[align=center]التحصيل العلمي بين : التخصص في الجزء و الغرق في الكل[/align]
أرجو من الأشياخ الكرام في هذا المنتدى المبارك , والإخوة الذين سبق لهم أن قرأو أو سمعوا عن هذا الموضوع أن يدلوا بما لديهم والقضية باختصار هي التالي .
انقسم الناس حول العلم , وهل أنَّ التخصص في جزء منه هو الطريق الأكمل , والسبيل إلى الانتفاع والنفع على الوجه الأمثل , وذلك مع أخذ صُبابةً من العلم لابد منها, أم أن ذلك هو الحرمان , وأنه من عداد المصائب التي بلينا بها في آخر الزمان , حتى أصبحنا في زمنٍ بائس أعجبني ما قاله عن حاله العلمية العلامة محمود الطناحي حين قال : أنك لا تكاد تجد اليوم العالِم الحاضِر كما كنت تجده حتى زمنٍ قريب .)
(والعالم الحاضر : يُقصد به العالم الذي يتكلم بنفس واحد في علوم اللغة والقرآن والحديث و التاريخ ... وغيرها , من قال في مثله الشاعر القديم وأحسن : وكان من العلوم بحيث يُقضى *** له من كل علم بالجميعِ .)
بل غالب من تراه - حتى ممن يُسمى زوراً بالعالم - رجلٌ يتكلم في فنٍّ من العلم لا يحسن غيره , و لا يتقن سواه , حتى إذا أراد السباحة يمنةً أو يسرةً غرِق في شبر ماء !
وإنك لتجد – وحالنا هذه - من إذا سألته في القرآن أو أحد علومه وجدت له في الكلام صولة وجولة , فيأخذ ويدع ويرجح ويفاضل , و تسأله عن خبر حديث من أحاديث البخاري مبتغياً جواباً حاضراً , وعلماً في الحال .
فتراه و لسان حاله : يا أخي إذا أردت جوابي فإليَّ بكتابي , وهل تظنني عالماً في كل مسألة ؟ وهل العلم إلا بحرٌ لا ساحل له , وهل تظنُّ الطبري مازال في الأحياء و ... و... قلتُ : وحسرةٌ تشلُّ لساني ...!
(هذا وإنَّ حديثي لمنصبٌّ على البخاري - وما أدراك ما البخاري ؟- أصح كتاب بعد كتاب الله , وأولاه باهتمامٍ ورعاية , فكيف إذا كان السؤال عما هو دون ذلك في المنزلة ؟ ) .
ألا ترى أنَّ أبياتا ساقها قدماء العلماء قد أمست غير ذات معنىً يفهم في زمن الفساد العلميِّ الذي نحياه ؟ و إذا شئتم أن أن تسمعوا فاسمعوا :
[align=center]نحوٌ وصرفٌ عروضٌ ثمَّ قافيةٌ *** وبعدها لغةٌ قرضٌ وإنشــاءُ.
خطٌّ بيانٌ معانٍ مع محاضرةٍ *** والاشتقاقُ لها الآدابُ أسماءُ .[/align]
ما معنى هذه الأبيات ؟ وهل تعرفون بربكم من يتقن هذه العلوم , وهي اثنا عشر علماً كلُّها فروع علمٍ واحد هو علم اللغة ؟ هل تعرفون من علماء الشرع ممن لم يصب بلوثة التخصص من يتقن أصول هذه العلوم دون كل مافيها ؟
ثم أقول : وهل هذا الحال العلمي مقبول في هذا الزمان ؟ ألسنا بحاجة إلى ثورة علمية قبل حاجتنا إلى أي أمر آخر والحال العلمي هذه ؟ أليس هذا من دلائل رفع العلم التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفشوِّها في آخر الأيام وهذا ما يراه بعض المشفقين ومنهم الشيخ محمد الحسن الددو – حماه الله - فهو يرى أن التخصص من البلاء ومن أمارات رفع العلم الذي توعَّد به عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان ؟ .
فهل من همةٍ ترفع هذه الأغلال المُثقِلَة لسير الموتى على الطريق الطويل ؟ ومالنا لا ننادي بأعلى صوت كما رفع شوقي عقيرته ولسنا عنه ببعيد :
[align=center]وما استعصى على قومٍ منـــالٌ *** إذا الإقـدامُ كانَ لهم ركابا
ومــا نيــلُ المطالبِ بالتمـني *** ولكــن تؤخذ الدنيا غلابا[/align]
وإذا رأيت أحدا من القائلين بالتخصص فعليك بالكُرسف فاملأ به أذنيك , فإنه دواء ما استعصى من الكلم , وأنشد ما أنشده أسلافك :
[align=center]أتانا أن سهلاً ذمَّ جهلاً *** عُلُوماً ليسَ يدريهنَّ سهلُ
علوماً لو دراها ما قلاها *** ولكنَّ الرضا بالجهلِ سهلُ[/align]وقل له ما قاله ابن الوردي – رحمه الله - :
[align=center]مات أهل العلم لم يبق سوى *** مقرف أو من على الأصل اتكـل
اطلب العلم و لا تكسل فما *** أبعد الخير على أهل الكســـل
لا تقل ذهبـت أيـامــه *** كل من سار على الدرب وصـل
في إزدياد العلم إرغام العدى *** وجمال العلم إصلاح العمـــل[/align]
أما الرأي الآخر وهو الرأي المناصرُ لطريق التخصص فإنني اقتبس فيه شيئاً من كلام الشيخ حاتم الشريف – حرس الله مهجته – وهو من الفريق الذي يرى أن التخصص هو السبيل الأقوم , والطرق الأمثل .
يقول حفظه الله كما في رسالته الموسومة " نصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية " : " نبه العلماء قديماً على أهمية التخصص في العلوم، فقال الخليل ابن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ): (إذا أردت أن تكون عالماً فاقصد لفن من العلم، وإذا أردت أن تكون أديباً فخذ من كل شيء أحسنه).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ ): (ما ناظرني رجل قط وكان مفنناً في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجل ذو فن واحد إلا غلبني في علمه ذلك).
إن هذه العبارات وأمثالها من الأئمة الدالة على فضل المتخصص في علم واحد على الجامع لأطراف العلوم (أو على رأي الخليل بن أحمد: الدالة على فضل العالم على الأديب المتفنن)، جاءت لتؤكد أن كل علم من العلوم بحر من البحور، لا يعرفه ويصل إلى كنوزه وخفاياه إلا من غاص أعماقه، وقصر حياته على الغوص فيه. أما من اكتفى بالسباحة على ظهر كل بحر من بحور العلم، فإنه إنما عرف ظواهر تلك البحور، وما عرف من كنوزها شيئاً.
وأخص بالذكر أهل عصرنا، فإن العلوم قد ازدادت تشعباً، وعظم كل علم عما كان، بمؤلفات أهله فيه على امتداد العصور السابقة، وبزيادة اختلافهم وأدلة كل صاحب قول منهم ؛ ومع ذلك فقد ضعفت الهمم، ونقصت القدرات عما علمناه من أئمتنا السالفين ؛ وذلك بين واضح لمن عرف سيرهم وأخبارهم ووازن بينهما وبين حالنا؛ أولئك كانوا بما تعلموا وعلموا وألفوا وجاهدوا وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كأن أعمارهم ليست بين الستين والسبعين وإنما بين مائة وستين ومائة وسبعين!! بل والله أكثر!!! أولئك كانت حياتهم كرامة، و وجهدهم معجزة خارقة للعادات!!! فأين نحن من أن نحوي علومهم ؟! وأنى لنا أن نستوعب علم ما خلفوه لنا ؟! ومع ذلك فقد تكلم هؤلاء أنفسهم عن فضل التخصص في العلم، فما أجهلنا إن حسبنا أننا بغير التخصص سنفهم علماً من العلوم!!!
ولقد سبرت بعض أحوال المتعلمين، فوجدت أكثرهم علماً وإنصافاً وتواضعاً، وأدقهم نظراً وفهماً، وأحسنهم تأليفاً وإبداعاً: هم أصحاب التخصصات. في حين وجدت أقلهم علماً وإنصافاً، وأكثرهم كبراً وتعالياً وتعالماً، وأبعدهم عن الفهم والتدقيق وعن الإبداع والإحسان في التأليف: المتفننين أصحاب العلوم، أو سمهم بالمثقفين ؛ إلا من رحم ربك.
ومن فضل صاحب التخصص الفضل الظاهر، الذي يقرني عليه المنصف، أن صاحب التخصص لا يثرب على المتفنن، بل يراه أكثر أهلية منه في أمور كإلقاء المحاضرات والدعوة ومواجهة العامة، ويعتبره بذلك على ثغرة من ثغرات الإسلام، ويرى أن الأمة في حاجة إلى أمثاله. وأما أصحاب الفنون، فعلى الضد من ذلك، فهم أكثر الناس تثريباً وعيباً على المتخصصين، ولا يرون لهم فضلاً عليهم ولا في العلم الذي تخصصوا فيه، وينازعونهم مسائلة (وهم بها جهلاء)، ويشنعون عليهم لعدم معرفتهم ببعض ما لم يتخصصوا فيه.
ولك بعد هذا أن تحكم، أي الفريقين أدخل الله في قوله تعالى (إن الله يحب المقسطين).
ولله ما يلاقيه أصحاب التخصصات من إخوانهم المتفننين!! من عدم فهم الأخيرين لتخصصاتهم، مع كلامهم فيها ومنازعتهم أهلها، بل قد يصل الأمر إلى استغلال أصحاب الفنون علاقتهم بالعامة والغوغاء، وانبهار هؤلاء بهم، فيتطاولون على أصحاب التخصصات وعلى علومهم، بما لا يؤلم العالم شيء مثله، وهو الكلام بجهل، وتشويه العلوم.
ومن فضل صاحب التخصص إذا وفقه الله تعالى، أنه من أكثر الناس لقالة (لا أدري)، إذا سئل عن غير تخصصه. ولهذه القالة بركة لا يعرفها إلا قليل، فهي باب التواضع الكبير، وباب للعلم أكبر. وأما صاحب الفنون، فهو عن (لا أدري) أبعد ؛ لأنه يضرب في كل علم بسهم، وبكثير جوابه على أسئلة العامة وأنصاف المتعلمين، التي هي – في الغالب – سؤالات عن الواضحات وعن ظواهر العلوم ؛ فينسى مع طول المدة (لا أدري)، ولا يعتاد لسانه عليها، ولا تنقهر نفسه لها ؛ لذلك فهو عن بركاتها ليس بقريب!!
ثم إن للعلم دقائق لا يعرف المتفننون عنها شيئاً، أما المتخصصون فقد خبروها، وقادتهم إلى دقائق الدقائق. فهم فقهاء العلوم حقاً، وأطباء الفنون صدقاً.
يقول الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني تلميذ الشافعي (ت 260هـ): (سمعت الشافعي يقول: من تعلم علماً فليدقق، لكيلا يضيع دقيق العلم).
كذا نصائح الأئمة، نور على نور!!
وأما الشافعي فقد كان آمناً من ضياع جليل العلم وعظمه، خائفاً من ضياع دقيقة. أما نحن الآن فنقول: (من تعلم علماً فليدقق، لكيلا يضيع جليل العلم ) ؛ فدققوا يا بني إخوتي ما شئتم من التدقيق، فنحن مع تدقيقكم هذا لعلى جليل العلم وجلون.
وهنا أنبه على أن مطالبتنا بالتخصص لا يعني أن نطالب بذلك على حساب فروض الأعيان من العلوم، كتصحيح العقيدة وعلم التوحيد الجملي، وما يحتاج إليه من فقه العبادات، وما شابهها من الفروض العينية من العلوم ؛ فهذا ما لا يجوز على مسلم جهله، فضلاً عن طالب العلم ؛ بل نحن نطالب طالب العلم بما فوق ذلك، وهو أن لا يكون جاهلاً بنفع كل علم نافع (ولا أقول أن يكون عالماً بكل علم نافع، فهذا ضد ما أحث عليه ) ؛ لأن الجهل بنفع علم ذي علم فائدة دنيوية أو أخروية يدعو إلى معاداة ذلك العلم، على قاعدة: من جهل شيئاً عاداه ؛ ويقبح بطالب العلم أن يعادي علماً نافعاً، مهما قل نفعه في رأيه، فإنه لا ينقص على أن يكون فرضاً كفائياً.
وما أجمل وصية خالد بن يحيى بن برمك (ت 165هـ) لابنه، عندما قال له: (يا بني، خذ من كل علم بحظ، فإنك إن لم تفعل جهلت، وإن جهلت شيئاً من العلم عاديته، وعزيز علي أن تعادي شيئاً من العلم).
وأخص من العلوم مما يقبح بطالب العلم جهله العلوم الإسلامية جميعاً، كعلم الفقه وأصوله والتفسير وأصوله والعقيدة وعلوم الآلة من نحو وصرف وبلاغة وأدب، مما ينبغي على طالب علم الحديث المتخصص أن يحصل شيئاً منها. وضابط تحصيله لهذه العلوم (حتى لا يناقض ذلك مطالبتي له بالتخصص) أن يجعل مقصوده من طلبه لهذه العلوم تكميل استفادته لتخصصه وعميق فهمه له ؛ حيث إن العلوم الإسلامية بينها ترابط كبير، لا يمكن من أراد التخصص في علم منها أن يكون جاهلاً تمام الجهل بما سواه. بل ربما قادته مسألة دقيقة في علم الحديث (مثلاً) إلى التدقيق في مسألة من مسائل أصول الفقه أو غيره، حتى يخرج بنتيجة في مسألته الحديثية. وليس ذلك بغريب على من عرف العلوم الإسلامية، وقوة ما بينها من أواصر القربى العلمية.
ولأزيد الأمر إيضاحاً أقول: كيف يتسنى لطالب الحديث أن يعرف الصواب في إحدى مشاهير مسائله ؟ وهي مسألة الرواية عن أهل البدع وحكمها، إذا لم يكن عارفاً بالسنة والبدعة، وبصنوف البدع وأقسام المبتدعة، وبالغالي منهم ومن بدعته غليظة ومن يكفر ببدعته ممن هو بخلاف ذلك ؛ وهذا كله باب من أبواب العقيدة عظيم.
وكيف يمكن لطالب الحديث أن يميز بين الروايات المختلفة، مثل زيادات الثقات: مقبولها ومردودها، والشاذة منها والمنكرة، والناسخة والمنسوخة، والراجحة والمرجوحة، إذا لم يكن عنده أصول الفقه والقدرة على الاستنباط والفهم للنصوص ما يتيح له الحكم في ذلك كله ؟!
المهم أن يأخذ من العلوم التي لم يتخصص فيها، بقدر ما يخدم العلم الذي تخصص فيه، ولا يزيد على ذلك، و إلا لم يصبح متخصصاً، وإنما يكون متفنناً.
وطريقة تحصيله لتلك العلوم التي لا ينوي التخصص في واحد منها، مما لا يخرجه عن حد التخصص إلى حد التفنن، هي أن يدرس مختصراً من مختصرات تلك العلوم، تمكنه من مراجعة مطولات تلك الفنون، فيما إذ أحوجه علمه الذي تخصص فيه إلى ذلك، كما سبق التمثيل له. وعليه أيضاً أن لا يقطع صلته بعلماء تلك العلوم المتخصصين فيها، وأن يصوب فهمه من علومهم عليهم، وأن لا يستبد بشيء من علمهم دون الرجوع إليهم. " انتهى كلامه.
بقي أن نسمع رأيكم في هذه المسألة وأرجو ألا يبخل أي منكم برأيه .
أرجو من الأشياخ الكرام في هذا المنتدى المبارك , والإخوة الذين سبق لهم أن قرأو أو سمعوا عن هذا الموضوع أن يدلوا بما لديهم والقضية باختصار هي التالي .
انقسم الناس حول العلم , وهل أنَّ التخصص في جزء منه هو الطريق الأكمل , والسبيل إلى الانتفاع والنفع على الوجه الأمثل , وذلك مع أخذ صُبابةً من العلم لابد منها, أم أن ذلك هو الحرمان , وأنه من عداد المصائب التي بلينا بها في آخر الزمان , حتى أصبحنا في زمنٍ بائس أعجبني ما قاله عن حاله العلمية العلامة محمود الطناحي حين قال : أنك لا تكاد تجد اليوم العالِم الحاضِر كما كنت تجده حتى زمنٍ قريب .)
(والعالم الحاضر : يُقصد به العالم الذي يتكلم بنفس واحد في علوم اللغة والقرآن والحديث و التاريخ ... وغيرها , من قال في مثله الشاعر القديم وأحسن : وكان من العلوم بحيث يُقضى *** له من كل علم بالجميعِ .)
بل غالب من تراه - حتى ممن يُسمى زوراً بالعالم - رجلٌ يتكلم في فنٍّ من العلم لا يحسن غيره , و لا يتقن سواه , حتى إذا أراد السباحة يمنةً أو يسرةً غرِق في شبر ماء !
وإنك لتجد – وحالنا هذه - من إذا سألته في القرآن أو أحد علومه وجدت له في الكلام صولة وجولة , فيأخذ ويدع ويرجح ويفاضل , و تسأله عن خبر حديث من أحاديث البخاري مبتغياً جواباً حاضراً , وعلماً في الحال .
فتراه و لسان حاله : يا أخي إذا أردت جوابي فإليَّ بكتابي , وهل تظنني عالماً في كل مسألة ؟ وهل العلم إلا بحرٌ لا ساحل له , وهل تظنُّ الطبري مازال في الأحياء و ... و... قلتُ : وحسرةٌ تشلُّ لساني ...!
(هذا وإنَّ حديثي لمنصبٌّ على البخاري - وما أدراك ما البخاري ؟- أصح كتاب بعد كتاب الله , وأولاه باهتمامٍ ورعاية , فكيف إذا كان السؤال عما هو دون ذلك في المنزلة ؟ ) .
ألا ترى أنَّ أبياتا ساقها قدماء العلماء قد أمست غير ذات معنىً يفهم في زمن الفساد العلميِّ الذي نحياه ؟ و إذا شئتم أن أن تسمعوا فاسمعوا :
[align=center]نحوٌ وصرفٌ عروضٌ ثمَّ قافيةٌ *** وبعدها لغةٌ قرضٌ وإنشــاءُ.
خطٌّ بيانٌ معانٍ مع محاضرةٍ *** والاشتقاقُ لها الآدابُ أسماءُ .[/align]
ما معنى هذه الأبيات ؟ وهل تعرفون بربكم من يتقن هذه العلوم , وهي اثنا عشر علماً كلُّها فروع علمٍ واحد هو علم اللغة ؟ هل تعرفون من علماء الشرع ممن لم يصب بلوثة التخصص من يتقن أصول هذه العلوم دون كل مافيها ؟
ثم أقول : وهل هذا الحال العلمي مقبول في هذا الزمان ؟ ألسنا بحاجة إلى ثورة علمية قبل حاجتنا إلى أي أمر آخر والحال العلمي هذه ؟ أليس هذا من دلائل رفع العلم التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفشوِّها في آخر الأيام وهذا ما يراه بعض المشفقين ومنهم الشيخ محمد الحسن الددو – حماه الله - فهو يرى أن التخصص من البلاء ومن أمارات رفع العلم الذي توعَّد به عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان ؟ .
فهل من همةٍ ترفع هذه الأغلال المُثقِلَة لسير الموتى على الطريق الطويل ؟ ومالنا لا ننادي بأعلى صوت كما رفع شوقي عقيرته ولسنا عنه ببعيد :
[align=center]وما استعصى على قومٍ منـــالٌ *** إذا الإقـدامُ كانَ لهم ركابا
ومــا نيــلُ المطالبِ بالتمـني *** ولكــن تؤخذ الدنيا غلابا[/align]
وإذا رأيت أحدا من القائلين بالتخصص فعليك بالكُرسف فاملأ به أذنيك , فإنه دواء ما استعصى من الكلم , وأنشد ما أنشده أسلافك :
[align=center]أتانا أن سهلاً ذمَّ جهلاً *** عُلُوماً ليسَ يدريهنَّ سهلُ
علوماً لو دراها ما قلاها *** ولكنَّ الرضا بالجهلِ سهلُ[/align]وقل له ما قاله ابن الوردي – رحمه الله - :
[align=center]مات أهل العلم لم يبق سوى *** مقرف أو من على الأصل اتكـل
اطلب العلم و لا تكسل فما *** أبعد الخير على أهل الكســـل
لا تقل ذهبـت أيـامــه *** كل من سار على الدرب وصـل
في إزدياد العلم إرغام العدى *** وجمال العلم إصلاح العمـــل[/align]
أما الرأي الآخر وهو الرأي المناصرُ لطريق التخصص فإنني اقتبس فيه شيئاً من كلام الشيخ حاتم الشريف – حرس الله مهجته – وهو من الفريق الذي يرى أن التخصص هو السبيل الأقوم , والطرق الأمثل .
يقول حفظه الله كما في رسالته الموسومة " نصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية " : " نبه العلماء قديماً على أهمية التخصص في العلوم، فقال الخليل ابن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ): (إذا أردت أن تكون عالماً فاقصد لفن من العلم، وإذا أردت أن تكون أديباً فخذ من كل شيء أحسنه).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ ): (ما ناظرني رجل قط وكان مفنناً في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجل ذو فن واحد إلا غلبني في علمه ذلك).
إن هذه العبارات وأمثالها من الأئمة الدالة على فضل المتخصص في علم واحد على الجامع لأطراف العلوم (أو على رأي الخليل بن أحمد: الدالة على فضل العالم على الأديب المتفنن)، جاءت لتؤكد أن كل علم من العلوم بحر من البحور، لا يعرفه ويصل إلى كنوزه وخفاياه إلا من غاص أعماقه، وقصر حياته على الغوص فيه. أما من اكتفى بالسباحة على ظهر كل بحر من بحور العلم، فإنه إنما عرف ظواهر تلك البحور، وما عرف من كنوزها شيئاً.
وأخص بالذكر أهل عصرنا، فإن العلوم قد ازدادت تشعباً، وعظم كل علم عما كان، بمؤلفات أهله فيه على امتداد العصور السابقة، وبزيادة اختلافهم وأدلة كل صاحب قول منهم ؛ ومع ذلك فقد ضعفت الهمم، ونقصت القدرات عما علمناه من أئمتنا السالفين ؛ وذلك بين واضح لمن عرف سيرهم وأخبارهم ووازن بينهما وبين حالنا؛ أولئك كانوا بما تعلموا وعلموا وألفوا وجاهدوا وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كأن أعمارهم ليست بين الستين والسبعين وإنما بين مائة وستين ومائة وسبعين!! بل والله أكثر!!! أولئك كانت حياتهم كرامة، و وجهدهم معجزة خارقة للعادات!!! فأين نحن من أن نحوي علومهم ؟! وأنى لنا أن نستوعب علم ما خلفوه لنا ؟! ومع ذلك فقد تكلم هؤلاء أنفسهم عن فضل التخصص في العلم، فما أجهلنا إن حسبنا أننا بغير التخصص سنفهم علماً من العلوم!!!
ولقد سبرت بعض أحوال المتعلمين، فوجدت أكثرهم علماً وإنصافاً وتواضعاً، وأدقهم نظراً وفهماً، وأحسنهم تأليفاً وإبداعاً: هم أصحاب التخصصات. في حين وجدت أقلهم علماً وإنصافاً، وأكثرهم كبراً وتعالياً وتعالماً، وأبعدهم عن الفهم والتدقيق وعن الإبداع والإحسان في التأليف: المتفننين أصحاب العلوم، أو سمهم بالمثقفين ؛ إلا من رحم ربك.
ومن فضل صاحب التخصص الفضل الظاهر، الذي يقرني عليه المنصف، أن صاحب التخصص لا يثرب على المتفنن، بل يراه أكثر أهلية منه في أمور كإلقاء المحاضرات والدعوة ومواجهة العامة، ويعتبره بذلك على ثغرة من ثغرات الإسلام، ويرى أن الأمة في حاجة إلى أمثاله. وأما أصحاب الفنون، فعلى الضد من ذلك، فهم أكثر الناس تثريباً وعيباً على المتخصصين، ولا يرون لهم فضلاً عليهم ولا في العلم الذي تخصصوا فيه، وينازعونهم مسائلة (وهم بها جهلاء)، ويشنعون عليهم لعدم معرفتهم ببعض ما لم يتخصصوا فيه.
ولك بعد هذا أن تحكم، أي الفريقين أدخل الله في قوله تعالى (إن الله يحب المقسطين).
ولله ما يلاقيه أصحاب التخصصات من إخوانهم المتفننين!! من عدم فهم الأخيرين لتخصصاتهم، مع كلامهم فيها ومنازعتهم أهلها، بل قد يصل الأمر إلى استغلال أصحاب الفنون علاقتهم بالعامة والغوغاء، وانبهار هؤلاء بهم، فيتطاولون على أصحاب التخصصات وعلى علومهم، بما لا يؤلم العالم شيء مثله، وهو الكلام بجهل، وتشويه العلوم.
ومن فضل صاحب التخصص إذا وفقه الله تعالى، أنه من أكثر الناس لقالة (لا أدري)، إذا سئل عن غير تخصصه. ولهذه القالة بركة لا يعرفها إلا قليل، فهي باب التواضع الكبير، وباب للعلم أكبر. وأما صاحب الفنون، فهو عن (لا أدري) أبعد ؛ لأنه يضرب في كل علم بسهم، وبكثير جوابه على أسئلة العامة وأنصاف المتعلمين، التي هي – في الغالب – سؤالات عن الواضحات وعن ظواهر العلوم ؛ فينسى مع طول المدة (لا أدري)، ولا يعتاد لسانه عليها، ولا تنقهر نفسه لها ؛ لذلك فهو عن بركاتها ليس بقريب!!
ثم إن للعلم دقائق لا يعرف المتفننون عنها شيئاً، أما المتخصصون فقد خبروها، وقادتهم إلى دقائق الدقائق. فهم فقهاء العلوم حقاً، وأطباء الفنون صدقاً.
يقول الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني تلميذ الشافعي (ت 260هـ): (سمعت الشافعي يقول: من تعلم علماً فليدقق، لكيلا يضيع دقيق العلم).
كذا نصائح الأئمة، نور على نور!!
وأما الشافعي فقد كان آمناً من ضياع جليل العلم وعظمه، خائفاً من ضياع دقيقة. أما نحن الآن فنقول: (من تعلم علماً فليدقق، لكيلا يضيع جليل العلم ) ؛ فدققوا يا بني إخوتي ما شئتم من التدقيق، فنحن مع تدقيقكم هذا لعلى جليل العلم وجلون.
وهنا أنبه على أن مطالبتنا بالتخصص لا يعني أن نطالب بذلك على حساب فروض الأعيان من العلوم، كتصحيح العقيدة وعلم التوحيد الجملي، وما يحتاج إليه من فقه العبادات، وما شابهها من الفروض العينية من العلوم ؛ فهذا ما لا يجوز على مسلم جهله، فضلاً عن طالب العلم ؛ بل نحن نطالب طالب العلم بما فوق ذلك، وهو أن لا يكون جاهلاً بنفع كل علم نافع (ولا أقول أن يكون عالماً بكل علم نافع، فهذا ضد ما أحث عليه ) ؛ لأن الجهل بنفع علم ذي علم فائدة دنيوية أو أخروية يدعو إلى معاداة ذلك العلم، على قاعدة: من جهل شيئاً عاداه ؛ ويقبح بطالب العلم أن يعادي علماً نافعاً، مهما قل نفعه في رأيه، فإنه لا ينقص على أن يكون فرضاً كفائياً.
وما أجمل وصية خالد بن يحيى بن برمك (ت 165هـ) لابنه، عندما قال له: (يا بني، خذ من كل علم بحظ، فإنك إن لم تفعل جهلت، وإن جهلت شيئاً من العلم عاديته، وعزيز علي أن تعادي شيئاً من العلم).
وأخص من العلوم مما يقبح بطالب العلم جهله العلوم الإسلامية جميعاً، كعلم الفقه وأصوله والتفسير وأصوله والعقيدة وعلوم الآلة من نحو وصرف وبلاغة وأدب، مما ينبغي على طالب علم الحديث المتخصص أن يحصل شيئاً منها. وضابط تحصيله لهذه العلوم (حتى لا يناقض ذلك مطالبتي له بالتخصص) أن يجعل مقصوده من طلبه لهذه العلوم تكميل استفادته لتخصصه وعميق فهمه له ؛ حيث إن العلوم الإسلامية بينها ترابط كبير، لا يمكن من أراد التخصص في علم منها أن يكون جاهلاً تمام الجهل بما سواه. بل ربما قادته مسألة دقيقة في علم الحديث (مثلاً) إلى التدقيق في مسألة من مسائل أصول الفقه أو غيره، حتى يخرج بنتيجة في مسألته الحديثية. وليس ذلك بغريب على من عرف العلوم الإسلامية، وقوة ما بينها من أواصر القربى العلمية.
ولأزيد الأمر إيضاحاً أقول: كيف يتسنى لطالب الحديث أن يعرف الصواب في إحدى مشاهير مسائله ؟ وهي مسألة الرواية عن أهل البدع وحكمها، إذا لم يكن عارفاً بالسنة والبدعة، وبصنوف البدع وأقسام المبتدعة، وبالغالي منهم ومن بدعته غليظة ومن يكفر ببدعته ممن هو بخلاف ذلك ؛ وهذا كله باب من أبواب العقيدة عظيم.
وكيف يمكن لطالب الحديث أن يميز بين الروايات المختلفة، مثل زيادات الثقات: مقبولها ومردودها، والشاذة منها والمنكرة، والناسخة والمنسوخة، والراجحة والمرجوحة، إذا لم يكن عنده أصول الفقه والقدرة على الاستنباط والفهم للنصوص ما يتيح له الحكم في ذلك كله ؟!
المهم أن يأخذ من العلوم التي لم يتخصص فيها، بقدر ما يخدم العلم الذي تخصص فيه، ولا يزيد على ذلك، و إلا لم يصبح متخصصاً، وإنما يكون متفنناً.
وطريقة تحصيله لتلك العلوم التي لا ينوي التخصص في واحد منها، مما لا يخرجه عن حد التخصص إلى حد التفنن، هي أن يدرس مختصراً من مختصرات تلك العلوم، تمكنه من مراجعة مطولات تلك الفنون، فيما إذ أحوجه علمه الذي تخصص فيه إلى ذلك، كما سبق التمثيل له. وعليه أيضاً أن لا يقطع صلته بعلماء تلك العلوم المتخصصين فيها، وأن يصوب فهمه من علومهم عليهم، وأن لا يستبد بشيء من علمهم دون الرجوع إليهم. " انتهى كلامه.
بقي أن نسمع رأيكم في هذه المسألة وأرجو ألا يبخل أي منكم برأيه .