تفصيل مبسط لمشكلة خلق القرآن يساعد على فهمها في سياقها التاريخي والعقدي
تفصيل مبسط لمشكلة خلق القرآن يساعد على فهمها في سياقها التاريخي والعقدي
أشكرك أخي الأستاذ شايب على هذا الموضوع.فهذا الموضوع قديم يتجدد وتحليله وبيان الصواب فيه مهم من نواح كثيرة. في الواقع هذه القصص التي توردها كتب الأدب المتعاطفة مع المعتزلة قد تكون مصطنعة فما ذكرتموه في التعليل صحيح وقد استحثني موضوعكم أن أقدم تفصيلا مبسطا لفهم قضية خلق القرآن التي لها ثلاث جوانب لا يمكن فهمها بدونها، وأعني بقولي لا يمكن فهمها بدونها أي لا يمكن مقاربتها في سياقها التاريخي والدلالي مع إنصاف جميع الأطراف إلا بها وهي:
1. أن "مخلوق" تعني محدث أي غير أزلي ولنطلق عليه المعنى(أ)
2. أن "مخلوق" تعني تنزيه الله عن التغير أي عن التنفس والكلام والنطق فخلق القرآن في قلب عبده، ولنطلق عليه المعنى(ب)
3. التوظيف السياسي لمحنة خلق القرآن التي حاول الأستاذ محمد عابد الجابري إلقاء الضوء عليها في كتابه "المثقفون في الحضارة العربية محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد" وقال إن السبب السياسي ما زال لُغزا من الألغاز وقد حاول استكشافه. ولنسمّه المعنى(ج).
فلابدّ لإزالة الأتربة عن معنى "خلق القرآن" من تكوين تصور عند المثقف المسلم المعاصر من الأمور الثلاثة للقضية.
ويبدو لي أن ما أشيع عن ابن كُلاّب الذي عناه المعرّي بقوله"
استغفر الله واترك ما حكى لهمُ . أبو الهذيلِ وما قال ابن كُلّابِ
هو جواب ضمني من ابن كلاب (إن صح ذلك عنه من الزعم ان كلام الله هو الله) أنه قد انزلق إلى هذا القول -وهو قطعا بدعة مقابلة- جواباً على ما شاع من حوار بين أبي العتاهية وغيره حين سأل أبا العتاهية آلقرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ فيقول أبو العتاهية أتسألني عن الله أم عن غير الله؟ فيجيب سائله: "عن غير الله" ثم يكرر سؤاله فيكرر سؤاله وفي الثالثة قال لم تجبنيآلقرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ فقال : قد أجبتك ولكنك حمار! فابو العتاهية الشاعر كان يعني أن ما سوى الله تعالى فمخلوق. فيبدو أن ابن كلاب أراد ان يقطع الطريق على من يحاج بهذه الحجة فقال : كلام الله هو الله.
فالمعنى أ. أي أن مخلوق تعني محدث معنى صحيح لكن التعبير عنه بمخلوق تعبير مبتدع فلماذا نصف المحدث بأنه مخلوق؟ وقد انتصر من علماء أهل السنة لكون القرآن محدث شيخ الإلام ابن تيمية والشيخ ابن عثيمين. ولا يجوز أن يقال إن المعتزلة حين قالوا بأن القرآن مخلوق يعنون أنه محدث فقط فقد كان المعنى ب من مقتضيات مذهبهم أيضاً لأنهم يظنون أن تنزيه الله عن التغير والتنفس والنطق يستلزم القول بأن الله تعالى قد خلق القرآن في قلب نبيه صلى الله عليه وسلم ومذهب السلف خلاف هذا القول قطعا لأن ه "خوضٌ في كيف" ونحن حين نقول إن القرآن كلام الله عز وجل لا نخوض في كيف وننكر تعيين أي كيفية لأنها قطعا قول على الله تعالى بغير علم. وإن كان الحامل لمن قال بالمعنى ب هو التنزيه عن التغير كما يعتقد فنحن نرجو الله له المغفرة غير أنا نقطع بضلاله وجنوفه عن الصواب، فالتنزيه مطلب نبيل لا يتوصل إليه بالخوض بكيف ٍ خلقٍ او غيره من الكيفيات.
وتوجد ملاحظة هاهنا ينبغي ايرادها ذلك أن التعبير عن مذهب السلف في القرآن هو أنه "محدث [أي غير أزلي]لا يوصف بمخلوق" ولماذا كان ينبغي أن يعبر عن عقيدة السلف بذلك فللأسباب الآتية:
- أن التعبير عن العقيدة الصحيحة بأنه "غير مخلوق" قد حمل بعض الناس على التطرف في الجانب المقابل فذهب وهمهم إلى أن القرآن أزلي. كالقول المعزو الى ابن كلاب بأن كلام الله هو الله. وهذا ضلال قطعا لأن الله تعالى ليس "نصّا لغويّاً". وهذا التوهم من أسبابه فهم عبارة "غير مخلوق" على إطلاقها. اعني دون التمييز بين المعنيين أ وب.
- أن الذين قالوا بـ"ـخلق القرآن" بالمعنى ب وهم كل الجهمية ومن عبر من المعتزلة عن ذلك [وأظن أنا شخصيا أنه مذهب عموم المعتزلة] هو ضلال من حيث كونه خوضٌ في كيف والورع ومقتضى مذهب السلف أن لا يخوضوا في كيف
- فما حكم من قال بخلق القرآن وهل يصح تكفيره؟
من قال بالمعنى أ أي أنه يعني الإحداث فقط فهو مصيب في المعنى وقد ابتدع في التعبير فضلاله أقل.
ومن قال بالمعنى ب فقد ابتدع بالخوض في كيف ولا يسلم له أن التنزيه يقتضي ذلك فهذا تطرف في التنزيه يكاد يقود إلى التعطيل. ولكن هل هو مجتهد في فهم المتشابه؟ يصعب جدا صياغة قاعدة تجمع كل ما ذهب هذا المذهب ولكن يصعب في نفس الوقت الوصول بالنكير الى حد التكفير.
فكيف نحمل ما ورد من تكفير من قال بخلق القرآن من بعض علماء المئة الثالثة؟ نحمله إما على المبالغة في النكير لا يعنون به الخروج من الملة أو أنها منحولة على بعض العلماء الورعين ممن لم يكونوا يجرؤون على القول بلا علم في الأحكام فكيف يجزمون في شأن كهذا؟ أو على أنها تعبير سياسي ردا على المعنى ج، أو أن قائلها لم يكن يفهم مراد قوله.
وتفصيل المعنى جـ هو محاولة نظرية للوصول الى ما كان يدور في ذهن المامون حين حاكم بعض المحدثين وأجبرهم أن يقولوا بأن القرآن مخلوق وإشاعة انصاره أن هذا مقتضى التوحيد والتنزيه. فالنظرية خلاصتها أن الدولة كانت مشغولة بالرد على الفرس اللائذين بالإمامة وتقديس بعض العلويين وأنهم كانوا يقدمون الإيمان بخرافاتهم على العقل وهذا ما دعا المأمون الى إنشاء او إحياء "بيت الحكمة" والإنفاق على ترجمة كتب المنطق والفلسفة الإغريقية لإيجاد عقلانية (سلاح عقلي) يرد به الناس على الفرس الإمامية [الروافض]. ولأن الدولة لا تعلن أسرارها فقد عارض هذا الاتجاه علماء السنن والفقه والحديث فقالوا "كل الشر في علوم الأوائل" وعبروا عن ذلك شعرا فقال الشافعي:
كل العلوم سوى القرآن مشغلةٌ إلا الحديث وعلم الفقه في الدينِ
العلم ما كان فيه قال "حدثنا" وما سواه فوســــــواس الشياطين
فلما ظهرت معارضتهم لاتجاه الدولة الثقافي الذي كان أصلا من أجلهم قال الجاحظ "لولا المتكلمون لهلكت العوامّ ولولا المعتزلة لهلك المتكلمون"، اضطرت الدولة [أو اختارت] أن تختلق مشكلة فكرية تصفي بها خصومها "المزعجين" او تكبتهم فقامت بمشكلة اكراه الناس على القول بخلق القرآن واتهمت من لم يقل بها بأن توحيده مخدوش وظهرت تلك الأقاويل التي تزعم ان النصارى حين قالوا كلمة الله غير مخلوقة أي أن المسيح أقنوم من اقانيم الله توازي القول أن القرآن كلام الله فالكلمة والكلام بمعنى.
هذا هو تفصيل القول في المسألة وأن الصواب فيها هو مذهب السلف أن القرآن كلام الله تعالى لا يوصف بمخلوق. لأنه الخلق بالمعنى أ ابتداع في اللفظ والتعبير وبالمعنى ب خوضٌ في الكيف ووادعاء للتنزيه يقود الى التعطيل وكلاهما ليس مذهب السلف ولا يجيزه الورع وبعد النظر. وأما المعنى جـ فقضية تاريخية علينا فقط محاولة فهمها لأن الفريقين ماتا وأفضيا إلى ما قدما.
بقيت نكتة صغيرة وهي لماذا امتصت مشكلة خلق القرآن طاقات الأمة لأزيد من ألف سنة واستعملها العلماء في التحاسد ضد بعضهم كما فعل محمد بن يحيى الذهلي مع البخاري رحمهما الله تعالى؟
الذي يظهر أن التعبير (غير مخلوق) تعبير غامض لم يحلل الى معانيه الثلاثة التي قدمتها ولم يكن بإمكان الناس ذلك في ذلك العصر فانشحنت العبارة عاطفيا مع ما صاحبها من تسييس ثم ظلت تتردد في الكتب الى ما قبل العصر الحديث.