دفاعا عن الطبري .. لا عني .. للشيخ الدكتور طه رمضان
دفاعا عن الطبري .. لا عني .. للشيخ الدكتور طه رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
فقد اطلعت على تهجم الأخ أبي عبيدة الهاني ــ هداه الله وعفا عنه ــ على أخي الشيخ طه رمضان في رسالته المشار إليها ووصمه إياها بالضعف وتعديه على الباحث وعلى الأساتذة المشرفين بما لا يليق بحقهم ومكانتهم العلمية، فراسلت الشيخ طه وطلبت منه الاطلاع على ما كتبه وإبداء رأيه حول ما أثاره الباحث من شبهات حول عقيدة الإمام الطبري في هذا الموضع، وفي مواضع أخر باسم نزار حمادي، فاطلع على كتاباته ثم أرسل إلي هذا الرد والذي عنونه بقوله ( دفاعا عن الطبري .. لا عني ) لأضعه بنصه بين أيديكم، سائلا الله أن يكتب لنا جميعا الهداية السداد في الدنيا والآخرة .
نص الرد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين :
وبعد ؛ فلقد قدر لهذا التعقيب أن يتأخر نحوا من شهرين ، أو يزيد ، ومع أن نشر الموضوع كان سابقا لهذا التاريخ ، فلم يقدر لي الاطلاع على ذلك الموضوع إلا في شهر شعبان الماضي ، بل لم أكن أعلم أن أحدا ذكرني ، أو ذكر بحثي ، بشيء من الرد أو التعقيب .
وقد كنت حين الاطلاع على الموضوع على سفر يحول دون قراءتي المتأنية له ، بَلْهَ التفرغ لمناقشته والرد عليه . ثم بعدها دخل شهر رمضان ، ثم دخل التسويف ، والأشغال ، حتى عاد أخي الذي أطلعني عليه ، يقتضيني التعقيب الذي وعدته به .
وها أنا قد عدت أصبر نفسي على قراءة تعليق الرجل ، بكل ما فيه ... ، وأكتب هذه العجالة في نقد أهم ما ذكره في كلمته ، من غير أن أستقصي ما يقتضيه المقام من البحث معه في كل ما أثاره من مسائل وشبهات ، وذلك أن الرجل قد زعم أن لديه بحثا مطولا حول عقيدة الإمام الطبري ، وهنا كان من المناسب أن أرجئ تفاصيل الكلام ، إلى حين مراجعة ما يذكر الرجل في بحثه المطول ، والنظر في قراءته لاعتقاد الإمام الطبري .
فاسمح لي ـ أبا عبيدة ـ وأنا أستأذن القراء والمشرفين في الالتفات من ضمير الغيبة ، إلى ضمير الخطاب في نقاش الرجل ، فأنا أظن الرجل يسمع ، ويبصر ، ويحسن أن يقرأ كلامي من غير واسطة ؛ فأقول :
اسمح لي أبا عبيدة أن أبدأ حواري معك بلفتة يسيرة ، دعاني إليها عرضك ، ولغتك في الخطاب ، وتعقيبك على الآخرين ... ، مما سيأتي التعليق على بعضه ، وأرعني سمعك ، وأسلس لي أذنك ، من غير قِماص ولا حِران ، أصلحك الله ، ولا تخشَ على أذنك عرْكا ، ولا صَلْما !! فإلى الآن ما حمي الوطيس ؛ فقط أريد أن أسر إليك شيئا :
لقد ذكرتني بلغتك المتعالية الباردة ، بحوار دار بين أبي حيان التوحيدي ، وأستاذه مسكويه ؛ يسأل التوحيديَُ أستاذه مسائل ، ويظن أنه قد ضيق عليه فيها ، وشدد عليه السؤال، فقال له أبو علي مسكويه ، قبل أن يجيبه عن مسائله :
( وقد عرض لك بها عارض من العُجْب ، وسانح من التيه ؛ فخَطَرْت خَطَران الفحل [أن يرفع ذنبه مرة ، ويخفضه مرة ، عند صولته ونشاطه من شبع ، أو سمن ]، ومشيت العِرَضْنَة [كناية عن الخيلاء والعجب في المشي] ، ومررت في خيلائك ، ومضيت على غلوائك ، حتى أشفقت أن تعثر في فضل خطابك !! ...
ارفق بنا يا أبا حيان - رفق الله بك - وأَرْخِ من خِناقنا ، وأَسِغْنا ريقَنا ، ودعنا وما نعرفه في أنفسنا من النقص ، فإنه عظيم ... ولا تُبَكِّتنا بجهل ما علمناه ، وفَوْت ما أدركناه ، فتبعثَنا على تعظيم أنفسنا ، وتمنعنا من طلب ما فاتنا ؛ فإنك - والله - تأثم في أمرنا ، وتقبح فينا !! ) .
[الهوامل والشوامل ، للتوحيدي (26-27) ] .
فليت شعري ؛ من غرك من نفسك يا هذا ، وأوهمك أنك بكل هذا البحث والتحقيق ، حتى أتيت بما لم يستطعه الأوائل ، وأنك فاتق البحث عن ابن جرير ، والذاب عن حياضه ، والراد على من خطأه ؛ بل من قال لك : إنك تفهم في علم الكلام شيئا ، حتى رحت تتوعد من يخالفك بالويل والثبور ، وعظائم الأمور ؟!!
دعنا نبدأ ـ إذا ـ أبا عبيدة الهاني في مناقشة كلماتك ، وتفكيك شبهاتك ؛ لكن قبل ذلك أذكرك بما اتهمت به صاحبك ، إن سمحت لي بهذا الشرف ، من أن دراسته : واحدة من (محاولات فاشلة تستند إلى التعتيم وإخفاء جملة من حقائق عقيدة ذاك الإمام لصفه في جانب فرقة دون أخرى ) !!
ودعني أذكرك مرة أخرى بما رميت به صاحبك ، ولا أدري هل كنت سمحت لي بعد استماحتك الأولى ، أو لا؟! ـ من أنه قام بتقديم شخصية الطبري : ( في شكل مغالط لضمها في جانبهم، وإن اقتضى ذلك الخروج عن الموضوعية العلمية وطرح القضايا بشكل مزيف أو تحريف الأفكار عن مسار اختيار صاحبها أصلا ... )
و ( لما فيها من النقص الواضح في دراسة كثير من آراء الإمام الطبري الكلامية، وتقديم البعض الآخر بصورة مغلوطة لخدمة غرض مذهبي لا أكثر ولا أقل ) !!
شكرا لك على تقييمك ، ولعلنا نعود إليه ، إذا انتهينا من مناقشة أفكارك العلمية في موضوعك ، وهو المقصود الأهم هنا !!
ولنبدأ يا صاحبي ، بالمسألة المنهجية التي ادعيتها ، وهولت بها ، وهي قولك :
(ولا شك عندي أن الإمام الطبري قد أصاب كل الإصابة في تحديد المنهج العلمي في طرق أبواب العقيدة؛ وعليه ظهر أثر تلك الإصابة في تفسيره ظهورا جليا؛
فمثلا : قد اعتبر رضي الله عنه النظر العقلي أساسا لدرك قواعد الاعتقاد في مسائل الإلهيات، وهذه الحقيقة ـ وهي أهمية النظر العقلي في المخلوقات وما يترتب عليه من نتائج ـ عضدها القرآن العظيم في آيات لا تحصى، بل أصلها وقررها، وترتب على ذلك الاعتبار نتائج مهمة ظهرت في المسائل المشكلة التي ناقش فيها الطبري المخالفين له ) .
ومن هذه المسألة المنهجية نبدأ ، يا أبا عبيدة :
أين نص الطبري على ما ذكرته ؟!
طبعا ، لم تذكره أنت !! حسنا ، فدعنا نذكره هنا من لفظه ، ولا نحيلك على بحثنا (المحرف) ، ليتبين أي الرجلين منا أولى بالكذب والتحريف :
قال الطبري رحمه الله :
(اعلموا رحمكم الله أن كل معلوم للخلق من أمر الدين والدنيا لن يخرج [ المطبوع : أن تخرج ] من أحد معنيين :
من أن يكون : إما معلوما لهم بإدراك حواسهم إياه ، وإما معلوما لهم بالاستدلال عليه بما أدركته حواسهم .
ثم لن يعدو جميع أمور الدين الذي امتحن الله به عباده ، معنيين : أحدهما توحيد الله وعدله ، والآخر : شرائعه التي شرعها لخلقه من حلال وحرام ، وأقضية وأحكام .
فأما توحيده وعدله : فمدركة حقيقة علمه استدلالا بما أدركته الحواس ... )
[التبصير في معالم الدين (112-113) .
ثم قرر ما ذكره هنا في صفحات عديدة بعد ذلك ، إلى نهاية الفصل (113-125) ، وفي كل مرة يقرن بين : توحيد الله ، وعدله ؛ باعتبار ذلك من الأصول العقلية ، التي لا يسع أحدا جهلها ، ولا يعذر بالخطأ فيها !!
وهنا نسألك ، أبا عبيدة ، سؤالا معترضا ، قبل أن نكمل البحث السابق :
هل أنت مقر ـ فعلا ـ بأن مباحث (العدل) هي من الأصول العقلية ، ولا يعذر فيها أحد بالجهل أو الخطأ ؟!
وإذا كان مذهبك : أن التعديل والتجوير ليس من مباحث العقول ، وأن العقل لا يحسن ولا يقبح ، ولا يوجب مراعاة الصلاح أو الأصلح ، ولا يوجب لطفا ، ولا حكمة ... ولا ... ؛ بل بعض متأخريكم يرى أن مسائل القضاء والقدر ـ برمتها ـ هي مسائل سمعية ، وليست عقلية ، كما قال في (الجوهرة) :
وواجب إيماننا بالقدر وبالقضا ، كما أتى في الخبر
قال شارحه : ( وأشار المصنف بذلك إلى أن دليل ذلك سمعي ؛ فمن جملة ما روي ...
وإنما عولوا على الدليل السمعي هنا ، لأنه أسهل للعامة ؛ وإلا فقد علمت مما مر أن القضاء والقدر يرجعان للصفات التي عولوا فيها على الدليل العقلي ) . [شرح البيجوري على الجوهرة (129) ] .
فمع من أنت ـ إذا ـ وبدون أن تراجع بحثي لهذا المفهوم عند ابن جرير ، لأنه لا يليق بمقامك السامي ؟!
لكن دعنا من هذه المزاحمات ، أبا عبيدة الهاني ، وتعال بنا إلى تتمة كلام الإمام الطبري في (أصول المعرفة) في مسائل الإلهيات ، والذي لبَّست على القراء بأن عمدة الطبري فيها : النظر العقلي ، وأوهمتهم أن مذهبه في ذلك هو نفس مذهب أئمتك .
حسنا ، اقلب هذا الفصل ، وانتقل إلى الفصل التالي له مباشرة ، لتكتمل صورة الحقيقة التي أخفيت نصفها ، لتخدع القراء عن مذهب الطبري ، وتقدم لهم قراءة مغلوطة ، على حسب زعمك وتعبيرك أنت ؛ وفألك من فيك !!
يقول الإمام الطبري رحمه الله :
(القول فيما أدرك علمه من صفات الصانع خبرا ، لا استدلالا) !!
إذا فنحن هنا أمام طريق آخر للمعرفة الإلهية ، سوى العقل ، وأن من هذه المعارف الإلهية ما لا يصلح الاعتماد فيه على العقل أصلا .
دعنا من الاستنباط ، وتعال بنا إلى نص كلام الرجل ، بعد ما ذكر بالفصل السابق له :
( ولله تعالى ذكره أسماء وصفات ، جاء بها كتابه ، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته ، لا يسع أحدا من خلق الله قامت عليه الحجة بأن القرآن نزل به ، وصح عنده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما رُوي عنه الخبر به : خلافه ؛ فإن خالف بعد ثبوت الحجة عليه به من جهة الخبر ، على ما بينت فيما لا سبيل إلى إدراك حقيقة علمه إلا حسا : فمعذور بالجهل به الجاهل ؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ، ولا بالروية والفكرة .
وذلك نحو إخبار الله تعالى ذكره إيانا بأنه سميع بصير [ لاحظ أن السمع والبصر عنده صفات خبرية ] ، وأن له يدين ، لقوله : (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) ، وأن له يمينا ، لقوله : (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) ، وأن له وجها ، لقوله : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) ، وقوله : (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) ، وأن له قدما ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حتى يضع رب العزة قدمه فيها ) يعني : جهنم .
وأنه يضحك إلى عبده المؤمن ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ، للذي قُتل في سبيل الله : ( إنه لقي الله عز وجل وهو يضحك إليه ) ، وأنه يهبط كل ليلة وينزل إلى السماء الدنيا ، لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأنه ليس بأعور ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الدجال ، فقال : ( إنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور ) .
وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم ، كما يرون الشمس ، ليس دونها غياية ، وكما يرون القمر ليلة البدر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم .
وأنه له أصابع ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن ) .
فإن هذه المعاني التي وصفت ، ونظائرها مما وصف الله عز وجل بها نفسه ، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، مما لا تدرك حقيقة علمه بالفكر والروية ، ولا نكفر بها أحدا إلا بعد انتهائها إليه .
فإن كان الخبر الوارد بذلك خبرا تقوم به الحجة مقام المشاهدة والسماع : وجبت الدينونة على سامعه بحقيقته في الشهادة عليه بأن ذلك جاء به الخبر ، نحو شهادته على حقيقة ما عاين وسامع .
وإن كان الخبر الوارد خبرا لا يقطع مجيئه العذر ، ولا يزيل الشك ، غير أن ناقله من أهل الصدق والعدالة ، وجب على سامعه تصديقه في خبره ، في الشهادة عليه بأن ما أخبره به كما أخبره ، كقولنا في أخبار الآحاد العدول ، وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته ) .
وبعد أن انتهى الطبري من تقرير الطريق التي تثبت به الحجة في هذا الباب ، راح يبين معناها الذي يقول به ، ليدلل على منهجه في ذلك من حيث الثبوت ، ومن حيث الدلالة أيضا.
قال :
( فإن قال لنا قائل :
فما الصواب من القول في معاني هذه الصفات التي ذكرت ، والتي جاء ببعضها كتاب الله عز وجل ووحيه ، وجاء ببعضها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قيل : الصواب من هذا القول عندنا : أن نثبت حقائقها على ما نعرف من جهة الإثبات ، ونفي التشبيه ، كما نفى ذلك عن نفسه جل ثناؤه ، فقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ؛ فيقال : الله سميع بصير ، له سمع وبصر ؛ إذ لا يعقل مسمى سميعا بصيرا ، في لغة ولا عقل ، في النشوء والعادة والمتعارف ، إلا من له سمع وبصبر .....
فنثبت كل هذه المعاني التي ذكرنا أنها جاءت بها الأخبار ، والكتاب والتنزيل ، على ما يعقل من حقيقة الإثبات ، وننفي عنه التشبيه ، فنقول :
يسمع جل ثناؤه الأصوات ، لا بخرق في أذن ، ولا جارحة كجوارح بني آدم ، وكذلك يبصر الأشخاص ، ببصر لا يشبه أبصار بني آدم التي هي جوارح لهم .
وله يدان ، ويمين ، وأصابع ، وليست جارحة ، ولكن يدان مبسوطتان بالنعم عن الخلق ، لا مقبوضتان عن الخير .
ووجه لا كجوارح الخلق التي من لحم ودم .
ونقول : يضحك إلى من شاء من خلقه ، ولا نقول : إن ذلك كشر عن أسنان .
ويهبط كل ليلة إلى السماء الدنيا ... ) إلى آخر كلامه ، وسوف نعود إلى بعضه فيما بعد إن شاء الله . [ التبصير (132-142)] .
فلماذا كتمت ذلك كله ، وبترت كلام الرجل ، أو فكرته واعتقاده الذي يقرره ، يا أيها المتباكي على الشجاعة المفقودة ، والأمانة المضيعة ؟!!
لست في حاجة هنا إلى أن أنقل ما كتبته عن موقف الطبري من الدليلين : السمعي والعقلي ، في دراستي عنه ، وأثقل عليك به ، فلا بد أنك قرأته ، وقرأته جيدا ، قبل أن تثرب عليه ، وترميه بما أنت أهله ومعدنه !!
لكني أستأذنك هنيهة يا صاحبي ، لألتفت إلى قرائنا الكرام : فأقول إن بحث صاحبكم عن الطبري منشور ، وموجود على الشبكة ، في المكتبة الوقفية بعنوانه الأصلي : (آراء الطبري الكلامية) وفي أماكن أخرى ـ فيما أظن ـ باسم (أصول الدين عند الإمام الطبري) ، وأنا أناشد ـ بإلحاح ـ كل منصف ، طالب للحق ، راغب فيه ، أن يراجع ما كتبته (ص49) وما بعدها ، ليرى أين تكون الأمانة ، وأين إضاعتها ، وليتذكر قول عبد الرحمن بن مهدي ، الإمام الجليل الكبير ، عليه رحمة الله : أهل العلم يكتبون ما لهم و ما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم!!
أرأيت ، أبا عبيدة ، كيف كان الأولى بك أن تتعلم الأمانة ، قبل أن تنعاها على غيرك ؟!
لكن يبدو أنك ما تعلمت بعدُ أصولَ الهِناء ، وأنت (هاني) !!
فـ (ليس الهِنَاءُ بالدَّسِّ ) يا صاحبي !! [يُضرب مثلاً للذي لا يُبالِغ في إِحكامِ الأَمْرِ ، ولا يَسْتَوثِقُ منه ، ويَرْضَى باليَسِير منه ] !!
فإن كنت ـ يا صاحبي ـ تريد علما : أرشدناك !!
وإن كان بك داءٌ : هنَأْناك ، ورقيناك !!
وإن كنت تريد مسخرة : مسخرناك !!
وإن كنت تطلب أدبا ، فما لنا ولذاك ؛ نحن هنا ... وأنت هناك ؛ فانشد أباك !!
أبا عبيدة ، اسمح لنا بوقفة أخرى ، كنت أنوي تأخيرها قليلا ، لكن ساقنا إليها نص الطبري المطول الذي نقلناه ، فسوف نحتاج إليه هنا ، اسمح لنا بوقفة مع إحدى سوآتك التي أُشرِبَتها من هواك ، ثم رحت تنحلها الإمام أبا جعفر ابن جرير ، وهو منها براء !!
قال (الهاني) :
(وماذا لو يعلم البعض أن الطبري يقول باستحالة اتصاف الله تعالى بصفات حادثة، وبأن تسلسل الحوادث بلا أول ، في جانب الأزل ، أمر مستحيل باطل، وبأن الله تعالى لم يزل قادرا في الأزل مع عدم العالم، وغير ذلك مما تنبني عليه أصول وأصول، كأن [كذا] ما لزمه الحوادث ـ أجناسا أو أفرادا ـ فهو حادثٌ ) ، انتهى كلامه أصلحه الله .
أبا عبيدة :
أما زلت عند قولك ؟! أما زلت مصرا على هذه الكذبة الصلعاء ؟!
حسنا أبا عبيدة ، إن كنت قد عدت إلى رشدك ، فدعني أحدث غيرك ، ممن لعله صدقها ، شفقة عليك أن تبوء بإثم الكاذبين ؛ وإلا : فإياك أعني ، واسمعي يا جاره !!
أبا عبيدة ، لا بد أنك قد انتبهت إلى أن الإمام الطبري قد أثبت فيما نقلناه صفات النزول ، والهبوط ، والضحك .. ، وهذا هو جنس الصفات التي تسمونها صفات حادثة ، وتلبسون بها على من لا يدري مرماكم ، ثم تنفونها عن الله جل جلاله ، لأجل تسميتكم هذه !!
فإن كانت الغفلة قد أخذتك عن ذلك ، كما قد غططت في سباتك مرارا وأنت تقرأ لأبي جعفر ؛ فارجع إلى نص الكلام فهو مثبت أمامك يا صاحبي ، وليكن منك على بال ، ثم صله بقوله بعده مباشرة :
( فمن أنكر شيئا مما قلنا من ذلك ، قلنا له :
إن الله تعالى ذكره يقول في كتابه : (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) ، وقال : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ) ، وقال : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ) ؛ فهل أنت مصدق بهذه الأخبار ، أم أنت مكذب بها ؟!
فإن زعم أنه بها مكذب : سقطت المناظرة بيننا وبينه من هذا الوجه .
وإن زعم أنه بها مصدق ، قيل له : فما أنكرت من الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه : يهبط إلى السماء الدنيا ، فينزل إليها ؟!
فإن قال : أنكرت ذلك أن الهبوط نُقْلة ، وأنه لا يجوز عليه الانتقال من مكان إلى مكان ؛ لأن ذلك من صفات الأجسام المخلوقة .
قيل له : فقد قال جل ثناؤه : (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) ؛ فهل يجوز عليه المجيء ؟
فإن قال : لا يجوز عليه ذلك ، وإنما معنى هذا القول : وجاء أمر ربك ؛
قيل له : قد أخبرنا تبارك وتعالى أنه يجيء هو والملك ؛ فزعمت أنه يجيء أمره ، لا هو ؛ فكذلك تقول : إن الملك لا يجيء ، إنما يجيء أمر الملك ؛ كما كان معنى مجيء الرب تبارك وتعالى : مجيء أمره ؟!
فإن قال : لا أقول ذلك في الملك ، ولكني أقول ذلك في الرب ؛
قيل له : فإن الخبر عن مجيء الرب تبارك وتعالى ، والملك : خبر واحد ؛ فزعمت في الخبر عن الرب تعالى ذكره أنه يجيء أمره ، لا هو ؛ وزعمت في الملك أنه يجيء بنفسه ، لا أمره ؛ فما الفرق بينك وبين من خالفك في ذلك فقال : بل الرب هو الذي يجيء ، فأما الملك فإنما يجيء أمره ، لا هو بنفسه ؟!
فإن زعم أن الفرق بينه وبينه أن الملك خلق لله ، جائز عليه الزوال والانتقال ، وليس ذلك على الله جائزا ؛
قيل له : وما برهانك على أن معنى المجيء والهبوط والنزول ، هو النقلة والزوال ، ولا سيما على قول من يزعم منكم أن الله تقدست أسماؤه ، لا يخلو منه مكان ؟!
وكيف لم يجز عندكم أن يكون معنى المجيء الهبوط والنزول ، بخلاف ما عقلتم من النقلة والزوال من القديم الصانع ، وقد جاز عندكم أن يكون معنى العالم ، والقادر ، منه بخلاف ما عقلتم ممن سواه ؛ بأنه عالم لا علم له ، وقادر لا قدرة له ؟
وإن كنتم لم تعقلوا عالما إلا له علم ، وقادرا إلا له قدرة [ يعني: في الشاهد ، ومع ذلك أثبتوا في الغائب : عالما ، لا علم له .. ] ، فما تنكرون أن يكون جائيا لا مجيء له ، وهابطا نازلا ، لا هبوط له ، ولا نزول له ، ويكون معنى ذلك : وجوده هناك ، مع زعمكم أنه لا يخلو منه مكان ؟!
فإن قال لنا منهم قائل : فما أنت قائل في معنى ذلك ؟
قيل له : معنى ذلك : ما دل عليه ظاهر الخبر ، وليس عندنا للخبر إلا التسليم والإيمان به ، فنقول : يجيء ربنا جل جلاله يوم القيامة ، والملك صفا صفا ، ويهبط إلى السماء الدنيا ، وينزل إليها في كل ليلة ، ولا نقول : معنى ذلك ينزل أمره ؛ بل نقول : أمره نازل إليها في كل لحظة وساعة ، وإلى غيرها من جميع خلقه الموجودين ، ما دامت موجودة ، ولا تخلو ساعة من أمره ، فلا وجه لخصوص نزول أمره إليها وقتا دون وقت ، ما دامت موجودة باقية .
وكالذي قلنا في هذه المعاني من القول : الصواب من القيل في كل ما ورد به الخبر في صفات الله عز وجل ، وأسمائه تعالى ذكره ، بنحو ما ذكرناه ) . انتهى كلامه رحمه الله من :
[ التبصير في معالم الدين (142-147) ] .
أبا عبيدة ، أتراك قرأت هذا الكلام ـ بالله عليك ـ وأنت يقظ ، عاقل ، تخشى الله ، وتتأثم من الكذب والبهتان ؟!!
إن كنت لم تفعل ، فدونك كلامه ، نصا صرفا ، من غير زيادة ولا نقصان ، وأشعر قلبك الخوف من الله وأنت تقرؤه ، ودع التكذب والتهاويل ، ودع المذاهب والتقليد ، وكن شجاعا أبا عبيدة ، ولا يقعدك عن طلب الحق ، والتشبث به : عادة ، ولا رسوم ، ولا قول قائل ، أوخوف على رزق ، من مال أو جاه ، أو حياة ؛ فكل شيء عنده بمقدار !!
هل كفاك النص السابق للإمام الطبري ، يا أبا عبيدة ؟!
حسنا ، يا صاحبي ، إن كان قد بقي في نفسك حزازه ، أو في صدرك لجاجة ، فخذ هذا النص من معدنه ، خالصا من كل شيء ، إلا كلام صاحبه أبي جعفر ، ابن جرير :
(القول في تأويل قوله جل ثناؤه: { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ }:
قال أبو جعفر: اختُلف في صفة استهزاءِ الله جلّ جلاله ، الذي ذَكر أنه فاعله بالمنافقين ، الذين وَصَف صفتهم :
فقال بعضهم : استهزاؤه بهم، كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعلٌ بهم يوم القيامة في قوله تعالى:( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى ) [سورة الحديد: 13، 14]. الآية. وكالذي أخبرنا أنَّه فَعَل بالكفار بقوله:( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ) [سورة آل عمران: 178]. فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جلّ وعزّ وسخريتِه ومكرِه وخديعتِه للمنافقين وأهل الشرك به - عند قائلي هذا القول، ومتأوّلي هذا التأويل.
وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم، توبيخُه إياهم ، ولومه لهم على ما ركِبوا من معاصي الله والكفر به، كما يقال:"إن فلانًا ليُهْزَأ منه منذ اليوم، ويُسخر منه"، يُراد به توبيخُ الناس إياه ولومهم له، أو إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم ، كما قال عَبِيد بن الأبرص:
سَائِلْ بِنَا حُجْرَ ابْنَ أُمِّ قَطَامِ، إذْ... ظَلَّتْ بِهِ السُّمْرُ النَّوَاهِلُ تَلْعَبُ
فزعموا أن السُّمر -وهي القَنَا- لا لعب منها، ولكنها لما قتلتْهم وشرَّدتهم، جَعل ذلك مِنْ فعلها لعبًا بمن فعلت ذلك به ؛ قالوا: فكذلك اسْتهزاءُ الله جل ثناؤه بمن اسْتهزأ به من أهل النفاق والكفر به: إمّا إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم، وإمّا إملاؤهُ لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتةً، أو توبيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسُّخرية.
وقال آخرون قوله:( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) (1) [سورة النساء: 142] على الجواب، كقول الرجل لمن كان يَخْدَعه إذا ظفر به:"أنا الذي خدعتُك"، ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. قالوا: وكذلك قوله:( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [سورة آل عمران: 54]، و"الله يستهزئ بهم"، على الجواب. والله لا يكونُ منه المكرُ ولا الهُزْء، والمعنى أن المكرَ والهُزْءَ حاق بهم.
وقال آخرون: قوله:( إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) ، وقوله:( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) [سورة النساء: 142] ، وقوله:( فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ) [سورة التوبة: 79] ،( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) [سورة التوبة: 67] ، وما أشبه ذلك، إخبارٌ من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبةَ الخداع. فأخرج خبرَه عن جزائه إياهم وعقابه لهم، مُخْرَج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقُّوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان. كما قال جل ثناؤه:( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) [سورة الشورى: 40] ، ومعلومٌ أن الأولى من صاحبها سيئة، إذْ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية، وأن الأخرى عَدلٌ، لأنها من الله جزاءٌ للعاصي على المعصية، فهما -وإن اتفق لفظاهما- مختلفا المعنى. وكذلك قوله:( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ) [سورة البقرة: 194] ، فالعدوان الأول ظلم، والثاني جزاءٌ لا ظلم، بل هو عدل، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه، وإن وافق لفظه لفظ الأول.
وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك، مما هو خبرٌ عن مكر الله جل وعزّ بقومٍ، وما أشبه ذلك.
وقال آخرون: إنّ معنى ذلك: أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما نُظهر لهم - من قولنا لهم: صدقنا بمحمد عليه السلام وما جاء به - مستهزئون. يعنون: إنا نُظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حَقٌّ ولا هدًى. قالوا: وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء، فأخبر الله أنه"يستهزئ بهم"، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلافَ الذي لهم عنده في الآخرة، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم.
والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهارُ المستهزِئ للمستهزَإ به من القول والفعل ما يُرضيه ظاهرًا، وهو بذلك من قِيله وفِعْله به مُورِثه مَساءة باطنًا . وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر.
فإذا كان ذلك كذلك = وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام - بما أظهروا بألسنتهم، من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، المُدْخِلِهم في عداد من يشمله اسمُ الإسلام ، وإن كانوا لغير ذلك مستبطنين - أحكامَ المسلمين المصدِّقين إقرارَهم بألسنتهم بذلك ، بضمائر قلوبِهم، وصحائح عزائمهم، وحميدِ أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم - معَ علم الله عز وجل بكذبهم، واطلاعِه على خُبث اعتقادهم، وشكِّهم فيما ادَّعوا بألسنتهم أنهم به مصدِّقون ، حتى ظنُّوا في الآخرة إذْ حشروا في عِداد من كانوا في عِدادهم في الدنيا، أنَّهم وارِدُون موْرِدَهم. وداخلون مدخلهم. والله جل جلاله - مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام المُلْحِقَتِهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه، وتفريقِه بينهم وبينهم - معدٌّ لهم من أليم عقابه ونَكال عذابه، ما أعدّ منه لأعدى أعدائه وشر عباده، حتى ميز بينهم وبين أوليائه، فألحقهم من طبقات جحيمه بالدَّرك الأسفل = كان معلومًا أنه جل ثناؤه بذلك من فعلِه بهم - وإن كان جزاءً لهم على أفعالهم، وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له -كان بهم- بما أظهرَ لهم من الأمور التي أظهرها لهم: من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائِه وهم له أعداء، وحشرِه إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين -إلى أن ميَّز بينهم وبينهم- مستهزئًا، وبهم ساخرًا، ولهم خادعًا، وبهم ماكرًا . إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل، دون أن يكون ذلك معناه في حالٍ فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم، أو عليه فيها غير عادل، بل ذلك معناه في كل أحواله، إذا وُجدت الصفات التي قدَّمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره.
وبنحو ما قلنا فيه رُوي الخبر عن ابن عباس:
363- حدثنا أبو كُريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله:"الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ"، قال: يسخر بهم للنقمة منهم .
وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ"، إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكرٌ ولا خديعة، فنافُون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه، وأوجبه لها . وسواءٌ قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخريةٌ بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به، أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خَسَف به من الأمم، ولم يُغرق من أخبر أنه أغرقه منهم.
ويقال لقائل ذلك : إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكرَ بقوم مضَوْا قبلنا لم نَرَهُم، وأخبر عن آخرين أنه خَسَف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدَّقْنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نُفَرِّق بين شيء منه. فما بُرهانُك على تفريقك ما فَرَّقت بينه، بزعمك: أنه قد أغرقَ وخَسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به، ولم يمكُرْ بمن أخبر أنه قد مكر به؟
ثم نعكس القول عليه في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزِم في الآخَر مثله.
فإن لجأ إلى أن يقول: إن الاستهزاء عبثٌ ولعبٌ، وذلك عن الله عز وجل منفيٌّ.
قيل له : إن كان الأمر عندك على ما وصفتَ من معنى الاستهزاء، أفلست تقول:"الله يستهزئ بهم"، و"سَخِر الله منهم" و"مكر الله بهم"، وإن لم يكنْ من الله عندك هزء ولا سخرية؟
فإن قال:"لا"، كذَّب بالقرآن، وخرج عن ملة الإسلام.
وإن قال:"بلى"، قيل له: أفتقول من الوجه الذي قلت:"الله يستهزئ بهم" و"سخر الله منهم" -"يلعب الله بهم" و"يعبث" - ولا لعبَ من الله ، ولا عبث؟
فإن قال:"نعم"! وَصَف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه، وعلى تخطئة واصفه به، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه .
وإن قال: لا أقول:"يلعب الله بهم" ولا"يعبث"، وقد أقول"يستهزئ بهم" و"يسخر منهم".
قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث، والهزء والسخرية، والمكر والخديعة. ومن الوجه الذي جازَ قِيلُ هذا، ولم يَجُزْ قِيلُ هذا، افترق معنياهُما. فعُلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر.
وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه. وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفق لفهمه ) انتهى كلامه رحمه الله من تفسيره ، أو (جامعه المبين) ـ على حد تسميتك (1/301-306) ط الشيخ محمود شاكر ، وأخيه الشيخ أحمد ، رحمهما الله .
يا ( الهاني ) ؛ هل قرأت هذا الكلام ـ بالله عليك ـ من قبل ؟!
وإذا كنت قرأته ، فهل فهمته ، ووعيت مقاصده ؟!
لولا أني أعرف علتك ، وما بك من داء ، لرددتك لدراستي عن الطبري ، فقد بينت مقاصده هناك ، ولخصت فيها مراده من ذلك ، وحسنا لو تجاوزت المقدمة ، وما زعمه الزاعمون من أنها دراسة أكاديمية ... ، دعك من هذا كله .
لكن ليس على المريض حرج ؛ فأستحلفك بالله يا ( عبيدة ) إن كنت لم تفهم هذا الكلام ، أن تستعين بعاقل ، يفهم شيئا في لغة ابن جرير ، ليشرحه لك .
وإن كنت قد قرأته ، ووعيته ، كما لعلك تزعم ؛ فأستحلفك بالله : ما ذا كان شعورك وأنت تقرؤه ؟؟!!
لكن تسهيلا عليك ، ومراعاة لحالك ، فلعلك لم تصبر على قراءة النص السابق بطوله ، وشقت لغته عليك ، فلم تُسِغها ؛ حسنا يا صاحبي ، تفضل هذا النص الموجز ، وانظر ما ذا تفهم منه :
( وإن قال لنا قائل : أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء ، كان قبل خلق السماء أم بعده؟
قيل : بعده، وقبل أن يسويهن سبعَ سموات ، كما قال جل ثناؤه: ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) [سورة فصلت: 11] ، والاستواء كان بعد أن خلقها دُخانًا، وقبل أن يسوِّيَها سبعَ سموات . ) !! [ تفسير الطبري (1/430-431) ط شاكر] .
وتأمل ما ذكره في تاريخه (1/46) عن اليوم الذي فرغ فيه من الخلق ، واستوى على العرش !!
وراحمتاه لك ، أيها المسكين ؛ إن كنت لم تفهم ذلك أيضا ، ولم تعلم ما دلالة قبل ، وبعد ؛
وأخرى ، يا الهاني :
لعلك على ذُكْر من منهج الإمام في باب الصفات ، والذي نقلناه عنه آنفا : أنها تفهم على حقائها المعروفة في لغة العرب ، وأن هذا هو الصواب من القيل ، بتعبيره ، في كل ما صح به الخبر ، فراجعه إن شئت .
فإذا عرفت منهجه الذي نقلناه ، وفهمت منجه في الرد على أهل التأويل ، في صفة الاستهزاء ، وقد نقلناه على طوله ، لم تتردد في القطع بأنه لما قال :
( واختُلِف في صفة الغضب من الله جلّ ذكره :
فقال بعضهم: غضبُ الله على من غضب عليه من خلقه ، إحلالُ عقوبته بمن غَضبَ عليه، إمّا في دنياه، وإمّا في آخرته، كما وصف به نفسه جلّ ذكره في كتابه فقال:( فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) [سورة الزخرف: 55] ، وكما قال:( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ) [ سورة المائدة : 60 ].
وقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من عباده، ذم منه لهم ولأفعالهم، وشتم لهم منه بالقول.
وقال بعضهم: الغضب منه معنى مفهوم، كالذي يعرف من معاني الغضب، غير أنه -وإن كان كذلك من جهة الإثبات - فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم ؛ لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات، ولكنه له صفة، كما العلم له صفة، والقدرة له صفة، على ما يعقل من جهة الإثبات ، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد، التي هي معارف القلوب، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها ) [ تفسير الطبري (1/188-189) ط شاكر ] .
أظنك يا صاحبي رجل متخصص في الطبري ، متضلع من تراثه ، لن تحتاج مني إلى مساعدة في التدليل على أن الرأي الأخير هو رأي الطبري ، على وجه القطع ، والبت !!
فإن بقيت عندك شيء من الغموض في ذلك ، فلا تتردد في إخبارنا ، حتى نلحق جوابه بالرد المطول عليك ، إن شاء الله .
تعال بنا يا صاح ، بعدما ذكرناه من فهم الطبري لهذه الصفة ، إلى تفسيره لقول الله عز وجل : (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ) البقرة/61 ، حيث يقول :
( فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم منه سخط . كما:
1092 - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله:(وباؤوا بغضب من الله) فحدث عليهم غضب من الله ...
وقدمنا معنى غضب الله على عبده فيما مضى من كتابنا هذا ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع) .
[ تفسير الطبري (2/138) ط شاكر ] .
فقد قرر صاحبك ـ أيضا ـ أن غضب الله قد حدث عليهم ، كما قرر فكرة الزمان ، وهو الحدوث الذي تنفونه ، في (استوائه) على عرشه !!
حسنا ؛ خذ هذه ، آخر ما أحبوك به هنا ؛ فعلك تفييييييق :
واختلف أهل التأويل في الموصوفين بهذه الصفة من هم؟ وما السبب الذي من أجله فزِّع عن قلوبهم؟
فقال بعضهم: الذي فزع عن قلوبهم الملائكة، قالوا: وإنما يفزِّع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم الله بالوحي.
* ذكر من قال ذلك:
... قال ابن مسعود في هذه الآية(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قال: إذا حدث أمر عند ذي العرش سمع مَن دونه من الملائكة صوتًا كجر السلسلة على الصفا فيُغشى عليهم ، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم تنادوا:(مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ)؟ قال: فيقول: من شاء قال الحق وهو العلي الكبير.
... عن مسروق قال: إذا حدث عند ذي العرش أمر سمعت الملائكة صوتًا ...
... عن عبد الله بن مسعود في قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قال: إن الوحي إذا أُلقِي سمع أهل السماوات صلصلة ...
... ينزل الأمر من عند رب العزة إلى السماء الدنيا ؛ فيفزَع أهل السماء الدنيا، حتى يستبين لهم الأمر الذي نزل فيه، فيقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق وهو العلي الكبير، فذلك قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...) الآية.
... عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "إن الله إذا قضى أمرًا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها جميعًا، ولقوله صوت كصوت السلسلة على الصفا الصفوان ...
... عن النَّواس بن سمعان قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إذا أراد الله أن يُوحِيَ بالأمرِ : تكلَّمَ بالوَحي ، أخذَتِ السماوات منه رَجفةٌ أو قال رِعْدَةٌ شديدةٌ خوفَ أمرِ الله ، فإذا سمِعَ بذلك أهل السماوات صَعِقوا وخرُّوا لله سجَّدًا ...
...كان ابن عباس يقول: إن الله لما أراد أن يوحي إلى محمد، دعا جبريل، فلما تكلم ربنا بالوحي ، كان صوته كصوت الحديد على الصفا ، فلما سمع أهل السماوات صوت الحديد خروا سُجَّدًا، فلما أتى عليهم جبرائيل بالرسالة رفعوا رؤوسهم، فقالوا:( مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) وهذا قول الملائكة.
... عن ابن عباس قوله( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...) إلى(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) قال: لما أوحى الله تعالى ذكره إلى محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دعا الرسول من الملائكة فبعث بالوحي، سمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله فقالوا الحق وعلموا أن الله لا يقول إلا حقًّا وأنه منجز ما وعد، قال ابن عباس: وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا ...) .
ثم إن الطبري بعدما ذكر أقوالا أخرى في تفسير الآية ، قال :
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي ذكره الشعبي عن ابن مسعود لصحة الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بتأييده.
[ انظر : تفسير الطبري ، سورة سبأ (19/276) وما بعدها ، ط هجر ] .
هل كفتك هذه الآثار يا هذا ؟ هل رأيت فيها تقريرا لكلام الله بمشيئته واختياره في وقت دون وقت ، ولقوم دون آخرين ، و.. ، وهو ما عبرت عنه الآثار : حدث أمر .. ، حدث .. ، لما أراد ، لما قال ، وهكذا ... ؟!!
أما زلت مصرا على ما قلته ، يا ( .. عبيدة ) ؛ أما زلت ترمي غيرك بالتحريف ، والتشويه ... ، وأنت ما أنت من هذا كله ؟!!
فإلى متى : ( يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه ) !! [ رواه البخاري في الأدب المفرد ، وابن حبان في صحيحه ، مرفوعا ] .
وفي بعض الكتب السابقة :
( لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك ؛ وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها ؟!!
أو كيف تقدر أن تقول لأخيك : يا أخي ، دعني أخرج القذى الذي في عينك ، وأنت لا تنظر الخشبة التي في عينك ؟!!
يا مرائي : أخرج ـ أولا ـ الخشبة من عينك ، وحينئذ تبصر جيدا أن تخرج القذى الذي في عين أخيك ) . إنجيل لوقا : 6/41-42 .
أي بُنَيَّ !!
قبل أن تتشنج في تبديع وتضليل من قال بذلك الأصل ، وتنفي أن يكون الطبري يقول بصفات الله الاختيارية المتعلقة بمشيئته واختياره ، وهو ما تسمونه الصفات الحادثة ، أو حلول الحوادث ، قبل أن تتشنج في ذلك كله ، أتحفك بهذا النص ، لصاحبكم ، بل لإمامكم عند إطلاق المتأخرين ، أبي عبد الله ، فخر الدين الرازي ، فاسمعوا ، وعوا :
( ها هنا أبحاث :
البحث الأول : أنه هل يعقل أن يكون [ يعني : الله جل جلاله ] محلا للحوادث ؟
قالوا : إن هذا قول لم يقل به أحد إلا الكرَّامية .
وأنا أقول : إن هذا قول قال به أكثر أرباب المذاهب .
أما الأشعرية : فإنهم يدَّعون الفرار من هذا القول ، إلا أنه لازم عليهم من وجوه :
الأول : أنه تعالى كان قادرا على إيجاد الجسم المعين من الأزل إلى الأبد ؛ فإذا خلق الجسم المعين ، يمتنع أن يقال : إنه بقي قادرا على إيجاده ؛ لأن إيجاد الموجود محال ، والمحال لا قدرة عليه ، فتعلُّق قادريته بإيجاد ذلك الجسم قد زال وفني !!
والثاني : أنه في الأزل يمتنع أن يقال : إنه كان يطلب من زيد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في الحال ، ثم إن عند دخول زيد في الوجود ، يصير مطالبا له بإقامة الصلاة في الحال ، وإيتاء الزكاة ، وهذا الطلب إلزام ، والإلزام الحاصل ما كان حاصلا ، ثم حصل ، وهذا يقتضي حدوث الصفة في ذات الله تعالى ...
الثالث : وهو أنه يمتنع أن يسمع صوت زيد قبل وجوده ، وأن يرى صورة زيد قبل وجودها ؛ فكونه سامعا لذلك الصوت ، إنما حدث عند حدوث ذلك الصوت ، وكونه رائيا لتلك الصورة إنما حدث عند حدوث تلك الصورة ، وهذا يقتضي حدوث هذه الصفات في ذات الله تعالى !! )
ثم قال بعد أن خرج هذا القول على أصول المعتزلة والفلاسفة :
( فيثبت بهذا البحث الذي ذكرناه : أن القول بحدوث الصفات في ذات الله تعالى ، قول قال به جميع الفرق ) . انتهى بنصه . [ المطالب العالية من العلم الإلهي (2/71-72) ] .
ثم لا تعليق ، يا ( عبيدة ) ؛ فقد قطعت جهيزة قول كل خطيب !!
أولى لك أيها (الهاني) فأولى ؛ ثم أولى لك فأولى ، أن تربع على ظلعك ، وتعرف قدر نفسك ، وتعظها في الصدق والأمانة ، قبل أن تكون كما قيل : ( رمتني بدائها ، وانسلت ) !!
وأجرأ من رأيتُ بظَهْر غيبٍ ... على عيب الرجال ، أولو العيوب !!
واستمع جيدا ، وأصغ إلى قول أبي حيان التوحيدي :
( وإنما عليك أن تعرف نقصك في كمالك ، وعجزك في قدرتك ، وسفهك في حكمتك ، ونسيانك في حفظك، وخبطك في توفيقك ، وجهلك في علمك ...
فلا تُرَعْ ؛ فليس ما جل عنك : وجب أن يبطل عليك ، ولا ما دق عن فهمك : وجب أن يُبَهْرِجه نقدُك ، حاكِمْ نفسك إلى نفسك ، وعقلك إلى عقلك ... ، ولا تكن إلباً عليهما فتخسر وأنت حاكم ، وتحشر وأنت واهم !! )) [البصائر والذخائر (9/85-87) ] .
لكنني لا أعتب عليك يا صاحبي ، وإنما أعتب على (أهل ملتقانا ) السلفي ، وأنت تعلم إحنك عليهم ، وتاراتك عندهم ؛ ثم هم ألطفوا بك ، وأكرموك ، لتلقي أكاذيبك ، وتنفث أحقادك فيهم ، من غير أن ترعى لهم حرمة ، أو تحفظ لهم ذِماما :
ومَن لكَ بالحُرِّ الَّذي يحفظُ اليَدَا ؟!
فدع هذا الموطن ، قليلا ، يا ( عبيدة ) ، وتعال بنا إلى أول أكذوبة وضعتها في كلامك ، وأغربت بها على القراء جميعا ، الذين تأثروا بالدعاية المذهبية المضللة ، فتوهموا أن الطبري سلفي العقيدة ، وها أنت ذا ، قد نفضت عنك أطباق الثرى ، وأفلت من أسوارك ، ورفعت مشعل الهداية ، لتقول للناس ـ بلسان حالك ـ :
أنا أبو النجم وشعري شعري ... لِلَّهِ دَرِّي ما يُجِنُّ صدري
حسنا ، يا (فخر) إخوانك ، و(سيف) خِلاّنك ؛ وما لك لا تفعل ، وهذا زمانك :
فكلُّ أسيافنا قد أصبحت خشبا !!
تعال ـ إذا ـ يا (الهاني) إلى دعواك :
( ما موقف البعض عندما يعلم أن الإمام الطبري يعتقد أن الله تعالى لا مماس للعالم ولا مباين له؟ اي ليس داخل العالم ولا خارجه؛ لأنه ليس كمثله شيء فلا يقبل ما تقبله الأشياء التي ليست مثله بحال من الأحوال؟؟) . انتهى كلامه رحمه الله ، وعلامات الاستفهام من وضعه هو !!
ما أرخص الكذب عندك ، وأخفه على لسانك ، يا عبد الله ، وما أجرأك عليه !!
أما تمل الكذب يا هذا ؟! أما تستحيي ؟! أما تخشى الفضيحة ، قبل عقاب الله ؟!
لقد يبدو أنك أدمنت الكذب والبهتان ، فشق عليك أن تنزع منه !!
عوتب أعرابي على الكذب فقال: لو غرغرت لهواتك به ما صبرت عنه !! [ بهجة المجالس ، لابن عبد البر(1/2/580)] .
حسنا يا (أبا لَـمْعَة الثاني!!) [ لعل القراء يعلمون من هو (أبو لمعة الأول) صاحب الخواجة (بيجو) أكبر مخترع للفُشار والغرائب الملفقة ، التي تستخرج منك الضحك ، ولو كان في قرار حذائك المخروم ] ، تعال معي ـ أبا لمعة ـ لأقرئك كلام الطبري ، في سياقه بتمامه ، ثم انظر ماذا تفهم منه ، وهما موضعان ، لا ثالث لهما في كتبه الموجودة بين أيدينا ، أشار إلى الفكرة التي ذكرتها آنفا :
الموضع الأول ، وهذا هو الأهم : قال رحمه الله ، وهو يحكي اختلاف المختلفين في (رؤية الله تعالى بالأبصار) ، وتفسير قوله تعالى : ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) الأنعام/103 :
( وقال آخرون: معنى ذلك: لا تراه الأبصار، وهو يرى الأبصار ...
وتأول بعضهم في الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح القول برؤية أهل الجنة ربَّهم يوم القيامة تأويلات، وأنكر بعضهم مجيئها، ودافعوا أن يكون ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردُّوا القول فيه إلى عقولهم، فزعموا أن عقولهم تُحِيل جواز الرؤية على الله عز وجل بالأبصار، وأتوا في ذلك بضرُوب من التمويهات، وأكثروا القول فيه من جهة الاستخراجات .
وكان من أجلّ ما زعموا أنهم علموا به صحة قولهم ذلك من الدليل :
أنهم لم يجدوا أبصارهم ترى شيئًا إلا ما باينها دون ما لاصقها، فإنها لا ترى ما لاصقها . قالوا: فما كان للأبصار مباينًا مما عاينته، فإن بينه وبينها فضاءً وفرجةً . قالوا: فإن كانت الأبصار ترى ربها يوم القيامة على نحو ما ترى الأشخاص اليوم، فقد وجب أن يكون الصانع محدودًا . قالوا: ومن وصفه بذلك، فقد وصفه بصفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان .
قالوا: وأخرى، أن من شأن الأبصار أن تدرك الألوان، كما من شأن الأسماع أن تدرك الأصوات، ومن شأن المتنسِّم أن يدرك الأعراف [ يعني : الروائح ] قالوا: فمن الوجه الذي فسد أن يكون جائزًا أن يُقْضَى للسمع بغير إدراك الأصوات، وللمتنسِّم إلا بإدراك الأعراف، فسد أن يكون جائزًا القضاءُ للبصر إلا بإدراك الألوان .
قالوا: ولما كان غير جائز أن يكون الله تعالى ذكره موصوفًا بأنه ذو لون ، صح أنه غير جائز أن يكون موصوفًا بأنه مرئيٌّ ) .
فالإمام الطبري هنا يحكي مقالة المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ على نفي الرؤية ، أو من يسميهم هو في موطن آخر [ التبصير (215) ] : (جماعة القائلين بقول جهم ) ، بناء على (الاستخراجات العقلية) التي تحيل الرؤية على الله ، جل جلاله .
ومن هذه الاستخراجات أن الرؤية يلزم عنها أن يكون المرئي في جهة من الرائي ، مباينا لها .. ، إلى آخر ما ذكره ، وهي نفس الشبهة العقلية التي حكاها الإمام الطبري عن النفاة ، في كتابه الآخر : التبصير (220-222) ، لكن المخطوط ينتهي هنا ، للأسف ، قبل أن يورد جوابه عنها .
يعود الطبري ، بعد حكاية اختلاف الآراء في الرؤية ، إلى شبهة النفاة ، ويناقشها ، فيقول :
(والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر"="وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب"، فالمؤمنون يرونه، والكافرون عنه يومئذ محجوبون، كما قال جل ثناؤه : ( كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) [سورة المطففين: 15] .
فأما ما اعتلَّ به منكرُو رؤية الله يوم القيامة بالأبصار، لما كانت لا ترى إلا ما باينها، وكان بينها وبينه فضاءٌ وفرجة، وكان ذلك عندهم غير جائز أن تكون رؤية الله بالأبصار كذلك، لأن في ذلك إثبات حدٍّ له ونهايةٍ، فبطل عندهم لذلك جواز الرؤية عليه= فإنه يقال لهم : هل علمتم موصوفًا بالتدبير سوى صانعكم، إلا مماسًّا لكم أو مباينًا ؟
فإن زعموا أنهم يعلمون ذلك، كُلِّفوا تبيينه، ولا سبيل إلى ذلك .
وإن قالوا : لا نعلم ذلك .
قيل لهم: أو ليس قد علمتموه لا مماسًّا لكم ولا مباينًا، وهو موصوف بالتدبير والفعل، ولم يجب عندكم إذْ كنتم لم تعلموا موصوفًا بالتدبير والفعل غيره إلا مماسًّا لكم أو مباينًا، أن يكون مستحيلا العلم به، وهو موصوف بالتدبير والفعل، لا مماس ولا مباين؟
فإن قالوا: ذلك كذلك.
قيل لهم: فما تنكرون أن تكون الأبصار كذلك لا ترى إلا ما باينها وكانت بينه وبينها فرجة، قد تراه وهو غير مباين لها ولا فرجة بينها وبينه ولا فضاء، كما لا تعلم القلوب موصوفًا بالتدبير إلا مماسًّا لها أو مباينًا، وقد علمتْه عندكم لا كذلك؟ وهل بينكم وبين من أنكر أن يكون موصوفًا بالتدبير والفعل معلومًا، لا مماسًّا للعالم به أو مباينًا= وأجاز أن يكون موصوفًا برؤية الأبصار، لا مماسًّا لها ولا مباينًا، فرق؟
ثم يسألون الفرقَ بين ذلك، فلن يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله .
وكذلك يسألون فيما اعتلوا به في ذلك: أن من شأن الأبصار إدراك الألوان، كما أن من شأن الأسماع إدراك الأصوات، ومن شأن المتنسِّم درَك الأعراف، فمن الوجه الذي فسد أن يُقضى للسمع بغير درك الأصوات، فسد أن يُقضى للأبصار لغير درك الألوان .
فيقال لهم: ألستم لم تعلموا فيما شاهدتم وعاينتم، موصوفًا بالتدبير والفعل إلا ذا لونٍ، وقد علمتموه موصوفًا بالتدبير لا ذا لونٍ؟
فإن قالوا:"نعم"= لا يجدون من الإقرار بذلك بدًّا، إلا أن يكذبوا فيزعموا أنهم قد رأوا وعاينوا موصوفًا بالتدبير والفعل غير ذي لون، فيكلفون بيان ذلك، ولا سبيل إليه .
فيقال لهم: فإذ كان ذلك كذلك، فما أنكرتم أن تكون الأبصار فيما شاهدتم وعاينتم لم تجدوها تدرك إلا الألوان، كما لم تجدوا أنفسكم تعلم موصوفًا بالتدبير إلا ذا لون، وقد وجدتموها علمته موصوفًا بالتدبير غير ذي لون. ثم يسألون الفرق بين ذلك، فلن يقولوا في أحدهما شيئًا إلا ألزموا في الآخر مثله .
ولأهل هذه المقالة مسائل فيها تلبيس، كرهنا ذكرها وإطالة الكتاب بها وبالجواب عنها، إذ لم يكن قصدنا في كتابنا هذا قصدَ الكشف عن تمويهاتهم، بل قصدنا فيه البيان عن تأويل آي الفرقان . ولكنا ذكرنا القدرَ الذي ذكرنا، ليعلم الناظرُ في كتابنا هذا أنهم لا يرجعون من قولهم إلا إلى ما لبَّس عليهم الشيطان، مما يسهل على أهل الحق البيانُ عن فساده، وأنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلمات يخبطون، وفي العمياء يتردّدون، نعوذ بالله من الحيرة والضلالة ) .
أبا (لُـمَيْعة) :
بأي قانون من قوانين الفهم ، وأساليب اللغة ، فهمت من هذا النص أن الطبري يقول بقولك : إنه لا مماس ولا مباين ، لا داخل العالم ، ولا خارجه ؟!!
أما رأيته كل مرة يقول لمخالفيه ، جماعة جهم : عندكم ، عندهم .. ؛ فهل سمعته مرة واحدة يقول ـ مثلا ـ : عندنا وعندكم ؟!
أما فهمت أساليب الجدل ، وطرق الإلزام للخصم بأن يورد عليه ما يوجب فصلا بينه وبين ما تضمن نصرته [ انظر : الكافية في الجدل ، للجويني (70) ، وينظر ص (218) منه ] ؟!
ولا يلزم من نقضه على خصمه ، أن يلتزم ما ينقض به ؛ بل متى نقض الكلام ( بحكم ثابت على مذهب المستدل خاصة ، فهو نقض صحيح ؛ لأنه يقول للمستدل : لو كانت علتك صحيحة ، لطردتها في مواضع وجودها ؛ فإذا لم تلتزم أنت موجبها في صورة النقض ؛ فكيف ألتزم أنا موجبها في الفرع ؛ وهذا ظاهر) [ تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل (2/380) ، وينظر المسودة لآل تيمية (385) ] .
وهذا كله في واقع الأمر : صنعة جدلية ، وليس بحثا برهانيا . [ انظر : المدخل إلى دراسة علم الكلام ، د. حسن الشافعي (191-192) فهو مهم ] .
أبا (لُـمَيْعة) :
أيرضيك أن تكون كل مناقضة يوردها الطبري مع خصمه ، رأيا له ، وأن نلزمه بما ألزم به خصمه ؟!
حسنا يا عبد الله ؛ لعلنا نحتاج ـ هنا ـ إلى أن نذكرك بما نقلناه عنه آنفا :
(وإن كنتم لم تعقلوا عالما إلا له علم ، وقادرا إلا له قدرة ، فما تنكرون أن يكون جائيا لا مجيء له ، وهابطا نازلا ، لا هبوط له ، ولا نزول له ، ويكون معنى ذلك : وجوده هناك ، مع زعمكم أنه لا يخلو منه مكان ؟!
فإن قال لنا منهم قائل : فما أنت قائل في معنى ذلك ؟ ... ) .
فانظر كيف فرق بين مقام المناقضة على الخصم ، وبين مقام تقرير اعتقاده ، فأورد على نفسه السؤال آخرا : فما أنت قائل ...
فهل تقبل ، أبا (لُـمَيْعة) ، برد الطبري على من تأول المجيء والإتيان ، كما رد على من تأول سائر الصفات ، وتقر بأن معنى ذلك : ( وجوده هناك ) ؟!
ثم ، هل تأخذ من مناقضة الطبري للمعتزلة أنه يثبت : عالما ، ليس له علم ، كما أن المعتزلة يقولون بذلك ؟!!
آه ، نعم ، لقد تذكرت يا صاحبي ، ويبدو أن الحنين قد عاودني إلى صحبتك مرة أخرى ، أو لعلك قدر ملازم لي ، لا أدري !! لكني ما كنت أحسبك بكل هذه الغفلة حتى تذكرني بالموطن الثاني الذي وعدتك به ؛ هذا إذا كنت قد اطلعت عليه حقا ، فهلم إليه ، وتدبر ما فيه ، لعله ينفعك :
في تفسيره لقول الله عز وجل : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) الإسراء/79 ، ذكر ابن جرير قولين فيما هو المقام المحمود هنا ؟
القول الأول : أنه مقام الشفاعة يوم القيامة ، وذكر أنه قول أكثر أهل العلم ، وأن الخبر صح به عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والقول الثاني : أن ( المقام المحمود الذي وعد الله نبيّه أن يبعثه إياه ، هو أن يقعده معه على عرشه ) . ثم روى هذا القول عن مجاهد ، قال : ( يُجْلسه معه على عرشه ) !!
قال الإمام الطبري :
(وأولى القولين في ذلك بالصواب ما صحّ به الخبر عن رسول الله ... قال: "هِىَ الشَّفاعَةُ") .
ثم عاد بعد ما ذكر الروايات الواردة في ذلك ، فقال :
(وهذا وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل قوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ، فإن ما قاله مجاهد من أن الله يُقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك .
فأما من جهة النظر، فإن جميع من ينتحل الإسلام إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة: فقالت فرقة منهم: الله عزّ وجلّ بائن من خلقه ، كان قبل خلقه الأشياء، ثم خلق الأشياء فلم يماسَّها، وهو كما لم يزل، غير أن الأشياء التي خلقها، إذ لم يكن هو لها مماسا، وجب أن يكون لها مباينا، إذ لا فعال للأشياء إلا وهو مماسّ للأجسام أو مباين لها ، قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله عزّ وجلّ فاعل الأشياء، ولم يجز في قولهم: إنه يوصف بأنه مماسّ للأشياء، وجب بزعمهم أنه لها مباين .
فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، أو على الأرض ، إذ كان من قولهم : إن بينونته من عرشه ، وبينونته من أرضه ، بمعنى واحد في أنه بائن منهما كليهما، غير مماسّ لواحد منهما.
وقالت فرقة أخرى: كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء، لا شيء يماسه، ولا شيء يباينه، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته، وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء ، لا شيء يماسه ولا شيء يباينه، فعلى قول هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، أو على أرضه، إذ كان سواء على قولهم عرشه وأرضه ، في أنه لا مماس ولا مباين لهذا، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه.
وقالت فرقة أخرى: كان الله عزّ ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه، ولا شيء يباينه، ثم أحدث الأشياء وخلقها، فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا، وصار له مماسا، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا، ولا شيء يحرمه ذلك، ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا، وأعطى هذا، ومنع هذا، قالوا: فكذلك كان قبل خلقه الأشياء : لا شيء يماسه ولا يباينه، وخلق الأشياء فماس العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه، فهو مماس ما شاء من خلقه، ومباين ما شاء منه .
فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا على عرشه، أو أقعده على منبر من نور، إذ كان من قولهم: إن جلوس الربّ على عرشه، ليس بجلوس يشغل جميع العرش، ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم موجبا له صفة الربوبية، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه، كما أن مباينة محمد صلى الله عليه وسلم ما كان مباينا له من الأشياء : غير موجبة له صفة الربوبية، ولا مخرجته من صفة العبودية لربه من أجل أنه موصوف بأنه له مباين، كما أن الله عزّ وجلّ موصوف على قول قائل هذه المقالة بأنه مباين لما [ الأصل : لها ، خطأ ] هو مباين له. قالوا: فإذا كان معنى مباين ومباين لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وسلم الخروج من صفة العبودة والدخول في معنى الربوبية، فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده على عرش الرحمن .
فقد تبين إذا بما قلنا أنه غير محال في قول أحد ممن ينتحل الإسلام ما قاله مجاهد من أن الله تبارك وتعالى يقعد محمدا على عرشه.
فإن قال قائل: فإنا لا ننكر إقعاد الله محمدا على عرشه ... [ هنا رواية في الأصل ، أظنها مقحمة في هذا الموضع ] ، وإنما ينكر إقعاده إياه معه ؟!
قيل: أفجائز عندك أن يقعده عليه لا معه ؟
فإن أجاز ذلك ، صار إلى الإقرار بأنه إما معه، أو إلى أنه يقعده، والله للعرش مباين، أو لا مماسّ ولا مباين، وبأيّ ذلك قال كان منه دخولا في بعض ما كان ينكره .
وإن قال : ذلك غير جائز ؛ كان منه خروجا من قول جميع الفرق التي حكينا قولهم، وذلك فراق لقول جميع من ينتحل الإسلام ، إذ كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها، وغير محال في قول منها ما قال مجاهد في ذلك ) انتهى كلامه رحمه الله .
[تفسير الطبري (15/51-54) ط هجر ] .
وبديهي ، أبا اللمع ، أن الطبري لا يصحح هذه الأقوال المتعارضة كلها ، ولا يلزمه أن يقول بها كلها ، وإن كان يلزمه قول واحد منها ، لا يعنينا الآن تعيينه !!
فما الذي دفعه إلى تقرير صحة قول مجاهد على المذاهب جميعا ، إذا ؟!
ليس إلا تقرير قوله ، والمناقضة على خصومه .
وفي مقام الجدل ، ربما يتسعين المناظر ، أو الجدلي ، بما لا يلتزمه ، بل ولا يرى صحته أصلا . [ راجع الكافية في الجدل ، لإمام الحرمين ، وما شئت من كتب الجدل ] .
وأوضح مثال ، وأظهره في تطبيق هذه الآلية [ واسمح لي بشيء من مفرداتك ، أو نحوها ] ، هو من عندكم أنتم ؛ وأعني به حجة الإسلام : أبا حامد الغزالي ، في كتابه الشهير : تهافت الفلاسفة ؛ فهل قرأته ، أبا لميعة ؟!!
اسمعه يقول في أوائله :
( ليُعْلم أن المقصود تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة ، وظن أن مسالكهم نقية عن التناقض ، ببيان وجوه تهافتهم ؛ فلذلك أنا لا أدخل في الاعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر ، لا دخول مدع مثبت ؛ فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعا ، بإلزامات مختلفة ؛ فألزمهم تارة مذهب المعتزلة ، وطورا مذهب الواقفية ، ولا أنتهض ذابا عن مذهب مخصوص ؛ بل أجعل جميع الفرق إلبا واحدا عليهم ؛ فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل ، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين ؛ فلنتظاهر [ أي : نتعاون ] عليهم ؛ فعند الشدائد تذهب الأحقاد !!) .
[مقاصد الفلاسفة (82-83) ط سليمان دنيا ] .
أبا (لُـمَيْعة) :
أما زلت يقظا يا صاحبي ؟ أما زلت مصرا على ضم الإمام الطبري إلى فريقك ؟!
أبا لَـمْع !!
لعل الذي يعنينا الآن هنا : أين تراه هنا قد انتحل قولكم المتناقض : لا داخل ولا خارج ، لا مماس ولا مباين ؟!!
أبا لَـمْع :
هل توافق الطبري على صحة قول مجاهد : ( يجسله معه على عرشه ) !!
أبا لَـمْع :
إنه يزعم ـ سامحه الله ـ أن ذلك لازم لقول جميع منتحلي الإسلام ، وأن من نفى صحة ذلك ، فقد خرق إجماع منتحلي الإسلام ؟!!
أبا لَـمْع :
أتوافقه على أنه لا دليل من الخبر (النقل ) ، ولا النظر (العقل) على بطلان ذلك ؟!
أجب عن السؤال السابق بـ ( نعم ) أو (لا) !!
أبا لَـمْع :
ضع علامة (( صح ـ مش عارف بتيجي من اين على اللوحة )) أمام العبارة التي تعجبك !!
وضع علامة (( خطأ )) أمام العبارة التي لا تعجبك !!
فإن كنت لا ( تُحْلي ولا تُمِرّ) ، ولا (تدري هِرًّا من بِرّ) ، فلن تراع يا صاحبي ، فـ (ابصم) وأقر ، و: ( هُمَا أمرَانِ ، أحلاهُما مُرُّ ) !!
ثم كان ، يا ما كان ، أن ذكر أحد القراء الكرام ، دراسة المسكين عن الطبري ؛ حتى ثارت ثائرة المسكين ، وكأنما نكأ به جرحا ناغِرا ، أو بَضَّ له دملا ، قد أوشك على الانفجار ، فلم يكتف بالطعن في الدراسة ، واستحقاق صاحبها ، حتى مال بغارته العمياء ، على أساتذته الأجلاء :
( للأسف الشديد هذا التساهل الحاصل في منح التقديرات العالية والامتياز ، أخل بشدة بمستوى الطلبة، وبالتالي انعكس ذلك على مستوى الأساتذة الذين نالوا تلك الشهادات من غير استحقاق، فانعكس ذلك بدوره على مستوى طلبتهم، وهذا يفسر ضعف مستويات الكثير من الرسائل الجاميعة التي حقها أن تُرفَض لما فيها من إخلال بالمنهج العلمي الذي يتعلق بالمضمون، لا بمجرد الشكل ....
وفي هذه الحالة فشخصية كالإمام الطبري لها من الأهمية الكبيرة ما يجعل البعض يحاول تقديمها في شكل مغالط لضمها في جانبهم، وإن اقتضى ذلك الخروج عن الموضوعية العلمية وطرح القضايا بشكل مزيف أو تحريف الأفكار عن مسار اختيار صاحبها أصلا، وما على المناقشين إلى المباركة والقبول وإسداء الامتياز، يا للفضيحة.
وقد تتبعت الرسالة المذكورة للطلب المسمى طه محمد نجار رمضان، والخلاصة عندي أنه لا يستحق نيل الشهادة أصلا لما فيها من النقص الواضح في دراسة كثير من آراء الإمام الطبري الكلامية، وتقديم البعض الآخر بصورة مغلوطة لخدمة غرض مذهبي لا أكثر ولا أقل ) .
أبا اللُمَع ؛
حنانيك يا صاحبي ، حنانيك ، وأذنيك ، وقذاليك !!
ما كل هذه القسوة على المسكين ؟!
أما كان يكفيك أن تنبه على خطأ صاحبك ، أو ضلاله ، وكنت تستغني به عن كل هذه الزيادات ؟!!
أما سمعت أبا حيان يقول عن نفسه ، في بعض مسائله :
( وأتبعتُ المسألةَ من تنقص الإنسان ، وذمه ، وتوبيخه ، ما أستغني عن إثباته ) !! [ الهوامل والشوامل (26) ] .
لكنه مع ذلك ، عاد إلى التنطع في بعض مسائله ، مرة أخرى ، ولم يزجره تأديب صاحبه له ، فعاد مسكويه ـ مرة أخرى ـ ليقول له :
( هذه المسألة التي ذنَّب فيها صاحبها بمسائل أعظم منها ، وأبعد غورا ، وأشد اعتياصاً ، وأصابه فيها ما كان أصابه قبل في مسألة تقدمتها !!
فظهر لي في عذره أنه داء يعتريه ، ومرض يلحقه ، وليس من طغيان القلم ، ولا سلاطة الهذَر ، ولا أَشَر الاقتدار في شيء ، كما أنه ليس من جنس ما يستخف المتكهنَ عند الكِهانة ، ولا من نمط ما يعترى المتواجد من الصوفية ، وما أحسبه إلا من قبيل المس والخبل ، والطائف من الشيطان ، الذي يُتعوذ بالله منه ؛ فلقد أطلق في سجاعته القافية بما تسد له الآذان ، وتصرف عنه الأبصار والأذهان !!
ولولا أنه اشتكى إلى الله تعالى في آخرها من سطوات البلوى ، فاعترف بالآفة ، واستحق الرأفة لكان لي في مداواته شغل عن تسطير جواباته !! ) [الهوامل والشوامل (56-57) ] .
أبا لُـمَيْعَة ؛
من ذا الذي طلب رأيك ، واحتكم إليك في شأن الدرجة التي منحتها الجامعة لصاحبك ؟
ما اَنْتَ بالحَكَم التُّرْضَى حُكُومَتُه * ولا الأَصِيلِ ولاَ ذِي الرَّأْيِ والجَدَلِ
فوارحمتاه لك ، لو علمت أيها المسكين ، أنها منحته بعدها (الدكتوراه ) بتقدير ... ، وفي أي موضوع ؟!!
قريبا تراه إن شاء الله ، سُخْنةً لعينك ، وشجىً في حلقك !!
فإذا رأيت ذلك ، وهاجت عليك مرتك الصفراء والزرقاء ، وفسدت أخلاطك ، وكنت قد عرفت شيئا عن (دون كيخوته) ، لسيرفانتس ، فامتطيت حصانك الغاب ، وامتشقت حساما من الأخشاب ، لتجعل جامعة القاهرة كوما من تراب !!
فآذني ، يا أُخيي ، فأنا بك شفيق ، وعليك رفيق ؛ وأنا زعيم بأن أبحث لك عن أوهى ثُلْمة في جدارها ، فلعلها أن تكون أرفق برأسك عند النِّطاح :
كناطحٍ صخرةً يوماً ليَفْلِقَها ... فلم يَضِرْها وأَوْهَى قَرْنَه الوَعِلُ
فدع هذا ، وعد بنا إلى شيء من الجِد ، يا أبا اللمع !! مع تدقيقاتك الكلامية البديعة ، وحيثيات حكمك على المسكين ، بأنه لا يستحق نيل الشهادة أصلا ؟!!
قال أبو لُـميْعة ، أصلحه الله :
( وسأكتفي هنا بضرب مثال واحد على عدم استحقاق تلك الرسالة نيل الشهادة أصلا، فضلا عن طباعتها .... ، وإلا فالأمثلة كثيرة جدا.
قال الطالب في ص 137 من الرسالة المذكورة عند تعرضه لعرض الدليل العقلي الذي سلكه الإمام الطبري لبيان حدوث العالم وافتقاره إلى محدِث واحد هو الله تعالى:
" ثم ينتقل بعد ذلك إلى الخطوة الثالثة من استدلاله، بعد أن قرر أن كل ما في العالم لا يخلو من الحدَث، ليقرر أن (ما لم يخل من الحدث لا شك أنه حادِث).
ثم قال الطالب : ولا يُعنَى ابن جرير عند هذه النقطة بالتدليل على أن ما لم يخل من الحوادث أو يسبقها فإنه محدَث ، شأن من يعنى بهذا الدليل، وإنما غاية ما نجده ثَمَّ أن يقرر أنه محال أن يكون شيء يُحدِث شيئا إلا ومحدِثُه قبله. (أصول الدين عند الإمام الطبري، ص137)
التعليق: [ التعليق لأبي لميعة الثاني (أعني : أبا عبيدة ، فكن على ذُكْر، أيها القارئ ]
(عجبا للمشرف والمناقشين كيف يتركون هذا الكلام يمر مرّ الكرام.
ومرور هذا الكلام دال على أحد الأمرين:
ـ إما الجهل بمسائل علم الكلام، وهذا لا يليق بمن ينصب نفسه مشرفا أو مناقشا.
ـ وإما المشاركة في تزييف الحقائق بشكل مفضوح.
فمعلوم عند كل من له حظ في فهم الأدلة العقلية على وجود الله تعالى ، أن من أركان هذا الدليل أن كل ما لا يخلو من الصفات الحادثة ـ بحيث يلازمها ، ولا يعقل منفكا عنها ـ لا يعقل موجودا بدونها أو قبلها، ولما كانت هي حادثة يكون هو بالضرورة حادثا، وكل حادث مفتقر ضرورة إلى محدِث واحد غيره وهو الله تعالى.
وهذا ما أراد الإمام الطبري بيانه وأقام البرهان عليه، فنص على أن (ما لم يخل من الحدَث ، لا شك أنه حادِث) أي: محدَث.
وهذا البرهان العقلي معروف، وقد توصل إليه الإمام الطبري بعد النظر في الايات القرآنية والآيات الكونية والنفسية، وبنى عليه أصول الدين، بل اعتبره دالا على معرفة الله تعالى قبل بلوغ رسالة الأنبياء ، واعتبر الجهل به جهلا بالله ، محاسب [كذا] صاحبه عليه.
فكيف يسوغ للطالب القول بعد هذا بأن الطبري لا يُعنَى عند هذه النقطة بالتدليل على أن ما لم يخل من الحوادث أو يسبقها فإنه محدَث؟ مع أن الإمام الطبري ينص نصا صريحا ، واضحا أن ما لم يخل من الحدث محدَثٌ؟ فهذا قلب تام لنتيجة الإمام الطبري التي صرّح بها.
بل كيف يتجرأ الطالب ويقول بعد هذا : (وإنما غاية ما نجده ثَمَّ أن يقرر أنه محال أن يكون شيء يُحدِث شيئا إلا ومحدِثُه قَبلَه) .
فكيف فهم هذا الكلام المتناقض من ألفاظ الإمام الطبري؟
بل إذا طبقنا كلامه لزم القول بأن الله تعالى له محدِثٌ قبله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا؛ فإن الطالب قرر استحالة أن يكون شيءٌ يحدِث شيئا إلا ومحدِثهُ قبلَه ؛ فعلى هذا يكون قبل الله تعالى محدِثٌ ، لأنه داخل ـ حسب ألفاظ الطالب ـ في هذه الكلية ، وهي أن كل من يحدِثُ شيئا ، فمحدِثُه قبله، ومعلوم أن الله محدِثٌ للأشياء، فيكون قبله محدِثٌ حسب كلام الطالب، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وهذا ليس بمقصد الإمام الطبري والعياذ بالله، ولا دل عليه كلامه بأي نوع من أنواع الدلالات، بل ليس في كلام الإمام الطبري إلا البرهان على افتقار كل ما لازم الحوادث إلى محدِث واحد وهو الله تعالى الغني على الإطلاق، الذي يستحيل أن يتصف بالصفات الحادثة كما هو الحال بالنسبة إلى مخلوقاته.
فكيف يمر هذا الكلام؟ وما السبب في ذلك؟ وأين الإشراف والمراقبة للمسائلة ... ) الخ ،
شكرا لك يا هذا على مقامتك (الولولية) !!
أتدري يا أبا لُـمَيعة ، أين يصلح تهويلك وتدليلك الذي ذكرته هنا ، فأفزعت به من كان يظنك تفهم شيئا من القراء ؟!
إنك تحتاج إلى أن تعقد حضرة سرمدية ، شطحية ، ملوخية .... ،
فكلما زعقت بزعقة فيها : (أدلة الحدوث) ،
صاحت بطانة المساطيل من حولك : دوووس .. دووس .. دوس!!
فإذا صحت : الكونية !!
هب القوم من ورائك : كونية ..وَنية ... نية !!
وإذا قلت : النفسية !!
تواجد القوم ، وانتهى بهم الحال : فسية ، فسية ، فسية ، ....
فإذا نزلت إليهم من مقامك ، حفتك حاشيتك من (الزُّط) و (الغُتْم) بالمطارف ، والملاحف ( لكي لا يصيبك شيء من برد أو زكام ) ، وحملوك على الأعواد ، كما يفعل الهنود الحمر والصفر .. ، مع ( المهراجا ) ، وذهبوا بك إلى : حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أُمُّ قَشْعَمِ !!
وكلما وَنَى السائرون ، وَكَلَّ الحاملون ، صحت بهم وأنت على محملك ، من فوق رؤوسهم : الآيات ، الكونية ، النفسية ، فهملج الزُّط من تحتك كالبراذين ، لا يجدون ساعتها لثقل دمك ، وبرود حالك ، على أكتافهم وقعا ولا أذى !!
سُكْرانِ : سُكْرُ هوىً ، وسُكر (ضلالةٍ) * ومتى إفاقَةُ مَنْ بِهِ سُكرانِ
يا هذا ، دعني أبحث معك ، وأناقش ما ذكرته هنا ، وأسأل الله أن يرزقني الصبر حتى أفرغ منك :
أولا : ادعيت أن ما لا يخلو من الحوادث ، ( يكون هو بالضرورة حادثا ) ، ثم زعمت أن هذا البرهان العقلي معروف، وقد توصل إليه الإمام الطبري بعد النظر في الآيات ... ؛ وهذا تناقض بيِّنٌ في كلامك ، فالعلم الضروري شيء ، والعلم النظري شيء ، ولو كان النظر في الآيات .. ، فهو أيضا علم نظري ، وهذا أمر ( معلوم عند كل من له حظ في فهم الأدلة العقلية) ، على حد قولك ، وراجع ما شئت من كتب المنطق ، أو المقدمات الكلامية ، والأصولية .
ثانيا : أما قولك أيها (المهراجا) : ( إذا طبقنا كلامه لزم القول بأن الله تعالى له محدِثٌ قبله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا؛ فإن الطالب قرر استحالة أن يكون شيءٌ يحدِث شيئا إلا ومحدِثهُ قبلَه ، فعلى هذا يكون قبل الله تعالى محدِثٌ .. ) ، فلا ينقضي عجبي منه أيها الأغتم الضِّلِّيل !!
فبأي وجه من وجوه الدلالات العربية ، أو الهندية ، أو الزُّطية ، لزم هذا من كلامي ؟!
اذكر قضية سالبة أو موجبة ، قياسا برهانيا ، أو جدليا ، أو مغالطيا ، أدى بك إلى هذه النتيجة ، أنه يلزم من كلامي ، الذي ادعيت كذبا أني قلته ، أن يكون قبل الله محدث ، تعالى الله عن قولك وبهتانك ، وأنا زعيم بمائة قضية وقضية صحيحة برهانية ، على أنك كاذب دجال !!
إن القضية البرهانية الصحيحة تقول :
1- ( أبو عبيدة الدجال ) يدعي أنني قررت استحالة أن يكون شيء ... ، وألزمني...
2- أنا لم أقرر ذلك ، وكتابي موجود ، وليس بيني وبينه إسناد متصل ، ولا منفصل ، ينقل عني به ،
3- النتيجة الحتمية : (أبو .. الهاني)كذاب !!
وقضية أخرى صحية تقول :
1- الطبري قرر استحالة أن يكون شيءٌ يحدِث شيئا إلا ومحدِثهُ قبلَه ،
2- أبو عبيدة يلزمني أن يكون قبل الله تعالى محدِثٌ ، لأنني قررت ـ بزعمه ـ استحالة ..،
3- النتيجة : أبو لميعة يلزم الطبري ـ لأنه هو القائل الحقيقي ـ أن يكون لله ـ تعالى عن إفكه ـ محدث له !!
لو كنت ألزمتني ، أبا لميعة الثاني ، أن أقول بقدم العالم ، بأي معنى من معاني القدم ، لقلت الرجل : جاهل يتكايس ، أو عاقل يتخابث !!
أما وقد ذكرت ما ذكرت من اللازم الباطل ، لمقدمة كاذبة ؛ فلا عقل ، ولا نقل ؛ ويكفيني هذا منك ، فقد كفيتني مؤنة نفسك :
ما يبلغُ الأعداءُ من جاهلٍ ... ما يبلغُ الجاهلُ من نفسِه
لقد ذكرتني أبا لميعة ، بالقصة المروية في حوار دار بين عمرو بن العاص ، رضي الله عنه
، لما أراد مسيلمة الكذاب أن يعارض سورة العصر ، فقال لعمرو بن العاص :
وقد أنزل علي مثلها !!
فقال له عمرو: وما هو؟
فقال : يا وَبْر يا وَبْر ، إنما أنت أذنان وصَدْر، وسائرك حفر نَقْر .
ثم قال : كيف ترى يا عمرو؟
فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب !!
[ انظر : تفسير ابن كثير (8/479) ، سير أعلام النبلاء (3/69) ، وحواشي المحققين] .
ثالثا : عدنا ، أبا لمعة الثاني ، إلى بدائعك ، في كلامك ، فإذا بك وقد أردفت ذلك بوصلة أخرى (مهراجية) ، تقول : ( وهذا البرهان العقلي معروف ، وقد توصل إليه الإمام الطبري .... ، واعتبر الجهل به جهلا بالله، محاسب [كذا] صاحبه عليه. ) .
إلى متى أعظك في الكذب يا هذا ؟! يا هذا ، أما تحسن أن تصدق ـ هنا ـ مرة ؟!
قال الأصمعي : قيل لرجل معروف بالكذب . هل صدَقَت ؟
قال : أخاف أن أقول : لا ، فأَصْدُق !! [نهاية الأرب ، للنويري (3/363) ] .
أتحداك أن تنقل نصا واحدا من أي كتاب من كتب الطبري ، مخطوطا كان أو مطبوعا ، موجودا أو مفقودا ينسبه إليه أحد من أهل العلم ، أتحداك أن تنقل هذا النص الذي يقرر فيه ابن جرير أن الجهل بهذا البرهان جهل بالله تعالى ، أو أن الجهل بالدليل المعين ، أيا كان هذا الدليل ، هو جهل بالمدلول !!
ودون ذلك ـ يا صاحبي ـ خرْط القتاد ، وسف الرماد ، وفضيحتك على رؤوس الأشهاد!
وحتى أريحك من إعادة البحث والنظر ، وتقليب الأوراق وإدارة الفكر ، سوف أنقل لك النص الوحيد الذي عساه غرك ، فتعلقت به ، وظننت أنك بهذا ضمنت انضمام الطبري ـ إلى الأبد ـ إلى فريقك !!
قال الإمام الطبري رحمه الله ، في الفصل الذي عقده لبيان طرق المعرفة ، بعد أن قرر أن للمعارف طريقين : الحواس ، والقياس على ما تدركه الحواس :
( فأما الذي لا يجوز الجهل به من دين الله ، لمن كان من أهل التكليف ، لوجوده الأدلة متفقة عليه غير مختلفة ، ظاهرة للحس غير خفية : فتوحيد الله تعالى ذكره ، والعلم بأسمائه وصفاته وعدله ؛ وذلك أن كل من بلغ حد التكليف من أهل الصحة والسلامة ، فلن يعدم دليلا وبرهانا واضحا يدله على وحدانية ربه ... ) [ التبصير (116-117) ] .
أرأيت يا هذا ، أن الطبري يقرر أن الذي يحاسب عليه صاحبه ، ولا يعذر بالخطأ فيه : هو جهله بربه ، وشركه به سبحانه ، لأن الأدلة على ذلك كثيرة متفقة غير مختلفة في الدلالة على ذلك المطلوب ؛ فمهما جهل واحدا منها ، أو غاب عنه ، أدرك غيره ، وعرف به ربه ، ووحده!!
فأين ذكره لهذا الدليل المعين ، دليل الجوهر والعرض المعروف ، كما ذكرت ، وتقريره له ، أو إلزامه به ، أو قوله : إن الجهل به جهل بالله !!
هذا القانون الذي اغتررت به ، يا أبا لمعة ، أعني قانون : (بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول) ، قد قال به قوم من أئمتكم ، وأولهم الباقلاني ، فيما يرى ابن خلدون [ المقدمة (431) ط الشعب ] ، وتبعه بعض متعصبي الأشاعرة ، حتى جاءت طريقة المتأخرين ، فيما يقول ابن خلدون أيضا [ السابق (432) ] ، فرفض المحققون منهم ذلك .
وإن شئت نموذجا على إبطال بعض أئمتكم لذلك ، فانظر : أبكار الأفكار ، للآمدي ، حيث يورد ذلك في فصل : ( ما يظن أنه من الأدلة المفيدة لليقين ، وليس منها ) ، ثم يأخذ في إبطاله [ أبكار الأفكار (1/208-210) ] ، وانظر أيضا : شرح المواقف ، للجرجاني ، وحواشيه (2/21-27) . [ لاحظ أننا اقتصرنا هنا على مصادر محققي الأشاعرة فقط ] .
رابعا : عاد صاحبنا (أبو لميعة الهاني ) إلى مريثة بدائعية ، مقامها : ( كيف يسوغ ... ، وكيف يتجرأ) ، وبحرها من (مخبول الهَزَر) لينعى علي أنني قلت ( ولا يعنى ابن جرير عند هذه النقطة بالتدليل على أن ما لم يخل من الحوادث ... ) ، وراح يقول ما نقلته عنه سابقا !!
أبا لُمَيعة ؛ قد والله مللت من تفهيمك !! واستحييت من كثرة تكذيبك ؛ لكن ما حيلتي ، وأنت تأبى إلا ذاك ؟!!
فانظر إلى قولك : (فكيف يسوغ للطالب القول بعد هذا بأن الطبري لا يُعنَى عند هذه النقطة بالتدليل على أن ما لم يخل من الحوادث أو يسبقها فإنه محدَث؟ مع أن الإمام الطبري ينص نصا صريحا واضحا أن ما لم يخل من الحدث محدَثٌ؟ فهذا قلب تام لنتيجة الإمام الطبري التي صرّح بها ) !!
فما هذا يا عبد الله ، بالله يا عقلاء البشر ، أليس هذا أشبه شيء بالذي قال :
كأننا والماء من حولنا . . . قوم جلوس حولهم ماء
نعم ، أيها الأغتم ، أعلم أنه نص صراحة .. ، لكن هل هذا النص هو دليل نفسه ؟!!
أي قلب للنتائج ، يا عبد الله ، هذا الذي تدعيه ، عافاك الله ؟!!
لله در أبي الطيب المتنبي :
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً ... وآفتهُ من الفهم السقيمِ
ولكن تأخذُ الآذانُ منه ... على قدر القرائحِ والفهومِ
أصدقك : إنني مخطئ في تعبي معك ، وأنت مرتااااااااح !!
لقد ذكرتني بقول الإمام أحمد : إن كان هذا عقلك .. فقد استرحت !!
كان عليك ، يا هذا ، أن تقول لي : دليله على هذه القضية هو قوله الذي أشرتَ إليه : ( إذ كان من المحال أن يكون شيء يحدث شيئا ، إلا ومحدثه قبله ) !! [ تاريخ الطبري (1/28) ] .
لأقول لك : نعم على هذا اقتصر الطبري ، وهذا هو الذي قلته أنا في بحثي عنه ؛ لكنه غير كاف في هذا المقام ، ويكفيني أن أقول لك : إن من يعتني بهذا الدليل لا يقف عند هذا الحد ؛ لأن للمخالف أن يقول : القبلية والبعدية هي من الأمور النسبية ، وليست من الأمور الذاتية ؛ فإذا قلت ـ مثلا ـ الأب قبل الابن ، لم يمنع ذلك من أن أقول : والجد قبل الأب .. ، وإذا قلت : النجار (الصانع ) قبل الكرسي ، لم يمنع أن يكون قبل النجار والده ، أو نجار آخر ... ، وهكذا .
وإذا ؛ فهذا الدليل بمجرده ، لا يمنع من أن يكون قبل هذا الشيء المحدَث ، محدث آخر ، وهكذا ، وهذا هو التسلسل في الآثار والمعلولات ، ثم إنه لا يمنع أن يكون قبل الصانع المحدِث ، صانع آخر ، وهكذا ، وهذا هو التسلسل في العلل !!
ولأجل قصور هذه الصورة ، قال إمام الحرمين ، أبو المعالي الجويني ، رحمه الله :
( والأصل الرابع يشتمل على إيضاح استحالة حوادث لا أول لها ، والاعتناء بهذا الركن حتم ؛ فإن إثبات الغرض منه يزعزع جملة مذاهب الملحدة ... ) [ الإرشاد (46) ط بيروت ] .
وهذا الأصل هو الحلقة المفقودة في استدلال الطبري هنا ، يا صاحبي ؛ أفهمت ؟!!
وحينئذ ، فقولك الذي ذكرته آنفا : ( وماذا لو يعلم البعض أن الطبري يقول ... ، وبأن تسلسل الحوادث بلا أول في جانب الأزل أمر مستحيل باطل ... ، النتيجة بلا شك عند ذلك البعض: إما التكذيب، وإما اتهام ذلك الإمام ) ،
أقول : كان ينبغي أن تضع هذا القول هنا ، وتقول لي : إن الطبري قرر ذلك !!
لأقول لك : لم يذكره هنا ، ولم يُحِل عليه ، وهذا يكفيني في إبداء ملاحظتي !!
ثم أزيدك : لقد خيرتني ـ وأمثالي من المضلَّلين عن حقيقة الطبري ـ بين التكذيب ، أو اتهام الإمام .. !!
فأقول لك : وأنا أختار الأول ، فأكذبك في نقلك عن الطبري ؛ فقد ثبت كذبك عليه مرارا ، ومرارا ؛ فما الذي يمنع ـ هذه المرة ـ أن تكون كاذبا أيضا ؟ فأين قال ذلك ؟
وأزيدك ـ أيضا ـ فأقول : أتحداك أن تذكر لي موضعا واحدا من تراثه كله ، ذكر ذلك على وجه التقرير له ، أو ارتضائه ؛ فـ : (هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) !!
خامسا : فإذا كان الدليل بصورته المذكورة ، لم يقطع شبه الملحدة ، وشغب الشاغبين ، فإن الصورة الكاملة التي ذكرتموها في كتبكم الكلامية ، ليست بأحسن حالا ؛ فلا الإسلامَ نصرتم ، ولا العدو كسرتم ، ولا هي أظفرتكم بمطلوب ، ولا أنجتكم من مرهوب ؛ وأوقعتم أنفسكم في مهاوي ما لها من قرار ، وكنتم كالمستجير من الرمضاء بالنار !!
ولهذا يقول أبو الوليد ابن رشد ، الفيلسوف :
( وأما الأشعرية فإنهم رأوا أن التصديق بوجود الله تبارك وتعالى لا يكون إلا بالعقل ، لكن سلكوا في ذلك طرقا ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله عليها ، ودعا الناس إلى الإيمان من قِبَلِها ...
وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ ، وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد ، طريقة معتاصة ، تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل ، فضلا عن الجمهور ، ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية ، ولا مفضية بيقين إلى وجود البارئ ... ) ، فلينظر من شاء كلامه بطوله ، فقد فصل أوجه انتقاد هذا الدليل [ مناهج الأدلة (135) وما بعدها ] .
أعلم ـ يا هذا ـ أن خلقا من خلق الله سوف يقول لرب العالمين جل جلاله يوم القيامة : ( يَا رَبِّ ؛ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنْ الظُّلْمِ ؟ فيَقُولُ : بَلَى !! فَيَقُولُ : فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي !! ) [ صحيح مسلم (2969) ] ، ولأجل ذلك لم أنقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية حرفا واحدا في هذا المقام ؛ لأني أعلم عداوة القوم له ؛ فعلك أن تقول : وابن رشد ، أيضا !!
فدع هذا ، يا صاحبي ، وأظنك تعرف أوحد المتكلمين ، وسيف الدين ، وخاتمة المحققين ، هكذا في وصف الواصفين ، وتراجم المترجمين ؛ أعني به : الآمدي ؟!
أتجيزه شاهدا ، يا صاحبي ؟!
فاسمع له يقول :
( وهذه الطريقة ، وإن أمكن فيها بيان وجود الأعراض ، وكونها زائدة على الجواهر ، وإبطال القول بالكمون والانتقال ؛ فقد يصعب بيان امتناع عرو كل جوهر عنها ؛ بل وقد يصعب بيان حدث كل ما لا يعرى الجوهر عنه في وجوده من الحركات والسكنات .
وحدوث الحركة ، وإن كان مسلما ، فليس يلزم منه حدث ما بطل به من السكون ؛ بل من الجائز أن يقول الخصم بقدمه ، وأنه لا أول له ، وفواته لا يدل على حدثه ، وإن دل على أنه لم يكن له ذلك لذاته ....
وليس يلزم من كونه متعلق الإرادة ، ومقتضى القدرة أن يكون حادثا ، كما لا يلزم أن يكون قديما ، بل القدم والحدث إنما يعرض لما هو متعلق الإرادة والقدرة بأمر خارج عنهما !!
هذا كله ، إن سلم كون السكون أمرا وجوديا ، ومعنى حقيقيا .
وإلا ، فإن سلك القول بكونه أمرا سلبيا ، ومعلوما عدميا ؛ فإنه لا معنى له إلا عدم الحركة ، ولا يلزم من القول بإبطاله بوجود الحركة ، أن يكون هو حادثا ؛ بمعنى أن له أولا ؛ إذ الأولية لا تتحقق إلا بعد الوجود .
وإن سلك ذلك ، لزم منه القول بسبق العدم على الوجود ، والوجود على العدم ، إلى ما لا يتناهى ؛ وفيه القول بقدم الحادث قطعا ، وعند ذلك : فالطريقة تكون منصوبة لنقيض المأخوذ!!
... وليس المقصود غير الإنصاف ، وتجنب طريق الاعتساف ، وإلا لما اهتممت بالكشف عن هذه العورات ، ولا الإبانة عن هذه الغمرات ، وهو إنما يعرفه الفظن الثبت الواعي ، لا الجاهل العنيد المتعامي !!! ) انتهى .
[ غاية المرام في علم الكلام ، للآمدي (262-263) ت:د.الشافعي ، ط الثانية ، القاهرة (1431هـ) ] .
ولهذا يقول إمامكم المحقق المتأخر ، المتحرر : الإمام محمد عبده :
( وأنا أقول ـ على استدلال القوم على إثبات القديم الصانع ـ إنهم اعتمدوا فيه على بطلان التسلسل ،
وليس لهم برهان على بطلانه إلا ما سبق : من التطبيق ، والتضايف ، وما يشبههما .
وقد علمت في بحث الحدوث ما عليهما .
فإلى الآن :لم يقم دليل على بطلانه !!
فبقي فرض التسلسل في إثبات الواجب محتملا ، لم يبطل ؛ اللهم إلا بدليل جديد ؛
ولا يليق بالعقلاء انتظاره ممن لا يقدر عليه !!) .
[ حاشيته على شرح الدواني على العضدية (1/250-251) ] .
سادسا : ومن تتمة ذلك ، أسألك يا صاحبي عن قولك ، وأنت تُعرِّض بي وبأمثالي ممن لا يعرفون مذهب ابن جرير : ( وبأن الله تعالى لم يزل قادرا في الأزل مع عدم العالم، وغير ذلك مما تنبني عليه أصول وأصول ) !!
شكرا لك يا صاحبي ، وأنا ، وكل موحد ، يقول بأن الله تعالى لم يزل قادرا على كل شيء ، وهذه كلية محفوظة ، لم يخصها شيء ، خلافا لمن زعم منكم ـ أو من غيركم ـ بأن العقل قد خصها !!
لكني دعني أداعبك بعض الشيء ، إن كنت تقبل مني شيئا من ذاك :
هل أنت متأكد حقا من أنك تقول ذلك : أن الله تعالى لم يزل قادرا على كل شيء ؟!
أرجوك ، لا تعرض عن الجواب لسهولته ، واعتبرنا في مقام الجد ، ودع ما قلت لك من أني أداعبك ؛ فأنا الآن جاد كل الجد ؟!
هل تقول بإن الله لم يزل على كل شيء قديرا ؟!
أعتقد أنك لن تفكر ، ولن تتردد : نعم ، بلا شك !!
حسنا يا صاحبي ، دعني أطرح عليك السؤال من الجهة المقابلة ، من طرفه الآخر :
أتقول إن خلق العالم لم يزل ممكنا ( لله ) ؟
أرجوك ، لا داعي للعجلة ، فأمامك وقت لكي تفكر في ذلك ، وبإمكانك أن تستريح قليلا ، أو طويلا ، وبإمكانك أن تبلع ريقك ، ومعه دلو ماء ، إن شئت !! وبإمكانك أن تستعين بصديق ، وبإمكانك أن تغلق الجهاز ، وتؤجل الجواب إلى غد !!
حسنا ؛ أنا أعلم أنك لن تقول : لا ، وإلا أبطلت جوابك الأول ، بأن الله لم يزل قادرا على كل شيء .
فأسألك عن اللحظة ( ودعنا نسميها اليوم ) ، أسالك عن اليوم الذي خلق الله فيه العالم ؛ أكان يمكن أن يخلقه قبل ذلك بـ ( يوم ) ؟
أنا أعلم أنك لن تقول : لا ؛ وإلا أبطلت جوابك الأول ، وجوابك الثاني .
فأعود وأسألك ، وهذا اليوم الثاني : أكان يمكن أن يخلق العالم قبله بيوم ..
وكلما أجبتني بنعم ، عدت فسألتك حتى نتعب .. ، وهذا هو القول بجواز تسلسل الحوادث ؛ أنه ما من لحظة خلق الله العالم فيها ، إلا ويجوز أن يخلقه الله قبلها ، وهكذا ، ليس هناك لحظة في الأزل كان الخلق ممتنعا على الله !!
وحنيئذ ، فقد بطل مذهبك في ( حوادث لا أول لها ) !!
وإن قلت : لم يكن ممكنا !!
قلت لك : دعنا من أنك بهذا قد أبطلت جوابك الأول ، وسوف أفترض أنا عدنا إلى رأس المسألة ، وأن هذا هو جوابك الأول ؛
ففي أي لحظة امتنع هذا الإمكان ؟
دعنا ، من تحديد اللحظة ، وافترض ما شئت من (الأيام) ، فهذا هدم لما قررته من أن الله كان قادرا في الأزل ، مع عدم العالم !!
فإن قال لك صديق متكايس : إن خلق العالم قبل الوقت الذي خلقه الله فيه كان محالا ؛ والمحال لا تتعلق به القدرة ، وفرحت بأن هذا لا يناقض ما قررتَه ؟!
قلت لك : حسنا يا صاحبي ، والمحال أيضا لا ينقلب ممكنا ، فكيف إذا وجد ؟!
فإن تبرعت ، وقلت لك : إنه لم يكن محالا للذات ؛ بل لأمر خارج عنه ، فلا مانع من أن يصير ممكنا ؟!
فسأسألك يا صاحبي : ما هذا الأمر الخارج الذي كان لأجله محالا ، والفرض أننا في حال العدم ؟
ثم أسألك يا صاح [ إن كنت لسه صاحي ] : وما الذي صيره ممكنا ، بعد أن لم يكن ممكنا؟!!
لم تجيبوا عن هذا يا صاحبي بشيء ينفعكم ولا يشفي عللكم ، ويستر عوارتكم ، على حد قول الآمدي ؛ فانظر ما قاله ابن رشد عليكم في ذلك في مناهج الأدلة (135-137) ، ولا أطيل عليك بنقله ، فإنك ـ على قاعدة من ذكرنا ـ لن تقبل من غيرك شاهدا ؛ فتعال بنا نعود إلى ما يقرره الشيخ محمد عبده :
( فأي مرجح لإرادة اللاأزلي ، دون الأزلي ؟ إن هذا إلا الترجيح بلا مرجح ، وإنه محال ؟
فإن قلت : إن نفس الإرادة هو المرجح .
قلت : هذا وهم ؛ فإن المختار ، لدى الاستواء ، يقع في الحيرة [ كذا قال ] ، حتى يبدو له المرجح .
ثم إني لا أطيل معك في هذا ، فإن لما أنت عليه من التمويه والانخداع للعادة في هذا المحل ، مجالا باطلا ) !! [ حاشيته على الدواني (1/62-63) ] .
ثم خذ هذه القصة ، أو المناظرة ، لفخركم ، وإمامكم عند إطلاق المتأخرين من المتكلمين؛ فخر الدين الرازي :
( لما ذهبت إلى سمرقند ....
فاذكر الدليل على فساد القول بحوادث لا أول لها .
فقال : الدليل عليه أنه لو لم يكن لها أول ، لكان قد دخل في الوجود ما لا نهاية له ، ودخول ما لا نهاية له في الوجود محال .
قلت : ما الذي عنيت بقولك : إنه لو كان لا أول للحوداث ، لزم دخول ما لا نهاية له في الوجود ؟ فإن عنيت أنه يلزم الحكم بدخول حادث قبل حادث ، لا إلى أول في الوجود ، فحينئذ يصير التالي عين المقدم ، ويصير كأنك قلت : لو كان حادثا مسبوقا بآخر ، لا إلى أول ، لزم أن يكون كل حادث مسبوقا بحادث آخر لا إلى أول ، وعلى هذا التقدير يصير التالي في هذه الشرطية عين المقدم ، وهو فاسد . وإن عنيت بقولك ... سوى ما ذكرنا ، فاذكره حتى نعرف أنه هل يلزم من ذلك المقدم هذا التالي ، أم لا ؟
فتغير وجه الرجل ، وقال : لا حاجة بنا إلى تفسير ، بل نقول : إن دخول ما لا نهاية له في الوجود محال ، على جميع التفسيرات ، والعلم بامنتاعه ضروري !!
فقلت : على تقدير أن يكون المراد من دخول ما لا نهاية له في الوجود ، هو كون كل واحد منهما مسبوقا بآخر ، لا إلى أول ، كان ادعاء دخول ما لا نهاية له في الوجود ، عبارة عن ادعاء أنه يمتنع أن يكون كل واحد منهما مسبوقا بآخر ، لا إلى أول ؛ فهذا القضية إن كانت معلومة بالبداهة ، فكيف شرعت في إقامة البرهان على إبطالها ؟ لأن البديهيات غنية عن الدليل . وإن كانت غير بديهية ، افتقرت إلى الدليل . ولما لم يكن لقولك : يلزم دخول ما لا نهاية له في الوجود ، إلا مجرد كون كل واحد منهما مسبوقا بآخر ، لا إلى أول ، فحينئذ ، يلزمك كون الدليل عين المدلول ، وذلك باطل ، لأن بمجرد تغير العبارة لا يحصل المطلوب .
ولما انتهى الكلام إلى هذا المقام ، وقف ، ولم يذكر شيئا آخر البتة .
ثم قلت : وههنا مقام آخر ، أهم مما ذكرناه ، وهو أن نبحث عن كيفية محل النزاع .
وذلك لأنا نقول : إما أن ندعي أن لإمكان حدوث الحوادث أولا وبداية ، وإما أن ندعي أنه لا أول لإمكان حدوثها ، ولا بداية لصحة وجودها .
فإن قلنا إن لإمكان حدوثها أولا وبداية ، فقبل ذلك المبدأ ، لزم أن يكون إما واجبا لذاته ، أو ممتنعا لذاته ثم انقلب ممكنا لذاته ؛ فإن كان واجبا لذاته ، لزم انقلاب الشيء من الامتناع الذاتي ، إلى الإمكان الذاتي ، أو الوجوب الذاتي ، وحينئذ ينسد باب إثبات العلم بالصانع .
وإن قلنا : إنه ليس لإمكان حدوث الحوادث أول ، فحينئذ ، قد سلمت أنها ممكنة الحصول في الأزل ، فكيف تدعي مع هذا أنها ممتنعة الحصول في الأزل ؟ فإن هذا يقتضي الجمع بين النقيضين ، وذلك لا يقوله عاقل !! ....
فقال : العالم قبل دخوله في الوجود عدم محض ، ونفي صرف ، والعدم المحض ، والنفي الصرف ، يمتنع الحكم عليه بأن إمكانه ينتهي إلى أول ، أو لا ينتهي إلى أول ؛ فإذا امتنع هذا الحكم عليه ، فقد سقط السؤال .
فقلت : هذا الكلام مدفوع من وجهين :
الأول : أنك تقول : كونه معدوما يمنع من صحة الحكم عليه ، وهذا الكلام متناقض ؛ لأن قولك : إنه يمتنع الحكم عليه ، يفيد الحكم عليه بهذا الامتناع ، والحكم عليه يوجب الجمع بين النقيضين ، وأنه محال . [يعني: أن الحكم عليه ، بامتناع الحكم عليه : تناقض محال ] .
الوجه الثاني : هب أن العالم معدوم فيمتنع الحكم عليه ؛ أليس أن قدرة الله تعالى موجودة في الأزل ، ولا شك أن الموجود يصح الحكم عليه ، فنقول : صحة تأثير قدرة الله تعالى في إيجاد الممكنات : إما أن يكون لها أول ، وإما ألا يكون لها أول . وحينئذ ، يعود التقسيم بتمامه.
وعند هذا بقي الرجل ساكتا ، عاجزا عن الكلام !!)
[مناظرات الرازي في بلاد ماوراء النهر ، ت:د.فتح الله خليف (60-63) ] .
سابعا : هب أنا تركنا ذلك كله ، فقصارى ما تصنعون بهذا الدليل ، أن تدلوا على حدوث ما لا ينفك عن الأعراض ، لكن من هذا العالم ؛ ولهذا قال الطبري في صياغته للدليل : ( وإذا كان الأمر فيما في العالم من شيء كذلك ، وكان حكم ما لم يشاهد ، وما هو من جنس ما شاهدنا : في معنى جسم ، أو قائم بجسم ، وكان ما لم يخل من الحدث لا شك أنه محدث ... ) [ تاريخ الطبري (1/28) ] .
فهذا صريح في أن الطبري يتحدث عما في هذا العالم فقط ، وقاس ما لم يشاهد من هذا العالم ، على ما شاهدنا ؛ لأنه من جنسه ، وهو لا يخرج عن أن يكون جسما ، أو قائما بجسم .
فتبين بذلك أن صياغة الطبري هنا لا تنطبق على عالم الغيب ، أو هكذا ينبغي ؛ وإلا لزمك أن تقول إن الطبري يصف الله ، جل جلاله ، بأنه من جنس ما شاهدنا ، أو أنه جسم ... ، فتأمل يا صاحبي ، أو لا تتأمل إن شئت ، فهو بين .
هب أن مراد الطبري هو مرادكم ، وأن ما لم يخل من الحوادث ، قضية كلية تريدون بها عالم الغيب أيضا ؛ فعاد أمركم إلى قياس الغائب على الشاهد ، وهو دليل خطابي ـ على حد تعبير ابن رشد ـ إلا حيث تكون النقلة [يعني : من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ] معقولة بنفسها ، وذلك عند التيقن باستواء طبيعة الشاهد والغائب ، وهيهات ، هيهات !!
[ انظر : مناهج الأدلة (141) ] .
ولذلك يقول سيف الدين الآمدي :
(وليس يلزم من جواز تبدل [ يعني: تعاقب ] الاجتماع والافتراق على بعض الجواهر السفلية ، مثله في الجواهر العلوية ، ولا كذلك بالعكس ، لما اشتركا فيه من الجوهرية والجسمية ، فإنه لا مانع من أن يكون ذلك لها باعتبار خصوصياتها ، ولما وقع به الافتراق بين ذواتها .
وإن أمكن بيان ذلك ، فهو مما يطول ، ويصعب تحقيقه جدا على أرباب العقول ) .
[ غاية المرام (249) ] .
وهذا الإبطال على سبيل التنزل وقبول أنكم تحكمون في الأمور العلوية المتعلقة بالله جل جلاله : بـ (الجوهرية) و (الجمسية) ، وسوف تكفون عن نبز غيركم بذلك !!
ثامنا : سلمنا لك يا صاحبي أنكم تقدرون على نقل حكم ذلك الشاهد إلى الغائب ، وبإمكانكم تحقيق ذلك المقام العسر ؛ فما أغبن صفقتكم ، وأعظم خسارتكم ، وما أعظم نقضكم لمقالاتكم أنكاثا ، بعدما ضيعتم الزمان في إحكامها ، زعمتم ، كفعل الحمقاء التي ضرب ربنا لها مثلا !!
وخذ مثالا على ذلك يا صاحبي :
لقد ادعيت على الإمام الطبري أنه ( يعتقد أن الله تعالى لا مماس للعالم ولا مباين له؟ اي ليس داخل العالم ولا خارجه ؛ لأنه ليس كمثله شيء فلا يقبل ما تقبله الأشياء التي ليست مثله بحال من الأحوال؟؟) ،
وهنا نقول لك :
وكذلك هنا : الله ليس كمثله شيء ، فلا يقبل ما تقبله الأشياء التي ليست مثله ، من أنه إذا حلت به الحوادث ، ولم ينفك عنها : كان حادثا ؛ بل تحله الحوادث ، ولا ينفك عنها ، ولا يكون حادثا .
وقس على ذلك : قولكم في الرؤية ، من غير إثبات جهة ، وإثبات الكلام من غير حرف ولا صوت ...
فإما أن تطرد الإلحاق في جميع مواطنك ، وتهدم عشرات من أصولك ، وإما أن تنفي ذلك الإلحاق ؛ وإني أعيذك بالله أن تكون من الذين يحلونه عاما ، ويحرمونه عاما !!
وتأمل هذه المناظرة من صاحبكم : فخر الدين الرازي :
( مذهب أهل ما وراء النهر [ يعني : الماتريدية ] أن الله تعالى متكلم بكلام قديم قائم بذاته ، منزه عن الحرف والصوت ، كما هو مذهب الأشعري ؛ إلا أن الفرق أن الأشعري يقول : ذلك الكلام يصح أن يكون مسموعا . وأما أبو منصور الماتريدي وأتباعه من أهل ما وراء النهر ، فإنهم يقولون : إنه يمتنع أن يكون ذلك الكلام مسموعا ، فتكلموا معي في المسألة .
فقلت لهم : إن المعتزلة استدلوا على امتناع الرؤية ، فقالوا : ثبت بالدليل أن الله تعالى ليس بجسم ، وليس مختصا بالجهة والحيز ، وليس له شكل ، ولا لون ؛ وكل موجود كذلك يمتنع رؤيته ؟
فقلتم في الجواب عنه : لم قلتم إن الموجود الموصوف بهذه الصفات امتنع رؤيته ، وبأي دليل عرفتم هذا الامتناع ؟
وأنا أقول : كما أنه يستبعد سماع كلام ، لا يكون حرفا ، ولا صوتا ؛ فكذلك يستبعد رؤية موجود لا يكون جسما ، ولا حاصلا في جهة معينة . فإن كان الاستبعاد معتبرا ، فليكن معتبرا في الموضعين ، وحينئذ نلزمكم أن تحكموا بامتناع رؤيته ، وإن كان باطلا في الموضعين ، فحينئذ نلزمكم أن تحكموا بأنه لا يمتنع سماع كلام لا يكون حرفا ولا صوتا ، فانقطعوا بالكلية ، وعجزوا عن الفرق . والله أعلم ) [مناظرات الرازي (53) ] .
ونحن نقول : إن الاستبعاد معتبر ، وإن كلامهم في الموضعين باطل !!
وأما إن تركت الجد ، وعدت إلى حالك الأولى من المسخرة ، والهزل ، فقلت : دليل العقل الذي حكم بامتناع حلول الحوادث ، وقاس الغائب على الشاهد ، ليس هو الذي حكم بأنه لا مماس ولا ممازج ، ولا ... !!
فقد وقف الإمام محمد عبده على مثل هذه المساخر ، والحيل ، والنارينجات ، فقال :
(( والعجب لرجل يدعي الفضل ، ثم يفرق بين :
علم المعتزلة بحسن الأفعال وقبحها ، وعلم الماتريدية بذلك !!
بأن علم العقل عند الماتريدية : ليس صادرا عنه [ يعني عن العقل ] مباشرة ولا توليدا ؛ بل عن الله تعالى (؟؟؟!!!) ؛ فمن ثم صح أن يجعل حكما على الله ؛ لأن الله تعالى هو الحاكم على نفسه حينئذ .
وعند المعتزلة : هو صادر عنه مباشرة ، فكان حكمه حكما لغير الله ، على الله .
وقد يستدل على ذلك بموافقة الماتريدية والأشاعرة في أنه لا حاكم على الله ، وموافقتهم المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين !! ويقول ....
وبالجملة : فهذا كلام ناشيء عن عدم التأمل رأسا ؛ بل عدم الديانة !!) .
[حاشية الشيخ محمد عبده على شرح الدواني للعضدية (2/544-545)] .
وعودا على بدء ، أبا عبيدة الهاني ، وقد مل القلم ، وآن لنا نضع لأْمة الجدال ؛ فلقد تركت أمورا أخرى لم أعلق عليها ، ليست في أصل البحث بيننا ، وتركت أصل مذهبك ، فلم أعرض له إلا بمقدار ما أثرته من مسائل ، لأن المقام ليس مقامه ، ولـ (حاجة في نفس يعقوب ) !!
وذِي خَطَلٍ في القَوْل يَحْسِبُ أَنَّهُ ... مُصِيبٌ فما يُلْمِمْ به فهو قائلُهْ
عَبَأْتَ له حلْماً وأَكْرَمْتَ غَيْرَه ... وأَعْرَضْتَ عنه وهو باد مَقَاتِلُهْ
فإن رأيت يا صاحبي أني قد دللتك على بعض خطئك ، فدونك يا صاحبي بحثك الموعود ؛ فتيمم به التنور ، واستدفئ به في ليالي الشتاء ؛ فقد أظلنا زمانه !!
وإن أبيت إلا أن تركب متن اللجاج، فما غَناء التَّعَنِّي بزجْر ، ولات حين مُزْدَجر ، ورميٍ عن قوس ليس لها وتر !!
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً ... ولكن لا حياةَ لمن تنادي
ولو ناراً نفختَ بها أضاءتْ ... ولكن أنتَ تنفخُ في (الزبادي) !!
فامض لما شئت من شأنك ، وأجلب علينا بخليك ورجلك ، و:
سَوْفَ تَرَىَ إذا انجلى الغُبَارُ ... أَفَرَسٌ تَحْتَكَ أَمْ حِمَارُ !!
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .