د.عبدالرحمن الصالح
New member
الحمد لله على أفضاله والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وبعد، فإنّ تحديد المفاهيم القديمة تحديدا جديدا يكون بالخطوات الآتية:
1.إيراد الآيات والآحاديث التي ورد فيها ذكر المفهوم المعين
2.تعداد الاستخدامات المختلفة للمعاني اللغوية من خلال مقارنة الأسيقة للمفهوم المدروس
3.الاستقلال عن محاولات القدماء كعلماء الحديث والفقهاء وجميع أهل العلم ولا بأس من إيراد أقوالهم وفهومهم على أن لا تُتخذ مرجعاً للدارس لأنها فهوم أقوام مؤطرة بظروف عصرها وإمكانياته.
4.إذا لم تراع هذه النقاط الثلاثة فمعنى ذلك استمرار الدراسات والبحوث أن تكون تلخيصاً واجترارا لأقوال السابقين وهذا وإن كان يعدُّ هو العلم عند المؤسسات العلمية التقليدية فهو ليس من العلم في شيء في الحقيقة. فلا يُعقل أن تنشر أضعاف الكتب التي كانت موجودة قبل قرن ونصف دون أن تثرى المفاهيم وتضاء في ضوء ما توفر من مادة معرفية بعد نشر أهم الكتب الإسلامية
5.لا يُعقل أيضاً أن يتطور علم الإحصاء اللغوي الحاسوبي ولا يضيء لنا المفاهيم وإعادة صياغة معانيها لتطابق الواقع الجديد الذي أضاءته الكتب المنشورة سواء كان في علم القراءات أو الحديث أو الفقه أو أصول الدين والكلام؟ هل يُعقل ذلك؟
من المفاهيم التي نشأت في القرن الثاني الهجري مفهوم "صحابي" وهو بهذه الصيغة اللغوية ليس موجودا لا في القرآن ولا في السنة، إذ الموجود هو مصطلح "صاحب" كما قال تعالى :{[FONT=QCF_P193]ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ[/FONT]} [سورة التوبة:40]
وجمع صاحب أصحاب وصحب وصِحاب وصُحبان. وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلمصاحب وأصحاب. فقال صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد وهو من الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان، حين بلغه أن خالداً قد سبّ أحد أصحاب محمد وهو عبدالرحمن بن عوف "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهَباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه" رواه مسلم. وحين قام عصر التدوين في المئة الثانية وكان من عادة الناس التدليس أي عدم ذكر الإسناد كما صحّ عن ابن سيرين(ت 133هـ) في مقدمة صحيح مسلم :"لم يكونوا يسألون عن الإسناد [أي كانت عادة الناس التدليس والتحديث بقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداءً] فلما وقعت الفتنة [ما نزال نجهل المقصود بالفتنة في هذا النص، أهي فتنة معينة كما ظن غولدتسيهر أنها فتنة ابن الأشعث أم الفتنة على العموم]قالوا : سموا لنا رجالكم ، فيُنْظَرُ إلى أهل السنة فيُؤْخذ حديثُهم ، ويُنْظَر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم" لكن احتاج الناس إلى معرفة طبقات الناس العمرية فعدّوا كل الذين جاءوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بحيث رأوه أو سمعوه ولو ساعة طبقة متميزة عن الناس لبركة الرؤية ولإمكانية الرواية فسموهم "صحابة" جمع "صحابي".
ونحن هنا في ملتقى أهل التفسير يهمنا القسم الخاص بالتفسير من هذا المصطلح، لأن ما شاع من مصطلحات القوم أن ما بعد الصحابة من أهل العلم وعدول الرواة ممن رأى صحابياً هم التابعون لهم بإحسان وقد أخذوا هذا المصطلح من قوله تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [سورة التوبة:100]
ولما كان تحديد المصطلح لا بد له من سلطة علمية موضوعية تقع خارج الاختيار الفردي وإن سلّم المتأخرون لاختيار المتقدمين تحديدهم لمجال المصطلح، وهذا المقال محاولة علمية لتصحيح فهمنا للأحاديث والآيات المتعلقة بتنميط سلف المسلمين الذين سماهم الناس صحابة وتابعين وأسسوا على قبول اختيار المحدثين ، وهو اختيار غير مطابق للواقع الديني الذي هو دلالة الآيات والأحاديث حصراً. فهو إذن اجتهاد في التفسير في ضوء ما تقدم، لأن التابعين لهم بإحسان هم من الصحابة بحسب مراد الآية (على الأقل في هذا الاجتهاد)
هذا المقال ليس بحثا علميا بل محاولة لوضع خطوط عريضة للبحث العلمي في تحديد هذه المصطلحات، ولكنه في نفس الوقت يفيد أصحاب الوجبة السريعة من القراء الذين لا يشكل لهم استصحاب حال مصطلحات القدماء أمراً ذا بال. وإن كان الذين لا يستطيعون أن يستقلوا بفهومهم عمن يسمونه "السلف" أو "أهل العلم" سوف ينغضون رؤوسهم احتجاجاً على كل محاولة علمية لا تأخذ بأقاويل "الحجة" لديهم في أية مسألة. ونحن لم نعن هؤلاء بهذه المحاولة.
ولكي تكون المحاولة واضحة لا لبس فيها نبين أن المجال الزمني لمفهوم صاحب وتابع بإحسان يختلف بين ملفين : بين الملف الأول الذي هو القرآن والسنة، وبين الملف الثاني الذي هو اختيارات محدثي القرن الثاني والثالث ومن اتبعهم على اختيارهم.
في الملف الأول (القرآن والسنة) تدل الآيات على من كان داخلا في الإسلام قبل نزول الآيات، أي لا تدل الآيات دلالة متأخرة عن نزولها، ولذلك يكون معنى أصحاب محمد في القرآن والسنة هو أهل بيعة الرضوان حصراً ومن قبضه الله إليه قبل ذلك.
ومن استخراج مصطلح صحابي من الملف الثاني نعرف أنه يشمل كل من دخل في الإسلام حتى في الأربع سنين الأخيرة من حياة النبي بمن فيهم من خضع للسلطة السياسية للإسلام كمسلمة الفتح ومسلمة عام الوفود من القبائل التي خضعت لسلطان الإسلام.
ومن حسن حظنا أنهم أطلقوا على من يشمل الفريقين مصطلح "صحابة" فصارت مجموعة الصحابة تشمل أصحاب محمد وكل من أسلم في حياة النبي ورآه أو سمعه ولم يرتدّ.
فخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومن أسلم بعدهما من الصحابة ليسوا من أصحاب محمد ولكنهم من مجموعة الصحابة التي أطلقها المحدثون من أجل الرواية على كل مسلم رأى النبي وأسلم ومات على الإسلام.
فكتاب الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني وقد ضمّ أكثر من 13 ألف صحابي منهم نحو ألفين فقط من أصحاب محمد. والباقون من الذين اتبعوهم بإحسان وهل كل الصحابة قد اتبعوا أصحاب محمد بإحسان أم أن منهم من لم يتبعهم بإحسان، والله حسيبهم في ذلك، هذه مسألة في علم الكلام ليس من غرضنا مناقشتها هنا.
حاول أبو عبدالله الحاكم ابن البيع في كتابه معرفة علوم الحديث تقسيم مجموعة الصحابة إلى 12 طبقة، وما يهمنا هنا هو أي من تلك الطبقات مشمول بالآيات القرآنية التي فيها ثناء على من كان مع النبي.
فبينما يكون تحديد مرجعية بعض الآيات سهلا لتحديدها المكان كـ"ـتحت الشجرة" في قوله تعالى
{[FONT=QCF_P513]ﮎ[FONT=QCF_P513] ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ[/FONT]} [سورة الفتح:18][/FONT]
فتحديد المقصود بالمؤمنين سهل في هذه الآية لأن تاريخ بيعة الرضوان وعدد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم معروف معلوم من التاريخ، ويكون الرد على من شرّع استخدام رضي الله عنه لكل الصحابة بهذه الآية مردوداً لأن هذه الآية لها مرجعيتها الواقعية وهي لا تشمل كل الصحابة بل من بايع تحت الشجرة حصرا. ومعلوم أن الدعاء برضي الله عنه يجوز لكل مسلم لكن مع ذلك لا يجوز الاحتجاج بهذه الآية بخلاف مرجعيتها الواقعية (المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة). فإن تحديد مرجعية آيات أخرى لم تحصر بزمان ليس سهلا ولا سيما أنها ليست تعني التحديد لما تشمله إذ يجوز أن يدخل معهم بالتبع كل من والاهم وقت نزول الآية مثل قوله تعالى :
{[FONT=QCF_P515]ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ[/FONT]} [سورة الفتح:29]
فهذه الآية معلوم أنها نزلت قبل فتح مكة وتكون على ذلك تشمل خالد بن الوليد وغيره ممن أسلموا بعد الحديبية وقبل فتح مكة بالتبع لأصحاب محمد. ولكنها قطعا لا تشمل معاوية وأباه وسهيل بن عمر وجميع من أسلم من قريش وغيرها في فتح مكة وبعده.
فهؤلاء الصحابة ليسوا من أصحاب محمد قطعا وليسوا مشمولين بالآيات التي تثني على اصحاب محمد. فإن قيل إن العلامة ابن حزم الأندلسي قد قال الصحابة [وهو يعني كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلموأسلم كما وضع التعريف علماء الحديث] في الجنة قطعا بدلالة قوله تعالى
{[FONT=QCF_P538]ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ[/FONT]} [سورة الحديد:10] فقد استنبط بطريقته المنطقية الأرسطوية القاصرة عن فهم الدلالة أن قوله تعالى (وكلا وعد الله الحسنى) تشمل كل الصحابة والصواب أنها تشمل كل من أنفق من بعد وقاتل وليس كل الصحابة وفق التعريف لأن الآية تتحدث عن درجات وجزاء من أنفق وقاتل وأن الله قد وعده الحسنى على عمله الصالح (الإنفاق والقتال في سبيل الله)، لا عمن عاش في عصر النبي وشهد الشهادتين. فالآية المحتج بها تقرر أن الله تعالى قد وعد الحسنى لكل مسلم أنفق وقاتل وإن كان لا يرقى إلى درجة من أسلم اختياراً لا اضطرارا أو في شبهة اضطرار.
هنا نصل إلى ختام هذه المقدمة التي هي خطوط عريضة لمقاربة المسألة في ضوء مرجعية الآيات والأحاديث، وبداهة أن الدراسة العلمية تقتضي جمع كل الآيات والأحاديث وأقوال الناس في فهم الدلالات والحكم على فهوم الدلالات في ضوء المرجعية الواقعية للنصوص لا في ضوء سلطة أحمد بن حنبل والبخاري والشافعي وغيرهم من أهل العلم لأن أهل العلم أنفسهم خاضعون لسلطة المرجعية الواقعية للنصوص.
ومن جعل أهل العلم بأنفسهم مرجعية فهم النصوص وشرع يورد لنا أقوال محدثي القرن الثالث وفهومهم فهذا لا يقال فيه إلا أنه مبعد للنجعة، فإن قيل إن في هذه المقدمة من الخطوط العريضة ما يكاد يخرج عن إجماع أهل السنة قيل إن دلالة القرآن والسنة وتحديد مرادها في ضوء المرجعية الواقعية للنصوص هي العلم لا ما تكلم به شخص أو مجموعة أفراد وعزوه إلى مفهوم تجريدي عام لا يمكن حده بحال اسمه أهل السنة. فليت شعري إذا كانت المحاولة الجادة المخلصة للعلم لفهم مراد الله تعالى ورسوله حتى وإن خالفت ما شئت من أقوال ، ليست هي مذهب أهل السنة فما مذهب أهل السنة؟ ولو شرعنا نجمع أقاويل أهل العلم لوجدنا مثل قول سعيد بن المسيب : "لا أعده [صحابيا] إلا من غزا معه غزاة أو غزاتين وصحبه صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين" ولكن ليس من مقصدنا هنا الاعتماد على أقاويل الناس كما قدمنا، بل على دلالة النصوص باعتماد مرجعيتها وتحديد مجالها الدلالي من واقعها، وهو سلطة يخضع لها الناس لأنه قد تقرر في علم الدلالة الصوري الحديث أن المعنى يقع خارج الذهن، بعيدا عن كل الناس.
الخلاصة باختصار:
·تحدد مفهوم أصحاب محمد من قوله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد "لا تسبوا أصحابي" ومن معرفة تاريخ إسلام خالد نعرف أنهم أهل بيعة الرضوان ومن أسلم معهم وقبلهم ومات قبلهم ونساؤهم وذريتهم لأنه ليس لدينا ما نستثني هؤلاء منهم.
·الصحابة هو مصطلح للمحدثين من أجل الرواية يشمل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أسلم بعدهم ورأى النبي أو سمعه ولم يرتد.
·الذين اتبعوا أصحاب محمد بإحسان هم خالد بن الوليد ومن أسلم بعده سواء كان من الصحابة أو ممن جاء بعدهم
يشمل كتاب الإصابة في معرفة الصحابة أكثر من 13 ألف صحابيا منهم زهاء ألفين من أصحاب محمد وتسعة آلاف صحابي أكثرهم من الذين اتبعوهم بإحسان.
·بشأن عدالة الصحابة هو قرار من المحدثين ليس من شأن هذه المقدمة مناقشته لكنا لا نقطع أن كل الصحابة قد اتبعوا أصحاب محمد بإحسان بل نظن أن أكثر الصحابة قد اتبعوا أصحاب محمد بإحسان.
·بعد نقد هذه المقدمة نقدا علميا سنتمكن من تشكيل مقدمة لإعادة تحديد المفاهيم للتصالح بين أعضاء مذهب الامة وهم (أهل السنة بتياراتهم والزيدية والمعتزلة والإباضية) وهؤلاء هم جميع المسلمين الموافقين لظاهر رسالة الإسلام، وأول من نص على أن هؤلاء هم أعضاء مذهب الأمة هو العلامة أبو محمد بن حزم في كتابه القيم (الفِصَل في الملل والأهواء والنحل)
1.إيراد الآيات والآحاديث التي ورد فيها ذكر المفهوم المعين
2.تعداد الاستخدامات المختلفة للمعاني اللغوية من خلال مقارنة الأسيقة للمفهوم المدروس
3.الاستقلال عن محاولات القدماء كعلماء الحديث والفقهاء وجميع أهل العلم ولا بأس من إيراد أقوالهم وفهومهم على أن لا تُتخذ مرجعاً للدارس لأنها فهوم أقوام مؤطرة بظروف عصرها وإمكانياته.
4.إذا لم تراع هذه النقاط الثلاثة فمعنى ذلك استمرار الدراسات والبحوث أن تكون تلخيصاً واجترارا لأقوال السابقين وهذا وإن كان يعدُّ هو العلم عند المؤسسات العلمية التقليدية فهو ليس من العلم في شيء في الحقيقة. فلا يُعقل أن تنشر أضعاف الكتب التي كانت موجودة قبل قرن ونصف دون أن تثرى المفاهيم وتضاء في ضوء ما توفر من مادة معرفية بعد نشر أهم الكتب الإسلامية
5.لا يُعقل أيضاً أن يتطور علم الإحصاء اللغوي الحاسوبي ولا يضيء لنا المفاهيم وإعادة صياغة معانيها لتطابق الواقع الجديد الذي أضاءته الكتب المنشورة سواء كان في علم القراءات أو الحديث أو الفقه أو أصول الدين والكلام؟ هل يُعقل ذلك؟
من المفاهيم التي نشأت في القرن الثاني الهجري مفهوم "صحابي" وهو بهذه الصيغة اللغوية ليس موجودا لا في القرآن ولا في السنة، إذ الموجود هو مصطلح "صاحب" كما قال تعالى :{[FONT=QCF_P193]ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ[/FONT]} [سورة التوبة:40]
وجمع صاحب أصحاب وصحب وصِحاب وصُحبان. وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلمصاحب وأصحاب. فقال صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد وهو من الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان، حين بلغه أن خالداً قد سبّ أحد أصحاب محمد وهو عبدالرحمن بن عوف "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهَباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه" رواه مسلم. وحين قام عصر التدوين في المئة الثانية وكان من عادة الناس التدليس أي عدم ذكر الإسناد كما صحّ عن ابن سيرين(ت 133هـ) في مقدمة صحيح مسلم :"لم يكونوا يسألون عن الإسناد [أي كانت عادة الناس التدليس والتحديث بقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداءً] فلما وقعت الفتنة [ما نزال نجهل المقصود بالفتنة في هذا النص، أهي فتنة معينة كما ظن غولدتسيهر أنها فتنة ابن الأشعث أم الفتنة على العموم]قالوا : سموا لنا رجالكم ، فيُنْظَرُ إلى أهل السنة فيُؤْخذ حديثُهم ، ويُنْظَر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم" لكن احتاج الناس إلى معرفة طبقات الناس العمرية فعدّوا كل الذين جاءوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بحيث رأوه أو سمعوه ولو ساعة طبقة متميزة عن الناس لبركة الرؤية ولإمكانية الرواية فسموهم "صحابة" جمع "صحابي".
ونحن هنا في ملتقى أهل التفسير يهمنا القسم الخاص بالتفسير من هذا المصطلح، لأن ما شاع من مصطلحات القوم أن ما بعد الصحابة من أهل العلم وعدول الرواة ممن رأى صحابياً هم التابعون لهم بإحسان وقد أخذوا هذا المصطلح من قوله تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [سورة التوبة:100]
ولما كان تحديد المصطلح لا بد له من سلطة علمية موضوعية تقع خارج الاختيار الفردي وإن سلّم المتأخرون لاختيار المتقدمين تحديدهم لمجال المصطلح، وهذا المقال محاولة علمية لتصحيح فهمنا للأحاديث والآيات المتعلقة بتنميط سلف المسلمين الذين سماهم الناس صحابة وتابعين وأسسوا على قبول اختيار المحدثين ، وهو اختيار غير مطابق للواقع الديني الذي هو دلالة الآيات والأحاديث حصراً. فهو إذن اجتهاد في التفسير في ضوء ما تقدم، لأن التابعين لهم بإحسان هم من الصحابة بحسب مراد الآية (على الأقل في هذا الاجتهاد)
هذا المقال ليس بحثا علميا بل محاولة لوضع خطوط عريضة للبحث العلمي في تحديد هذه المصطلحات، ولكنه في نفس الوقت يفيد أصحاب الوجبة السريعة من القراء الذين لا يشكل لهم استصحاب حال مصطلحات القدماء أمراً ذا بال. وإن كان الذين لا يستطيعون أن يستقلوا بفهومهم عمن يسمونه "السلف" أو "أهل العلم" سوف ينغضون رؤوسهم احتجاجاً على كل محاولة علمية لا تأخذ بأقاويل "الحجة" لديهم في أية مسألة. ونحن لم نعن هؤلاء بهذه المحاولة.
ولكي تكون المحاولة واضحة لا لبس فيها نبين أن المجال الزمني لمفهوم صاحب وتابع بإحسان يختلف بين ملفين : بين الملف الأول الذي هو القرآن والسنة، وبين الملف الثاني الذي هو اختيارات محدثي القرن الثاني والثالث ومن اتبعهم على اختيارهم.
في الملف الأول (القرآن والسنة) تدل الآيات على من كان داخلا في الإسلام قبل نزول الآيات، أي لا تدل الآيات دلالة متأخرة عن نزولها، ولذلك يكون معنى أصحاب محمد في القرآن والسنة هو أهل بيعة الرضوان حصراً ومن قبضه الله إليه قبل ذلك.
ومن استخراج مصطلح صحابي من الملف الثاني نعرف أنه يشمل كل من دخل في الإسلام حتى في الأربع سنين الأخيرة من حياة النبي بمن فيهم من خضع للسلطة السياسية للإسلام كمسلمة الفتح ومسلمة عام الوفود من القبائل التي خضعت لسلطان الإسلام.
ومن حسن حظنا أنهم أطلقوا على من يشمل الفريقين مصطلح "صحابة" فصارت مجموعة الصحابة تشمل أصحاب محمد وكل من أسلم في حياة النبي ورآه أو سمعه ولم يرتدّ.
فخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومن أسلم بعدهما من الصحابة ليسوا من أصحاب محمد ولكنهم من مجموعة الصحابة التي أطلقها المحدثون من أجل الرواية على كل مسلم رأى النبي وأسلم ومات على الإسلام.
فكتاب الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني وقد ضمّ أكثر من 13 ألف صحابي منهم نحو ألفين فقط من أصحاب محمد. والباقون من الذين اتبعوهم بإحسان وهل كل الصحابة قد اتبعوا أصحاب محمد بإحسان أم أن منهم من لم يتبعهم بإحسان، والله حسيبهم في ذلك، هذه مسألة في علم الكلام ليس من غرضنا مناقشتها هنا.
حاول أبو عبدالله الحاكم ابن البيع في كتابه معرفة علوم الحديث تقسيم مجموعة الصحابة إلى 12 طبقة، وما يهمنا هنا هو أي من تلك الطبقات مشمول بالآيات القرآنية التي فيها ثناء على من كان مع النبي.
فبينما يكون تحديد مرجعية بعض الآيات سهلا لتحديدها المكان كـ"ـتحت الشجرة" في قوله تعالى
{[FONT=QCF_P513]ﮎ[FONT=QCF_P513] ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ[/FONT]} [سورة الفتح:18][/FONT]
فتحديد المقصود بالمؤمنين سهل في هذه الآية لأن تاريخ بيعة الرضوان وعدد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم معروف معلوم من التاريخ، ويكون الرد على من شرّع استخدام رضي الله عنه لكل الصحابة بهذه الآية مردوداً لأن هذه الآية لها مرجعيتها الواقعية وهي لا تشمل كل الصحابة بل من بايع تحت الشجرة حصرا. ومعلوم أن الدعاء برضي الله عنه يجوز لكل مسلم لكن مع ذلك لا يجوز الاحتجاج بهذه الآية بخلاف مرجعيتها الواقعية (المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة). فإن تحديد مرجعية آيات أخرى لم تحصر بزمان ليس سهلا ولا سيما أنها ليست تعني التحديد لما تشمله إذ يجوز أن يدخل معهم بالتبع كل من والاهم وقت نزول الآية مثل قوله تعالى :
{[FONT=QCF_P515]ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ[/FONT]} [سورة الفتح:29]
فهذه الآية معلوم أنها نزلت قبل فتح مكة وتكون على ذلك تشمل خالد بن الوليد وغيره ممن أسلموا بعد الحديبية وقبل فتح مكة بالتبع لأصحاب محمد. ولكنها قطعا لا تشمل معاوية وأباه وسهيل بن عمر وجميع من أسلم من قريش وغيرها في فتح مكة وبعده.
فهؤلاء الصحابة ليسوا من أصحاب محمد قطعا وليسوا مشمولين بالآيات التي تثني على اصحاب محمد. فإن قيل إن العلامة ابن حزم الأندلسي قد قال الصحابة [وهو يعني كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلموأسلم كما وضع التعريف علماء الحديث] في الجنة قطعا بدلالة قوله تعالى
{[FONT=QCF_P538]ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ[/FONT]} [سورة الحديد:10] فقد استنبط بطريقته المنطقية الأرسطوية القاصرة عن فهم الدلالة أن قوله تعالى (وكلا وعد الله الحسنى) تشمل كل الصحابة والصواب أنها تشمل كل من أنفق من بعد وقاتل وليس كل الصحابة وفق التعريف لأن الآية تتحدث عن درجات وجزاء من أنفق وقاتل وأن الله قد وعده الحسنى على عمله الصالح (الإنفاق والقتال في سبيل الله)، لا عمن عاش في عصر النبي وشهد الشهادتين. فالآية المحتج بها تقرر أن الله تعالى قد وعد الحسنى لكل مسلم أنفق وقاتل وإن كان لا يرقى إلى درجة من أسلم اختياراً لا اضطرارا أو في شبهة اضطرار.
هنا نصل إلى ختام هذه المقدمة التي هي خطوط عريضة لمقاربة المسألة في ضوء مرجعية الآيات والأحاديث، وبداهة أن الدراسة العلمية تقتضي جمع كل الآيات والأحاديث وأقوال الناس في فهم الدلالات والحكم على فهوم الدلالات في ضوء المرجعية الواقعية للنصوص لا في ضوء سلطة أحمد بن حنبل والبخاري والشافعي وغيرهم من أهل العلم لأن أهل العلم أنفسهم خاضعون لسلطة المرجعية الواقعية للنصوص.
ومن جعل أهل العلم بأنفسهم مرجعية فهم النصوص وشرع يورد لنا أقوال محدثي القرن الثالث وفهومهم فهذا لا يقال فيه إلا أنه مبعد للنجعة، فإن قيل إن في هذه المقدمة من الخطوط العريضة ما يكاد يخرج عن إجماع أهل السنة قيل إن دلالة القرآن والسنة وتحديد مرادها في ضوء المرجعية الواقعية للنصوص هي العلم لا ما تكلم به شخص أو مجموعة أفراد وعزوه إلى مفهوم تجريدي عام لا يمكن حده بحال اسمه أهل السنة. فليت شعري إذا كانت المحاولة الجادة المخلصة للعلم لفهم مراد الله تعالى ورسوله حتى وإن خالفت ما شئت من أقوال ، ليست هي مذهب أهل السنة فما مذهب أهل السنة؟ ولو شرعنا نجمع أقاويل أهل العلم لوجدنا مثل قول سعيد بن المسيب : "لا أعده [صحابيا] إلا من غزا معه غزاة أو غزاتين وصحبه صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين" ولكن ليس من مقصدنا هنا الاعتماد على أقاويل الناس كما قدمنا، بل على دلالة النصوص باعتماد مرجعيتها وتحديد مجالها الدلالي من واقعها، وهو سلطة يخضع لها الناس لأنه قد تقرر في علم الدلالة الصوري الحديث أن المعنى يقع خارج الذهن، بعيدا عن كل الناس.
الخلاصة باختصار:
·تحدد مفهوم أصحاب محمد من قوله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد "لا تسبوا أصحابي" ومن معرفة تاريخ إسلام خالد نعرف أنهم أهل بيعة الرضوان ومن أسلم معهم وقبلهم ومات قبلهم ونساؤهم وذريتهم لأنه ليس لدينا ما نستثني هؤلاء منهم.
·الصحابة هو مصطلح للمحدثين من أجل الرواية يشمل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أسلم بعدهم ورأى النبي أو سمعه ولم يرتد.
·الذين اتبعوا أصحاب محمد بإحسان هم خالد بن الوليد ومن أسلم بعده سواء كان من الصحابة أو ممن جاء بعدهم
يشمل كتاب الإصابة في معرفة الصحابة أكثر من 13 ألف صحابيا منهم زهاء ألفين من أصحاب محمد وتسعة آلاف صحابي أكثرهم من الذين اتبعوهم بإحسان.
·بشأن عدالة الصحابة هو قرار من المحدثين ليس من شأن هذه المقدمة مناقشته لكنا لا نقطع أن كل الصحابة قد اتبعوا أصحاب محمد بإحسان بل نظن أن أكثر الصحابة قد اتبعوا أصحاب محمد بإحسان.
·بعد نقد هذه المقدمة نقدا علميا سنتمكن من تشكيل مقدمة لإعادة تحديد المفاهيم للتصالح بين أعضاء مذهب الامة وهم (أهل السنة بتياراتهم والزيدية والمعتزلة والإباضية) وهؤلاء هم جميع المسلمين الموافقين لظاهر رسالة الإسلام، وأول من نص على أن هؤلاء هم أعضاء مذهب الأمة هو العلامة أبو محمد بن حزم في كتابه القيم (الفِصَل في الملل والأهواء والنحل)
وعلى الله التكلان وبه المستعان