قَالَ الحَسَنُ بْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيِّ: قَدْ نَبَغَ فِي زَمَانِنَا مُفَسِّرُونَ لَوْ سُئِلُوا عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ .. يتكلم عن نوابغ في التفسير هم علماء في التفسير وأنا لست منهم في شيء فكيف أدعي النبوغ؟!! إذن، كيف تسألني عن الفرق بين أصول التفسير وقواعده، علما أن هذا السؤال أصعب من السؤال عن الفرق بين التأويل والتفسير؟! سؤالك غير أخلاقي البتة لأنك سألت بعد أن نقلت كلاما يجب أن يحول بيني وبين حتى مجرد التفكير في الإجابة، إلا أنك لم تنتبه ولم تشعر بذلك أخي البهيجي، وعليه سؤالك مشروع لا إعتراض عليه من باب لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.. ولربما شفع لي قول الإمام السيوطي أن ابن حبيب -رحمهما الله-
بالغ في قوله ذاك، ولهذا سأقول شيئا مما أعلم، خاصة وأننا في
ملتقى أهل التفسير، وأنا لا أظهر قولا في المسائل العلمية الدينية إلا في محيط أعلم أن فيه من سيتدخل بتوجيه أو تصويب أو تعليق أو مناقشة وما شابه، ثم حتى عندما أتكلم في محيط - يتألف من قراء ودارسين ومتخصصين - فإني أتكلم بلغة فكرية ثقافية، لا بلغة شرعية علمية، لما في استعمال اللغة الثانية من تعالم وتطفل وتعجرف، فنسأل الله السلامة والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. ألا فلتعلم أن هذا المنتدى واقع تحت رقابة الطلبة والأساتذة يتابعون ما يكتب ويقال، وينظرون في كيفية تعامل المهتمين والقراء والمتطفلين مع الدرس التفسيري، ليصلوا إلى فوائد جليلة وعظيمة تنير لهم الطريق نحو مدارسة المستعصى والمشكل ليقدموا حلولا وبخطاب ميسر يزيل الاشكالات ويبين الخلط ويكشف تأويل الجاهلين ويعيد الأمور إلى نصابها ..
أما بعد، فإني أنظر إلى (أصول التفسير) كما أنظر إلى (أصول الفيزياء
fundamentals of physics) ولا فرق عندي إلا في موضوعات العلم، فعلم التفسير الشرعي يهتم بتفسير الكتاب المسطور، بينما يهتم علم الفيزياء بتفسير سورة من الكتاب المنظور وهو كتاب يتكون من سور شتى: الظواهر الفيزيائية والكيمياء والأحياء (الآفاق) وغيرها.. ولكل علم أصوله، تدور مع دوران تطبيقاته، في علاقات ديناميكية متبادلة، وهي خاصة وعامة، مثل أصول علم الأرض هي عامة، لكن لكل علم من علوم الأرض أصوله الخاصة مثل أصول الجغرافيا (ظواهر الأرض الطبيعية والبشرية) والايكولوجيا (البيئة) والجيولوجيا (طبقات الأرض) وعلم المحيطات وعلم المحيطات الجيولوجية .. وهلم جرا!
فما هو علم أصول الفيزياء؟ إنه فن: (أ) فكري فلسفي و (ب) علمي منهجي يبحث في تطبيقات علوم الفيزياء (الحركة / الميكانيكا، البصريات، الديناميكا الحرارية، الجاذبية، .. ) من أجل تقريب هذه العلوم في صيغة
مدخل إليها، فهذه الأصول عبارة عن مقدمة في الفيزياء:
- مقدمة بفتح الدال أي أنها مقدمة على محتويات علوم الفيزياء.
- مقدمة بكسر الدال أي تقدم هذه المحتويات.
فتبين كيفية عمل المباحث الفيزيائية، أي كيف تشتغل.. وتستخلص النتائج لتكوين
صورة عامة حول مواضيع ومباحث الفيزياء؛ وتستفز القارئ من خلال عرض إشكاليات السؤال الفيزيائي، وتصف مناهج الفيزيائين في طرح الأسئلة، ومناهج هذه العلوم بشكل عام،.. والنتيجة أو الزبدة هي المقدمة، وهي عبارة عن رخصة سياقة لمن يريد:
- أن يقرأ كتبا علمية في مباحث الفيزياء: كيف يقرأ ليفهم؟
- أن يشاهد برامج ومسلسلات وثائقية في الفيزياء: كيف يتلقى المعلومة ليفهم؟
- أن يدرس علوم الفيزياء: ما له وما عليه قبل أن يطرق باب الدرس العلمي المتخصص؟
- أن يمارس هذا العلم: ما المنهج العلمي العام والخاص الذي عليه الالتزام به ليمارس ويبدع في هذا المجال؟
وإذا جاء ببدعة ما في الفيزياء فكيف يحاكم بدعته قبل أن يحاكم، مثلا: ما هي الشروط الملزمة للإفتراض، لإجراء تجربة، للرد على إنشتاين ونظريته النسبية، لتطوير أو تحسين هذه النظرية أو تلك..
أي أن زبدة أصول الفيزياء هي تلك المقدمة والتي بدورها عبارة عن قواعد (ضوابط، وشروط، ومناهج..) لتأطير الإشتغال بالفيزياء قراءة ودراسة وبحثا وابداعا..
وبمثل الذي قلنا في أصول الفيزياء نقوله في أصول التفسير. أي أنه فن يبحث في علم التفسير بشكل عام: ما التفسير؟ ما طرق إشتغاله؟ ما طرق التفسير؟ ما مدارسه واتجاهاته؟ ما علاقته التفاعلية التبادلية مع علوم القرآن وعلوم الآلة؟ ما مناهج المفسرين؟ ما أنواعه، وأهميته، وخطورته، وتاريخه المتصل، .. أي البحث في الذي بنيت عليه وبه التطبيقات (علم التفسير) وبهذه الأسئلة يحاول هذا العلم صياغة رخصة السياقة لمن يريد قراءة التفاسير، الإختيار والترجيح فيها، ممارسته..
وعندما يقول قائل أريد
أمثلة تطبيقية فهو يريد تلك المقدمة أو الزبدة أي تلك القواعد متجسدة في إختيار تفسير من التفسيرات بالنسبة للقارئ وفي الإختيار والتأويل بالنسبة للمفسر، لا الجانب النظري.
وأخيرا، يظهر لي أنك تستعمل ألفاظا لم تتبين منها بعد، وهذا ما ظهر لي من السؤال عن الفرق بين الأصول والقواعد، ومن التعليقات الخارجة على ما يتعلق بالأمثلة التطبيقية، ثم تقول لي (
أرجو من حضرتكم تقليل الاختلاف والنقاش) هذا بعد أن جئتُ بأكثر من مثال تطبيقي!! أما ذكر الإختلاف أو إصطناعه بلغتي التي أستخدمها فأمر لابد منه، أي لابد من الإستشكال والمناقشة لأفتح الباب فأدفع من خلاله إلى مزيد من البحث، فيذهب المتابع إلى الكتاب الذي أنقل منه، ثم يبحث عن تطبيق للقاعدة المعنية من مصدر آخر، ويعود موجها وناصحا ومناقشا ومجادلا.. هذا الملتقى اسمه "
الملتقى العلمي للتفسير و علوم القرآن" وليس بزاوية في مسجد لتلقين وتعليم البراعم شيئا من التفسير! وليس للإكتفاء بإعمال
الكوبي-باست (قص ولصق) لما قاله فلان وعلان.. ومن يريد التعلم فقط من غير أسئلة ولا تدارس فليتفاعل مع المعلّم الأستاذ جمال القرش جزاه الله خيرا في مواضيعه عامة، وموضوعه (
تطبيقات ميسرة للتدريب على قواعد الترجيح) بشكل خاص.