أسْوارُ العَفاف (قبس من نور سورة النور)

إنضم
20/03/2007
المشاركات
123
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الرياض
بسم الله الرحمن الرحيم

"كنت كتبتها سابقاً فضعفت الهمة فلم أكملها ، وهاهي الآن بعون المنان بين أيديكم بتمامها"

أسْوارُ العَفاف
الحمد لله والصلاة والسلام على أفضل وأشرف رسل الله .. أما بعد
فإن الحرب على الفضيلة والعفاف والطُهر في هذا العصر قد شبّ أوارها وارتفعت ألسنة نارها حتى اكتوى بها المسلم والكافر والتقي والفاجر ، وعظم دُخانها حتى غطى الأفق وأعمى المُقل في المحاجر ، وإني على يقين من ربي أنه لن يُطفئ لهبها ويُبردَ حرَّها إلا ماء الوحي ، ولن يبدد سحائب ظلماتها إلا نورٌ يتنزل من "النور"سبحانه إلى الأرض ، وقد أنزل الله "سورة النور" في كتابه "النور" على نبيه "النُّور" صلى الله عليه وسلم ، فكلها (نُورٌ عَلَى نُورٍ) ، ولكن الشأن كلّ الشأن فيمن يهتدي إلي فهم وتدبر هذا "النور" العظيم (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) (35) .

وهذه الرسالة إنما هي رشفة من عسل التدبر لسورة النور وقبسٌ من أنوارها ، فهي سورة الطُهر والعفة والفضيلة تغسل قلوب المؤمنين والمؤمنات غسلاً فما تُبقي فيها دنساً ، تدبرتها سنين عددا فشيدت منها أسواراً نورانية خمسة متينة شاهقة ، العِرض في داخلها كقلب المدينة الحَصان التي لا يُعلى على أسوارها ولا يُستطاع لها نقْباً ، فلن تتسلل إليها الأيدي الخائنة إلا بغدرة خوَّان من داخلها ، فإذا غَدرت جارحة ثُلم في جدار العفة ثُلمة .

فمن أجل العفاف تنزلت "النور" ، ولأجل العفاف كُتبت "أسوار العفاف".

سورة "النور" لم يبتدئ العظيم في القرآن العظيم سواها بتعظيم ، اختصها من بين كل القرآن أن افتتحها بالثناء عليها فقال :
ـ (سُورَةٌ) والسورة في اللغة هي الأمر المنيف المرتفع عما حوله ، وكذلك هي من بين سور القرآن .
وهي مدنية باتفاق أهل العلم ولا يعرف مخالف في ذلك ، ونزول أولها في أوائل هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في الستة الأولى أو الثانية ، أيام كان المسلمون يتلاحقون للهجرة وكان المشركون جعلوهم كالأسرى كما يدل عليه حديث مرثد مع المرأة عَناق كما سيأتي قريباً بإذن الله .

ـ ثم قال : (أَنْزَلْنَاهَا) (وَفَرَضْنَاهَا) وكلُّ القرآن كذلك ، لكن لها تنزيل وفرضية خاصة تليق بها .
والسورة لها تعلق بعموم المجتمع ولكنها أخص في شأن النساء فأخرج أبو عبيد أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب للأمصار : تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورةالنور. وعن مجاهد قال : عَلِّمُوا رجالكم سورة المائدة وعَلِّمُوا نسائكم سورة النور .
ومما قاله الحافظ ابن حجر الهيتمي عن سورة النور وتعليمها للنساء قال : أي لما فيها من الأحكام الكثيرة المتعلقة بهن المؤدي حفظها وعلمها إلى غاية حفظهن عن كل فتنة وريبة كما هو ظاهر لمن تدبرها .

ـ ثم قال تعالى : (وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) والقرآن بيّن كله ، لكنْ هنا (فِيهَا) بيان فوق البيان ، ، فأحكامها واضحة معللة ليس فيها أدنى التباس ، فليس فيما تنزلت من أجله من متشابه القرآن شيء ، لأن قضايا الأعراض وحمايتها من الدنس ليست من المسائل التي يُقال فيها (اختلف العلماء) ، نعم يختلفون في تقدير الوسيلة الموصلة إلى الغاية ، وتبعاً لذلك يختلفون في حكم الوسيلة ، فيختلفون مثلاً :
هل تغطية الوجه للمرأة أمام أجنبي عنها واجبة أم مستحبة ؟
لكن لو تبين أن "كشفه" موصل يقيناً إلى الفاحشة فلا خلاف بينهم في تحريمه ،
بل لو قُدر أن "تغطيته" مآلها كذلك فالتحريم قول واحد عند كلّ فقيه .
ولأجل ألا تقع الأعراض ضحية الخطأ والصواب ، وتضطرب طرائق المربين بحثاً عن العلاج ؛

تكرر التأكيد فيها (سبع مرات) أن السورة بيّنةٌ أشد البيان :

1. (وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (1)
2. (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) (34)
3. (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (46)
4. (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (54)
5. (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (58)
6. (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (59)
7. (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (61)

فويحُ من تركها واستعاض بغيرها من تجارب البشر ، طلباً للطُرق (الإيجابية) فيما يزعم ،
فلو أفاد منهما وجعل ذِهْ تبعاً لتلك لأحسن وأجمل .

وكانت عناية أهل العلم بها وتوضيح أحكامها للناس خصوصاً في مجامعهم أمراً مشهوراً ، فأخرج الحاكم وغيره عن أبي وائل قال : حججت أنا وصاحب لي وكان ابن عباس رضي الله عنهما على الحج فجعل يقرأ "سورة النور" ويفسرها فقال صاحبي : سبحان الله ماذا يخرج من رأس هذا الرجل ! لو سمعت هذا الترك لأسْلَمَتْ .

بدأت النور بكلمة (سُورَة) لتبني ـ والله أعلم ـ أسواراً (خمسة) شاهقة متينة
تحوط العفة وتحمي الطُهر ، العِرض فيها كقلب المدينة الحَصان لن تتسلل إليها الأيدي الخائنة
إلا بغدرة خوَّان من داخلها ، فإذا غَدرت جارحة ثُلم في جدار العفة ثُلمة .

وهذه الأسوار هي :

السّوْر الأول :
أن بيضة العفة لن يحميها من لُعاب الوالغين فيها إلا تنكيل الدنيا قبل الآخرة (المجتمع الطارد للرذيلة)
السّوْر الثاني :
حفظ الفروج لا يكون إلا بحفظ الجوارح (تحصين الجوارح)
السّوْر الثالث :
أسلوب الإقناع بتعليل الأحكام (الإقناع بشرف الفضيلة)
السّوْر الرابع :
أن العِفة في حقيقتها قضية قلبية وجدانية (غرس محبة الفعة)
السّوْر الخامس :
العلم اليقيني بمراقبة الله (المراقبة الذاتية)

وتليها خاتمةٌ : لهذه الأسوار باب لا يغلق دلت عليه ودعت إليه "النور"، لكنه "مُشفّر" لا يدخل معه إلا التائبون .

فإلى بيان هذه الأسوار ،،
 
السّور الأول :
أن بيضة العفة لن يحميها من لُعاب الوالغين فيها بفروجهم أو بألسنتهم إلا حزم خازم وتنكيل بالغ في الدنيا قبل الأخرى .

"النور" لم تبدأ بفضل العفاف وذكر محاسنه والتنفير من ضده ، بل ولم تخوف الزاني بعقاب الآخرة ،
بل "النور" حين استهلت قالت :
ـ (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ..) (2) ، وإن كان محصناً فيُرجم حتى يُثلغ رأسه بصحيح السّنة وإجماع أهل السنة .

ـ (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) مع أن الرأفة في أصلها ممدوحة ولكنها هنا ضعف في الإيمان لأن ههناشرطٌ (إِنْ كُنْتُمْ) فعدمه عدمٌ للمشروط (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ، فمجردُ وجود "الشفقة" في تنفيذ الحد زال معه كمال الإيمان .

ـ ولا بد من التشهير (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .

ـ ولم تكتف "النور" بهذا بل ضربت (عُزلة اجتماعية) و (حجراً صحيا) حتى تضيق دائرة الفُحش ،
وحتى يتردد منثارت فورته ألفَ مرة وهو يتدبر كيف سيعيش بعدها في المجتمع إن كشف الله ستره

(الزَّانِي لَايَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّازَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (3)

فالعفيف لن يتزوج زانية ، والعفيفة لن ترضى بزان ، بقي أن يكونا زوجيين زانيين ؛ كِخْ كِخْ فلنيقبل حتى الزاني أمَّ ولده فاجره ، والزانية أيضاً كذلك .
فلابد بسلطان المجتمع أن يكونا عفيفين ، إما أصالةً أو بتوبة ، وإن رفضهما المجتمع بعد التوبة فهنا يتدخل التشريع ليفرض على المجتمع أن يقبل به أوبها فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له .

وهذا هو الصحيح في تأويل الآية أنها على ظاهرها فلا يجوز تزويج الزاني من المحصن ذكراً كان أم أنثى حتى يتوب ، وهو قول جماعة من السلف ونص الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من المحققين ، وقد أخرج أبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم بإسناد حسن عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ كَانَ يَحْمِلُ الأَسَارَى بِمَكَّةَ ، وَكَانَ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ وَكَانَتْ صَدِيقَتَهُ ، قَالَ : جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْكِحُ عَنَاقَ ؟ قَالَ : فَسَكَتَ عَنِّي ، فَنَزَلَتْ (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) فَدَعَانِي فَقَرَأَهَا عَلَيَّ , وَقَالَ : لا تَنْكِحْهَا .
وعند أحمد وأبي داود بإسناد لا بأس به مرفوعاً : "لا يَنْكِحُ الزَّانِي الْمَجْلُودُ إِلا مِثْلَهُ "قال الحاكم : صحيح الإسناد ، وقال الحافظ في البلوغ : رجاله ثقات .

ولأن الرضى بالزواج من الزاني أو الزانية دياثة منافية للغيرة المحمودة وفي الحديث عند أحمد وغيره مرفوعاً (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ) ، وعند النسائي (ثَلاثَةٌ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ , وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ تَشَبَّهُ بِالرِّجَالِ , وَالدَّيُّوثُ) .

إن سُوْرَ "النور" الأول لحماية المجتمع من شيوع زنى الفرج - عياذاً بالله – هو :

"المجتمع الطارد" لهذه الرذائل ، فهو مجتمع محصن ، يجلدهم بلا رأفة ، يشهر بهم ، يحجر عليهم .
وقد بُدء بهذا السوْر لأنه أقواها ردعاً وأبقاها أثراً ، لكنه "سوْرٌ جماعي" قبل أن تبنيه لابد أن تبني المجتمع الذي يتبناه .

فإن قيل : فأين التخويف بعذابالآخرة ؟
فالجواب : قد جاء هذا كثيراً في ثنايا السورة ، لكنالفاحشة إذا فارت في القلب طغت على نور العقل ؛ فقلما يردعها تذكر الآخرة إلا عندعبادٍ لله مخلصين ، بينما بأس الدنيا من الجلد والفضيحة وخوف نبذ المجتمع ينزع اللهبه مالا ينزع بالقرآن .

وإن قيل : وأين التحصين بالتربية وغرس محبة الطهر والعفة ؟
فبيانه أن هذا وغيرَه سيأتي ، ولكن هكذا شاء العليم الحكيم أن يرتب آيات هذه السورة العظيمة .
هذا هو السوْر الأول لتحصين الفرج .

وأما تحصين اللسان عن الفاحشة كما جاء في "النور" فشيء آخر :
فقد تعاملت "النور" مع الوالغين في الأعراض بألسنتهم بحجج عقلية ونداءٍ ايماني وصرامة شديدة في الوصف والجزاء والشرط ، حتى إنه يتخايل لك حيناً أن تهديدها للألسنة الوالغة أشدُّ مما هددت به الفروج الزانية ، (فالفرج) جريمته مع بشاعتها هي واحدة ، فإذا تناقلتها (الألسنة) صارت ثقافة شائعة فانتُهكت آلافُ الفروج المحرمة .
ومن البدهي أن ليس للإشاعات نمط واحد لا تتجاوزه ، بل يدخل فيها شائعات البريد الإلكتروني ومنتديات الإنترنت ومواقع اليوتيوب والفيسبوك والتشات والدردشة ورسائل الجوال والماسنجر عن فلانة وفلان ، ونلحظ أن بعضهم إذا اختلف مع رجل أو امرأة في عقيدة أو فكر أو منهج ونحوها استباح من مخالفه كل عرض ، وظن أن هذه المخالفة تسوغله بهتانه ، بل حيناً يحتسب الأجر عند الله ـ بزعمه ـ لأن مخالفه عدو لله .
وله نصيب وافر منها أيضا ًذاك الكذاب الذي رأى ظِنةً فصيرها مِئنة ، فأخذ يثير الظنون الفاسدة بين الناس ، بمثل قوله لهم : رأيت زوجته تكلم فلانا ، وبنات جيراننا يعدن فيساعة متأخرة من الليل ، وفلانة تركب مع رجل غريب ... ومن هؤلاء من يحدث بكل ما سمع ، ويزعم أنه لم يتهم وأنه وأنه .. وإنما هو ناقل ، فيقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا ..".

وهذه هي الأوصاف التي اختارها الله لهم :

ـ (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (4)
ـ (فَأُولَئِكَ "عِنْدَ اللَّهِ" هُمُ الْكَاذِبُونَ) (13)
وصيغة الحصر في الآيتين للمبالغةكأن لا يوجد في الدنا من الفاسقين والكاذبين إلا هم ،
و(عند الله) جملة حالية أي أنهم فيعلم الله الذي لا يدخله تغيير أو تبديل هم كاذبون .
ـ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْبِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (15) ، (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) والتلقي عادة بالآذان لا بالألسنة لكنهم لسرعة إلقائهم لهذه الإشاعات بألسنتهم بمجرد سماعهم لها فكأنها عبرت للسان دون مرورٍ بالسمع ، وتأمل خفة العقل هنا .
وفي القراءة الأخرى (إِذْ تُلْقُوْنَه) معنى آخر ، فتُلقونه من الإلقاء وهو أن هؤلاء اعتادت ألسنتهم أن تتحدث بأعراض الناس في كل حين وتُؤلف التُّهم وتفترعها حتى لو من دون سماع لشائعة أصلاً ، فأصبحت ألسنتهم مصانع تلقي الإشاعاتوالكذب الذي يبلغ الآفاق ، فيلقونها جُزافاً من دون اكتراث ولا تأنٍ ولا محاسبة ، وفي الصحيحين في حديث الرؤيا الطويل (وَأَمَّا الَّذِي رَأَيْتَ يُشَرْشِرُ فَمُهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخَرُهُ إِلَى قَفَاهُ فَذَاكَ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ , يَكْذِبُ الْكَذِبَةَ فَيَشِيعُ فِي الآفَاقِ) .

(وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ) ومن المعلوم أن القول يكون بالأفواه لا بغيرها ، فما سر ذكرها ؟ وجواب هذا أن القول لما لم تقلبه القلوب وتمحصه العقول أصبح مجرد حركة للأفواه لم تتأمل عُقباها .

وأما قوله سبحانه (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) فقد نطقت بما ليس للعبد معها إلا أن يرددها .

أما الجزاء :
فذكر الله لهم ثلاث عقوبات : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) (4) ، ( وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) (4) أي حتى يتوبوا ، (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (14) .

وأما الشرط :
ـ فقال تعالى (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (17)
(يَعِظُكُمُ اللَّهُ) الموعظة تأتي فيغالب القرآن ولا تُسند لفاعل (يُوعظ به) (يُوعظون بِهِ) (مَوعِظة) ، وهنا جاء لفظ الجلالة صريحاً (يعظكم الله) ، والموعظة تكون لمن علم التحريم أعظم ممن لم يعلمه ، وكلاهما يوعظ العالم والجاهل .
(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط ، ومن المقرر أن الشرط يلزم من عدمه العدم ، فمن عاد فليس بمؤمن .
وهذا الشرط دليل عند الإمام أحمد على تكفير كل من رمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لأن الآيات نص فيها .

- وهنا واجبات أربع فرضها الله على المجتمع حين ورود شائعة تتعلق بالأعراض :

فأولها : حسن الظن ببعضنا (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) (12) ، وتأمل قوله (بأنفسهم) فهم نفس واحدة ، فكل ما يصيب المؤمن يصيب أخاه شاء ذلك أم أبى .

ثانيها : التكذيب المباشر والصريح إعمالا للبراءة الأصلية (وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) ، ولم يرض منهم بقول : لاندري .. الله أعلم .. قد يكون .. هذا مستبعد .. ونحو ذلك ، بل يقذفون القاذفَ صريحاً بقولهم له هذا "إفك"و"بهتان" (مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (16)

ثالثها : هات دليلك وبرهانك أو أنت رأس الكاذبين :
(لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوابِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (13)
وهنا ثلاثة مؤكدات لاستحقاقهم هذا الوصف "عند الله" و "هم" و"ال" ، وأنكاها أولها وثالثها تفيد وكأن الكذب حُصر فيهم ، وأصل الكلام "فأولئك كاذبون".

رابعها : التروي وتقليب الأمر والنظر في العاقبة وترك العجلة في الكلام والحكم :
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) (15) ، (مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا) (16) .
ختاما ً.. في صحيح مسلم " كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ".

حفظ الله فروجنا وألسنتنا وجوارحنا من كل سوء ،

وإلى السّوْر الثاني بمشيئة النور وعونه سبحانه ،،
 

السور الثاني : حفظ الفروج لا يكونإلا بحفظ الجوارح .

(البصر) (السمع) (اللسان) (القلب) (الأيدي) (العورة) (الرِّجل) (الرأس "خُمرهن") (الجَيب "النحر والصدر")
هذه "تسع" جوارح نصّت عليها "النور" ،
عجباً من أجل صوت خلخال من رِجْلِ امرأةٍيتكلم الله !! نعم إنها العفة .
العِرض في سورة النور كقلب المدينة الحَصان لن تتسلل إليها الأيدي الخائنة إلا بغدرة خوَّان من داخلها ، فإذا غَدرت جارحة ثُلم في جدار العفاف ثُلمة .
وأثر هذه الجوارح على العفة أو ضدها واضح لا يحتاج إلى برهان
ولذا اتفق الأئمة الأربعة على :
تحريم مس يد المرأة الأجنبية الشابة المشتهاة في العادة ، بل ذهب المالكية والشافعية إلى تحريم مصافحة العجوز ، وينظر فيها الموسوعة الفقهية الكويتية (37/ 359) وغيرها .
وعلى حرمة النظر إليها والخلوة بها لكون ذلك سببا ظاهرا للفساد
وعلى حرمة كشف المرأة لوجهها إذا خيف عليها خوفاً ظاهراً
وكذا تعطرها بما يجد الرجال رائحته منها ، أو تغنجها بالكلام أو بالرسائل أو تكسرها بالمشي أو غمزها بالعين ونحو ذلك .

وقد قال الله تعالى في "النور" (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (21)

وفي الصحيحين "فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ"
والذي نحتاجه من "النور" هو النور القلبي الذي يضيء لهذه الجوارح طريقها
أين تمضي؟ وأين تقف ؟ فإن المضي دائماً هلاك ، والوقوفَ دوماً فناء .

وهنا مسألة أُصولية عظيمة نبهت عليها إشارات "النور" وهي أن :

حِياطة الطُّهر لابد فيها مِن إعمال قاعدتين :"سدّ الذريعة" و "مراعاة الحاجة"
فالأولى تَقي والثانية تُبقي ، الأولى تَحُوط والثانية تُنفِّس .
وإهمال إحدى القاعدتين مآله إلى شيوع الفاحشة في الذين آمنوا .
فإهمال الأولى ؛ تركٌ لذئاب الشهوة من داخل النفس وخارجها تُمزق العفة تمزيقا ،
وإغفال الثانية بزعم الغيرة ؛ سيحبس النفوس هُنيهة ثم ترقب متى يتفجر البركان ؟

وقاعدة سدّ الذريعة في النور ظاهرة جداً :
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُواخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) 21

- (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوامِنْ أَبْصَارِهِمْ) 30
- (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْأَبْصَارِهِنَّ) 31
- (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَمِنْهَا) 31
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوابُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ...) 27
ولذا اتفق الفقهاء على أن المرأة إذا تميزت بحسنها أوكثر الفساق في مجتمعها من دون رادع عن الطمع فيها ؛ فإنه يجب على المرأة أن تستر زينتها سواء كانت في وجهها أو في غيره عند خوف الفتنة الظاهرة عليها .

بل من دقة معالجة السورة لقضايا العفة ونواقضها وتشديده في هذه الأمر أنه سبحانه قال (وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) فالضمير في قوله (فإنه) عائد على (مَن) الشرطيةكما هو اختيار ابن سيده في إعراب القرآن وأبو حيان وجماعة ، وعليه فقد جعلت الآية المتبع لخطوات الشيطان والمنساق وراء دعواته ؛ أمراً بالمنكر والفحشاء ، لما يتبعذلك من تأثيره في محيطه ومجتمعه ، فيكون حال هذا المتبع في المآل كحال الآمر بالمنكر ، فجاءت الآية تنبه المجتمع المسلم إلى أمرٍ غايةٍ فيالخطورة وهو أثر سلوك الأفراد في نشر ما يناقض العفة وينشر الفاحشة ودواعيها بين عموم الناس .

وجاء التأكيد في تربية الطفل وأهل البيت على آداب الاستئذان وحفظ حرمة البيوت (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (59) ، فينشأ وقد تعود على الستر وعدمرؤية ما يُستحيى منه ويحرك غرائزه فيصبح هذا السلوك القويم ديدنه في شبابه وعمره كله ،فالعين إذا تعودت على الستر والفضيلة والابتعاد عن رؤية ما يخدش الحياء والعفة ؛ لن ترضى أن ترى خبيثاً بعد ذلك بل وتنفر منه حيثما رأته .

وقاعدة مراعاة الحاجة أيضاً ظاهرة :
- (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)
- (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)
وقد غايرت "النور" بين الأبصاروالفروج فالأولى فِعلُها (يَغُضُّوا) والثانية فِعلُها (يَحْفَظُوا) ، والإغضاء هو : صرف المرء بصره عن التحديق وتثبيت النظر فهو أغلبي وليس تاماً بخلاف الحفظ .
ثم جيء بـ (مِن) التي للتبعيض مع (الغض) دون (الحفظ) .
يقول ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين (1/ 92) عن غض البصر : ولما كان تحريمه حريم الوسائل فيباح للمصلحة الراجحة ويحرم إذا خيف منهالفساد ولم يعارضه مصلحة أرجح من تلك المفسدة ؛ لم يأمر سبحانه بغضه مطلقا بل أمربالغض منه وأما حفظ الفرج فواجب بكل حال لا يباح إلا بحقه فلذلك عم الأمر بحفظه .

- (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)
وهنا حرّم الله على النساء إبداء كل زينة وهذا هو الأصل فلا يجوز إظهار الزينة إلا ما استثناه الله وهو (إلا ما ظهرمنها) ، واللفظ الذي جاءت به "النور" هو (ظهر منها) ولم يقل هنا سبحانه (إلا ماأظهرته) أو (إلا ثيابها) أو (إلا وجهها وكفيها) بل إلا ما ظهر هو ولم تقصد هي إظهاره قال ابن عطية رحمه الله : ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألاتبدي ، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لابد منه ، ونحو ذلك ، فما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه . اهـ
ولذا جاز ما ظهر ضرورةً كالقوام من وراء الجلباب ، وما أظهرته الحاجة كالنقاب للعينين وهو جائز بالنص والاتفاق ، وجاز لها ظهور يديها عند الحاجة لذلك كتناول شيء أو فتح باب أو أداء مهنة ونحوها ولم يوجب أحد من الفقهاء القفازين عليها ، وجاز ظهور وجهها عند الشهادة والخطبة والبيع والشراء إذا احتاجت لذلك عند كافة الفقهاء .

- ومن آيات مراعاة الحاجة في "النور" عند ضعف الفتنة (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَعَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (60)

فالمسألة هنا رباعية :
1) إذا قويت الذريعة وضعفت الحاجة :
كفتاة جميلة لا تحتاج إظهار يديها أو وجهها ، أو صوتهارخيم رقيق بطبعه ولم تحتج للكلام مع أجنبي عنها . فهنا يُغلب جانب سد الذريعة .
2) قويت الحاجة وضعفت الذريعة :
كامرأة كبيرة لا يُشتهى مثلها عادة تعمل فتحتاج لكشف يديها ووجهها حينا لطبيعة عملها ، أو في بلد لا يُنظر لمثلها عادةً ، فهاهنا يُغلب جانب مراعاة الحاجة .
3) تقاربتا في الضعف :
وأمثلة هذه تظهر مما سبق ، والأصل هنا الستر كما سبق في آية الزينة ويؤيده قوله تعالى في القواعد من النساء (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) ، فكيف بغيرهن ؟!

4) تقاربتا في القوة :
وهذا الموطن مُشكل ، فمثلا إذا كانت حسنة الوجه واحتاجت حاجة قوية لكشفه عند الجوازات لتسافر مع زوجها أو لطبيعة عملها الذي تعول نفسها وأهلها منه ، وكانت حصاناً تحفظ نفسها ، ونقول هنا بأن الأصل وجوب ستر الزينة ما لميقع الحرج (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج : 78 ،ولحديث الخثعمية المشهور فإنها مع فتنة الفضل رضي الله عنه بنقابها فلم يأمرها صلى الله عليه وسلم بتغطية عينيها لشدة حاجتها إلى النظر مع ما يحتاج إليه الحج والسفر، وإنما صرف صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها ، وهذا هو أرجح الوجوه في تأويل الحديث ، والله أعلم .

ـ مشروعية النكاح :
الجوارح بفطرتها قد جُبلت على حب الشهوة كما في الصحيحين مرفوعاً : "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ"، ولذلك شرع الله النكاح لتصرف هذه الشهوة في مَحِلها الذي خلقها الله من أجله .

وقد جاء الأمر صريحاً في "النور" بالنكاح (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) (32) ، ولأجل أن أكثر ما يمنع الناس من النكاح خوف الفقر والعَيلة إن تزوج أو زوّج وعدهم الله الغني الواسع بالغنى منه سبحانه (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ، وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ؛ ينجز لكم ما وعدكم من الغنى (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) ، وجاء معناه أيضاً عن عمر الفاروق وابن مسعود وابن عباس وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين .

وأما من ضاقت به اليد فلم يجد ما يتزوج به فليطلب العفة ويصابر عليها حتى يأتي الفرج (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (33) ، واللام في (لْيَسْتَعْفِفِ) لام الأمر ، و"يستعفف" السين والتاء فيها للطلب ، والمعنى ليجتهد في سلوك سبيل العفة ، فهو أمر بملازمة أسباب العفاف في مدة انتظارهم ، والسين والتاء فيهما معنى المبالغة في الفعل ليؤكد عليه لزوم بذل كل الوسع في تحصيل العفاف .

ومن أعظم أسباب العفاف ما جاء في الحديث المشهور المتفق عليه «يَا معشر الشَّبَاب ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغضّ لِلْبَصَرِ ، وَأحْصن للفَرْج ، ومَنْ لم يسْتَطع فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء» ، والصوم الذي يكون وِجاءً وقاطعاً للشهوة هو الصوم المتتابع شهرين وثلاثة ، كأن يصوم يوما ويفطر يوما أو يصوم ثلاثة أيام في الأسبوع ونحو هذا أشهراً عدة ، أما الصوم المتباعد أو صيام شهر واحد كرمضان فالعادة أنه لا يضعف الشهوة كثيراً كما هو مجرب من أحوال الشباب ، وعموماً هذا يختلف من شاب لآخر لكن ما سبق هو الغالب من أحوالهم ، ويدل عليه قوله في الحديث (فعليه) فإنها بمعنى فليلزم الصوم ، قال في الفتح (6 / 146) : "واستشكل بأن الصوم يزيد في تهييج الحرارة وذلك مما يثير الشهوة ، لكن ذلك إنما يقع في مبدأ الأمر فإذا تمادى عليه واعتاده سكن ذلك". ا هـ
 
السور الثالث : أسلوب الإقناع بتعليل الأحكام

من الأمور المؤثرة في حفظ الأعراض وتثبيت غرس الفضيلة في نفوس الفتيان والفتيات قناعتهم العقلية الراسخة بفضل العفة وشرفها ودناءة الفاحشة وخساستها ، فحين النقاش بينهم وبين منتكسي الفطرة يعلو منطقهم وتغلب حجتهم ، وتكون مواقفهم قويةً مدعومةً بدليل العقل الذي يُذعن له كل عاقل .

وهكذا كان تنزل "النور" فأحكامها معللة فهي لا تكاد تذكر حكماً أو وصفاً إلا وتتبعه ببيان سببه أو الحكمة منه ، فمن أول آية فيها علل الله سبحانه سبب تنزيلها وفرضها وتمامِ البيان في آياتها بقوله (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (1) ، ولما شرع الملاعنة بين الزوجين حين القذف قال سبحانه : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (10) أي ولولا فضل الله عليكم بإنزال حكم الملاعنة بين الزوجين لأُحرجتم وشق عليكم ما شدد الله به في مسألة شهود الزنا فحتى يخف على النفوس قبول مشروعية الملاعنة بين الزوجين بيّن أنها فضل ورحمة ، وحين نهى عن قبول قذف القاذف إلا ببينة علل ذلك بأنهم كاذبون (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (13) ، وعلل الأمر بعفو الرجل عمن قذف أهل بيته بالفحش بقوله (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) (22) ، وبعد الأمر بالرجوع إن لم يُؤذن لمن استأذن قال (فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) (28) ، وكرر نفس العلة مع الأمر بغض البصر (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) (30) ، ونزل النهي عن ضرب المرأة برجلها إظهارا لزينتها (لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) (31) ، وحين ذكر أحكام الزينة للمرأة قال (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (31) ، ولما أمر بالصلاة والزكاة وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم قال (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (56) ، وعلل النهي عن مخالفته فقال (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .

والسورة أغلبها هكذا يتخلل التعليل أحكامها ، قد جاءت السنة بهذا أيضاً ففي مسند الإمام أحمد بإسناد جيد عن أبي أمامة قال : إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِى بِالزِّنَا . فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا : مَهْ مَهْ . فَقَالَ : ادْنُهْ ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا ، قَالَ : فَجَلَسَ ، قَالَ : أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ ؟ قَالَ : لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ . قَالَ : وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ . قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ ؟ قَالَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ . قَالَ : وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ .. . الحديث

فإذا أردنا أن نبني أسوار العفة حول أبنائنا وبناتنا ونأمرهم بالطهر وننهاهم عن ضده ؛ لابد أن نتعلم كيف نعلل ؟
- فحين نوجههم لبعض الصداقات المفيدة أو الاشتراك بحلقات تحفيظ القرآن أو حضور بعض الأنشطة المفيدة لهم وما شابهها يجب أن نعلل ذلك تعليلاً مقنعاً .
- وحين نمنعهم من بعض الزملاء أو الزيارات أو الأماكن أو القنوات أو أنواعٍ من الجوالات أو بعض مواقع الإنترنت أو نحوها يجب أن نعلل كذلك .
- وإذا حذرناهم من رؤية أو سماع أو قراءة ما يخدش حياءهم لابد أيضاً أن نعلل .
- أو أثنينا على شخص أو موقف حدث أو ذممناهما فوضّح للمتلقي العلة في الحالين ، فمثلاً هناك أشخاص مشاهير من الرجال أو النساء لهم شعبية جارفة من المغنين أو اللاعبين أو الأثرياء وأخلاقهم سيئة وثوب طهارتهم مُدنّس بقصص مشهورة أو مقاطع فيديو أو صور هابطة ، وفي مثل هذا الموقف يجب أن نكون مؤهلين بدرجة عالية من وسائل التأثير والإقناع ، لأن صورة واحدة أو مشهداً فاتناً من هؤلاء قد يهدم تربية سنوات .
- أيضاً عند الثواب أو العقاب أذكر العلة واضحة بدون لبس .
والأمثلة في هذا كثيرة جداً وإنما قصدت الإشارة لا الحصر ،،

فإن سأل متدبر بأي شيء عللت سور النور ؟
فالجواب أن العلل المذكورة فيها على نوعين :
الأول : تعليل بأمر ديني إما محبة أو رجاء أو خوفاً .
والثاني : تعليل بأمر دنيوي من السعة في الرزق وحصول الخير ونحوها .

والأول أمثلته قد ملئت ما بين طرفيها ولا تخطئها العين من أول نظرة ، ويكفيك منها قوله تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه جيء له بلبن فعرضه على جلسائه واحدا واحدا، فكلهم لم يشربه لأنه كان صائما، فتناوله ابن مسعود وكان مفطرا فشربه ، ثم تلا قوله تعالى (يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار) . فنبه على علة هذا الصيام ، وقد فسر ابن مسعود الزيادة هنا بالشفاعة لغيرهم حين ضمنوا جنة ربهم .
فهم صاموا خوفاً من ذلك اليوم وطمعاً بالجنة والمزيد من الله الكريم سبحانه .
وهذا هو الأصل في التعليل أن يكون بالوعد والوعيد والجنة والنار ، وطمعاً في رضى المولى وخشية من غضبه .

ويقع الخطأ الكبير منّا في تربيتنا لمن تحت أيدينا حين نفر من منهج القرآن إلى مناهج حادثة نُكثر فيها من استخدام مصطلحات (مستوردة) زاعمين أن رحى (التربية المؤثرة) تدور عليها ، فتارة يُنادى بما يسمى بـ (الإيجابية) وأخرى (التحفيز) وثالثة (الإقناع) وهذه كلها طرائق (حق) لو اكتفت بحيزها اللائق بها ، أما أن تُزاحِم أو تُقدَّم على منهج التربية بالمحبة والرجاء والخشية وبالوعد والوعيد والجنة والنار والقيامة والساعة والطامة والقارعة والحاقة والزلزلة ... التي امتلأت بها السور المكية فخطأ جارف وضلال يلوح ، وويحُ من ترك منهج تربية القرآن واستعاض بغيرها من تجارب البشر طلباً للطُرق (الإيجابية) فيما يزعم ، ولو أفاد منهما وجعل هذه تابعة لتلك لجمع الحسنيين .

والثاني : وهو التعليل بأمر دنيوي فله أمثلته أيضاً كقوله تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (55) .

ويأتي التعليل بالأمرين معاً كقوله تعالى : (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (27) ، وقوله (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (54) ، وقوله (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (60) فهذه عامة في الدارين ، وغيرها كثير .

ومن أساليب الإقناع في السورة أن من جادل في جواز إظهار المرأة لزينة وجهها أو ملابسها أو غيرها فليأت وليفسر لنا آية القواعد وهي المرأة بلغ بها العمر ألا ترغب ولا تُرغب في النكاح (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) فحكمها من جهة الستر (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) والثياب هنا هي الجلباب الذي يغطى البدن كاملاً عدا الوجه ، فتضع الجلباب ويبقى الدرع (القميص) والخمار (غطاء الرأس) بشرط ألا تكون هذه العجوز الآيسة من النكاح مظهرة لزينة لم تُعهد في جسدها أو ثيابها أو حُليها ، وبعد كل هذا (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) ، ثم جاء ختام الآية مشوباً بالتهديد (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (60) .
فما الذي بقي من العذر لامرأة فتيةٍ شابةٍ تظهر زينتها أم الرجال الأجانب عنها ؟؟

وهكذا تأتي السورة لتغلق كل منفذ لأي احتمال عقلي يمكن أن يكون سبباً في تهاون الرجل أو المرأة في صيانة الشرف والعرض ، بل وتحرك العقول لتزداد قناعة ويقيناً بضرورة حياطة العفة من كل دنس .
 
السّوْر الرابع : أن العِفة في حقيقتها قضية قلبية وجدانية

فمن أُسس تربية "النور" للمجتمع تربية الأجيال على محبة الطهر وبغض الفاحشة .
تأمل اللفظَ وتنفيرَه : (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) و(الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ) هكذا بلا كناية ولا مُواربة ،فأين توارت توريات وكنايات القرآن ؟!
بل يؤكد معناها بالنص على ضدها (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) فلا بد من أحد الوصفين إما خبيث أو طيب .
وحين يرد هذا اللفظ المستشنع "خبيث" تتهادى إلى خاطرك آية الأنفال :
(لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ)
كانت أجسادا على الأرائك بعضها فوق بعض بالحرام ، فصارت أجسادا بعضها أيضاً فوق بعض لكن متراكمة كجثث الموتى في نار جهنم ، عياذا بالله .

ومن طهر نفسه فهو "الطيب" ، والناس في هذا يتفاوتون :
1 – فمنهم المحصن : وهو من حصن نفسه منها وإن نازعته شهوته .
2- وفوقه الغافل : وهو من لم تَدُر الفاحشة بخاطره أصلا .
ولما كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قد حازت أعلى المرتبتين قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (23)

وفي القوم أناس جريرتهم الكبرى "فقط" هي محبة نشر الفاحشة (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) ،فهؤلاء يحبون مشاهد الفُحش بين الشباب والفتيات ، يطربون لسماعها في المجالس ،يرسلون روابطها للناس عبر المنتديات والإيميلات والقروبات ،يتسابقون إلى برمجة ونشر (البروكسي) لتحطيم سدود الطهر ،وما درى هذا المسكين أنه يُسابق إلى جبل من جبال جهنم ، أيها يحطم رأسه أولاً .

فغرس محبة العفاف سوْرٌ عظيم من أعظم أسوار الفضيلة :
ولذا امتن الله على المؤمنين بقوله (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) ، وأثنى عليهم بقوله (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) ، وقوله (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ، ودعا به صلى الله عليه وسلم لأمته "اللهم طهِّر قلبَه ، وحصِّن فرجَه ".

وهذا الغرس له من الوسائل والأساليب ما لا يحصى :
1- الإقناع : " أترضاه لأمك ... " وقد تقدم الحديث عنه في السور الثالث .
2- معرفة شرف العفة وفضلها :
(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) [التحريم : 12] ، (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا) [الأنبياء : 91] ، وهنا لطيفة بديعة في مجيء حرف الفاء (فـنفخنا) بين الجملتين (أحصنت) و (نفخنا) ، فالفاء هنا تفيد التفريع ، أي أن ما بعدها (نفخنا) فرع ونتيجة لما قبلها (أحصنت) ، فلا إله إلا الله ما أعظم بركة العفة في الدنيا والآخرة .
بل إن الله لما ذكر مريم عليها السلام وصفها بثلاث صفات :
الأولى (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) ، والثانية (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ) ، والثالثة (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) ، فتأمل :
كيف قدم الله وصفها بالإحصان على وصفها بالتصديق والقنوت ؟!
وكيف ذُكر النفخ بعده وقبلهما إظهارا للسبب الأبلغ أثراً لاصطفائها بهذا النفخ العظيم !

ومن السنة في الحديث الثابت عنه صلى الله عليه وسلم قال : " إِذَا صلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا ، وَصَامَتْ شَهْرَهَا ، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا ، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا ، قِيلَ لَهَا : ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ ".

وما أجمل لو حفظنا بناتنا أمثال هذه الأبيات الرائقة
للشاعر المبدع خالد صابر :
أختاه لا تهتكي ستر الــــحياء ولا *** تضيعي الدين بالدنيا كمن جهلوا
تمسكي بكتاب الله واعتصـــمي *** ولا تكوني كمن أغراهم الأجل
أختاه كوني كأسماء التي صـبرت *** وأم ياســـر لما ضامها الجَهـِل
كوني كفاطمة الزهراء مؤمنـــة *** ولتعلمي أنــها الدنيا لها بدل
كوني كزوجات خير الخلق كلهمو *** من علم الناس أن الآفة الزلل
من صانت العرض تحيا وهي شامخة *** ومن أضاعـته ماتت وهي تنتعل
كل الجراحات تشفى وهي نافـذة *** ونافذ العرض لا تجدي له الحيل
أختاه إنا إلى الرحمان مرجعنـا *** وسـوف نسأل عما خانت المُقل
أختاه عودي إلى الرحمان واحتشمي *** ولا يــغرنك الإطراء والدجل
توبي إلى الله من ذنب وقعت به *** وراجعي النفس إن الجرح يندمل

3 - التخويف من عاقبة الفاحشة : كما في حديث التنور في البخاري في رؤياه صلى الله عليه وسلم :" قَالَا لِي - أي الملكين - انْطَلِقْ انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، قَالَ عَوْفٌ وَأَحْسَبُ أَنَّهُ قَالَ وَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ ، قَالَ : فَاطَّلَعْتُ فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهِيبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا ،فَقُلْتُ مَنْ هَذَا ؟ .. قالا : وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمْ الزُّنَاةُ ".
وأحاديث انتشار الأمراض المستعصية بين أهل الفواحش ودلالة الواقع على ذلك .

4 - القصص : ومنها قصة يوسف عليه السلام ، وحديث الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، وعند الاسماعيلي في مستخرجه وأصله في صحيح البخاري مختصراًعَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون قَالَ : " كُنْت فِي الْيَمَن فِي غَنَم لِأَهْلِي وَأَنَا عَلَى شَرَف ، فَجَاءَ قِرْد مِنْ قِرَدَة فَتَوَسَّدَ يَدهَا ، فَجَاءَ قِرْد أَصْغَر مِنْهُ فَغَمَزَهَا ، فَسَلَّتْ يَدهَا مِنْ تَحْت رَأْس الْقِرْد الْأَوَّل سَلًّا رَفِيقًا وَتَبِعَتْهُ ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَأَنَا أَنْظُر ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَجَعَلَتْ تُدْخِل يَدهَا تَحْت خَدّ الْأَوَّل بِرِفْقٍ ، فَاسْتَيْقَظَ فَزِعًا ، فَشَمَّهَا فَصَاحَ ، فَاجْتَمَعَتْ الْقُرُود ، فَجَعَلَ يَصِيح وَيُومِئ إِلَيْهَا بِيَدِهِ ، فَذَهَبَ الْقُرُود يَمْنَة وَيَسْرَة ، فَجَاءُوا بِذَلِكَ الْقِرْد أَعْرِفهُ ، فَحَفَرُوا لَهُمَا حُفْرَة فَرَجَمُوهُمَا ، فَلَقَدْ رَأَيْت الرَّجْم فِي غَيْر بَنِي آدَم ".

فتأمل كيف يمكننا تقبيح وتبغيض الخيانة والفاحشة بمثل هذه القصة ،
فشيء لم ترضه القرود لنفسها فكيف يكون موقف الإنسان العاقل السّوي منه ؟!!

وليت من استفرغ جهده في جمع هذه الوسائل من الكتاب والسنة وتجارب الناس ؛
فسيجد درراً وجواهر أغلى من الألماس .
 
السور الخامس : العلم اليقيني بمراقبة الله

تكرر اسم (العليم) للرب جل وعلا في "النور" عشر مرات ، وأما صفة (العلم) وما يدل عليها فأكثر من ذلك بكثير ، في تأكيد ملحوظ على هذا المعنى في السورة ومن ذلك :
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (18) ، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (19) ، (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (21) ، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (28) ، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) (29) ، (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (30) ، (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (32) ، (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (35) ، (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (41) ، (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (53) ، (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (58) ، (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (59) ، (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (60) ، وغيرها .
بل ختم الله آيات "سورة النور" بقوله تعالى (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) و(قَدْ) هنا للتحقيق أي يعلم علماً محققاً بما أنتم عليه ، وخَتْمُ السورة بكلمة (عليم) له من الدلالة ما لا يخفى في أهمية بناء هذا السور العظيم وهو "سور المراقبة".

وهذه المراقبة تتحقق في قلب المؤمن من خلال طريقين عظيمين :
الطريق الأول : بكثرة التدبر في آيات الوعد والوعيد ، ولذا لما قال تعالى (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أتبعها مباشرة بقوله (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا) ، فهذا التدبر يورث القلب خوفا وطمعا ، ومن كان هذا حاله راقب أقواله وأفعاله ، فيوم القيامة والحساب والميزان وتطاير الصحف والصراط والجنة والناروسائللا يجوز أن تغيب عن قلب وعقل وسمع وبصر المربي ليستعملها في كل مراحل تربيته .

ولذا تتابعت آيات "النور" بين الوعيد تارة كقوله سبحانه : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (11) ، وقوله (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (14) ، وقوله (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (19) ، وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (23) .

وبين الوعد الجميل تارة أخرى كقوله تعالى (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (22) ، وقوله (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (26) ، وقوله (فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (33) ، وقوله سبحانه (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، وقوله (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (52) ، وقوله (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (56) ، وقوله (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (54) وغيرها كثير .

وبمطلق الحساب تارة ثالثة (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (25) ، وكقوله تعالى (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (39) .

وهذا الوعد والوعيد يأتي سابقاً قبل تعلم الأمر والنهي أي أن الإيمان لابد وأن يكون قبل تعلم الأحكام ، وقد أبان عن ذلك أوضح بيان "المثل النوراني" الذي هو واسطة عقد السورة وسيأتي شرح ذلك مفصلاً قريباً ـ بمشيئة الله ـ وقد جاءت آيات "النور" من مطلعها وهي تنبه على ضرورة الإيمان أولاً ، فلقد علقت أول أمر فيها بقوله سبحانه (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (2) ، وبعدها بيسير (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (17) ، بل وتنفي آيات النور الإيمان عمن تولى عن الطاعة فقال جل وعلا (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (47) .

وبين سبحانه في "النور" أثر ضعف الإيمان أو انعدامه في تلقي الأمر والنهي فيقول سبحانه (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
وفي مقابل ذلك أثر قوة الإيمان في سرعة الاستجابة للأحكام (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (51) .
وبلغ الأمر منتهاه حين زعموا أنهم سيطيعون فسخر الرب سبحانه من زعمهم هذا فقال : (طاعة معروفة) لأنهم مهما أظهروا من الإذعان وأقسموا الأيمان فلا قوة بهم على الطاعة لأن قلوبهم خاوية (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (53) .

ومما أشارت إليه السورة أنه لا بأس من الحض والحث على الخير بوعد عاجلٍ يتحقق في الدنيا فقد خُلق الإنسان عجولا فقال سبحانه واعداً عباده المؤمنين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (55) .

وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم أمره ركن من أركان هذا الإيمان لا يقوم إلا به فقال سبحانه : (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) ، ومن تعظيمه ألا نتذاكى بالاحتيال على أمره ونهيه ونفحص بأذهاننا بحثا عن مخرجٍ حاذقٍ ليس عليك فيه في ظاهر الأمر مستمسك فقد قال الله (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) قال قتادة : عن نبي الله وعن كتابه .

فمن أصر على الإعراض ومخالفة الأمر بطريق خفي أو جلي فوعيده من ربه (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (63) ، فتنة الدنيا بزيادة الضلال ، فبعد المعصية تصيبه البدعة ، وبعد فعلها مع كرهه لها يُشرب قلبه حبها وهكذا ، أو يؤخر ذلك له فيصيبه عذاب الله في الآخرة ، عياذا بالله من الحالين .

الطريق الثانية لزيادة الإيمان : تكرار التفكر في الآيات الكونية .
وقد أكدت "النور" هذا المعنى مراراً في آياتها :
ومن ذلك قوله سبحانه (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (42) .
وإنما خص الطير بالذكر لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت فهي خارجة عن جملة من في السماوات والأرض ولذا نص على هذه الحال (صافات) ، وقوله (كل قد علم ..) أي أن الله علم صلاتهم وتسبيحهم له ، وأيضاً هو الذي علمهم كيف يصلون له ويسبحونه ، فكلا المعنيين صحيح .

ومن هذه الآيات قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) (43) .
ومعنى (يزجي) أي يسوق ، (ثم يؤلف بينه) أي يضم بعضه إلى بعض فيجعل المتفرقة قطعة واحدة ، (ثم يجعله ركاما) أي يجعل السحاب بعضه فوق بعض ، (فترى الودق) وهو المطر قال الليث : الودق المطر كله شديده وهيّنه .

ومنها قوله تعالى (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) (44)
وقوله (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (45)

فلابد للمؤمن من طول الفكرة (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران : 191] ، وقد سأل رجل أم الدرداء بعد موت زوجها حكيم الصحابة رضي الله عنهما عن عبادته فقالت : كان يقضي نهاره اجمعه في التفكر .
وقيل لإبراهيم بن أدهم : إنك تطيل الفكرة ، فقال الفكرة مخ العقل .
وقال سفيان بن عيينة : "الفكرة نور تدخله إلى قلبك"
وكان كثيرا ما يتمثل بقول الشاعر :
إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة
وقال الحسن في قوله تعالى (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) [الأعراف : 146] قال : أمنعهم التفكر فيها .

وقد جمع بين هذين الطريقين بأوجز عبارة الإمام الرباني الحسن البصري فقال : ما زال أَهل العلم يعودون بالتذكر على التفكُّر، وبالتَّفكُّر على التَّذكُّر، ويناطقون القلوب حتى نطقت .

وأبلغ منه جمع الله تعالى لهما في آخر آية من سورة النور : (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) .
 
ـ المثل النوراني وأسوار العفة :

جمع الله علم "سورة النور" كاملة من دون نقصان في هذا المثل العظيم الذي هو واسطة عقد السورة ، وهو من أعظم أمثلة القرآن لمن فهمه وأدراك غوره ، وذاك أن الطُّهر والفضيلة والعفة "نور" ، وأن أضدادها من الصفات "ظلمة"،
فجاء هذا المثل الرباني ليُـبِين بجلاء لا لبس معه عن ماهية وحقيقة هذا النور وصفاته واستمداده ووسائل تقويته وتنقيته وطُرق حمايته واستدامة جذوته وغير هذا ، وصدق الله إذ يقول (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت : 43] ،
وهاك بيان مُفصلٌ مُجدولٌ لعله يزيل الاشتباك ويدفع الارتباك في فهم هذا المثل وما يرمي إليه .

يقول الله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (35) .

جدول يوضح معاني المثل النوراني :

"تجده في المرفق سلمك الله"​
 
ـ المثل النوراني وأسوار العفة :

يتبين مما سبق أن المشكاة والمصباح والزجاجة والشجرة والزيت إنما تمثل حلقات الإيمان بدءاً بشجرته ثم زيته وفتيله ونوره وزجاجته ومشكاته وكلها قلبية ، فالطهر والعفة أصلها في القلب ، وهي نور زيتها الإيمان ، وهذه كله تأكيد على أن الإيمان يجب أن يكون قبل الأمر والنهي .

وهكذا تنزل القرآن ففي صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : "إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا ، وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا لَقَالُوا لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا ، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ (بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) ، وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ".
وهذا الوصف منها لبيان أثر المنهج الذي تنزّل به القرآن وأن مخالفته من أعظم ما يكون خطراً على مَن نربيهم من بنين وبنات ، فإن قولها (وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا لَقَالُوا لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا) بيان لحال الصحابة مع نهي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فالآمر هو الله والمبلغ الرسول والمأمور الأصحاب ثم بعد هذا لو أن منهج التدرج الموافق لتربية القرآن خُولف فرد المدعوين سيكون صريحاً (لا ندع الزنا) .

فما بالك بجواب غيرهم من بقية الأمة حين يُقال لهم أولاً (لا تزنوا ، لا تنظروا إلى الحرام .. لا تسمعوا الخنا .. لا .. لا.. ) ؛ الجواب نراه عياناً بياناً في موقف الأمة من أوامر ربها وأوامر رسولها صلى الله عليه وسلم ، ولاشك أن هذا سبب رئيس في ضعف أثر تزكيتنا وتربيتنا على الناس ، ولابد لنا من التفطن له .

وهذه المسألة جليلة كبيرة القدر جداً ، قد خفي على كثير من أهل القرآن وجه الصواب فيها ، فوقعوا في خلاف منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج أصحابه رضوان الله عليهم .
ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه القرآن هو تعليم الإيمان أولاً قبل تعليم الأحكام ، وهي داخلة ضمن القاعدة المشهورة عند السلف في التعليم (العالم الرباني : هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) ، وقد بسطت الكلام عليها في غير هذا الموطن .
وقد لخص ابن الفاروق عبد الله بن عمر رضي الله عنها الفرق بننا وبينهم فقال : لقد تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً ، وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان ، وقد أطلت الحديث عنها في رسالة "فن تدبر القرآن الكريم".
وسبق ذكر آيات "النور" التي تؤكد هذا المعنى في أثناء الحديث عن السّوْر الخامس .

ختاماً : باب التوبة مفتوح
لهذه الأسوار باب مفتوح لا يغلق دلت عليه بل ودعت إليه "النور" ، لكنه "مُشفّر" لا يدخل معه إلا التائبون ، فقد أكدت "النور" على أن مصاريع أبواب الأوبة إلى الله مُشرَّعة حتى بعد المعاصي العظام والموبقات الجِسام ، ما لم تُطوَ صفحة دنياك ، وتَشرعُ في صفحة آخرتك .

- ففي كبيرة القذف (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (5) .
- وفي موبقة الإفك (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (17) .
- وحتى في جريمة الإكراه على البغاء (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (33) .
- وختام سورة العفاف (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (62) .

فيا أيها الداعية الموفق ..
إن رفعت شعلة "النور" للناس وكشفت لهم عن معانيها وهديتهم إلى سبيلها وربيتهم على آدابها وأدخلتهم في حصونها فأبوا بعد ذلك إلا الانغماس في أُتون الفواحش والعيش في ظلمات الرذائل ؛ فلا عليك فقد قال الله في "النور"(وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (54) .

اللهم يا نور السموات والأرض اجعل سورة النور حجة لنا لا علينا ، شافعة لنا يوم نلقاك ،
واجعل في قلوبنا منها نورا ً، وفي ألسنتنا نوراً ، وفي أبصارنا نوراً ، وفي أسماعنا نوراً ، وفي أعصابنا ومخنا نوراً ، وفي لحومنا وبشرتنا وشعورنا نورا ، وعن أيماننا نوراً ، وعن يسارنا نوراً ، ومن فوقنا نوراً ، ومن تحتنا نوراً ، ومن أمامنا نوراً ، ومن خلفنا نوراً ، واجعلنا لنا في نفوسنا نوراً ، وأعظم لنا منها نوراً في الدنيا والآخرة يا رب العالمين .
...............

كتبه / عصام بن صالح العويّد
في رياض التوحيد
فجر يوم الأربعاء الموافق 16/1/1432
من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأزواجه وأصحابه أجمعين ،،
 
YT929498.jpg
 
أضفتَ بهذه الصورة إبداعا إلى إبداع , ولا أظن أن من يراها قد يسهل أن ينساها , فلا أظنها تمحى من الذاكرة بسهولة .
وأقترح أن يستفاد من هذا الموضوع بعد إعادة صياغته , وجعل هذه الصورة تتصدره ؛ ليكون نواة لسلسلة مطويات جذابة الإخراج ( كتلك التي يتميز بها الشيخ العريفي ) لتوزع بين فتياتنا في المدارس والجامعات . فالحرب العلمانية على عفاف بناتنا لابد لها من مقاومة , والمقاومة لابد لها من محرك توعوي شرعي يزيل الغشاوة التي علت أبصار فتياتنا , فيكون إعلاما مضادا يرسخ مقاصد الدين , ويحث على العفاف والفضيلة , كما يقوم بكشف ثياب الزيف عن وجه العلمانية في أعين هؤلاء الفتيات , ويأتي بقصص جذابة تؤكد على فضيلة الحجاب للفتاة , وأخرى تثبت ضياع الفتاة لاطالما لم تقم بتعزيز وحماية أسوار عفافها .
أرجو أن تتحمس يا شيخ عصام لمثل هذه الفكرة , فلعلها تتوسع فتكون نواة لمشروع كبير , يجد من يدعمه ماديا ليتسع انتشاره , فوالله إن فتياتنا في حالة ضياع بسبب الإنفتاح على إعلام يساهم لحظة بلحظة في هدم أسوار العفاف فيهن .
ولو أن الأمر أصبح جديا فأنا على استعداد إن طُلب مني المساهمة في صياغة مطويات كهذه أن أجهز المزيد من الرسائل الموجهة للفتيات والمناسبة لتفكيرهن واهتمامتهن .
فهل تحظى الفكرة بمشجع ؟؟
وجزاكم الله خيرا ـ شيخنا ـ ونفع بكم ........
 
شكر الله لك أختي ،، الفكرة رائعة ، ولكن تحتاج من يقوم بها وبالنسبة لي لا أستطيع ، ولا مانع لدي من المساهمة فيه إن احتاج الأمر إلى ذلك .

بالنسبة لأسوار العفاف فإن كنت تستطيعين أن تعيدي صياغة الرسالة لتناسب عموم الفتيات فأنا أرحب وأشكر ، ومسألة طباعتها متيسر بإذن الله .
 
ماشاء الله لاقوة إلا بالله ، جزاكم الله خيرا شيخنا الكريم عصام العويد ، كتب الله أجرك ، وزادك من فضله ، وأعتقد أن الاسلوب الذي كتبت به أسلوب يناسب فهم الفتيات ، فهن أكثر تطورا الآن في الفهم بسبب أحوال الدنيا ، ولم تكتب فضيلتك كما يبدو لي مصطلحات صعبة ، فالمبادرة بالطبع والنشر ، واختيار الألوان والصور التي تجذب هذه الفئة مهم والتي تدل على المضمون ، فحياة الفتيات ألوان وصور ، كما تعلمون والله أعلم.
 
الشيخ الفاضل / عصام العويد
لقد أسعدني طلبك , كما أسعدني تحمسك للفكرة ..
وليس لمثلنا أن يُعيد صياغة ما قد أبدعتم صياغته , وكل ما في الأمر أن الموضوع يحتاج إلى تلخيص ليكون مطوية , مع إضافة بعض المواد التحريرية وبعض الصور لزيادة التشويق . وقد أعددتُ نموذجا أرفقته مع مشاركتي هذه , وأرجو أن أوفق في إرفاقه بالطريقة الصحيحة , وستجد فيه تصوري واقعا مرسوما على ورق .
أرجو أن تُكلل هذه المطوية بالنجاح , وأن يجعل الله لها أثراً عظيما ... تُبصره بنفسك واقعا في المجتمع ... وتلمسه بركةً في صحتك وعلمك وعملك ومالك وعيالك ... وترقى به في الآخرة أعلى جنات النعيم .
 
اطلعت على المقترح المرفق وهو جميل وجهد مشكور ، أسأل الله أن يكلل الجهود بالقبول والتوفيق .
 
عودة
أعلى