دلت الآية على أن زواج المسلم بالمراة المشركة كالوثنية و البوذية و الملحدة لا يصح . أما المرأة الكتابية ( اليهودية و النصرانية ) فقد أباح الشرع التزوج بها لقول الله تعالى " و المحصنات من المؤمنات و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين " ( المائدة 5 )
و الفرق بين المشركة والكتابية هو أن المشركة لا تؤمن بدين أصلا أما الكتابية فتشترك مع المسلم بالإيمان بالله و اليوم الآخر و بوجوب فعل الخير و الفضائل و تجنب الشر و الرذائل .
و ليس هناك تعارض بين آية البقرة و آية المائدة لأن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى " ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب و لا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم " البقرة 105 - " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين " البينة1 . ففرق بينهم في اللفظ و العطف يقتضي المغايرة .
و لكن ..
ذهب بعضهم إلى أن لفظ " المشركات " يعم كل مشركة سواء كانت وثنية أو يهودية أو نصرانية . فقد روي عن ابن عباس أنه قال " إن الآية عامة في الوثنيات و المجوسيات و الكتابيات و كل من على غير الإسلام حرام . فعلى هذا تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة . و قد جاء في الموطأ عن ابن عمر أنه قال : و لا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة " ربها عيسى " .
و إليك ما جاء في " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي:
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية فقالت طائفة : حرم الله نكاح المشركات في سورة ( البقرة ) ثم نسخ من هذه الجملة نساء أهل الكتاب فأحلهن في سورة ( المائدة ) وروي هذا القول عن ابن عباس وبه قال مالك بن أنس و سفيان بن سعيد الثوري و عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي وقال قتادة و سعيد بن جبير : لفظ الآية العموم في كل كافرة والمراد بها الخصوص في الكتابيات وبينت الخصوص آية ( المائدة ) ولم يتناول العموم قط الكتابيات وهذا أحد قولي الشافعي وعلى القول الأول يتناولهن العموم ثم نسخت آية ( المائدة ) بعض العموم وهذا مذهب مالك رحمه الله ذكره ابن حبيب وقال : ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله تعالى مستقل مذموم
وقال إسحاق بن إبراهيم الحربي : ذهب قوم فجعلوا الآية التي في ( البقرة ) هي الناسخة والتي في ( المائدة ) هي المنسوخة فحرموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير كتابية قال النحاس : ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده ما حدثناه محمد بن ريان قال : حدثنا محمد بن رمح قال : حدثنا الليث عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال : حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله ! قال النحاس : وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة لأنه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير و الحسن و مجاهد و طاوس و عكرمة و الشعبي و الضحاك وفقهاء الأمصار عليه وأيضا فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة ( البقرة ) ناسخة للآية التي في سورة ( المائدة ) لأن ( البقرة ) من أول ما نزل بالمدينة و ( المائدة ) من آخر ما نزل وإنما الآخر ينسخ الأول وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه لأن ابن عمر رحمه الله كان رجلا متوقفا فلما سمع الآيتين في واحدة التحليل وفي أخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل
وذكر ابن عطية وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه : إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات وكل من على غير الإسلام حرام فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في ( المائدة ) وينظر إلى هذا قول ابن عمر في الموطأ : ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى وروي عن عمر : أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا : نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب فقال : لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما ! ولكن أفرق بينكما صغرة قماة قال ابن عطية : وهذا لا يستند جيدا وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن وروي عن ابن عباس نحو هذا وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر بن الخطاب ومن ذكر من الصحابة والتابعين في قول النحاس وقال في آخر كلامه ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك ....اهـــ
سميت سورة الإسراء بسورة بني إسرائيل في عهد الصحابة فعن عائشة رضي الله عنها " قالت " كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل"( جامع الترمذي في " أبواب الدعاء "). وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم : " إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي " .
يقول ابن عاشور في سبب تسميتها سورة بني إسرائيل : " و وجه ذلك أنها ذكر فيها من أحوال بني إسرائيل ما لم يذكر في غيرها . وهو استيلاء قوم أولى بأس " الآشوريين " عليهم ثم استيلاء قوم آخرين وهم " الروم " عليهم وتسمى أيضا سورة ( سبحان ) لأنها افتتحت بهذه الكلمة ."
أما عن العلاقة بين الإسراء و بني إسرائيل فقد تناولها المفسرون بالتحليل فذكروا عدة نقاط منها :
1- ذكر فيها الإسراء إلى المسجد الأقصى تنويها بالمسجد الأقصى و تذكيرا بحرمته .
يقول الرازي في تفسيره : والمسجد الأقصى هو طرف الرحلة. والمسجد الأقصى هو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل ثم أخرجهم منها. فسيرة موسى وبني إسرائيل تجيء هنا في مكانها المناسب من سياق السورة في الآيات التالية:
{ وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلاً؛ ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكورا. وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً. فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً. ثم رددنا لكم الكرة عليهم، وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً. إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها. فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيراً. عسى ربكم أن يرحمكم، وإن عدتم عدنا، وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً }..
وهذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل لا تذكر في القرآن إلا في هذه السورة. وهي تتضمن نهاية بني إسرائيل التي صاروا إليها؛ ودالت دولتهم بها. وتكشف عن العلاقة المباشرة بين مصارع الأمم وفشو الفساد فيها، وفاقاً لسنة الله .
2- في ذلك رمز إلى أن إعادة بناء المسجد الأقصى ستكون على يد أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
و أنقل هنا لطيفة لابن عاشور : و في هذا الوصف بصيغة التفضيل باعتبار أصل وضعها معجزة خفية من معجزات القرآن إيماء إلى أنه سيكون بين المسجدين مسجد عظيم هو مسجد طيبة الذي هو قصي عن المسجد الحرام فيكون مسجد بيت المقدس أقصى منه حينئذ .فتكون الآية مشيرة إلى جميع المساجد الثلاثة المفضلة في الإسلام على جميع المساجد الإسلامية والتي بينها قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي " ( أحمد 11755 )
3- المسجد الأقصى لم يكن آنذاك مسجدا لكن هذا إشارة إلى أنه سيكون مسجدا .
4- الإيماء إلى أن الله تعالى جعل هذا الإسراء رمزا إلى أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ستهيمن على سائر الشرائع و تختمها .
يقول الرازي : والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إلى محمد خاتم النبيين ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعاً. وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعاً. فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان؛ وتشمل آماداً وآفاقاً أوسع من الزمان والمكان؛ وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى.
5- كل أنبياء بني إسرائيل صلوا خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم و في هذا إيماء إلى أن النبوة انتقلت من بني إسرائيل إلى هذه الأمة المحمدية و التي أصبحت رافعة راية التوحيد وهي التي عليها البلاغ ...
6- الحكمة من إسرائه من بيت المقدس دون مكة لأنه محشر الخلائق فيطؤه بقدمه ليسهل على أمته يوم القيامة وقوفهم ببركة أثر قدمه أو لأنه مجمع أرواح الأنبياء فأراد الله أن يشرفهم بزيارته صلى الله عليه وسلم أو أسوى به منه ليشاهد من أحواله و صفاته ما يخبر به كفار مكة صبيحة تلك الليلة فيكون إخباره بذلك مطابقا لما رأوا و شاهدوا و دليلا على صدقه في الإسراء .( فتح الرحمن -الأنصاري )
7 - سر الربط بين المسجدين (من كتاب "حقائق قرآنية حول القضية الفلسطينية" تأليف : د.صلاح الخالدي ):
ربطت سورة الإسراء ربطاً دقيقاً بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهناك سر بديع لطيف للربط بين المسجدين، فمن بعض حِكم هذا الربط :
أ - المسجد الأقصى وما حوله شهد وجود رسالات سابقة، منها اليهودية والنصرانية، كان أصحابها هم الخلفاء على الناس، والأمناء على الدين والإيمان، والوارثين للأرض المباركة. والمسجد الحرام شهد بداية الرسالة الجديدة الخاتمة، وولادة الأمة الإسلامية أمة الخلافة والوراثة والأمانة. فبما أن الأمة الجديدة تقيم حول المسجد الحرام، فلا بد لها كي تحقق خلافتها وأمانتها على البشرية من أن تتملك ما حول المسجد الأقصى، وأن ترثه هي من الذين يقيمون حوله.
ب - أن السورة تريد من المسلمين أن يُحسنوا النظر للمسجد الأقصى وما حوله فهو مبارك ومقدس كبركة وقدسية المسجد الحرام وما حوله.
ج - تحذير المسلمين من المؤامرات المعادية ضد المسجدين، ومن أطماع الأعداء الكافرين في المسجدين، وأن الخطر الذي يتهدد المسجد الأقصى، هو الخطر الذي يتهدد المسجد الحرام. فلما أخذ الصليبيون الأقصى وما حوله، واستقروا فيه، توجهت أنظارهم وبرامجهم ومطامعهم نحو المسجد النبوي في المدينة المنورة، والمسجد الحرام في مكة المكرمة، فقام " أرناط ، ملك الكرك الصليبي، بعدة محاولات لاحتلال بلاد الحجاز، كادت تنجح لولا أن الله هيأ لهذه الأمة صلاح الدين الأيوبي.
د - أن السورة تقدم للمسلمين المستضعفين في مكة المحاربين هناك بشرى ربانية، بالفرج والنصر والتمكين، فستنتهي تلك المرحلة الحرجة التي يعيشونها في مكة، وسيكتب الله لهم التمكين، فيفتحون البلاد، ويصلون للمسجد الأقصى والأرض المباركة، متابعين خطى رسولهم صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، ويفتحون تلك البلاد، ويقيمون عليها حكم الله، ويعيدون تشييد المسجد الأقصى وبناءه. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان ممهداً لفتح بلاد الشام، وكان إسراؤه إلى المسجد الأقصى إرهاصاً ربانياً بفتح المسلمين الحقيقي القادم لهذه الأرض.
أما المعراج فقد وقع ذكره في سورة النجم و لم يذكر في سورة الإسراء و ذلك لــ:
1- تعجيز المشركين بحادثة الإسراء فقد كانت الرحلة من مكة إلى بيت المقدس تستمر شهرا كاملا و هم يعرفون أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يذهب إليها قط لذلك أنكروا " الحادثة الأرضية" و لم يستطيعوا إنكار " المعراج ".
2- تخصيص الإسراء دون المعراج في هذه السورة ( بني إسرائيل ) للتأكيد على علاقة الإسلام ( مكة ) بالشرائع السابقة ( القدس) و هيمنته عليها .