عنه..حبا ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي. )
وتمر الساعات وهم يخشون عليه الموت أو الذبول ! حتى تبصر به أخته من بعيد , فتعرفه وتتيح لها القدرة فرصة لهفتهم على مرضع , فتقول لهم :

هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ.؟

فيتلقفون كلماتها , وهم يستبشرون , يودون لو تصدق فينجو الطفل العزيز المحبوب !

*******

مشهد أم موسى وقد عاد إليها وليدها

فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

لقد عاد الطفل الغائب لأمه الملهوفة . معافى في بدنه , مرموقا في مكانته , يحميه فرعون , وترعاه امرأته .

﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ ﴾ كما وعدناها بذلك ﴿ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ﴾ بحيث إنه تربى عندها على وجه تكون فيه آمنة مطمئنة، تفرح به، وتأخذ الأجرة الكثيرة على ذلك..
﴿ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ فأريناها بعض ما وعدناها به عيانا، ليطمئن بذلك قلبها، ويزداد إيمانها، ولتعلم أنه سيحصل وعد اللّه في حفظه ورسالته..

﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

فاستمر موسى عليه الصلاة والسلام عند آل فرعون، يتربى في سلطانهم، ويركب مراكبهم، ويلبس ملابسهم، وأمه بذلك مطمئنة، قد استقر أنها أمه من الرضاع،
ولم يستنكر ملازمته إياها وحنوها عليها.
وتأمل هذا اللطف من الله تعالى، وصيانة نبيه موسى . حيث عاد إلى حضن أمه ، الذي بان للناس أنه هو الرضاع، الذي بسببه يسميها أُمَّا، فكان الكلام الكثير منه ومن غيره في ذلك كله، صدقا وحقا.


فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)


كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن)
(التفسير الميسر)
(تفسير السعدي)

***********
وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(4)

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)

********

مرحلة الشباب

وبلوغ الأشد اكتمال القوى الجسمية . والاستواء اكتمال النضوج العضوي والعقلي . وهو يكون عادة حوالي سن الثلاثين . فهل ظل موسى في قصر فرعون , ربيبا ومتبنى لفرعون وزوجه حتى بلغ هذه السن ? أم إنه افترق عنهما , واعتزل القصر ,

وترد آيات سورة الشعراء على هذا التسائل :

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ -18 وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ – 19

قال فرعون لموسى ممتنًا عليه : ألم نُرَبِّك في منازلنا صغيرًا , ومكثت في رعايتنا سنين من عُمُرك وارتكبت جنايةً بقتلك رجلًا من قومي حين ضربته ودفعته , وأنت من الجاحدين نعمتي المنكرين ربوبيتي ؟

********

وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ, فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ,فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ, قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ - 15

قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - 16 قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ -17


********
جاء في تفسير الجلالين

﴿ودخل﴾ موسى ﴿ المدينة ﴾ مدينة فرعون وهي منف بعد أن غاب عنه مدة ﴿ على حين غفلة من أهلها ﴾ وقت القيلولة ﴿ فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته ﴾ أي من بني إسرائيل ﴿ وهذا من عدوه ﴾ أي قبطي يسخره ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون.
﴿ فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ﴾ فقال له موسى خل سبيله..
فقيل إنه قال لموسى لقد هممت أن أحمله عليك..
﴿ فوكزه موسى ﴾ أي ضربه بجمع كفه وكان شديد القوة والبطش ﴿ فقضى عليه ﴾ أي قتله ولم يكن يقصد قتله ودفنه في الرمل..
﴿ قال هذا ﴾ أي القتل ﴿ من عمل الشيطان ﴾ المهيج غضبي ﴿ إنه عدو ﴾ لابن آدم ﴿ مضل ﴾ له ﴿ مبين ﴾ بين الإضلال..

********

ثم استطرد موسى عليه السلام في فزع مما دفعه إليه الغضب , يعترف بظلمه لنفسه أن حملها هذا الوزر , ويتوجه إلى ربه , طالبا مغفرته وعفوه:

( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ ). .

واستجاب الله إلى ضراعته , وحساسيته , واستغفاره:

( فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ). .

وكأنما أحس موسى بقلبه المرهف وحسه المتوفز في حرارة توجهه إلى ربه , أن ربه غفر له .
والقلب المؤمن يحس بالاتصال والاستجابة للدعاء , فور الدعاء , حين يصل إرهافه وحساسيته إلى ذلك المستوى ; وحين تصل حرارة توجهه إلى هذا الحد . . وارتعش وجدان موسى - عليه السلام - وهو يستشعر الاستجابة من ربه , فإذا هو يقطع على نفسه عهدا , يعده من الوفاء بشكر النعمة التي أنعمها عليه ربه :

( قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ ). .

فهو عهد مطلق ألا يقف في صف المجرمين ظهيرا ومعينا . وهو براءة من الجريمة وأهلها في كل صورة من صورها . حتى ولو كانت اندفاعا تحت تأثير الغيظ , ومرارة الظلم والبغي . ذلك بحق نعمة الله عليه في قبول دعائه ; ثم نعمته في القوة والحكمة والعلم التي آتاه الله من قبل . وهذه الإرتعاشة العنيفة , وقبلها الإندفاع العنيف , تصور لنا شخصية موسى - عليه السلام - شخصية انفعالية , حارة الوجدان , قوية الاندفاع . وسنلتقي بهذه السمة البارزة في هذه الشخصية في مواضع أخرى كثيرة .

*******

اليوم التالي

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ – 18

ومر يوم وأصبح في المدينة خائفا من انكشاف أمره , يترقب الافتضاح والأذى .
ولفظ ( يترقب ) يصور هيئة القلق الذي يتلفت ويتوجس , ويتوقع الشر في كل لحظة . . وهي سمة الشخصية الانفعالية تبدو في هذا الموقف كذلك . والتعبير يجسم هيئة الخوف والقلق بهذا اللفظ , كما أنه يضخمها بكلمتي ( في المدينة ) فالمدينة عادة موطن الأمن والطمأنينة , فإذا كان خائفا يترقب في المدينة , فأعظم الخوف ما كان في مأمن ومستقر !

وحالة موسى هذه تلهم أنه لم يكن في هذا الوقت من رجال القصر . وإلا فما أرخص أن يزهق أحد رجال القصر نفسا في عهود الظلم والطغيان ! وما كان ليخشى شيئا فضلا على أن يصبح ( خائفا يترقب ) لو أنه كان ما يزال في مكانه من قلب فرعون وقصره .

وبينما هو في هذا القلق والتوجس إذا هو يطلع : ( فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ) !

إنه صاحبه من بني إسرائيل الذي طلب بالأمس نصرته على القبطي . إنه هو مشتبكا مع قبطي آخر ; وهو يستصرخ موسى لينصره ; ولعله يريد منه أن يقضي على عدوهما المشترك بوكزة أخرى !

ولكن صورة قتيل الأمس كانت ما تزال تخايل لموسى . وإلى جوارها ندمه واستغفاره وعهده مع ربه . ثم هذا التوجس الذي يتوقع معه في كل لحظة أن يلحقه الأذى . فإذا هو ينفعل على هذا الذي يستصرخه , ويصفه بالغواية والضلال:

قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ.

غوي بعراكه هذا الذي لا ينتهي واشتباكاته التي لا تثمر إلا أن تثير الثائرة على بني إسرائيل . وهم عن الثورة الكاملة عاجزون , وعن الحركة المثمرة ضعفاء . فلا قيمة لمثل هذه الاشتباكات التي تضر ولا تفيد .
ولكن الذي حدث أن موسى - بعد ذلك - انفعلت نفسه بالغيظ من القبطي , فاندفع يريد أن يقضي عليه كما قضى على الأول بالأمس !
ولهذا الاندفاع دلالته على تلك السمة الانفعالية التي أشرنا إليها , ولكن له دلالته من جانب آخر على مدى امتلاء نفس موسى - عليه السلام - بالغيظ من الظلم , والنقمة على البغي , والضيق بالأذى الواقع على بني إسرائيل .

فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ – 19

لقد طال الظلم ببني إسرائيل , فضاقت به نفس موسى - عليه السلام - حتى رأيناه يندفع في المرة الأولى

ويندم , ثم يندفع في المرة الثانية لما ندم عليه حتى ليكاد يفعله , ويهم أن يبطش بالذي هو عدو له ولقومه .
لذلك لم يتخل الله عنه , بل رعاه , واستجاب له , فالله العليم بالنفوس يعلم أن للطاقة البشرية حدا في الاحتمال . وأن الظلم حين يشتد , وتغلق أبواب النصفة , يندفع المضطهد إلى الهجوم والاقتحام . فلم يهول في وصف الفعلة التي فعلها موسى , كما تهول الجماعات البشرية التي مسخ الظلم فطرتها بإزاء مثل هذا العمل الفطري مهما تجاوز الحدود تحت الضغط والكظم والضيق .

ويبدو أن رائحة فاحت عن قتيل الأمس , وأن شبهات تطايرت حول موسى . لما عرف عن كراهيته من قبل لطغيان فرعون وملئه , إلى جانب ما يكون قد باح به صاحبه الإسرائيلي سرا بين قومه , ثم تفشى بعد ذلك خارج بني إسرائيل .

فلما أراد موسى أن يبطش بالقبطي الثاني واجهه هذا بالتهمة , لأنها عندئذ تجسمت له حقيقة , وهو يراه يهم أن يبطش به , وقال له تلك المقالة : ( أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ? ).
أما بقية عبارته: ( إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ). . فتلهم أن موسى كان قد اتخذ له في الحياة مسلكا يعرف به أنه رجل صالح مصلح , لا يحب البغي والتجبر . فهذا القبطي يذكره بهذا ويوري به ; ويتهمه بأنه يخالف عما عرف عنه . يريد أن يكون جبارا لا مصلحا , يقتل الناس بدلا من إصلاح ذات البين , وتهدئة ثائرة الشر . وطريقة خطابه له وموضوع خطابه , كلاهما يلهم أن موسى لم يكن إذ ذاك محسوبا من رجال فرعون . وإلا ما جرؤ المصري على خطابه بهذه اللهجة ,

والظاهر أن موسى لم يقدم على ضربه بعد إذ ذكره الرجل بفعلة الأمس , وأن الرجل أفلت لينهي إلى الملأ من قوم فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس..

*******
كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن) (التفسير الميسر) (تفسير السعدي) (تفسير الجلالين)


*******
وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى
 


بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(5)

مرحلة الشباب

وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22)

**********

إن القتل شئ بشع , أدرك "موسى" على الفور فداحة هذا الأمر الذي لم يقصده أصلا , وأصيب بالغم ..

قال تعالى: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ..40 طه

فالإنسان في فسحة من دينه مالم يصب دما كما ورد في الحديث الشريف ...

ونقرأ ذلك ونتعجب اليوم على هذا الكم الهائل من القتلى يوميا عمدا مع سبق الإصرار والترصد لأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ , فلا يدري القاتل لماذا يقتل ولا يدري المقتول لماذا قتل.

*******

مشهد جديد . رجل يجيء إلى موسى من أقصى المدينة , يحذره ائتمار الملأ من قوم فرعون به , وينصح بالهرب من المدينة إبقاء على حياته:

وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ.

إنه قدر الله ومشيئته لإنقاذ موسى في اللحظة المطلوبة ....
لقد عرف الملأ من قوم فرعون , وهم رجال حاشيته وحكومته والمقربون إليه أنها فعلة موسى .
وما من شك أنهم أحسوا فيها بشبح الخطر . فهي فعلة طابعها الثورة على الظلم , والانتصار لبني إسرائيل .
وإذن فهي ظاهرة خطيرة تستحق التآمر . ولو كانت جريمة قتل عادية ما استحقت أن يشتغل بها فرعون والملأ والكبراء .

ونلاحظ قدرة الله تعالى في إنقاذ موسى عليه السلام..
جاء واحدا من الملأ . الأرجح أنه الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه , والذي جاء ذكره في سورة [ غافر ] ساقه الله ليسعى إلى موسى ( من أقصى المدينة ) في جد واهتمام ومسارعة , ليبلغه قبل أن يبلغه رجال فرعون : ( إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك , فاخرج إني لك من الناصحين ). .

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ..

خرج منزعجاً بنذارة الرجل الناصح، لم يتزود ولم يتخذ دليلاً. ولكن نلاحظ شيئا عظيما آلا وهو التعلق بربه مستسلما له...

التوجه المباشر بالطلب إلى الله , والتطلع إلى حمايته ورعايته , والالتجاء إلى حماه في المخافة , وترقب الأمن عنده والنجاة: ( رب نجني من القوم الظالمين ). .

ثم يتبعه السياق خارجا من المدينة , خائفا يترقب , وحيدا فريدا , غير مزود إلا بالاعتماد على مولاه ; والتوجه إليه طالبا عونه وهداه:

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ..

ومرة أخرى نجد موسى ـ عليه السلام ـ في قلب المخافة، بعد فترة من الأمن. بل من الرفاهية. ونجده وحيداً مجرداً من قوى الأرض الظاهرة جميعاً، يطارده فرعون وجنده، ويبحثون عنه في كل مكان، لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلاً.

ولكن اليد التي رعته وحمته هناك ترعاه وتحميه هنا، ولا تسلمه لأعدائه أبداً. فها هو ذا يقطع الطريق الطويل، ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء...

**********

كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن) (التفسير الميسر) (تفسير السعدي) (تفسير الجلالين)


وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى


 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(6)

مرحلة الشباب

نستكمل بعون الله تعالى الرحلة المباركة لنبي الله موسى عليه السلام..حيث توجه إلى مدينة مدين..

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ -22

وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن
دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ
وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ – 23

فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ – 24


اتجه موسى ـ عليه السلام ـ فريداً وحيداً عبر الصحراء في اتجاه مدين في جنوبي الشام وشمالي الحجاز. مسافات شاسعة، وأبعاد مترامية، لا زاد ولا استعداد، فقد خرج من المدينة خائفاً يترقب،

*******

ومرة أخرى نجد موسى ـ عليه السلام ـ في قلب المخافة، بعد فترة من الأمن. بل من الرفاهية. ونجده وحيداً مجرداً من قوى الأرض الظاهرة جميعاً، يطارده فرعون وجنده، ويبحثون عنه في كل مكان، لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلاً...

ولكن اليد التي رعته وحمته هناك ترعاه وتحميه هنا، ولا تسلمه لأعدائه أبداً. فها هو ذا يقطع الطريق الطويل، ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء .

********

لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين. وصل إليه وهو مجهد. وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة، السليمة الفطرة، كنفس موسى ـ عليه السلام ـ وجد الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء , ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء. والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولاً، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما ...

*****

ويعود بنا الحديث عن مكانة المرأة في الإسلام . حيث العناية بها وتكريمها....

وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : ما أكرم النساء إلا كريم ، و لا أهانهن إلا لئيم ...

*****

ولم يقعد موسى الهارب المطارد، المسافر المكدود ، ليستريح وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف. بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب :

قال: ما خطبكما ؟..
قالتا : لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير...

فأَطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود. إنه الضعف، فهما امرأتان وهؤلاء الرعاة رجال. وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال...

وثارت نخوة موسى ـ عليه السلام ـ وفطرته السليمة. فتقدم لإقرار الأمر في نصابه.
تقدم ليسقي للمرأتين أولاً، كما ينبغي أن يفعل الرجال ذوو الشهامة وهو غريب في أرض لا يعرفها، ولا سند له فيها ولا ظهير. وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد. وهو مطارد ، من خلفه أعداء لا يرحمون. ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة والنجدة والمعروف، وإقرار الحق الطبيعي الذي تعرفه النفوس المؤمنة :

فسقى لهما .

مما يشهد بنبل هذه النفس التي صنعت على عين الله تعالى. كما تدل على قوته التي ترهب حتى وهو في إعياء السفر الطويل. ولعلها قوة نفسه التي أوقعت في قلوب الرعاة رهبته أكثر من قوة جسمه. فإنما يتأثر الناس أكثر بقوة الأرواح والقلوب....

ثم تولى إلى الظل فقال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير....

رب إني في خيرك الدائم ونعمك التي لا تعد ولا تحصى.. رب إني فقير..

******

فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ – 25

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ - 26

قَالَ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ, سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ
اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ – 27

قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ - 28

******

وما نكاد نستغرق مع موسى ـ عليه السلام ـ في مشهد المناجاة حتى يعجل السياق بمشهد الفرج، معقباً في التعبير بالفاء،
فجاءته إحداهما تمشي على استحياء. قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا..

ونلاحظ هنا أخلاق الحياء عند الفتاة...
وقد جاءته ( تمشي على استحياء ) مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة النظيفة حين تلقى الرجال. ( على استحياء ). في غير ما تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا إغواء. جاءته لتنهي إليه دعوة في كلمات معدودة ( إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ). فمع الحياء الإبانة والدقة والوضوح..

ويستجيب "موسى" للقاء الشيخ الكبير.

( فلما جاءه وقص عليه القصص، قال: لا تخف. نجوت من القوم الظالمين )

فقد كان موسى في حاجة إلى الأمن؛ كما كان في حاجة إلى الطعام والشراب. ولكن حاجة نفسه إلى الأمن كانت أشد من حاجة جسمه إلى الزاد. ومن ثم أبرز السياق في مشهد اللقاء قول الشيخ الوقور: ( لا تخف ) فجعلها أول لفظ يعقب به على قصصه ليلقي في قلبه الطمأنينة، ويشعره بالأمان. ثم بين وعلل: ( نجوت من القوم الظالمين ) فلا سلطان لهم على مدين، ولا يصلون لمن فيها بأذى ولا ضرار.

( قالت: إحداهما: يا أبت استأجره. إن خير من استأجرت القوي الأمين ).

إنها وأختها تعانيان من رعي الغنم ، ومن مزاحمة الرجال على الماء، ومن الاحتكاك الذي لا بد منه للمرأة التي تزاول أعمال الرجال. وهي تتأذى وأختها من هذا كله؛ وتريد أن تكون امرأة تأوي إلى بيتها؛ والمرأة العفيفة الروح ، النظيفة القلب، السليمة الفطرة ، لا تستريح لمزاحمة الرجال ، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة...

وها هو ذا شاب قوى أمين. رأت من قوته ما يهابه الرعاء فيفسحون له الطريق ويسقي لهما. ورأت من أمانته ما يجعله عف اللسان والنظر حين توجهت لدعوته.
فهي تشير على أبيها باستئجاره ليكفيها وأختها مؤنة العمل والاحتكاك والتبذل. وهو قوي على العمل، أمين على المال. فالأمين على العرض هكذا أمين على ما سواه.
فالعفة تتضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع.

واستجاب الشيخ لاقتراح ابنته. ولعله أحس من نفس الفتاة ونفس موسى ثقة متبادلة، وميلاً فطرياً سليماً، صالحاً لبناء أسرة.

( قال: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، على أن تأجرني ثماني حجج. فإن أتممت عشراً فمن عندك. وما أريد أن أشق عليك. ستجدني إن شاء الله من الصالحين )

وهكذا في بساطة وصراحة عرض الرجل إحدى ابنتيه من غير تحديد ـ
ولقد كان الآباء يعرضون بناتهم على الرجال على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
بل كانت النساء تعرض نفسها على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو من يرغب في تزويجهن منهم.

كان يتم هذا في صراحة ونظافة وأدب جميل، لا تخدش معه كرامة ولا حياء..
عرض عمر ـ رضي الله عنه: ابنته حفصة على أبي بكر فسكت وعلى عثمان فاعتذر، فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا طيب خاطره، عسى أن يجعل الله لها نصيباً فيمن هو خير منهما. ثم تزوجها ـ صلى الله عليه وسلم .

وعرضت امرأة نفسها على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاعتذر لها. فألقت إليه ولاية أمرها يزوجها ممن يشاء. فزوجها رجلاً لا يملك إلا سورتين من القرآن، علمها إياهما فكان هذا صداقها.


وبمثل هذه البساطة والوضاءة سار المجتمع الإسلامي يبني بيوته ويقيم كيانه. في غير تصنع ولا التواء.

وهكذا صنع الشيخ الكبير ـ صاحب موسى ـ فعرض على موسى ذلك العرض واعداً إياه ألا يشق عليه ولا يتعبه في العمل؛ راجياً بمشيئة الله أن يجده موسى من الصالحين في معاملته ووفائه.
وهو أدب جميل في التحدث عن النفس وفي جانب الله. فهو لا يزكي نفسه، ولا يجزم بأنه من الصالحين. ولكن يرجو أن يكون كذلك، ويكل الأمر في هذا لمشيئة الله.

وقبل موسى العرض وأمضى العقد؛ في وضوح ودقة، وأشهد الله فهو الشهيد الموكل بالعدل بين المتعاقدين. وكفى بالله وكيلاً.

( قال: ذلك بيني وبينك. أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ. والله على ما نقول وكيل )

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أبعدهما وأطيبهما.
المصدر: صحيح البخاري – عن عبدالله بن عباس - الصفحة أو الرقم: 2684

***********
كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن) (التفسير الميسر) (تفسير السعدي) (تفسير الجلالين)


وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(7)

مرحلة التكليف

نستكمل بعون الله تعالى الرحلة المباركة لنبي الله موسى عليه السلام.. وفي هذه المرحلة الهامة - وهي مرحلة التكليف بالرسالة والذهاب والعودة إلى مصر حيث فرعون وملئه - وبداية الدعوة إلى الإيمان بالخالق الأعظم ( الله جل جلاله )...وترك عبادة الطاغوت المتمثلة هنا في عبادة فرعون..

والقرآن العظيم يجلي لنا تلك المشاهد الحية لتكون لنا دليلا حيا على أن المسلمين هم حملة رسالات الله من لدن أدم إلى خاتمهم نبينا محمد صلوات ربي وسلامه عليه وعلى جميع الرسل والأنبياء.
وأن وعد الله حق .

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ.
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ - 85 القصص


فالهجرة تماثل الهجرة والعودة أتية حتما لأنه وعد الله تعالى.

******


فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ - 29

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ – 30

وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ – 31

اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ – 32

قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ – 33

وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ – 34

قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ – 35

******

وها هو موسى عائد ليتلقى في الطريق ما لم يخطر له على بال . ليناديه ربه ويكلمه , ويكلفه النهوض بالمهمة التي من أجلها وقاه ورعاه , وعلمه ورباه .

مهمة الرسالة إلى فرعون وملئه , ليطلق له بني إسرائيل يعبدون ربهم لا يشركون به أحدا ويرثون الأرض التي وعدهم ليمكن لهم فيها ثم ليكون لفرعون وهامان وجنودهما عدوا وحزنا , ولتكون نهايتهم على يديه كما وعد الله حقا....

﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ ﴾ كما هو الظن بموسى ووفائه، اشتاق إلى الوصول إلى أهله ووالدته وعشيرته، ووطنه، وعلم من طول المدة، أنهم قد تناسوا ما صدر منه.
﴿ سَارَ بِأَهْلِهِ ﴾ قاصدا مصر، ﴿ آنَسَ ﴾ أي: أبصر ﴿ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ وكان قد أصابهم البرد، وتاهوا الطريق.

فلما أتاها نودي ﴿ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ فأخبر بألوهيته وربوبيته، ويلزم من ذلك، أن يأمره بعبادته، وتألهه، كما صرح به في الآية الأخرى ﴿ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي - طه14

﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ فألقاها ﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ ﴾ تسعى سعيا شديدا .. ﴿ كَأَنَّهَا جَانٌّ ﴾ ذَكَرُ الحيات العظيم،
﴿ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ أي : يرجع، لاستيلاء الروع على قلبه،
فقال اللّه له : ﴿ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ وهذا أبلغ ما يكون في التأمين، وعدم الخوف.

فإن قوله: ﴿ أَقْبِلْ ﴾ يقتضي الأمر بإقباله، ويجب عليه الامتثال، ولكن قد يكون إقباله، وهو لم يزل في الأمر المخوف، فقال : ﴿ وَلَا تَخَفْ ﴾ أمر له بشيئين، إقباله، وأن لا يكون في قلبه خوف،

ولكن يبقى احتمال، وهو أنه قد يقبل وهو غير خائف، ولكن لا تحصل له الوقاية والأمن من المكروه،
فقال الله تعالى : ﴿ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه،

فأقبل موسى عليه السلام غير خائف ولا مرعوب، بل مطمئنا، واثقا بخبر ربه، قد ازداد إيمانه، وتم يقينه، فهذه آية، أراه اللّه إياها قبل ذهابه إلى فرعون، ليكون على يقين تام، فيكون أجرأ له، وأقوى وأصلب.


ثم أراه الآية الأخرى فقال تعالى : ﴿ اسْلُكْ يَدَكَ ﴾ أي: أدخلها ﴿ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ فسلكها وأخرجها.

﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ﴾ أي ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك يزول عنك الرهب والخوف.
﴿ فَذَانِكَ ﴾ انقلاب العصا حية، وخروج اليد بيضاء من غير سوء ﴿ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ ﴾ أي: حجتان قاطعتان من اللّه، ﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ فلا يكفيهم مجرد الإنذار وأمر الرسول إياهم، بل لا بد من الآيات الباهرة، إن نفعت.

قال موسى عليه السلام معتذرا من ربه، وسائلا له المعونة على ما حمله، وذاكرا الموانع التي فيه، ليزيل ربه ما يحذره منها.

﴿ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ - وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا ﴾ أي : معاونا ومساعدا ﴿ يُصَدِّقُنِي ﴾ فإنه مع تضافر الأخبار يقوى الحق فأجابه اللّه إلى سؤاله فقال : ﴿ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ﴾ أي : نعاونك به ونقويك.

ثم أزال عنه محذور القتل، فقال: ﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا ﴾ أي: قوة إقناع وتسلطا، وتمكنا من الدعوة، بالحجة، والهيبة الإلهية من عدوهما لهما،

﴿ فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ﴾ وذلك بسبب آياتنا، وما دلت عليه من الحق، وما أزعجت به من باشرها ونظر إليها، فهي التي بها حصل لكما السلطان، واندفع بها عنكم، كيد عدوكم وصارت لكم أبلغ من الجنود، أولي الْعَدَدِ والْعُدَدِ.

﴿ أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ وهذا وعد الله تعالى لموسى . التمكين والغلبة ..
وهذا الوعد للمؤمنين إلى يوم القيامة..

قال تعالى في سورة النور : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - 55

********
كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن) (التفسير الميسر) (تفسير السعدي) (تفسير الجلالين)


وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى
 

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(8)

مرحلة تبليغ الرسالة

إن الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات ; يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي , إلى جانب هبة الله اللدنية , ووحيه وتوجيهه للقلب والضمير .
ورسالة موسى بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر - عدا رسالة محمد . [ صلى الله عليه وسلم ] .. فموسى مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر , أعتى ملوك الأرض في زمانه , وأقدمهم عرشا , وأثبتهم ملكا , وأعرقهم حضارة , وأشدهم تعبدا للخلق واستعلاء في الأرض .

وموسى مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه , فمردوا عليه واستكانوا دهرا طويلا . والذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن ; ويذهب بما فيها من الخير والجمال والتطلع ومن الاشمئزاز من العفن والنتن والرجس والدنس . فاستنقاذ قوم كهؤلا ء عمل شاق عسير .

وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة ; انحرفوا عنها , وفسدت صورتها في قلوبهم . فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجديدة ببراءة وسلامة ; ولا هي باقية على عقيدتها القديمة .
ومعالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة . والالتواءات فيها والرواسب والانحرافات تزيد المهمة مشقة وعسرا .

وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة , بل لإنشائها من الأساس . فلأول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبا مستقلا , له حياة خاصة , تحكمها رسالة . وإنشاء الأمم عمل ضخم شاق عسير .

********

رفض فرعون وآله للدعوة وإهلاكهم


فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)


*********


فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ..


وكأنما هي ذات القولة التي يقولها المشركون لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] في مكة يومذاك . . ( ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين.. 36 القصص ). . فهي المماراة في الحق الواضح الذي لا يمكن دفعه . المماراة المكرورة حيثما واجه الحق الباطل فأعيا الباطل الجواب . إنهم يدعون أنه سحر , ولا يجدون لهم حجة إلا أنه جديد عليهم , لم يسمعوا به في آبائهم الأولين !

وهم لا يناقشون بحجة , ولا يدلون ببرهان , إنما يلقون بهذا القول الغامض الذي لا يحق حقا ولايبطل باطلا ولا يدفع دعوى .

وموسى - عليه السلام - يحيل الأمر بينه وبينهم إلى الله . فما أدلوا بحجة ليناقشها , ولا طلبوا دليلا فيعطيهم... إنما هم يمارون كما يماري أصحاب الباطل في كل مكان وفي كل زمان , فالاختصار أولى والإعراض أكرم , وترك الأمر بينه وبينهم إلى الله :

وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.

وهو رد مؤدب مهذب , يلمح فيه ولا يصرح . وفي الوقت ذاته ناصع واضح , مليء بالثقة والطمأنينة إلى عاقبة المواجهة بين الحق والباطل . فربه أعلم بصدقه وهداه , وعاقبة الدار مكفولة لمن جاء بالهدى , والظالمون في النهاية لا يفلحون .
سنة الله التي لا تتبدل . وإن بدت ظواهر الأمور أحيانا في غير هذا الإتجاه . سنة الله يواجه بها موسى قومه ويواجه بها كل نبي قومه .

وكان رد فرعون على هذا الأدب وهذه الثقة ادعاء وتطاولا , ولعبا ومداورة , وتهكما وسخرية :

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ.

يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري . . كلمة فاجرة كافرة , يتلقاها الملأ بالإقرار والتسليم . ويعتمد فيها فرعون على الأساطير التي كانت سائدة في مصر من نسب الملوك للآلهة . ثم على القهر , الذي لا يدع لرأس أن يفكر , ولا للسان أن يعبر . وهم يرونه بشرا مثلهم يحيا ويموت , ولكنه يقول لهم هذه الكلمة فيسمعونها دون اعتراض ولا تعقيب !

ثم يتظاهر بالجد في معرفة الحقيقة , والبحث عن إله موسى , وهو يلهو ويسخر: ( يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ). . في السماء كما يقول ! وبلهجة التهكم ذاتها يتظاهر بأنه شاك في صدق موسى , ولكنه مع هذا الشك يبحث وينقب ليصل إلى الحقيقة : ( وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) !

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ (41)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
(43)

********


وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ.

( فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ).


هكذا في اختصار حاسم . أخذ شديد ونبذ في اليم . نبذ كما تحذف الحصاة أو كما يرمى بالحجر . اليم الذي ألقي في مثله موسى الطفل الرضيع , فكان مأمنا وملجأ . وهو ذاته الذي ينبذ فيه فرعون الجبار وجنوده فإذا هو مخافة ومهلكة . فالأمن إنما يكون في جناب الله , والمخافة إنما تكون في البعد عن ذلك الجناب . ( فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ). .
فهي عاقبة مشهودة معروضة للعالمين . وفيها عبرة للمعتبرين , ونذير للمكذبين . وفيها يد القدرة تعصف بالطغاة والمتجبرين في مثل لمح البصر , وفي أقل من نصف سطر !

وفي لمحة أخرى يجتاز الحياة الدنيا ; ويقف بفرعون وجنوده في مشهد عجيب . . يدعون إلى النار , ويقودون إليها الأتباع والأنصار:

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ.

فيا بئساها دعوة ! ويا بئساها إمامة !

( ويوم القيامة لا ينصرون ). .

فهي الهزيمة في الدنيا , وهي الهزيمة في الآخرة , جزاء البغي والاستطالة . وليست الهزيمة وحدها , إنما هي اللعنة في هذه الأرض , والتقبيح في يوم القيامة:

وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ.

ولفظة ( المقبوحين ) ترسم بذاتها صورة القبح والفضيحة والتشنيع , وجو التقزز والاشمئزاز . ذلك في مقابل الاستعلاء والاستكبار في الأرض , وفتنة الناس بالمظهر والجاه , والتطاول على الله وعلى عباد الله .

*******

أبعاد رسالة موسى

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.

ويعبر السياق هنا مرحلة الخروج ببني إسرائيل من مصر , وما حدث خلالها من أحداث , ليعجل بعرض نصيب موسى بعد عرض نصيب فرعون :

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.

هذا نصيب موسى . وهو نصيب عظيم . وهذه عاقبة موسى . وهي عاقبة كريمة . . كتاب من الله يبصر الناس كأنه بصائرهم التي بها يهتدون , ( وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ). . يتذكرون كيف تتدخل يد القدرة بين الطغاة والمستضعفين , فتختم للطغاة بالهلاك والتدمير , وتختم للمظلومين بالخير والتمكين .

وهكذا تنتهي قصة موسى وفرعون في هذه السورة . شاهدة بأن الأمن لا يكون إلا في جانب الله . وأن المخافة لا تكون إلا في البعد عن الله . ذلك إلى تدخل يد القدرة واضحة متحدية للطغيان والطغاة , حين تصبح القوة فتنة ...

********

كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن) (التفسير الميسر) (تفسير السعدي) (تفسير الجلالين)



وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى
 
عودة
أعلى