أصول التربية والتعليم كما رسمها القرآن الكريم وأثرها في بناء الشخصية واتزانها (1/3) م

إنضم
05/08/2007
المشاركات
23
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
أصول التربية والتعليم كما رسمها القرآن الكريم وأثرها في بناء الشخصية واتزانها (1/3) مجلة الوعي الإسلامي(العدد : 529)


قد اعتنى علماء التربية والتعليم في الكليات والمعاهد ومدارس تكوين المعلمين بقواعد التربية وعلم النفس اعتناء كبيرا، فكتبوا في ذلك كتبا كثيرة وأبحاثا جمة.
وإن مما يدعو للدهشة والاستغراب أنهم نقلوا فيها عن علماء التربية الغربية كل طارف وتالد، واقتبسوا أصولهم وفروعهم وتجاربهم وإذا كنا نقدر مدى أهمية الاستفادة من عمل الآخرين بعد تصفيته وغربلته مما يتعارض مع أصول التربية والتعليم كما رسمها القرآن الكريم، ومع مبادئنا وقيمنا الحضارية، فإن الذي نعيبه على كثير من علماء التربية وأساتذتها ومدرسيها هو تغافلهم، وعدم التفاتهم إلى ما يزخر به القرآن الكريم والسنة النبوية من دقائق علوم التربية والتعليم أصولا وفروعا.

قد اعتنى علماء التربية والتعليم في الكليات والمعاهد ومدارس تكوين المعلمين بقواعد التربية وعلم النفس اعتناء كبيرا، فكتبوا في ذلك كتبا كثيرة وأبحاثا جمة.
وإن مما يدعو للدهشة والاستغراب أنهم نقلوا فيها عن علماء التربية الغربية كل طارف وتالد، واقتبسوا أصولهم وفروعهم وتجاربهم وإذا كنا نقدر مدى أهمية الاستفادة من عمل الآخرين بعد تصفيته وغربلته مما يتعارض مع أصول التربية والتعليم كما رسمها القرآن الكريم، ومع مبادئنا وقيمنا الحضارية، فإن الذي نعيبه على كثير من علماء التربية وأساتذتها ومدرسيها هو تغافلهم، وعدم التفاتهم إلى ما يزخر به القرآن الكريم والسنة النبوية من دقائق علوم التربية والتعليم أصولا وفروعا.

القرآن الكريم حوى من ضروب المعرفة والقواعد الأخلاقية والأصول التربوية والتشريعية ما يجعلنا نستغنى به عن النظريات البشرية القاصرة ولتعلم غير المسلمين من المسلمين.
ومن ثم اتجهت إلى المصدر الأصلي لفنون التربية والتعليم والكتاب الأم لأصول التربية والتعليم فقد رسم معالمها الكبرى، وبينتها السنة، وكل من اتجه إلى هذا المصدر يجد ضالته ويدرك بغيته.
وقد أسعفني في هذا التوجه قول الإمام الشاطبي: «لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا» وشد من أزري قول الشيخ الشنقيطي: قد اشتمل كتاب الله علي كل شيء أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل إلا وفي القرآن ما يدل عليها.
إن صفة منهج النبي (صلى الله عليه وسلم) في التربية والتعليم قد رسم القرآن الكريم معالمها الكبرى واستقل ببيانها وفصلتها السته النبوية.
قال تعالى- في بيان صفه صفه هذا المعلم وأصوله - في سورة البقرة: {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}(البقرة:151).
وقال في سورة آل عمران {لقد من الله على المؤمنين إذا بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
فقد صرحت هذه الآيات بالمنهج العام لأصول التربية والتعليم الذي لا منهج سواه، والذي لا ينبغي أن يتغير أو يتبدل، وهو منهج أصيل يسعد الإنسان في دنياه وأخراه، لأن منزله هو الخالق لهذا الإنسان العليم بطبيعة تكوينه الخبير بدروب نفسه ومنحنياتها.
وبهذه الطريقة والأصول التربوية أنقذ الله هذه الأمة من الضلال المبين، ولا ينقذها مما هي فيه من الهوان إلا برجوعها إلى ذكرها الذي يرفع شأنها.
وقد ذكر الله في هذه الآيات التي استخرجنا منها أصولا تربوية وجوها من نعمه تعالى على عباده.

علم الخط والرسم

إن القرآن الكريم، وهو المصدر لأصول التربية والتعليم نفى أن يكون (صلى الله عليه وسلم) على دراية بعلم الخط ونفى عنه تلاوة أي كتاب قبل نزول القرآن، وكان هذا قطعا للارتياب ودفعا للشبهة، لو كان يكتب ويقرأ لقال المبطلون: إن هذا القرآن تعلمه وكتبه، فنفى عنه كل ذلك فقال: {وماكنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} (العنكبوت:48).
ولذلك وصفه الله في كتب الأولين ونعته بالأمي وهو وصف كمال في حقه قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} (الأعراف: 157).


علم التلاوة والترتيل

بدأت جميع الآيات القرآنية بهذا الأصل وهو التلاوة والترتيل وقد جاء ترتيب هذه الأصول في الذكر على حسب ترتيب وجودها لأن أول تبليغ الرسالة تلاوة القرآن، ثم يكون تعليم معانيه، ثم قال {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه} (القيامة:18-19).
ثم العلم تحصل به التزكية، وهي العمل بإرشادات القرآن ، كما سيأتي.
أول صفات هذا المعلم أنه يتلو عليهم آياته: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته}، ومعناها القراءة المتتابعة المرتلة التي يكون بعضها تلو بعض والتلاوة المرتلة لا تخرج عن طباع العرب وكلام الفصحاء على وجه من وجوه القراءات.
وأصل التلاوة من الاتباع، ومنه قولهم: تلاه: إذا تبعه، وهي ذكر الكلمة بعد الكلمة على نظم تأليف القرآن وترتيبه ومنه قال تعالى: {والقمر إذا تلاها} (الشمس:2).
والتلاوة وحدها كافية لإقامة الحجة، فهي الحجة، وهو المحجة فلا يعذر أحد بعد التلاوة بالجهل، فالقرآن يقيم بالتلاوة الحجة القاطعة على الخلق قال تعالى في بيان ذلك: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا} (القصص:59)، ومثلها في قوله تعالى: {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} (العنكبوت:51).
وهكذا يجب على طالب العلم أن يهتدي ويقتدي بهذا الأدب، وينصت ويستمع ويتأنى في تلقي العلم، وألا يحمله الحرص على مبادرة المعلم بالأخذ منه قبل فراغه من كلامه ويجب عليه أن يحاكيه في التلاوة بعد الاستماع له.

التجويد أصل كلام العرب

اشتهر عند الناس جميعا أن موضوع علم التجويد هو القرآن الكريم فقط، وزاد بعضهم الحديث الشريف، ثم يصححون قول الجمهور، وهو أن موضوع التجويد القرآن الكريم فقط لا غير.
وكل من ألف في علم التجويد يرددون هذا الادعاء حتى اشتهر عند جميع الناس واستقر في آذانهم أن مباحث علم التجويد لا تكون إلا في القرآن فقط وصار هذا من المسلمات .
وهذا تناقض عجيب وتنافر معيب وخطأ كبير، ووجه تناقضه أنه إذا كان علم التجويد موضوعه القرآن الكريم، فإن القرآن الكريم هو لب كلام العرب.
قال الراغب الأصفهاني: «فألفاظ القرآن هي لب كلام العرب وزبدته وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء، والحكماء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم...»، ثم قال: «وما عداها.. كالقشور» .
إذا كان- كما قالوا- التجويد موضوعه القرآن الكريم، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، فإن النتيجة أن التجويد موضوعه لسان العرب.
قال تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} (يوسف:2)
وقال: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} (النحل:103)، وقال: {نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين} (الشعراء: 195).
أثبتت هذه الآيات وغيرها أن القرآن نزل بلغات العرب، وحينئذ تكون مباحث علم التجويد وموضوعه لغات العرب.

تفسير القرآن وبيانه

تعليم الكتاب منصوص عليه في هذه الأصول في قوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب} عطفا على قوله {يتلو عليهم آياته}، عطف جملة، وكما أن غاية علم الترتيل النطق الصحيح الفصيح لألفاظ القرآن الكريم، فإن غاية تعليم الكتاب وتفسيره وبيانه الفهم الصحيح لمعاني القرآن الكريم، ومن ثم عطف على التلاوة فكان ترتيبه في المحل الثاني في جميع الآيات القرآنية التي بنينا عليها هذه الأصول.
والارتباط بين هذا الأصل تعليم الكتاب، والأصل الذي عطف عليه وهو التلاوة واضح جلي، فلا يستقيم المعنى إلا إذا استقام اللفظ.
فمبنى الكلمة ومعناه مطلوبان ومتلازمان، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، بل مبناها هو الأصل والأساس الذي يقوم عليه المعنى، بل لا وجود للمعنى إلا بإقامة المبنى، ومن ثم وجب تصحيح النطق بألفاظ القرآن أولا محافظة على المعنى ثم يجب علينا أن نفهم ونتفقه بعد التلاوة الصحيحة في المعنى الذي يحمله اللفظ.
فيكون المعنى أن هذا المعلم (صلى الله عليه وسلم) يتلو عليهم القرآن ويبين لهم معاني هذا الكتاب وما خفي عليهم من أسراره وأحكامه وحكمه وهذا من وظائفه (صلى الله عليه وسلم) أن يبين ويعلم معاني الكتاب {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (النحل:44) فكان مبلغا لكتاب الله العزيز، ومبينا لأحكام القرآن الكريم، وموضحا لآياته البينات.
ومما لاشك فيه ولا خلاف عند جميع المسلمين أن القرآن الكريم حوى بين دفتيه أنواعا من العلوم والمعارف يعجز البشر عن الإتيان بمثلها، وتضمن أحكاما وحكما وأخبارا بها يحقق الإنسان سعادته في الدنيا والآخرة.
ولا سبيل إلى معرفة هذه العلوم، وهذا التشريع وهذه الهدايات والوقوف عليها والعمل بها، والاتعاظ بها إلا بفهم القرآن، وتفسيره وتدبره والتفقه فيه، والاستغناء به عن غيره. كيف يتعظ الإنسان بما لا يفهم، لأن ملكة الفهم دخلها الفساد، فصار الناس لا يفهمون القرآن، ولا يفقهون ما فيه، وبدون فهم للقرآن وتفسيره لا يمكن الوصول إلى كنوزه ومعارفه مهما رددنا تلاوته وأقمنا حروفه.
الناس لم يعودوا يتأثرون بالقرآن الكريم، كما كان الجيل الأول يتأثرون به فقد حالت بينهم وبينه غيوم كثيفة وحجب وموانع ومن أشدها كثافة عدم فقه اللغة العربية التي هي وعاؤه، لأن اللسان العربي وملكة البيان دخلها الفساد.
إن القرآن الكريم فيه الكفاية وزيادة على ذلك، فجميع العلوم الإسلامية قد استقل ببيانها، وقد أدرك هذا المعنى الإمام القرطبي- رحمه الله- فقال: «فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع... رأيت أن أشتغل به مدى عمري وأستفرغ فيه قوتي».
وأضرب لذلك أمثلة واقعية لم يخالف فيها أحد على أننا نستطيع أن نستغنى بالقرآن الكريم عن جميع المقررات.
أولا: مقرر التوحيد
من أبرز العلوم التي يتعلمها الناس في تفسير القرآن الكريم هو علم العقيدة، وهي رأس العلوم الإسلامية وقد أخذت حيزا كبيرا من كتاب الله تعالى.
قال ابن القيم: «وغالب سور القرآن متضمنه لأنواع التوحيد، بل كل سورة في القرآن، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادة الله فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته» .
ثانيا: مقرر الحديث
وإذا انتقلنا إلى الحديث النبوي الشريف نجد أنه نوع من التفسير، فإنه المبين لمراد الله تعالى من الآية ويشهد بما شهد به القرآن، وهو التطبيق العملي لمعنى الآية النظري، فالطالب في تفسير القرآن يتعلم الحديث، وأضافه عبدالعظيم الزرقاني إلى علوم القرآن فقال: «إذا أضفت إلى علوم القرآن ما جاء في الحديث النبوي الشريف وعلومه وكتبه وبحوثه باعتبارها من علوم القرآن نظرا إلى أن الحديث شارح للقرآن يبين مبهماته ويفصل مجملاته ويخصص عامه».
ثالثا: مقرر الفقه
وإذا عرجنا إلى مادة الفقه، ومقرراته نجد أن مقرر الفقه يندرج في علم التفسير، وهو جزء ضئيل جدا من التفسير، ولا يزال هناك في القرآن فقه ضخم لا يعرف إلا في التفسير.
قال رشيد رضا: «الأحكام العملية التي جرى الاصطلاح على تسميتها فقها هي أقل ما جاء في القرآن، وأن ما بقي فيه من التهذيب والتربية والفقه والأخلاق والآداب والعلوم والمعارف ما لا يستغنى عنه، وما هو أجدر بالدخول في الفقه الحقيقي» .
ومن سلبيات عرض مادة الفقه بالطريقة المستقلة عن القرآن وتفسيره انها لا تؤدي الغرض المطلوب حيث يؤدي مدرس المادة عرضه بذكر المسألة والتعريف بها ثم بأقوال العلماء فيها ثم يورد الدليل من القرآن أو السنة أو هما معا، فيقول: دليل هذه المسألة كذا ودليل هذا القول كذا، ودليل المخالفين كذا ويسرد الدليل، هذا إذا كان يذكر الدليل، وهو أحسن أحواله.

تعليم الحكمة

الأصل الرابع من هذا المنهج الدراسي الكامل تعليم الحكمة فهي في المرتبة الرابعة بعد تعليم الكتابة والخط وتلاوة القرآن وتعليم الكتاب ثم تعليم الحكمة، فمن صفات هذا المعلم (صلى الله عليه وسلم) أنه يتلو عليهم الآيات القرآنية، ويعلمهم معاني الكتاب، وهو تفسيره وبيانه ثم يعلمهم الحكمة، وتأمل أخي هذا التركيب العجيب، وهذا الأسلوب البديع حيث أفرد لتلاوة الآيات فعلا، وهو {يتلو} وجاء بفعل آخر لتعليم الكتاب للدلالة على التباين بيهما، فان تعليم الكتاب غير التلاوة، فإن التلاوة تكون بقصد حفظ الحروف، وتعليم الكتاب يكون بقصد حفظ المعاني، وأشرك الحكمة في نسق التعليم بفعل واحد: {ويعلمهم} لأنها مربوطة بتعليم الكتاب، وتعلم كما يعلم الكتاب، فهما كالشيء الواحد، وحذف كل ذلك من التزكية لأن التزكية لا تعلم ولا تحفظ ولا تتلى، وإنما هي ثمرة من ثمرات التلاوة وتعليم الكتاب وتعليم الحكمة، فإذا لم تثمر هذه الأصول الدراسية التزكية فهي كالعدو فإنما هي محض سلوك وعمل يظهر بعد التلاوة وبعد تعليم الكتاب وبعد تعليم الحكمة.
ونحن الآن نقوم بعملنا هذا بتعليم التزكية كالصناعة والحرفة التي يحتاجها الإنسان، ويقوم بها عند الحاجة لتدر عليه نفعا ما.. هذه حالنا ورب حال أفصح من لسان. من صفات هذا المعلم أن يعلمهم الكتاب والحكمة كما تقدم في قوله تعالى: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم}.
والقرآن الكريم يبين لنا أن الله أنزل الحكمة كما أنزل القرآن، وأنها تتلى فقال: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} (النساء: 113).
وقال: {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} (البقرة:231).
وأمر الله أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يتذكروا ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة فقال: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} (الأحزاب:34).
ودل الاستقراء والتتبع لكلمة «الحكمة» في القرآن الكريم أنها وردت في كتاب الله على نوعين: مفردة، ومقترنة بالكتاب.
أولا المفردة: فقد وقعت في تسعة مواضع، وقد فسرت بالنبوة، والفهم والقرآن وتفسير القرآن.
وفسرت الحكمة بعلوم القرآن وفقه ما فيه من علوم، ذكر ابن الجوزي أن من معاني الحكمة علوم القرآن.
ثانيا: الحكمة المقرونة بالكتاب
وكلمة الحكمة عادة تأتي بعد كتاب منزل، وجاءت في اختيارنا لهذه الأصول كلها مقترنة بالكتاب ومتصلة به، ومن ثم اشتركت الحكمة في نسق تعليم الكتاب: {ويعلمهم الكتاب والحكمة} وارتبطت به ارتباطا وثيقا فشاركت الكتاب في التعليم فيجب أن تعلم كما يعلم الكتاب.
واتفق علماء التفسير أن الحكمة المتصلة بالكتاب هي السنة وفسرها بذلك الحافظ ابن كثير وعزاه إلى غير واحد من السلف وهي ما أخذ عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) سوى القرآن: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» ومصداق ذلك في كتابه الكريم: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى. علمه شديد القوى} (النجم:3- 5).



--------------------------------------------------------------------------------


يتبع بحول الله تعالى
--------------------------------------------------------------------------------

بقلم الكاتب: د.أحمد بن معمر شرشال
 
أصول التربية والتعليم كما رسمها القرآن الكريم وأثرها في بناء الشخصية واتزانها (2/3) مجلة الوعي الإسلامي (العدد : 530)


قد اعتنى علماء التربية والتعليم في الكليات والمعاهد ومدارس تكوين المعلمين بقواعد التربية وعلم النفس اعتناء كبيرا، فكتبوا في ذلك كتبا كثيرة وأبحاثا جمة.
وإن مما يدعو للدهشة والاستغراب أنهم نقلوا فيها عن علماء التربية الغربية كل طارف وتالد، واقتبسوا أصولهم وفروعهم وتجاربهم وإذا كنا نقدر مدى أهمية الاستفادة من عمل الآخرين بعد تصفيته وغربلته مما يتعارض مع أصول التربية والتعليم كما رسمها القرآن الكريم، ومع مبادئنا وقيمنا الحضارية، فإن الذي نعيبه على كثير من علماء التربية وأساتذتها ومدرسيها هو تغافلهم، وعدم التفاتهم إلى ما يزخر به القرآن الكريم والسنة النبوية من دقائق علوم التربية والتعليم أصولا وفروعا.

نص القرآن على هذا الأصل في قوله تعالى {يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم}، كما تقدم، فتضمنت هذه الأصول التربوية تلاوة للآيات وتعليما للكتاب وتعليما للحكمة، وتزكية بمعنى التطهير والتنقية من السوء والقبائح والمنكرات، فهي ثمرة عملية لتطبيق الأصول التربوية الأولى، وهي ثمرة لتلاوة القرآن، وثمرة لفقه القرآن، والتفقه فيه، وثمرة لفهم السنة، وثمرة للعمل بما علم من التلاوة والكتاب والسنة.
التزكية: تطهير الإنسان حسيا ومعنويا ظاهرا وباطنا من دنس الذنوب والمعاصي، وفيها معنى النمو والزيادة والتعهد بالرعاية نحو الكمال.
وتأمل هذا التركيب العجيب وهذا الأسلوب الفريد حيث أفرد لتلاوة الآيات فعلا، وهو «يتلو» ثم جاء بفعل آخر لتعليم الكتاب وهو «ويعلمهم» ليدل بذلك على المباينة بين التلاوة وتعليم الكتاب، وأشرك «الحكمة» في نسق التعليم، لأنها مربوطة بتعليم الكتاب، وحذف كل ذلك من التزكية، ولم يقل ويعلمهم التزكية، كالأصول السابقة، لأن التزكية لا تعلم ولا تحفظ ولا تتلى كما هو الشأن في مناهجنا الحالية، وإنما هي إحساس فانفعال فسلوك وعمل بعد ذلك، وإنما هي ثمرة من ثمرات التلاوة وتعليم الكتاب وتعليم الحكمة، فإذا لم تثمر هذه الأصول التربوية التزكية فهي كالعدم، فهي محض سلوك وعمل يظهر بعد التلاوة وبعد فقه التلاوة وبعد فقه السنة.
قال تعالى {قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى} (الأعلى:14-15)، وقال {قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها} (الشمس: 9-10)، فقد فاز بكل مرغوب وظفر بكل محبوب من زكى نفسه وهذبها ونماها بالعلم، وزكاها بالتلاوة وفقه القرآن وعلومه وعمل بها، ومادة التفعل للتكلف وبذل الجهد أي بذل جهده في تطهير نفسه بالأعمال الصالحة.

بيان بأثر هذه الأصول التربوية وثمراتها

ولما كان التأثير يتم بمقدار عظمة المؤثر ظهر تأثير هذه الأصول التربوية والتفقه فيها في بناء شخصية الإنسان قويا وفعالاً وكاملا يصعب علينا حصر جميع جوانب هذا التأثير في بناء شخصية الإنسان واتزانها واعتدالها، ولسوف أقتصر على بعض الجوانب فقط، لأن مصدر هذه الأصول هو القرآن الكريم، وموضوع القرآن الكريم هو الإنسان نفسه، ولقد استلهمت هذا المعنى من قوله تعالى: {الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان} (الرحمن: 1-4)، فقدم تعليم القرآن على خلق الإنسان، وهو متأخر عنه في الوجود لأن تعليم القرآن هو السبب في إيجاده، فبتعليم القرآن يتحقق في هذا الكائن معنى الإنسان، كما قدمنا في قوله تعالى{يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} (الأنفال:24)، دلت الآية على أن الاستجابة للقرآن حياة أخرى من نوع آخر، ولا يمكن حمل الحياة هاهنا على نفس الحياة لأن إحياء الحي محال فوجب حمله على حياة أخرى من نوع آخر، الاستجابة لأوامر القرآن واجتناب نواهيه، والعمل به هو الحياة الحقيقية.
ولسوف -بإذن الله- أسوق أمثلة ونماذج حية أبرهن فيها على هذه الحياة في عرف القرآن وأثره في بناء الإنسان.
أولا: طريقة القرآن في الخطاب لتربية الأخوة
قال تعالى في سياق أخبار بني اسرائيل {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون. ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} (البقرة:84-85).
قال ابن كثير: إن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحد وقد بين القرآن أن من قتل نفسا بغير حق، فكأنما قتل الناس جميعا فقال: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} (المائدة:22)
ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الأخ في الدين قوله تعالى{يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة: 105).
ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الغير، قال تعالى {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} (النور: 61).
ومن تعبيرات القرآن وإرادة الأخ في الدين قوله تعالى {ولا تلمزوا أنفسكم} (الحجرات:11).
ومن تعبيرات القرآن عن الغير بالنفس وإردة الغير لأن الإنسان أخو الإنسان قوله تعالى {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} (النور:12).
ثانيا: حصول الطمأنينة والسكينة
إن الاشتغال بفهم القرآن والتفقه فيه يكون سببا للطمأنينة والسكينة ويحصل لصاحبه عز الدنيا وسعادة الآخرة كما أخبر بذلك المعلم الأول (صلى الله عليه وسلم) «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكنية وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده» .
ومصداق ذلك في كتاب الله {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه} .
ثالثا: الجهاد بالقرآن الكريم
نجد الترجمة العملية له عند الأئمة والمصلحين ورجال الدعوة والإرشاد فقد اقتصروا على معاني القرآن وتفسيره في دعوتهم الشاملة، ابتداء بتحقيق التوحيد وحقوقه إلى محاربة الاستعمار، فأثمرت دعوتهم ونالت قبولا، وأقبل عليها الناس من جميع الأصناف والطبقات وأحدثت دعوتهم تغييرا إصلاحيا في العقيدة والسلوك وانتشرت في الشرق والغرب.
وبما أن ميلاد هذا البحث كان في بلاد الكويت، فمن البر بأهلها وإحسانا إلى علمائها وأعلامها، رأيت أن أبتدئ بهم، فراجعت كتاب علماء الكويت وأعلامها، فكان ممن اثار أعجابي الشيخ عبدالعزيز العتيقي، فكان تواقا لطلب العلم، فاقتنى كتبا كثيرة من كتب الحنابلة، ودرس على الشيخ محمد رشيد رضا، وتوثقت الصلة بينهما فكان مستودع أسراره، وكان مجاهدا داعيا سخيا في سبيل نشر الدعوة، وانتقل إلى الهند وأندونيسيا في سبيل نشر الدين ثم عاد إلى وطنه في الكويت، وانقطع للتعليم رحمه الله .
وإذا أردنا أن نتجول مع هذا الأثر الحميد فسنجد من بين هؤلاء المبرزين الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت1376هـ) قد اعتمد في دعوته نشر التوحيد والإصلاح في ربوع نجد على تفسير القرآن الكريم، فكان ذا عناية فائقة بالتفسير وفنونه، وبرع فيه، فألف ثلاثة كتب في التفسير وحده، هي تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، وتيسير اللطيف المنان في خلاصة القرآن، والقواعد الحسان لتفسير القرآن .
وإذا انتقلنا غربا الى مصر نجد الإمام محمد عبده يعتمد في دعوته على التفسير، فقد ألح عليه تلميذه رشيد رضا أن يلقي دروسا في التفسير ويعلل ذلك بقوله: «إن الكلام المسموع يؤثر في النفس أكثر مما يؤثر الكلام المقروء، ثم واصل مسيرة التفسير بعده رشيد رضا إلا أن أجله حال دون إكمال التفسير، رحم الله الجميع.
وإذا انتقلنا قليلا إلى ليبيا نجد ثلة من العلماء الذين قاموا بحق القرآن الكريم، وكانوا ترجمة عملية للذكر الحكيم، من أبرزهم شيخ الشيوخ علي الغرياني التاجوري الليبي.
وإذا انتقلنا غربا إلى تونس نجد الإمام الطاهر بن عاشور يتأثر بمدرسة رشيد رضا في التفسير، وألف تفسيرا كاملا سماه التحرير والتنوير، فحرر الناس من الجهل والظلمات، ونور به البلاد التونسية.
واذا انتقلنا قليلا إلى الغرب في الجزائر نجد الترجمة العملية المتمثلة في الإمام عبدالحميد بن باديس، فقد اقتصر على التفسير ومعاني القرآن في دعوته الإصلاحية الشاملة في الجزائر، ابتداء بتحقيق التوحيد وحقوقه إلى محاربة الشرك والاستعمار.
وإذا عرجنا جنوبا إلى بلاد شنقيط نجد خاتمة المحققين وإمامهم محمد الأمين الشنقيطي يفسر القرآن بالقرآن ويسميه: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
هؤلاء الأئمة وغيرهم ممن لم أذكرهم كانوا مجاهدين بالقرآن بتفسيره وبيانه والتفقه فيه ودعوة الناس إليه، وقد سمى القرآن مثل عملهم ذاك بالجهاد الكبير فقال جل وعلا {وجاهدهم به جهادا كبيرا} (الفرقان:52). أي بالقرآن كما فسره به ابن عباس، وفي هذا منقبة عظيمة لمن يدعو إلى الله بالقرآن وتفسيره وبيانه للناس فهو مجاهد ، اقتداء بالمصطفى (صلى الله عليه وسلم) حيث أمره الله أن ينذر قومه بالقرآن {قل إنما أنذركم بالوحي} (الأنبياء: 45) وقال {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} (الأنعام:19)، فكل من أنذر الناس بغير الوحي والقرآن وما يستفاد منه فقد أخطأ الطريق.
رابعا: زوال التعصب
من أهم ما تثمره هذه الأصول التربوية في شخصية الإنسان والطالب التخلص من التعصب والتقليد، بل إذا ابتدأ الطالب بعد حفظ القرآن بعلم تفسيره وبيانه والتفقه فيه كما رتبه الله، لم يجد هذا الهاجس إلى نفسه سبيلا، وما وجد التعصب والتقليد إلا بمخالفة المنهج الذي رسمه القرآن في التربية والتعليم، وهو تعليم الخط والكتابة، ثم التلاوة ثم التفسير والحكمة والتزكية وهي العمل بما علم كما قدمنا في قوله تعالى {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} (البقرة:129).
فبمخالفتنا لمنهج التربية والتعليم كما رسمه القرآن نعلم الطلاب التعصب والتقليد من حيث لا ندري.
خامسا: الاستقلال في الأخذ والترجيح
من ثمرات هذه الأصول التربوية على شخصية الطالب أنها تعلمه الاستقلال في الأخذ والترجيح، وعدم التبعية والتقليد، فهذا ابن العربي المالكي في أحكام القرآن كثيرا ما يتعصب لمذهبه ويحمل على المخالفين، إلا أن أسلوب القرآن وروعة بيانه أرغمه في بعض المواضع من أحكامه على عدم التعصب، ونسي نفسه ورجح بقوة مذهب المخالفين لمذهبه، مبينا الوجه والسبب فقال عند قوله تعالى {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} (الأنعام:141).
وقال أبو حنيفة: تجب الزكاة في كل ما تنبته الأرض من المأكولات» ،ثم تعرض لذكر بقية المذاهب وصرح بما يخالف مذهبه المعتاد وقال كلمة بليغة تكتب بماء الذهب فقال: «وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق».
قال القرطبي: «وأخذ يعضد مذهب الحنفي ويقويه» ، هذا هو حال من يطلب فقه القرآن، لا فقه الفقه، وهكذا حال كل من يجعل القرآن مرآته فإنه يبصر الحق كما أبصره الإمام أبوحنيفة، وابن العربي، وجميع الأئمة. ما أحوجنا اليوم إلى أن نجعل القرآن مرآتنا لنبصر الحق والهدى والرشاد في هذه الظلمات المتراكمة علينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
سادسا: الاتزان والاعتدال
من ثمرات هذه الأصول التربوية وفوائدها وأثرها أنها تكسب شخصية الطالب اتزانا واعتدالا وتكاملا، فلا ينحاز ولا يميل، لأن المصدر الذي يتلقى منه علومه ومعارفه واحد، فلا يطغى عليه جانب دون جانب، فهو عند آيات الأسماء والصفات، يتعلم أسماء الله وصفاته بدون تعطيل ولا تمثيل، وإذا جاء إلى آيات الجهاد - وما أكثرها- تعلم وتفقه في أحكام الجهاد، وإذا جاء إلى آيات الأحكام تعلم الفقه والأحكام الشرعية والحدود، وإذا مر على آيات الفرائض تعلم ذلك ولاشك، وإذا مر على الآيات المتعلقة بالبر والإحسان تعلم ذلك وتطبع وعمل به، وإذا مر على الآيات التي تذكر فيها الأمم السابقة وأحوالهم، وما آل إليه أمرهم اعتبر بذلك واتعظ، وتعلم قصص الأنبياء والرسل وما لاقوه في سبيل الدعوة، وعلم طرق الدعوة ووسائلها وأهدافها.
ولما كانت الوسطية من مزايا هذه الأمة، حث عليها الشرع وقررها القرآن {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} (البقرة:143).
كان لتفسير القرآن وفهمه والتفقه فيه أثر قوي لا ينكر في تحقيق صفة اعتدال الشخصية واتزانها.




--------------------------------------------------------------------------------

يتبع

--------------------------------------------------------------------------------

بقلم الكاتب: د.أحمد بن معمّر شرشال
 
عودة
أعلى