ألوفونات صوت الضاد

إنضم
21/08/2012
المشاركات
22
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
سيدي بلعباس
بسم1​

بمرور الزَّمن، واختلاط العرب بالعجم؛ ظهرت أشكالٌ جديدة للنُّطق بصوت الضاد الأصلي؛ "فمنهم من يُخرِجُه ظاء، ومنهم من يمزجه بالذال، ومنهم من يجعله لاما مفخما، ومنهم من يشمّه الزاي" [1]، وربما أخرجها البعض ممزوجة بالدال أو بالطاء المهملة.

فالضَّاد نُطِقَت شَبيهَةً بستة أصوات - على الأقل -؛ هي: الظاء والذال واللام والزاي والدال والطاء. وهذه الأصوات جميعُها ذاتُ مخارجَ قريبةٍ من مخرج الضاد الأصليَّة، ما يجعل انتقال الناطق بالضاد إلى أحد تلك الأحرف أمرا غير مُستَبعَدٍ خاصة في ظل خاصية التخفيف التي تخضع لها اللغات عمومًا.

وَيميلُ كثيرٌ من البَاحثين المُحدَثين في درسهم لصوت الضَّاد إلى الحديث عن ضاد قديمة وأخرى حديثة، وأُفضِّل أن يدور الكلام حول ضادٍ أصلية وأُخرَياتٍ فرعية هي ألوفونات لها؛ لأنَّ تلك الألوفونات أو بعضها - على الأقل - قديمةٌ قِدَم الضاد الأصليَّة نفسها، فنعتُها بالحديثة لا يعكِسُ واقعها الصوتي.


وفي بحثي هذا سَأُرَكِّز، كما هو الحال في أكثر المؤلفات الصوتية، على ألوفونين اثنين لصوت الضاد، هُما: الضاد الضعيفة والضاد الدالية، وربما أُشيرُ إلى غيرهما، إنْ اقتضى المقام ذلك.

الضاد الضعيفة:
ذكر هذا الألوفون سيبويهِ في سياق كلامه عن الأصوات العربيَّة الفرعيَّة، غيرِ المُمَثَّلَةِ كتابيًّا، والتي هي: "غيرُ مستحسنةٍ، ولا كثيرةٍ في لغة من تُرتضى عربيته، ولا تُستحسن في قراءة القرآن ولا في الشعر؛ وهي: الكاف التي بين الجيم والكاف والجيم التي كالكاف، والجيم التي كالشين، والضاد الضعيفة، والصاد التي كالسين والطاء التي كالتاء، والظاء التي كالثاء، والباء التي كالفاء" [2].

وهذه الأحرف الثمانية تُقابلها ستة: "كثيرةٌ يُؤخذُ بها، وتُستحسَنُ في قراءة القرآن والأشعار، وهي: النون الخفيفة، والهمزة التي بين بين، والألف التي تمال إمالة شديدة، والشين التي كالجيم، والصاد التي تكون كالزاي، وألف التفخيم، يعني بلغة أهل الحجاز، في قولهم: الصلاة والزكاة والحياة" [3]. فتلك الحروف الفرعيات ناتجةٌ؛ إمَّا عن تغيير في بِنيَة الصَّوت (إما بالتفخيم، و إما بالإضعاف، وإما بالتخفيف (أو الإخفاء)، وإما بالإمالة الشديدة)، وإما بتشبيهها بحرف آخر، أو بتوسُّطِها بين حرفين. ولا يتَّسع المقام لبسط الكلام فيها.

ولَإِن كان سيبويه اعتذر عن إهماله وصف غالب تلك الحروف، بكونها: "لا تتبيَّن إلاَّ بالمُشافهة" [4]، فإنه فيما يتعلَّق بالضاد الأصليَّة؛ عُني بالحديث مُفصَّلاً عن ضَرَّتها التي نَعَتها بـ(الضعيفة)، والتي هي كما يقول غانم قدُّوري الحَمَد: "نوعٌ من أنواع الضاد التي لم تَستوفِ صفات الضاد العربية كاملة" [5]، إنها صُورةٌ لنُطق الضاد (ألوفون للضاد) مُدرَجَةٌ ضمن الأحرف المُستهجنَة.

ولِأنَّ تلك (الضَّادَ الضعيفة) "مظهرٌ من مظاهر عدم تمكُّن بعض العرب القُدَماء من نُطق الضَّاد" [6]، فقد استدرك سيبويه على اعتذاره السالف بقوله: "إلاَّ أنَّ الضاد الضعيفة تُتَكَلَّفُ من الجانب الأيمن، وإن شئتَ تَكَلَّفْتها من الجانب الأيسر، وهو أخفُّ؛ لأنها من حافة اللسان مُطْبقة؛ لأنك جمَعْتَ في الضاد تكلُّف الإطباق مع إزالته عن موضعه. وإنما جاز هذا فيها؛ لأنك تُحَوِّلها من اليسار إلى الموضع الذي في اليمين. وهي أخفُّ لأنها من حافة اللسان، وأنها تخالط مَخْرَج غيرها بعد خروجها، فتستطيل حين تخالط حروف اللسان، فسَهُل تحويلها إلى الأيسر؛ لأنها تصير في حافة اللسان في الأيسر إلى مثل ما كانت في الأيمن، ثم تَنْسَلُّ من الأيسر حتى تتَّصِلُ بحروف اللسان كما كانت كذلك في الأيمن" [7]. وإذا جاز لي أن أُقسِّم عبارة سيبويه هذه إلى قسمين؛ أحدهما: المتن، والآخر: شرحه. فسيكون المتن قوله: "الضاد الضعيفة تُتكلَّفُ من الجانب الأيمن، وإن شئتَ تَكَلَّفْتها من الجانب الأيسر، وهو أخفُّ"، وتكون عبارة: "لأنها...اليمين" شرحًا للمتن إلا قوله: "وهو أخفُّ"؛ فتشرَحُهُ عبارة: "لأنها...الأيمن".

واضحٌ أنَّ سيبويه لم يُعنَ ببيان مخرج هذه (الضاد الضعيفة) كما فعل في الضاد الأصلية، ولكنَّه ركَّز على توضيح الجانب الموكَلِ إليه نُطقها، وهو ما لم يفعله في الضاد الأصلية. ومُجمَل ما ذكره هنا:

1- أنها ضادٌ مُتكلَّفَةٌ؛ يُتَكَلَّف فيها الإطباق لتُحافظ الضاد على وجودها، وتُتَكَلَّف إزالة الإطباق عن موضعه، رُبَّما لِيتأتَّى إخراجها من الجانب الأيمن، حتى تَبدُوَ كالضاد الأصليَّة. وعن هذا التَّكلُّف يقول مكي درار: "ولم يَقُل بهذا في غيرها، فكُلُّ الأصوات تحدُثُ بعَفوِيَّة ويُسرٍ، ولا يكون التكلُّف إلاَّ في غير المألوف المُعتَاد" [8]؛ لأنَّه جرى على لِسانٍ لم يَعتَد النُّطق بالضَّاد الأصلي.

2- أنَّ تَكلُّف إخراجها من الجانب الأيسر أخف؛ "لأن الجانب الأيمن قد اعتاد الضاد الصَّحيحة، وإخراج الضعيفة من موضعٍ قد اعتاد الصحيحة أصعبُ من إخراجها من موضعٍ لم يَعتَد الصَّحيحة" [9]، كما لا يخفى.

3- أنَّه باحتكاك هواء الزَّفير المجهور بحافة اللسان اليمنى، والأضراس المقابلة لهذا الجانب يتولَّدُ صوتٌ يستطيلُ ليُخالِط مَخْرَج غيره من حروف اللسان، فيسهُل تحويله إلى الحافة اليسرى، ثم يَنْسَلُّ منها ليتَّصِل بحروف اللسان كما كان في الحافة اليمنى.

4- أنَّها ضاد مُطْبقة مستطيلة فيها رخاوة.

وسيبويه لم يُمَثِّل لتلك (الضاد الضعيفة)، ولا ذكر علَّة ضعفها، لكن المؤكَّدَ أنَّ سببَ الضعف راجعٌ إمَّا إلى تغيير في مخرج الضاد الأصلي أو تغيير في صفاته، ولأنَّ الضاد باستطالتها قد تخالط صوتًا أو أكثر من أصوات اللسان، فلابد أن يكون فيها شَبَهٌ من بعضها. والأصوات المَعنِيَّةُ هنا هي التي تَلي مخارجها مخرج الضاد الأصلي وهي عند سيبويه: النون، والراء، والطاء، والدال، والتاء، والزاي، والسين، والصاد والظاء، والذال، والثاء، واللام. لكن أيُّ تلك الأصوات هو الذي أَثَّر في الضاد فأضعَفَها؟

يُركِّزُ كثيرٌ من الباحثين على صوت الثاء؛ فيميل مَبرَمان (ت 345 هـ) وابن عصفور (ت 669 هـ) إلى أنَّ الضاد الضعيفة مُبدلَةٌ من الثاء؛ كما يُقال في (اثرِد له): (اضرِد له)، يُقرِّبون الثاء من الضاد، ويُعلِّل ذلك ابن الأنباري بقوله: "وذلك في لغة قوم ليس في أصل حروفهم الضاد، فإذا تكلَّفوها ضعُف نطقهم بها" [10]، ويُرجِّحُ تمام حسان هذا القول بِناءً على اشتراك الثاء مع الضاد في صفة الرخاوة؛ فيقول: "ومن هنا نجد بعض العرب حين ينطقون كلمة تشتمل على صوت الثاء مَتلُوًّا بحرف مفخم مجهور، يحدُث في نطق الثاء شيء من عدوى التفخيم والجهر الضعيفة، فتصير الثاء بذلك ضادا ضعيفة" [11]. ويَعترِضُ أبو حيَّان النَّحوي على هؤلاء بقوله: "في تفسير الضاد الضعيفة بهذا، وفي تمثيله نظرٌ! والذي يظهر أن الضاد الضعيفة هي التي تقترب من الثاء - عكس ما قال مَبرَمان وابن عُصفور -. فتقول في (اضرِب زيدا): (اثرب زيدا)؛ بين الضاد والثاء" [12]. وهذا أوجَهُ من الأول؛ لأنَّ الضُّعف لا يتعلَّق بالثاء التي استَقوَت بتقريبها من الضاد، بل بالضَّاد التي ينبغي أن تكون قويَّة.


أمَّا أبو علي الفارسي (ت 377هـ)؛ فيرى أن ضَعف الضاد مَرجِعُه ضَعف إطباقها؛ فيقول: "كما إذا قلت: (ضرب) ولم تُشبِع مخرجها، ولا اعتمدت عليه ولكن تُخفِّف وتختلِس؛ فيضعُف إطباقها" [13]، فعلى هذا تكون شبيهةً باللاَّم.


ويَميل السِّيرافي (ت368هـ) إلى أنها: "منلغة قومٍ ليس في أصل حروفهم ضادٌ، فإذا احتاجوا إلى التكلم بها من العربيَّة اعتاصتْ عليهم فربّما أخرجوها ظاءً وذلك أنهم يخرجونها من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا، وربّما تكلَّفوا إخراجها من مخرج الضاد، فلم تتأتَّ لهم فخرجتْ من بين الضاد والظاء" [14]. أي: أنها ضادٌ ظائيَّة.


ويُعلِّق غانم قدُّوري الحَمد على هذه الآراء بقوله: "ويبدو أن مصطلح (الضاد الضعيفة) لم يَعُد يُطلق على صوت مُحدَّد؛ فإذا كان سيبويه قد أطلقه على صوت مُحدَّد فإننا نجد العلماء بعده يستخدمونه للإشارة إلى أكثر من صوت، وذلك حسب ما تؤول إليه الضاد، سواء كان ذلك الصوت ظاءً، أو بين الضاد والظاء، أو بين الضَّاد والثَّاء" [15] أو لامًا، كما يُفهَم من كلام أبي علي الفارسي.


الضاد الدالية:

تَراجَعَ بعضُ العرب بصوت الضاد الأصلي حتى جعلوه قريبًا من مخرج الدال وقد أشار إلى هذا الألوفون ابن سينا؛ حيث مَيَّز في درسه الصوتي بين نوعين من الأصوات: "مُركَّبةٌ، وحدوثها عن حُبسَاتٍ غير تامة لكن تتبع إطلاقات" [16] وأخرى "مُفردةٌ، وحدوثها عن حُبسات تامَّةٍ للصَّوت أو الهواء الفاعل للصَّوت يتبَعُها إطلاقٌ دفعةً" [17]. ويعني بالأصوات المفردة: "الباء، والتاء، والجيم والدال والضَّاد أيضًا من وجه". ومن المَعلوم أنَّ الأصوات الأربعة الأولى شديدةٌ، فإلحاقه الضَّاد الرِّخوة بها، وتقييدُه لها بقوله: "من وجه" يعني: أنه يتحدَّث عن ألوفون آخر للضَّاد الأصليَّة يَتَّصِفُ بالشِّدَّة، قد يكون (الضاد الضعيفة) التي تحدَّث عنها سيبويه وقد يكون غيرَها.


وفي وصفه لطريقة خروج تلك الأصوات المُفرَدة، يقول ابن سينا إنها: "تشترك في أنَّ وُجودها وحدوثها في الآن الفاصل بين زمان الحبس وزمان الإطلاق، وذلك لأنَّ زمانَ الحَبس التام لا يُمكِن أن يحدُث فيه صوت حادث عن الهواء وهو مُسَكَّنٌ بالحبس. وزمان الإطلاق ليس يُسمع فيه شيء من هذه الحروف، لأنها لا تمتد ألبتة إنما هي مع إزالة الحَبس فقط" [18]. واضحٌ من قوله: "لأنها لا تمتد ألبتة" [19] نفي الرَّخاوة والاستطالة عنها، و(الضاد الضعيفة) نعتها سيبويه بالاستطالة في قوله: "فتستطيل حين تُخالِط حروف اللسان" [20]، وهذا يُلغي احتمال أن تكون (الضاد الضعيفة) هي التي عناها بقوله: "والضاد أيضا من وجه"، فلم يبق إلا احتمال ألوفون آخر للضاد الأصليَّة هو الضاد الدالية الشديدة (الانفجارية).


ويؤكِّد هذا الاستنتاج ما ذكره ابن سينا نفسه في حديثه عن (أن هذه الأصوات اللغوية قد تُسمع من حركات غير نطقية)؛ حيث يُصرِّح بـ"أن الضاد تُسمع عن انفلاق فقاقيع كبار من الرطوبات" [21]، أي: أنها ذات طابع انفجاري. فالألوفون الضادي المصري الذي شغل الباحثين المُحدَثين عُمُره يزيد عن ألف سنة، إنه نسخة طبق الأصل لذاك الذي تحدَّث عنه ابن سينا في القرن الخامس الهجري.


ونجد حديثًا عن هذا الألوفون في سياق كلامٍ لابن الجزري يقول فيه: "ومنهم من لا يوصلها إلى مخرجها، بل يُخرجها دونَه ممزوجةً بالطَّاء المُهمَلة، لا يقدِرون على غير ذلك، وهم أكثر المصريين وبعض أهل المغرب" [22]، وهذا إخبارٌ من ابن الجزري عن نُطقٍ كان شائعًا في القرن التاسع الهجري.


والضاد الدَّالية التي تجري على الألسُن المصرية حَظِيت بحصة الأسد من الدرس الصَّوتي الحديث؛ لأنَّ الجيل الأول من الأصواتيين العرب الذين ألَّفوا في مجال الصوتيات كان من المُبتَعَثين المصريين، ولأنَّ مَشيخَة الإِقراء قد تمركَزَت في مصر. وعن كيفية نُطقِها يقول رمضان عبد التواب "تُنطق بـ: أن تلتصق مقدمة اللسان باللثة والأسنان العليا التصاقا يمنع مرور الهواء الخارج من الرئتين، كما ترتفع اللَّهاة والجزء الخلفي من سقف الحلق (وهو المسمى بالطَّبَق) ليسُدَّ التجويف الأنفي، في الوقت الذي تتذبذب فيه الأوتار الصوتية، وترتفع مؤخرة اللسان قليلاً نحو الطَّبق، ثم تُزال هذه السُّدود فجأة، فيندفع الهواء المحبوس إلى الخارج" [23] وينفتح معه الوتران الصوتيان ويهتزان؛ فيُسمع صوت الضاد الدالية.


فالضاد الدالية: صوت أسناني لثوي [24]شديد مجهور مُطبَق، وهو أيضًا "الصوت الذي يعتمده المتخصصون وقراء القرآن الكريم في مصر، النظير المفخم للدال. ورمزه في الكتابة الصوتية الدولية [d]، وله وظيفة مستقلة في النظام الصوتي تختلف عن وظيفة نظيره الدال (وغيره)، كما يبدو ذلك واضحا من نحو: (ضل دل)" [25]. وكذلك هو "النظير المجهور للطاء، فلا فرق بينهما إلا أن الطاء صوت مهموس، والضاد صوت مجهور، كما أنه لا فرق بين الدال والضاد إلا أن الضاد مطبق (مفخم)، والدال لا إطباق فيه" [26]. هي إذن: ضادٌ فَقَدَت رَخاوتها واستطالتها.


بين الضاد الأصلية والضاد الدالية:

في محاولة منهم تلمُّسَ العلاقةَ بين الضاد الأصليَّة بوصوفها النطقية والوظيفية وأحد ألوفوناتها المتداولة في أيامنا، وهي الضاد الدالية (المصرية)، طرح الباحثون احتمالات عدة؛ منها:

الأول: أن يكون الدَّارسون القُدامى أخفقوا في تحديد الموضعِ الدَّقيقِ لنُطقِ الضاد، لاعتمادهم التجربةَ باللِّسان والأذن في وصف الأصوات اللغوية؛ يقول المستشرق شاده (Shaade) مُعلِّقًا على تقسيم سيبويه للمخارج ووصفه لها: "نشاهد غاية التَّفصيل مَثلاً في تقسيمه للأسنان، وقد قسَّمها إلى الثنايا والرباعيات والأنياب والأضراس، ويخالِف هذا التَّدقيق معاملته للحلق، فإن سيبويه، وإن قسَّمَه إلى أقصى الحلق، وأوسط الحلق، وأدنى الحلق، لم يكن يعرف الحنجرة، ولا أجزاءها كالمزمار والأوتار الصوتية، وسبب هذا الاختلاف واضحٌ فإن الأسنان مكشوفة للرؤية، وأما الحنجرة وأجزاؤها وعملها، فتقتضي مُلاحظتها التَّشريحُ، وما أظنُّ سيبويه يجترِئ عليه، أو إلى بعض الآلات الفنّية، كمنظار الحَنجرة، أو الأشعة المجهولة، ولم تكن مثل هذه الآلات بين يديه...؛ فثبت أن الخلل المذكور في مدارك سيبويه، منعه من أن يفهم بعض المسائل الصوتية، حق الفهم" [27]. ويرُدُّ كمال بشر قائلا: "هذا الاحتمال بعيدٌ في رأينا؛ إذ تناقضه الشواهد الكثيرة الواردة عنهم" [28]. إضافة إلى ما أثبته اللغويون القدماء، من دقة بالغة، في وصف الصوامت بشكلٍ عامٍّ، بل تجاوزوا ذلك إلى وصف الحركات وتقديرِها.


وإن افتُرِض أنَّ القُدامى أخطؤوا في الجانب الوصفي القياسي التحليلي من علم الأصوت، فلا شكَّ أن تخطئتهم في جانبه التاريخي الذي يعتمدُ الرِّوايةَ مُجازفةٌ كبيرةٌ؛ فالعَيِّنةُ الَّتي تُطَبَّقُ عليها قوانين علم الصوت المُستَجِدَّة هي عَيِّنةٌ قد ظهرت قبل مئات السِّنين، ولا سبيل إلى تخطي هذا الحاجز الزَّمني إلاَّ بمُراجعة النُّصوص المكتوبة التي ظهرت في تلك الفترة أو قريبًا منها، مع اعتماد ضوابط وَصفِيَّةٍ وقوانين مَوضُوعِيَّةٍ، للوصول إلى مُقارَبةٍ صادقة لتلك الظواهر الصَّوتيَّة.


الثاني: أن يكون القُدامى إنما وصفوا الضَّاد المُوَلَّدة لا الضاد العربية الأصلية وإلى هذا الاحتمال يجنح كمال بشر، ويراه: "هو الأرجح، ربما لكثرة استعمال الصَّوت المولَّد، وشيوعه على الألسنة عند قيام حركة التأليف اللغوي" [29]. ويُعَزِّزُ هذا الاحتمال -في رأيه- أن مُستشرِقًا مَشهورًا هو: يوهان فك يرى أن حرف الضاد: "هو في أصله الحرف المُطبَق القَسيم للدَّال، خاصٌّ بالعربية"؛"أي: أنها حينئذ كانت تشبه ضادنا الحالية أو هي هي، غير أنَّ هذا الصوت -في نظره- قد تغيَّر فيما بعدُ في اللغة الدَّارجة أو المُولَّدة، بسبب اختلاط العرب بغيرهم منذ بداية الفتوح الإسلامية الأولى"[30]. هذا ما استنتجه كمال بشر!


وبمراجعة النص من الأصل الألماني (Arabiya,S.58,35)؛ يتبيَّنُ أنَّ (بِشر) كان ضحيةَ تصحيفٍ وقع في الترجمة العربية، إذ التَّرجمة الصَّواب هي: "الحرف المُطبَق القَسيم للذَّال" [31]، وهذا يُؤكِّدُ أنَّ الضاد الموصوفة في كتب الأقدمين هي القُحَّة، وأنَّ الداليَّة هي المُوَلَّدة.


وتُعزِّزُ هذا الرَّأي المستشرقة مارية هنفر قائلةً: "إن هذه الضاد احتكاكية في الحبشة، ولابد أنها كانت كذلك في العربية الجنوبية. والدليل على صحة ذلك: ورود بعض الكلمات مكتوبةً بالضاد في بعض النقوش، وبالزاي في بعضها الآخر" [32]. فلو كانت هذه الضاد انفجارية -كما ظنَّ كمال بشر-، لما التبست على الكاتب إطلاقاً فدلَّت كتابته إيَّاها بصورة الزاي على أنها كانت احتكاكية [33] في اللسان العربي الأصلي لا المُوَلَّد.


الثالث: أن يكون هناك تطوُّرٌ مَا طرأ على الضاد، فحوَّلها من صوت احتكاكي جانبي إلى تلك الألوفونات المتعددة، ومنها الدالي. وهذا أقوى الاحتمالات؛ يقول كمال بشر: "ومما يُرجِّحُ هذا الاحتمال كذلك: وصفُهم لكيفية نُطقها، وحالة ممر هوائها عند هذا النُّطق" [34]. فهي بذلك مُختلِفَةٌ عن تلك الضاد التي أشار إليها ابن سينا في القرن الخامس الهجري، والتي هي بلا شكَّ نُسخة مُعدَّلة عن الأصليَّة.


وعن كيفية حدوث هذا التطور في صوت الضاد الأصلي؛ يقول برجشتراسر: "نشأ نطق الضاد عند البدو من نطقها العتيق، بتغيير مخرجها من حافة اللسان إلى طرفه. ونُطقها عند أهل المُدن نشأ من هذا النُّطق البدوي؛ بإعماد طرف اللسان على الفك الأعلى بَدلَ تقريبه منه فقط، فصار الحرف بذلك في نُطقه شديداً، بعد أن كان رِخوًا" [35] مُستطيلاً.


وخلاصة القول:

أنَّ الضاد الأصليَّة الموصوفة في كُتُب اللغويين والقُرَّاء هي أُمُّ الضادات التي ينطقها أكثر العرب اليوم، وهذا التَّبايُن بين النُّطق الرَّسمي واليومي لصوت الضاد ليس وليد السَّاعة، بل هو ضاربٌ بجذوره في أعماق التاريخ، حتى قبل أن تُصنَّف تلك الكتب، وما (الضاد الضعيفة) التي تحدَّث عنها سيبويه إلاَّ واحدةٌ من ضرائر الضاد العديدة .


المصدر :موقع الألوكة
 
استعراض رائع رائع رائع لألوفونات الضاد/ أحسنت أستاذنا الكبير كبير بن عيسى
وبودي أن أوضح معنى الألوفون(ال ألو - فون) (allo-phone)
هناك فرق بين الفونيم والألوفون :
1- الألوفون Allophone مصطلَح صوتيّ يدلّ على مظهر من مَظاهِرَ متعدّدة للفونيم الواحد أي للصّوتِ المُطلَق
الواحِد، وكلّ ألوفون شكلٌ [أو تنوع أو تَجَلٍّ] من أشكالِ [أو تنوعات أو تَجلّياتِ] الصّوت الواحد،

2- والألوفون في الأدبيات الصّوتيّة الغربيّة يُقابلُ الصّوتَ في الأدبيّاتِ الصّوتيّةِ العربيّة ، أمّا الفونيم أو الصّوت المُطلَق
فهو عندَ العربِ الحرفُ

3- ولكلّ حرفٍ أو فونيم، نطقٌ معيّن، في سياقٍ صوتيّ معيّنٍ، وتختلف طُرُق نطقِ الصّوت الواحد (الفونيم) بحسب
اختلافِ السّياقات الصّوتيّة الوارِدِ فيها هذا الألوفون أو ذاك. فحرف الراء أو فونيم الراء مثلاً له ألوفونات متعدّدة،
كالرّاء المرقّقة والرّاء المفخّمَة... وهي فروق صوتية من حيث المَخارِج يُدرِكها المتكلّم
منقول من موقع مجالس الفصحى.
 
الدكتور كبير المحترم

الدكتور كبير المحترم

بسم1
كيف حالك يادكتور كبير واشكرك على هذه المعلومات المفيدة. ممكن ايميلك لو تكرمت؟
 
عودة
أعلى