أبو عبد الله محمد مصطفى
New member
أقوال بعض علماء التفسير في قوله تعالى : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي
قال الله تعالى : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )
قال ابن الجوزي : قوله تعالى لا إكراه في الدين في سبب نزولها أربعة أقوال أحدها أن المرأة من نساء الأنصار كانت في الجاهلية إذا لم يعش لها ولد تحلف لئن عاش لها ولد لتهودنه فلما أجليت يهود بني النضير كان فيهم ناس من أبناء الأنصار فقال الأنصار يا رسول الله أبناؤنا فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس وقال الشعبي قالت الأنصار والله لنكرهن أولادنا على الإسلام فإنا إنما جعلناهم في دين اليهود إذ لم نعلم دينا أفضل منه فنزلت هذه الآية والثاني أن رجلا من الأنصار تنصر لهو ولدان قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية هذا قول مسروق والثالث أن ناساً كانوا مسترضعين في اليهود فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قالوا والله ليذهبن معهم ولنذهبن بدينهم فمنعهم أهلوهم وأرادوا إكراهمم على الإسلام فنزلت هذه الآية والرابع أن رجلا من الأنصار كان له غلام اسمه صبيح كان يكرهه على الإسلام فنزلت هذه الآية والقولان عن مجاهد .
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية فذهب قوم إلى أنه محكم وانه من العام المخصوص فانه خص منه أهل الكتاب بأنهم لا يكرهون على الإسلام بل يخيرون بينه وبين أداء الجزية وهذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقال ابن الأنباري معنى الآية ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه ولم يشهد به القلب وتنطوي عليه الضمائر إنما الدين هو المنعقد بالقلب وذهب قوم إلى أنه منسوخ وقالوا هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال فعلى قولهم يكون منسوخا بآية السيف وهذا مذهب الضحاك والسدي وابن زيد والدين هاهنا أريد به الإسلام والرشد الحق والغي الباطل وقيل هو الإيمان والكفر فاما الطاغوت فهو اسم مأخوذ من الطغيان وهو مجاوزة الحد قال ابن قتيبة الطاغوت واحد وجمع ومذكر ومؤنث قال الله تعالى أولياؤهم الطاغوت وقال والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها الزمر 17 والمراد بالطاغوت هاهنا خمسة أقوال أحدها أنه الشيطان قاله عمر و ابن عباس و مجاهد والشعبي والسدي و مقاتل في آخرين والثاني أنه الكاهن قاله سعيد بن جبير و أبوالعالية والثالث أنه الساحر قاله محمد بن سيرين والرابع أنه الأصنام قاله اليزيدي و الزجاج والخامس أنه مردة أهل الكتاب ذكره الزجاج أيضاً .
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 1 / 304 – 306 .
قال ابن جزي عند قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) المعنى أن دين الإسلام في غاية الوضوح وظهور البراهين على صحته بحيث لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه بل يدخل فيه كل ذي عقل سليم من تلقاء نفسه دون إكراه ويدل على ذلك قوله قد تبين الرشد من الغي أي قد تبين أن الإسلام رشد وأن الكفر غي فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه وقيل معناها الموادعة وأن لا يكره أحد بالقتال على الدخول في الإسلام ثم نسخت بالقتال وهذا ضعيف لأنها مدنية وإنما آية المسالمة وترك القتال بمكة .
التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي الكلبي ص89 – 90 .
قال النسفي عند قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) أي : لا إجبار على الدين الحق وهو دين الإسلام وقيل هو إخبار فى معنى النهى وروى أنه كان لأنصاري ابنان فتنصرا فلزمهما أبوهما وقال والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري يا رسول الله أيدخل بعضي فى النار وأنا أنظر فنزلت فخلاهما قال ابن مسعود وجماعة كان هذا فى الابتداء ثم نسخ بالأمر بالقتال قد تبين الرشد من الغي قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة .
تفسير النسفي 1 / 125.
قال علي الواحدي عند قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) بعد إسلام العرب لأنهم أكرهوا على الإسلام فلم يقبل منهم الجزية لأنهم كانوا مشركين فلما أسلموا أنزل الله تعالى هذه الآية قد تبين الرشد من الغي ظهر الإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الحجج .
تفسير الواحدي 1 / 183.
قال ابن جرير الطبري : القول في تأويل قوله تعالى لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك فقال بعضهم نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار أو في رجل منهم كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه فنهاهم الله عن ذلك حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام ذكر من قال ذلك حدثنا محمد بن بشار قال ثنا بن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال كانت المرأة تكون مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فأنزل الله تعالى ذكره لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي حدثنا بن بشار قال ثنا محمد بن جعفر قال ثنا سعيد عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال كانت المرأة تكون مقلى ولا يعيش لها ولد قال شعبة وإنما هو مقلات فتجعل عليها إن بقي لها ولد لتهودنه قال فلما أجليت بنو النضير كان فيهم منهم فقالت الأنصار كيف نصنع بأبنائنا فنزلت هذه الآية لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي قال من شاء أن يقيم أقام ومن شاء أن يذهب ذهب حدثنا حميد بن مسعدة قال ثنا بشر بن المفضل قال ثنا داود وحدثني يعقوب قال ثنا بن علية عن داود عن عامر قال كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاتا لا يعيش لها ولد فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم فقالوا إنما جعلناهم على دينهم ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا وإذ جاء الله بالإسلام فلنكرهنهم فنزلت لا إكراه في الدين فكان فصل ما بين من اختار اليهودية والإسلام فمن لحق بهم اختار اليهودية ومن أقام اختار الإسلام
ولفظ الحديث لحميد حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ثنا معتمر بن سليمان قال سمعت داود عن عامر بنحو معناه إلا أنه قال فكان فصل ما بينهم إجلاء رسول الله بني النضير فلحق بهم من كان يهوديا ولم يسلم منهم وبقي من أسلم حدثنا بن المثنى قال ثنا عبد الأعلى قال ثنا داود عن عامر بنحوه إلا أنه قال إجلاء النضير إلى خيبر فمن اختار الإسلام أقام ومن كره لحق بخيبر حدثنا بن حميد قال ثنا سلمة عن أبي إسحاق عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن بن عباس قوله لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي قال نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله فيه ذلك حدثني المثنى قال ثنا حجاج بن المنهال قال ثنا أبو عوانة عن أبي بشر قال سألت سعيد بن جبير عن قوله لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي قال نزلت هذه في الأنصار قال قلت خاصة قال خاصة قال كانت المرأة في الجاهلية تنذر إن ولدت ولدا أن تجعله في اليهود تلتمس بذلك طول بقائه قال فجاء الإسلام وفيهم منهم فلما أجليت النضير قالوا يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فيهم قال فسكت عنهم رسول الله فأنزل الله تعالى ذكره لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي قال فقال رسول الله قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فهم منهم قال فأجلوهم معهم حدثني موسى بن هارون قال ثنا عمرو قال ثنا أسباط عن السدي قوله لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي إلى لا انفصام لها قال نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين كان له ابنان فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم فأتى أبوهما إلى رسول الله فقال إن ابني تنصرا وخرجا فأطلبهما فقال لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب وقال أبعدهما الله هما أول من كفر فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي حين لم يبعث في طلبهما فنزلت فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ثم إنه نسخ لا إكراه في الدين فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة حدثني محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم عن عيسى عن بن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله لا إكراه في الدين قال كانت في اليهود يهود أرضعوا رجالا من الأوس فلما أمر النبي بإجلائهم قال أبناؤهم من الأوس لنذهبن معهم ولندينن بدينهم فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام ففيهم نزلت هذه الآية حدثنا بن وكيع قال ثنا أبي عن سفيان وحدثنا أحمد بن إسحاق قال ثنا أبو أحمد جميعا عن سفيان عن خصيف عن مجاهد لا إكراه في الدين قال كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني الحجاج عن بن جريج قال قال مجاهد : كانت النضير يهودا فأرضعوا ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو عن أبي عاصم قال بن جريج وأخبرني عبد الكريم عن مجاهد أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناء الأوس دانوا بدين النضير حدثني المثنى قال ثنا إسحاق قال ثنا بن أبي جعفر عن أبيه عن داود بن أبي هند عن الشعبي أن المرأة من الأنصار كانت تنذر إن عاش ولدها لتجعلنه في أهل الكتاب فلما جاء الإسلام قالت الأنصار يا رسول الله ألا نكره أولادنا الذين هم في يهود على الإسلام فإنا إنما جعلناهم فيها ونحن نرى أن اليهودية أفضل الأديان فلما أن جاء الله بالإسلام أفلا نكرههم على الإسلام فأنزل الله تعالى ذكره لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي حدثت عن عمار قال ثنا بن أبي جعفر عن أبيه عن داود عن الشعبي مثله وزاد قال كان فصل ما بين من اختار اليهود منهم وبين من اختار الإسلام إجلاء بني النضير فمن خرج مع بني النضير كان منهم ومن تركهم اختار الإسلام
حدثني يونس قال أخبرنا بن وهب قال : قال بن زيد في قوله لا إكراه في الدين إلى قوله بالعروة الوثقى قال هذا منسوخ حدثني سعيد بن الربيع الرازي قال ثنا سفيان عن بن أبي نجيح عن مجاهد ووائل عن الحسن أن أناسا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني النضير فلما أجلوا أراد أهلوهم أن يلحقوهم بدينهم فنزلت لا إكراه في الدين وقال آخرون بل معنى ذلك لا يكره أهل الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية ولكنهم يقرون على دينهم وقالوا الآية في خاص من الكفار ولم ينسخ منها شيء ذكر من قال ذلك حدثنا بشر بن معاذ قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي قال أكره عليه هذا الحي من العرب لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه فلم يقبل منهم غير الإسلام ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج ولم يفتنوا عن دينهم فيخلى عنهم حدثنا محمد بن بشار قال ثنا سليمان قال ثنا أبو هلال قال ثنا قتادة في قوله لا إكراه في الدين قال هو هذا الحي من العرب أكرهوا على الدين لم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام وأهل الكتاب قبلت منهم الجزية ولم يقتلوا حدثنا بن حميد قال ثنا الحكم بن بشير قال ثنا عمرو بن قيس عن جويبر عن الضحاك في قوله لا إكراه في الدين قال أمر رسول الله أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان فلم يقبل منهم إلا لا إله إلا الله أو السيف ثم أمر فيمن سواهم بأن يقبل منهم الجزية فقال لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله لا إكراه في الدين قال كانت العرب ليس لها دين فأكرهوا على الدين بالسيف قال ولا يكره اليهود ولا النصارى والمجوس إذا أعطوا الجزية حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا بن عيينة عن بن أبي نجيح قال سمعت مجاهدا يقول لغلام له نصراني يا جرير أسلم ثم قال هكذا كان يقال لهم حدثني محمد بن سعد قال ثني أبي قال ثني عمي قال ثني أبي عن أبيه عن بن عباس لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي قال وذلك لما دخل الناس في الإسلام وأعطى أهل الكتاب الجزية وقال آخرون هذه الآية منسوخة وإنما نزلت قبل أن يفرض القتال ذكر من قال ذلك حدثني يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا بن وهب قال أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال سألت زيد بن أسلم عن قول الله تعالى ذكره لا إكراه في الدين قال كان رسول الله بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم فاستأذن الله في قتالهم فأذن له
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال نزلت هذه الآية في خاص من الناس وقال عنى بقوله تعالى ذكره لا إكراه في الدين أهل الكتابين والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق وأخذ الجزية منه وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب لما قد دللنا عليه في كتابنا كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفى حكم المنسوخ فلم يجز اجتماعهما فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي وباطنه الخصوص فهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل وإذ كان ذلك كذلك وكان غير مستحيل أن يقال لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم أنه أكره على الإسلام قوما فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم وأنه ترك إكراه آخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم كان بينا بذلك أن معنى قوله لا إكراه في الدين إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية ورضاه بحكم الإسلام ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم بالإذن بالمحاربة فإن قال قائل فما أنت قائل فيما روي عن بن عباس وعمن روي عنه من أنها نزلت في قوم من الأنصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم على الإسلام قلنا ذلك غير مدفوعة صحته ولكن الآية قد تنزل في خاص من الأمر ثم يكون حكمها عاما في كل ما جانس المعنى الذي أنزلت فيه فالذين أنزلت فيهم هذه الآية على ما ذكر بن عباس وغيره إنما كانوا قوما دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الإسلام لهم فنهى الله تعالى ذكره عن إكراههم على الإسلام وأنزل بالنهي عن ذلك آية يعم حكمها كل من كان في مثل معناهم ممن كان على دين من الأديان التي يجوز أخذ الجزية من أهلها وإقرارهم عليها على النحو الذي قلنا في ذلك ومعنى قوله لا إكراه في الدين لا يكره أحد في دين الإسلام عليه وإنما أدخلت الألف واللام في الدين تعريفا للدين الذي عنى الله بقوله : لا إكراه فيه وأنه هو الإسلام وقد يحتمل أن يكون أدخلتا عقيبا من الهاء المنوية في الدين فيكون معنى الكلام حينئذ وهو العلي العظيم لا إكراه في دينه قد تبين الرشد من الغي وكأن هذا القول أشبه بتأويل الآية عندي .
تفسير الطبري 3 / 13 – 18 .
قال الله تعالى : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )
قال ابن الجوزي : قوله تعالى لا إكراه في الدين في سبب نزولها أربعة أقوال أحدها أن المرأة من نساء الأنصار كانت في الجاهلية إذا لم يعش لها ولد تحلف لئن عاش لها ولد لتهودنه فلما أجليت يهود بني النضير كان فيهم ناس من أبناء الأنصار فقال الأنصار يا رسول الله أبناؤنا فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس وقال الشعبي قالت الأنصار والله لنكرهن أولادنا على الإسلام فإنا إنما جعلناهم في دين اليهود إذ لم نعلم دينا أفضل منه فنزلت هذه الآية والثاني أن رجلا من الأنصار تنصر لهو ولدان قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية هذا قول مسروق والثالث أن ناساً كانوا مسترضعين في اليهود فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قالوا والله ليذهبن معهم ولنذهبن بدينهم فمنعهم أهلوهم وأرادوا إكراهمم على الإسلام فنزلت هذه الآية والرابع أن رجلا من الأنصار كان له غلام اسمه صبيح كان يكرهه على الإسلام فنزلت هذه الآية والقولان عن مجاهد .
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية فذهب قوم إلى أنه محكم وانه من العام المخصوص فانه خص منه أهل الكتاب بأنهم لا يكرهون على الإسلام بل يخيرون بينه وبين أداء الجزية وهذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقال ابن الأنباري معنى الآية ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه ولم يشهد به القلب وتنطوي عليه الضمائر إنما الدين هو المنعقد بالقلب وذهب قوم إلى أنه منسوخ وقالوا هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال فعلى قولهم يكون منسوخا بآية السيف وهذا مذهب الضحاك والسدي وابن زيد والدين هاهنا أريد به الإسلام والرشد الحق والغي الباطل وقيل هو الإيمان والكفر فاما الطاغوت فهو اسم مأخوذ من الطغيان وهو مجاوزة الحد قال ابن قتيبة الطاغوت واحد وجمع ومذكر ومؤنث قال الله تعالى أولياؤهم الطاغوت وقال والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها الزمر 17 والمراد بالطاغوت هاهنا خمسة أقوال أحدها أنه الشيطان قاله عمر و ابن عباس و مجاهد والشعبي والسدي و مقاتل في آخرين والثاني أنه الكاهن قاله سعيد بن جبير و أبوالعالية والثالث أنه الساحر قاله محمد بن سيرين والرابع أنه الأصنام قاله اليزيدي و الزجاج والخامس أنه مردة أهل الكتاب ذكره الزجاج أيضاً .
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 1 / 304 – 306 .
قال ابن جزي عند قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) المعنى أن دين الإسلام في غاية الوضوح وظهور البراهين على صحته بحيث لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه بل يدخل فيه كل ذي عقل سليم من تلقاء نفسه دون إكراه ويدل على ذلك قوله قد تبين الرشد من الغي أي قد تبين أن الإسلام رشد وأن الكفر غي فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه وقيل معناها الموادعة وأن لا يكره أحد بالقتال على الدخول في الإسلام ثم نسخت بالقتال وهذا ضعيف لأنها مدنية وإنما آية المسالمة وترك القتال بمكة .
التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي الكلبي ص89 – 90 .
قال النسفي عند قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) أي : لا إجبار على الدين الحق وهو دين الإسلام وقيل هو إخبار فى معنى النهى وروى أنه كان لأنصاري ابنان فتنصرا فلزمهما أبوهما وقال والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري يا رسول الله أيدخل بعضي فى النار وأنا أنظر فنزلت فخلاهما قال ابن مسعود وجماعة كان هذا فى الابتداء ثم نسخ بالأمر بالقتال قد تبين الرشد من الغي قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة .
تفسير النسفي 1 / 125.
قال علي الواحدي عند قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) بعد إسلام العرب لأنهم أكرهوا على الإسلام فلم يقبل منهم الجزية لأنهم كانوا مشركين فلما أسلموا أنزل الله تعالى هذه الآية قد تبين الرشد من الغي ظهر الإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الحجج .
تفسير الواحدي 1 / 183.
قال ابن جرير الطبري : القول في تأويل قوله تعالى لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك فقال بعضهم نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار أو في رجل منهم كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه فنهاهم الله عن ذلك حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام ذكر من قال ذلك حدثنا محمد بن بشار قال ثنا بن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال كانت المرأة تكون مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فأنزل الله تعالى ذكره لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي حدثنا بن بشار قال ثنا محمد بن جعفر قال ثنا سعيد عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال كانت المرأة تكون مقلى ولا يعيش لها ولد قال شعبة وإنما هو مقلات فتجعل عليها إن بقي لها ولد لتهودنه قال فلما أجليت بنو النضير كان فيهم منهم فقالت الأنصار كيف نصنع بأبنائنا فنزلت هذه الآية لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي قال من شاء أن يقيم أقام ومن شاء أن يذهب ذهب حدثنا حميد بن مسعدة قال ثنا بشر بن المفضل قال ثنا داود وحدثني يعقوب قال ثنا بن علية عن داود عن عامر قال كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاتا لا يعيش لها ولد فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم فقالوا إنما جعلناهم على دينهم ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا وإذ جاء الله بالإسلام فلنكرهنهم فنزلت لا إكراه في الدين فكان فصل ما بين من اختار اليهودية والإسلام فمن لحق بهم اختار اليهودية ومن أقام اختار الإسلام
ولفظ الحديث لحميد حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ثنا معتمر بن سليمان قال سمعت داود عن عامر بنحو معناه إلا أنه قال فكان فصل ما بينهم إجلاء رسول الله بني النضير فلحق بهم من كان يهوديا ولم يسلم منهم وبقي من أسلم حدثنا بن المثنى قال ثنا عبد الأعلى قال ثنا داود عن عامر بنحوه إلا أنه قال إجلاء النضير إلى خيبر فمن اختار الإسلام أقام ومن كره لحق بخيبر حدثنا بن حميد قال ثنا سلمة عن أبي إسحاق عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن بن عباس قوله لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي قال نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله فيه ذلك حدثني المثنى قال ثنا حجاج بن المنهال قال ثنا أبو عوانة عن أبي بشر قال سألت سعيد بن جبير عن قوله لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي قال نزلت هذه في الأنصار قال قلت خاصة قال خاصة قال كانت المرأة في الجاهلية تنذر إن ولدت ولدا أن تجعله في اليهود تلتمس بذلك طول بقائه قال فجاء الإسلام وفيهم منهم فلما أجليت النضير قالوا يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فيهم قال فسكت عنهم رسول الله فأنزل الله تعالى ذكره لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي قال فقال رسول الله قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فهم منهم قال فأجلوهم معهم حدثني موسى بن هارون قال ثنا عمرو قال ثنا أسباط عن السدي قوله لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي إلى لا انفصام لها قال نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين كان له ابنان فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم فأتى أبوهما إلى رسول الله فقال إن ابني تنصرا وخرجا فأطلبهما فقال لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب وقال أبعدهما الله هما أول من كفر فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي حين لم يبعث في طلبهما فنزلت فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ثم إنه نسخ لا إكراه في الدين فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة حدثني محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم عن عيسى عن بن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله لا إكراه في الدين قال كانت في اليهود يهود أرضعوا رجالا من الأوس فلما أمر النبي بإجلائهم قال أبناؤهم من الأوس لنذهبن معهم ولندينن بدينهم فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام ففيهم نزلت هذه الآية حدثنا بن وكيع قال ثنا أبي عن سفيان وحدثنا أحمد بن إسحاق قال ثنا أبو أحمد جميعا عن سفيان عن خصيف عن مجاهد لا إكراه في الدين قال كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني الحجاج عن بن جريج قال قال مجاهد : كانت النضير يهودا فأرضعوا ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو عن أبي عاصم قال بن جريج وأخبرني عبد الكريم عن مجاهد أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناء الأوس دانوا بدين النضير حدثني المثنى قال ثنا إسحاق قال ثنا بن أبي جعفر عن أبيه عن داود بن أبي هند عن الشعبي أن المرأة من الأنصار كانت تنذر إن عاش ولدها لتجعلنه في أهل الكتاب فلما جاء الإسلام قالت الأنصار يا رسول الله ألا نكره أولادنا الذين هم في يهود على الإسلام فإنا إنما جعلناهم فيها ونحن نرى أن اليهودية أفضل الأديان فلما أن جاء الله بالإسلام أفلا نكرههم على الإسلام فأنزل الله تعالى ذكره لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي حدثت عن عمار قال ثنا بن أبي جعفر عن أبيه عن داود عن الشعبي مثله وزاد قال كان فصل ما بين من اختار اليهود منهم وبين من اختار الإسلام إجلاء بني النضير فمن خرج مع بني النضير كان منهم ومن تركهم اختار الإسلام
حدثني يونس قال أخبرنا بن وهب قال : قال بن زيد في قوله لا إكراه في الدين إلى قوله بالعروة الوثقى قال هذا منسوخ حدثني سعيد بن الربيع الرازي قال ثنا سفيان عن بن أبي نجيح عن مجاهد ووائل عن الحسن أن أناسا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني النضير فلما أجلوا أراد أهلوهم أن يلحقوهم بدينهم فنزلت لا إكراه في الدين وقال آخرون بل معنى ذلك لا يكره أهل الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية ولكنهم يقرون على دينهم وقالوا الآية في خاص من الكفار ولم ينسخ منها شيء ذكر من قال ذلك حدثنا بشر بن معاذ قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي قال أكره عليه هذا الحي من العرب لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه فلم يقبل منهم غير الإسلام ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج ولم يفتنوا عن دينهم فيخلى عنهم حدثنا محمد بن بشار قال ثنا سليمان قال ثنا أبو هلال قال ثنا قتادة في قوله لا إكراه في الدين قال هو هذا الحي من العرب أكرهوا على الدين لم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام وأهل الكتاب قبلت منهم الجزية ولم يقتلوا حدثنا بن حميد قال ثنا الحكم بن بشير قال ثنا عمرو بن قيس عن جويبر عن الضحاك في قوله لا إكراه في الدين قال أمر رسول الله أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان فلم يقبل منهم إلا لا إله إلا الله أو السيف ثم أمر فيمن سواهم بأن يقبل منهم الجزية فقال لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله لا إكراه في الدين قال كانت العرب ليس لها دين فأكرهوا على الدين بالسيف قال ولا يكره اليهود ولا النصارى والمجوس إذا أعطوا الجزية حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا بن عيينة عن بن أبي نجيح قال سمعت مجاهدا يقول لغلام له نصراني يا جرير أسلم ثم قال هكذا كان يقال لهم حدثني محمد بن سعد قال ثني أبي قال ثني عمي قال ثني أبي عن أبيه عن بن عباس لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي قال وذلك لما دخل الناس في الإسلام وأعطى أهل الكتاب الجزية وقال آخرون هذه الآية منسوخة وإنما نزلت قبل أن يفرض القتال ذكر من قال ذلك حدثني يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا بن وهب قال أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال سألت زيد بن أسلم عن قول الله تعالى ذكره لا إكراه في الدين قال كان رسول الله بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم فاستأذن الله في قتالهم فأذن له
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال نزلت هذه الآية في خاص من الناس وقال عنى بقوله تعالى ذكره لا إكراه في الدين أهل الكتابين والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق وأخذ الجزية منه وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب لما قد دللنا عليه في كتابنا كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفى حكم المنسوخ فلم يجز اجتماعهما فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي وباطنه الخصوص فهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل وإذ كان ذلك كذلك وكان غير مستحيل أن يقال لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم أنه أكره على الإسلام قوما فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم وأنه ترك إكراه آخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم كان بينا بذلك أن معنى قوله لا إكراه في الدين إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية ورضاه بحكم الإسلام ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم بالإذن بالمحاربة فإن قال قائل فما أنت قائل فيما روي عن بن عباس وعمن روي عنه من أنها نزلت في قوم من الأنصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم على الإسلام قلنا ذلك غير مدفوعة صحته ولكن الآية قد تنزل في خاص من الأمر ثم يكون حكمها عاما في كل ما جانس المعنى الذي أنزلت فيه فالذين أنزلت فيهم هذه الآية على ما ذكر بن عباس وغيره إنما كانوا قوما دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الإسلام لهم فنهى الله تعالى ذكره عن إكراههم على الإسلام وأنزل بالنهي عن ذلك آية يعم حكمها كل من كان في مثل معناهم ممن كان على دين من الأديان التي يجوز أخذ الجزية من أهلها وإقرارهم عليها على النحو الذي قلنا في ذلك ومعنى قوله لا إكراه في الدين لا يكره أحد في دين الإسلام عليه وإنما أدخلت الألف واللام في الدين تعريفا للدين الذي عنى الله بقوله : لا إكراه فيه وأنه هو الإسلام وقد يحتمل أن يكون أدخلتا عقيبا من الهاء المنوية في الدين فيكون معنى الكلام حينئذ وهو العلي العظيم لا إكراه في دينه قد تبين الرشد من الغي وكأن هذا القول أشبه بتأويل الآية عندي .
تفسير الطبري 3 / 13 – 18 .