[align=center]بسم الله
والحمد لله وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم[/align]
هذه أول مشاركة لي في هذا الملتقى المبارك، أسأل الله أن يمن علي وعليكم بالإخلاص والتوفيق، في كل وقت ومكان.
وهذا الموضوع أذكر فيه أمثلة مما ذكره المفسرون والبلاغيون في معاني إيراد لفظة قرآنية ذات وزن صرفي، دون لفظة أخرى ذات وزن آخر، ولكنها راجعة إلى نفس الأصل، وصالحة - بحسب ما يظهر - لأداء ذلك المعنى، في الجملة.
وهذا أوان البدء بالمقصود، فأقول مستعيناً بالغفور الودود، وطالباً منكم أن تسالوا لأخيكم التوفيق والتسديد:
[align=center]المثالان الأول والثاني
قوله تعالى (وتبتل إليه تبتيلا) دون (وتبتل إليه تبتلا)
وقوله تعالى (وأنبتها نباتاً حسنا)ً دون (وأنبتها إنباتاً حسناً)[/align]
قال ابن القيم رحمه الله في (مدارج السالكين) (2/29):
(ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التبتل، قال الله تعالى (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا) [المزمل 8] والتبتل: الانقطاع، وهو تفعل من البتل وهو القطع وسميت مريم البتول لانقطاعها عن الأزواج وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها ففاقت نساء الزمان شرفاً وفضلاً وقطعت منهن ومصدر بتل تبتلا كالتعلم والتفهم ولكن جاء على التفعيل مصدر تفعل لسر لطيف فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدريج والتكلف والتعمل والتكثر والمبالغة فأتى بالفعل الدال على أحدهما بالمصدر الدال على الآخر فكأنه قيل: بتل نفسك إلى الله تبتيلا وتبتل إليه تبتلاً؛ ففهم المعنيان من الفعل ومصدره؛ وهذا كثير في القرآن وهو من أحسن الاختصار والإيجاز) . انتهى.
قلت: ومن ذلك قوله تعالى (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً)؛ قال البقاعي في تفسيره: وجاء بالوصف المشعر بالإحسان مضافاً إليها إبلاغاً في المعنى فقال: (ربها) قال الحرالي: وظهر سر الإجابة في قوله سبحانه وتعالى (بقبول حسن) حيث لم يكن (بتقبل) جرياً على الأول .
ولما أنبأ القبول عن معنى ما أوليته باطناً أنبأ الإنبات عما أوليته ظاهراً في جسمانيتها، وفي ذكر الفعل من (أفعل) في قوله (وأنبتها)، والاسم من (فعل) في قوله (نباتاً حسناً) إعلام بكمال الأمرين من إمدادها في النمو الذي هو غيب عن العيون وكمالها في ذاتية النبات الذي هو ظاهر للعين، فكمل في الإنباء والوقوع حسن التأثير وحسن الأثر، فأعرب عن إنباتها ونباتها معنى حسناً؛ انتهى؛ فوقع الجواب لأنها عناية من الله سبحانه وتعالى بها على ما وقع سؤالها فيه، فلقد ضل وافترى من قذفها وبهتها، وكفر وغلا من ادعى في ولدها من الإطراء ما ادعى). انتهى.
"
أرحب بالأخ محمد، وأسأل الله أن ينالنا من دعائه نصيب، وأن يوفقه للخير والعمل الصالح.
واسمح لي أخي ان أضيف تفصيلاً يتعلق بقوله تعالى:
(فتقبلها ربها بقَبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً)
في هذه الآية الكريمة مصدران على غير الصدر ـ كما تفضل الأخ ـ، الأول: قبول، والثاني: نباتاً. أما الأول (قبول)، فالظاهر أن يقال: فتقبلها ربها بتقبّلٍ حسن، ولكن العدول عن الظاهر كان لسبب بياني.
للفعل (فتقبلها)، معنيان:
المعنى الأول: أن يكون معنى (تقبلها) استقبلها.
المعنى الثاني: رضي بها. قال المفسر النحوي أبو حيان: "{ فتقبلها ربها بقبول حسن } قال الزجاج: الأصل فتقبلها بتقبل حسن، ولكن قبول محمول على: قبلها قبولاً، يقال: قبل الشيء قبولاً والقياس فيه الضم: كالدخول والخروج، ولكنه جاء بالفتح، وأجاز الفراء والزجاج ضم القاف، ونقلها ابن الأعرابي فقال: قبلته قَبولاً وقُبولاً. وقال ابن عباس: معناه سلك بها طريق السعداء وقال قوم: تكفل بتربيتها والقيام بشأنها. وقال الحسن: معناه لم يعذيها ساعة قط من ليل ولا نهار وعلى هذه الأقوال يكون تقبل بمعنى استقبل، فيكون تفعل بمعنى استفعل، أي: استقبلها ربها، نحو: تعجلت الشيء فاستعجلته، وتقصيت الشيء واستقصيته، من قولهم: استقبل الأمر أي أخذه بأوله".
ثم ذكر المعنى الثاني لقوله تعالى: (فتقبلها): "وقيل: المعنى فقبلها أي: رضى بها في النذر مكان الذَّكر في النذر، كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك، وقَبِل دعاءها في قولها: فتقبل مني إنك أنت السميع العليم، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك، ويكون: تفعّل، بمعنى الفعل المجرد نحو: تعجّب وعَجِب، وتبرّأ وبرِيء".
وعلى كلا المعنيين جاء المصدر على غير الصدر.
ويجوز أن يكون على تقدير حذف مضاف، أي: بذي قبول حسن، أي: بأمر ذي قبول حسن، وهو اختصاصه تعالى لها بإقامتها مقام الذكر في النذر. [انظر بقية كلام أبي حيان، في البحر المحيط]
ما السر البياني وراء مجيئ المصدر على غير القياس؟ "وعدل عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية؛ فإن صيغة التفعل مشعرة بحسب أصل الوضع بالتكلف، وكون الفعل على خلاف طبع الفاعل، وإن كان المراد بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوة الفعل وكثرته". [روح المعاني]
" [align=center]المثال الثالث[/align][align=center]قوله تعالى (فتثير سحاباً) دون (فأثارت سحاباً)[/align]
قال تعالى في سورة فاطر: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ {9}).
قال ابن الأثير في (المثل السائر) (2/45): (اعلم أن الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي، وذاك لأن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها؛ وليس كذلك الفعل الماضي.
وربما أدخل في هذا الموضع ما ليس منه، جعلاً بمكانه، فإنه ليس كل فعل مستقبل يعطف على ماض بجار هذا المجرى.
وسأبين ذلك فأقول: عطف المستقبل على الماضي ينقسم إلى ضربين:
أحدهما بلاغي، وهو إخبار عن ماض بمستقبل وهو الذي أنا بصدد ذكره في كتابي هذا الذي هو موضوع لتفصيل ضروب الفصاحة والبلاغة.
والآخر غير بلاغي وليس إخباراً بمستقبل عن ماض، وإنما هو مستقبل دل على معنى مستقبل غير ماض، ويراد به أن ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمض.
فالضرب الأول كقوله تعالى (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ)، فإنه إنما قيل (فتثير) مستقبلاً وما قبله وما بعده ماض لذلك المعنى الذي أشرنا إليه، وهو حكاية الحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة .
وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية---.
فإن قيل: إن الفعل الماضي أيضاً يتخيل منه السامع ما يتخيله من المستقبل.
قلت في الجواب: إن التخيل يقع في الفعلين معاً، لكنه في أحدهما - وهو المستقبل - أوكد وأشد تخيلاً، لأنه يستحضر صورة الفعل حتى كأن السامع ينظر إلى فاعلها في حال وجود الفعل منه---.
وعليه ورد قوله تعالى أيضاً وهو (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ {30} حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ {31}) [الحج].
فقال أولاً: (خر من السماء) بلفظ الماضي ثم عطف عليه المستقبل الذي هو (فتخطفه) و (تهوي)؛ وإنما عدل في ذلك إلى المستقبل لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهوي الريح به؛ والفائدة في ذلك ما أشرت إليه فيما تقدم؛ وكثيراً ما يراعى أمثال هذا في القرآن). انتهى.
قلت: وأرى التعبير عن إرسال الرياح بالماضي أبلغ، من جهة أخرى؛ فإنه تعالى أرسلها ولم تزل مرسلة، فإرسالها شيء قد تم وفُرغ منه، فالتعبير عن هذا المعني بماض من الأفعال أدق وأبلغ؛ ثم لعل الرياح ثابتة في مقدارها في الجملة، منذ أن أوجدها الله على وجه هذه الأرض، أي لم تزدد ولم تنقص إلا شيئاً لا يستحق الذكر، بالنسبة إلى أصل مقدارها؛ وقد يؤيد هذا ورودُها في السياق معرفة، بخلاف السحاب، فإنه ورد منكراً، لأن كل سحاب يثار هو غير الذي قبله وغير الذي بعده.
وأما إثارة السحاب فتقع أحياناً؛ وهي لا تزال تتجدد وتستمر، فالتعبير عنها بالمضارع أبلغ من جهة أخرى، أيضاً.
فهذه الإثارة المتجددة في كل وقت، هي فرع عن أصل ذلك الإرسال الماضي؛ والله أعلم.
"
" [align=center]المثال الثالث[/align][align=center]قوله تعالى (فتثير سحاباً) دون (فأثارت سحاباً)[/align]
قال ابن الأثير في (المثل السائر) (2/45): (اعلم أن الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي((--))
سقط من هذا الموضع هامشه فرأيت استدراكه هنا، وهذا نصه:
(بشرط أن يكون المراد هو استحضار صورة ذلك الفعل وتقريره وتدبره، وأما إن كان المراد تأكيده أو مجرد الإخبار عنه للبناء عليه والتفريع عنه أو غير ذلك فذاك شأن آخر، ولكل مقام مقال، والتعميم في باب البلاغة والفصاحة له محاذير لا تخفى على مثل ابن الأثير رحمه الله، بل سينبه هو على نحو من هذا المعنى قريباً).
"
فإنه إنما قيل (فتثير) مستقبلاً وما قبله وما بعده ماض لذلك المعنى الذي أشرنا إليه، وهو حكاية الحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة((--)).
أيضاً سقط من هذا الموضع هامشه، وهذا نصه: (وثم معنى آخر لاستعمال المضارع هنا وهو أن الإثارة من قبل الريح الواحدة تتكرر وتتصل وتتجدد، وأما أصل الإرسال فقد حصل مرة واحدة، وأمر الله سريع ونافذ والريح مسخرة بأمره وخاضعة له ثم تعمل عملها بإذنه تعالى وتقديره).
هذا مع أنني كنتُ ألحقتُ نحوَ هذا المعنى، في آخر الموضوع لما راجعته على المنتدى قبيل إرساله، ولم أتفطن إلى سقوط الهامش، حينئذ، لأنني إنما نقلت الموضوع من شيء مكتوب عندي قبلاً.
" [align=center]المثال الرابع
قوله تعالى (إن رحمة الله قريب) دون (إن رحمة الله قريبة)[/align] [align=justify]
قال تعالى في سورة (الأعراف): (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ {56}).
قال ابن القيم في بدائع الفوائد (3/541) بعد كلام نقله عن بعض العلماء في قوله تعالى (إن رحمة الله قريب من المحسنين):
(فعلى هذا يكون الأصل في الآية: (إن الله قريب من المحسنين، وإن رحمة الله قريبة من المحسنين) [قلت: ففي الآية ما يشبه الاحتباك]، فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ذلك ظهور المعنى.
وهذا المسلك مسلك حسن إذا كسي تعبيراً أحسن من هذا وهو مسلك لطيف المنزع دقيق على الأفهام وهو من أسرار القرآن.
والذي ينبغي أن يعبر عنه به أن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه لأن الصفة لا تفارق موصوفها فإذا كانت قريبة من المحسنين فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منه بل قرب رحمته تبع لقربه هو تبارك وتعالى من المحسنين.
وقد تقدم في أول الآية أن الله تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته ومن أهل سؤاله بإجابته وذكرنا شواهد ذلك وأن الإحسان يقتضي قرب الرب من عبده كما أن العبد قرب من ربه بالإحسان، وأن من تقرب منه شبراً تقرب الله منه ذراعاً ومن تقرب منه ذراعاً تقرب منه باعاً.
فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين ورحمته قريبة منهم وقربه يستلزم قرب رحمته ففي حذف التاء ههنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة وأن الله تعالى قريب من المحسنين وذلك يستلزم القربين قربة وقرب رحمته ولو قال إن رحمة الله قريبة من المحسنين لم يدل على قربه تعالى منهم لأن قربه تعالى أخص من قرب رحمته والأعم لا يسلتزم الأخص بخلاف قربه فإنه لما كان أخص استلزم الأعم وهو قرب رحمته.
فلا تستهن بهذا المسلك فإن له شأناً وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب وما أظن صاحب هذا المسلك قصد هذا المعنى ولا ألم به وإنما أراد أن الإخبار عن قرب الله تعالى من المحسنين كاف عن الإخبار عن قرب رحمته منهم فهو مسلك سابع [قلت: كأنها محرفة عن (سائغ)] في الآية وهو المختار وهو من أليق ما قيل فيها.
وإن شئت قلت: قربه تبارك وتعالى من المحسنين وقرب رحمته منهم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا كانت رحمته قريبة منهم فهو أيضاً قريب منهم.
وإذا كان المعنيان متلازمين صح إرادة كل واحد منهما فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ وأشرفه وأجله على الإطلاق وهو أفضل إعطاء أعطيه العبد وهو قربه تبارك وتعالى من عبده الذي هو غاية الأماني ونهاية الآمال وقرة العيون وحياة القلوب وسعادة العبد كلها.
فكان في العدول عن قريبة إلى قريب من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته ولا قوة إلا بالله تعالى).[/align]
"
"
" [align=center]المثال الخامس
(الرياح) و (الريح)[/align]
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في (بدائع الفوائد) (1/118) بعد كلام ذكره:
(ومن هذا الباب ذكر الرياح في القرآن جمعا ومفردة فحيث كانت في سياق الرحمة أتت مجموعة وحيث وقعت في سياق العذاب أتت مفردة وسر ذلك أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والمهاب والمنافع وإذا هاجت منها ريح أنشأ لها مما يقابلها ما يكسر سورتها ويصدم حدتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات فكل ريح منها في مقابلها ما يعدلها ويرد سَورتها، فكانت في الرحمة ريحاً؛ وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد وحمام واحد لا يقوم لها شيء ولا يعارضها غيرها حتى تنتهي إلى حيث أمرت لا يرد سورتها ولا يكسر شرتها فتمتثل ما أمرت به وتصيب ما أرسلت إليه ولهذا وصف سبحانه الريح التي أرسلها على عاد بأنها عقيم فقال: (أرسلنا عليهم الريح العقيم) [الذاريات 41] وهي التي لا تلقح ولا خير فيها والتي تعقم ما مرت عليه.
ثم تأمل كيف اطرد هذا إلا في قوله في سورة يونس (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم(1) بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف) [يونس 22] فذكر ريح الرحمة الطيبة بلفظ الإفراد لأن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد سيرها، فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت فهو سبب الهلاك فالمطلوب هناك ريح واحدة لا رياح.
وأكد هذا المعنى بوصفها بالطيب دفعاً لتوهم أن تكون ريحاً عاصفة بل هي مما يفرح بها لطيبها).
وقال ابن القيم في نهاية ذلك الفصل وقد ذكر فيه مسائل مهمة من أسرار التعبير القرآني:
(فلينزه الفطن بصيرته في هذه الرياض المونقة المعجبة التي ترقص القلوب لها فرحاً ويتغذى بها عن الطعام والشراب والحمد لله الفتاح العليم؛ فمثل هذا الفصل يعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر فإنه يشرف بك على أسرار عجائب تجتنيها من كلام الله والله الموفق للصواب).
____________________________________________
(1) هذا الالتفات لعل معناه أن جريان السفينة بالناس بريح طيبة يكون في الغالب سبباً في غفلتهم عن ذكر الله ودعائه وفي نسيان ضرورتهم إلى عونه وتوفيقه وحمايته، وفي غيبتهم عن ذلك كله، فخاطبهم خطاب الغائبين، وهذا من بلاغة الالتفات.
"