إبراهيم عوض
New member
- إنضم
- 18/03/2005
- المشاركات
- 203
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
لدى مناقشتنا للموضوع الخاص بإحراق مكتبة الإسكندرية ينبغى أن نتناوله أولاً من ناحية الرواية التى نقلته لنا حتى ندرك مدى معقولية مثل هذا الخبر أساسا، ثم ننظر فى نص الرواية ذاته لنرى مبلغ ما فيه من تماسك ومنطقية، ثم نتناول الأمر من الناحية النظرية لمعرفة موقف الإسلام من إحراق الكتب، وبخاصة الكتب الموجودة فى المكتبات العامة، ثم رابعا نناقش الأمر فى ضوء ما نعرفه عن شخصية كل من ابن الخطاب وابن العاص، ثم خامسا نعالج المسألة من الزاوية التاريخية. والآن نشرع بالنظر فى النص من ناحية الرواية. وأول ما يلفت النظر فيها أنها لم تظهر إلا بعد فتح مصر بأكثر من خمسة قرون، لم يذكرها ذاكر لا من المسلمين ولا من أعداء المسلمين طوال تلك الفترة المتطاولة. فأين كانت تلك الرواية كل هذه المدة؟ هل يعقل أن يقع أمر جلل كهذا دون أن يكتب عنه أحد شيئا على مدار تلك القرون إلى أن يأتى عبد اللطيف البغدادى والقفطى وأبو الفرج العبرى (ق6- 7هـ) فيشيروا إلى حكاية الحرق هذه؟ هل يمكن أن يختفى كل هاتيك القرون مثل هذا الخبر التاريخى الذى لو كان وقع لعرفت به الدنيا كلها وسجلته وتناقلته واستغربته وأنكرته، لكن مع ذلك كله لا تعرف الدنيا عنه شيئا ولاتسجله ولا تتناقله ولا تستغربه ولا تنكره، ثم فجأة يكتب عنه البغدادى والقفطى وابن العبرى بعد ما يزيد على خمسة قرون؟ فما مصدرهم فى هذه الحكاية؟ هل يا ترى يصح أن نقبل مثل ذلك الخبر كما هو بعوراته وسوآته دون أن نقف إزاءه لنتساءل من أين أتى، ومن أتى به، وفى أية ظروف أتى به، وكيف وصل للبغدادى والقفطى وابن العبرى دون الناس جميعا... إلخ؟ بكل يقين لم ينزل عليهم به وحى من السماء، فمن إذن أخبرهم به؟ ولماذا سكتوا فلم يحاول أى منهم أن يناقش هذه النقطة، وهو يعرف أنه أول من تناول الأمر؟ إن مثل ذلك الخبر لم يكن ليصح أن يمر على هؤلاء الكتاب دون أن يقلّبوه على كل وجوهه فيذكروا لنا مصدره وقائله والظروف التى سمعوا به فيها؟ كذلك فمثل ذلك الخبر ليس مما يصح تسجيله بهذه الخفة واللامبالاة التى سجله بها هؤلاء الثلاثة. إنه اتهام خطير لا يُقْبَل من أى إنسان إلقاؤه هكذا دون التثبت من صحة مصدره والظروف التى سمعه فيها. لقد كان هناك كتاب نصارى مثل ثيوفانس (البيزنطى) ويحيى بن عَدِىّ (العربى) ويوحنا النقيوسى وابن البطريق (المصريين) مثلا قبل هؤلاء الثلاثة بزمن طويل، وكلهم كان يهمه تشويه صورة الإسلام والمسلمين ورجالاتهم الكبار بكل سبيل، أفلو كان ذلك الخبر صحيحا أكان هؤلاء جميعا، وأشباههم كثيرون، يسكتون عنه فلا يشيروا إليه من قريب أو من بعيد؟
ومن هنا فلا معنى لما قاله جرجى زيدان، الذى يفترض أن المصادر الإسلامية المبكرة تكلمت عن هذا الموضوع، لكن المسلمين بعد تمدنهم حذفوا هذا الكلام تصورا منهم أنه يسىء إلى دينهم وكبار رجالهم[1]. إنها حجة غير مقبولة البتة لأن السكوت عن هذا الموضوع لا يقتصر على المصادر الإسلامية وحدها كما رأينا، فضلا عن أن المسلمين، على العكس مما يقول، كانوا لا يتركون صغيرة ولا كبيرة إلا وسجلوها وأفاضوا فيها القول مهما كان من إساءتها إليهم حتى إننا لنشكو مُرَّ الشكوى من هذا الأمر الذى يستغله خصوم الإسلام الآن، وأرى أن المسلمين المتقدمين ما كانوا ليبالوا به أدنى بالة، إذ كانوا من القوة والعافية والثقة بأنفسهم وبدولتهم وتاريخهم ورجالهم بحيث ما كانوا ليفكروا فى هذه الاعتبارات. ولو افترضنا أنهم فعلا قد تصوروا فيما بعد أنها مسيئة إليهم لقد كان فى مناقشتهم لها وردهم على ما جاء فيها مندوحة واسعة بدلا من حذفها. ومعروف أن مناقشة الفكرة بفكرة مثلها كانت سُنَّة المسلمين، وإلا فكيف وصلت إلينا كتب الملاحدة والشكّاكين من المنتسبين إلى الإسلام، وكذلك كتب الفرق المختلفة التى يكذب بعضها بعضا وتتصور كل فرقة أنها هى وحدها الصواب؟ بل كيف وصلت إلينا كتب اليهود والنصارى التى هاجموا فيها الإسلام؟ وحتى لو غضضنا النظر عن ذلك وقلنا إن الحذف قد حصل فهو خاص بالنسخ الجديدة، أما القديمة فبقيت على حالها، اللهم إلا إذا زعمنا كذبا وبهتانا أن متولى رقابة المخطوطات داروا على أصحاب النسخ الجديدة واحدا واحدا فأعطوه نسخة جديدة وأخذوا منه القديمة ودمروها بحيث لا يتبقى منها أى أثر. ولنفترض أننا غضضنا البصر عن هذا أيضا أمن الممكن أن يتواطأ على ذلك المسلمون والمنتسبون إلى الإسلام جميعا سُنّةً وخوارجَ ومعتزلةً ومتصوفةً وملاحدةً ومنافقين، ودعنا من اليهود والنصارى والصابئة والمجوس الذين كانوا يستظلون بظل الدولة الإسلامية آنذاك. ولا تنس الشيعة وكتابهم ومؤرخيهم، فما كانوا ليفلتوا مثل تلك الفرصة الخطيرة دون أن ينتهزوها ليشوهوا صورة عمر بن الخطاب، الذى لم يتركوا مثلبة إلا وألصقوها به وافْتَرَوْا عليه المفتريات التى لا تدخل العقل كما يعرف ذلك كل أحد، وكذلك عمرو بن العاص، الذى اتخذ جانب معاوية ضد على بن أبى طالب، لكننا ننظر فلا نلفى أحدا منهم ينبس ببنت شفة واحدة فى هذ الموضوع! ولو كان عمرو وعمر قد أحرقا مكتبة الإسكندرية لَطَنْطَنُوا بالزِّرَايَة عليهما والمقارنة بين هذين الكارِهَيْن للكتب والمكتبات وبين عَلِىّ بن أبى طالب باب مدينة العلم كما يصفونه، ولكن الشيعة لم يفعلوا، فما معناه؟ ثم فلنفترض أننا غضضنا النظر أيضا عن كل ما قلناه، فلم يا ترى ترك المسلمون ما كتبه عبد اللطيف البغدادى والقفطى فلم يحذفوه ما دام الحذف عندهم سهلا إلى هذا المدى؟
ثم بعد الانتهاء من خطوتنا الأولى نُثَنِّى بتحليل النص ذاته. وسوف أنقل ما كتبه كل واحد من الثلاثة اذين أوردوا فى كتبهم هذه الحكاية: فأما البغدادى فعبارته شديدة الإيجاز وتجرى على النحو التالى: "وفيها (أى فى دار العلم التى أنشأها الإسكندر الأكبر بمدينة الإسكندرية) كانت خزانة الكتب التى أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر رضى الله عنه"[2]. ولا ينبغى أن يفوتنا أن البغدادى كان مارا بمصر، إذ كان رحالة يجوب البلاد، ولم يكن من أهلها.
وأما ما كتبه القفطى فهو متاح فى المادة المخصصة ليحيى النحوى من كتابه: "تاريخ الحكماء"، وهو يجرى هكذا: "يحيى النحوى المصرى الإسكندرانى تلميذ شاوارى. كان أسقفا فى كنيسة الإسكندرية بمصر، ويعتقد مذهب النصارى اليعقوبية، ثم رجع عما يعتقده النصسارى فى التثليث لما قرأ كتب الحكمة واستحال عنده جًعْل الواحد ثلاثة، والثلاثة واحدا. ولما تحققت الأساقفة بمصر رجوعه عزَّ عليهم ذلك، فاجتمعوا إليه وناظروه، فغُلِب وزُيِّف طريقُه، فعَزَّ عليهم جهله واستعطفوه وآنسوه وسألوه الرجوع عما هو عليه وترك إظهار ما تحققه وناظرهم عليه، فلم يرجع، فأسقطوه من المنزلة التى هو فيها بعد خطوب جرت. وعاش إلى أنْ فتح عمرو مصر والإسكندرية، ودخل على عمرو، ورأى له موضعا، وسمع كلامه أيضا فى انقضاء البدهر، ففُتِن به وشاهد من حججه المنطقية، وسمع من ألفاظه الفلسفية التى لم تكن للعرب بها أُنْسَةٌ ما هَالَهُ. وكان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر، فلازمه. وكان لا يكاد يفارقه، ثم قال له يحيى يوما: إنك قد أحطت حواصل الإسكندرية وختمتَ على كل الأصناف الموجودة بها: فأما ما لك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وما لا انتفاع لكم به فنحن أولى به، فَأْمٌرْ بالإفراج عنه. فقال له عمرو: وما الذى تحتاج إليه؟ قال: كُتُب الحكمة التى فى الخزائن الملوكية". ثم مضى يصف ما فيها من الكتب، ذاكرا من أنشأها ومن اعتنى بها... فـ"قال (عمرو): لا يمكننى أن آمر فيها إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وكتب إلى عمر وعرَّفه قولَ يحيى الذى ذكرناه واستأذنه ماذا يصنع فيها. فورد إليه كتاب عمر يقول فيه: وأما الكتب التى ذكرتَها فإن كان فيه ما يوافق كتابَ الله ففى كتاب الله عنه غِنًى. وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه، فتَقَدَّمْ بإعدامها. فشرع عمرو بن العاص فى تفرقتها على حمامات الإسكندرية وإحراقها فى مواقدها. وذُكِرَت عِدّة الحمامات يومئذ، وأُنْسيتُها، فذكروا أنها استُنْفِدَتْ فى مدة ستة أشهر. فاسمع ما جرى واعجب!"[3].
ويبقى ابن العبرى، الذى كان يضع كلام القفطى أمام عينيه وهو يسطر ما كتبه، والذى لا يوجد فى النسخة السريانية من كتابه النص التالى الذى يتناول الموضوع ذاته: "وفى هذا الزمان (أى فى خلافة عمر بن الخطاب) اشتهر بين الإسلاميين يحيى المعروف عندنا بـ"غرماطيقوس"، أى النحوى. وكان إسكندريا يعتقد اعتقاد النصارى اليعقوبية ويشيد عقيدة ساورى. ثم رجع عما يعتقده النصارى فى التثليث، فاجتمع إليه الأساقفة بمصر وسألوه الرجوع عما هو عليه، فلم يرجع، فأسقطوه عن منزلته. وعاش إلى أن فتح عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية. ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلوم، فأكرمه عمرو وسمع من ألفاظه الفلسفية التى لم تكن للعرب بها أُنْسَةٌ ما هَالَهُ ففُتِنَ به. وكان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه، وكان لا يفارقه. ثم قال له يحيى يوما: إنك قد أحطتَ بحواصل الإسكندرية وختمت على كل الأصناف الموجودة بها: فما لك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وما لا انتفاع به فنحن أولى به. فقال له عمرو: وما الذى تحتاج إليه؟ قال: كُتُب الحكمة التى فى الخزائن الملوكية. فقال له عمرو: لا يمكننى أن آمر فيها إلا بعد استئذان عمر بن الخطاب. وكتب إلى عمر وعرَّفه قَوْلَ يحيى، فورد إليه كتاب عمر يقول فيه: وأما الكتب التى ذكرتَها فإن كان فيه ما يوافق كتابَ الله ففى كتاب الله عنه غِنًى. وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه، فتَقَدَّمْ بإعدامها. فشرع عمرو بن العاص فى تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها فى مواقدها، فاستُوقِدَتْ فى مدة ستة أشهر. فاسمع ما جرى واعجب"[4].
وبعدما أوردنا ما قاله كل من الثلاثة نشرع على بركة الله فى التحليل، فنقول: من المعروف أن يوحنا النحوى لم يكن عربيا، فلم يكن يعرف العربية من ثم، مثلما لم يكن ابن العاص مصريا، وعليه لم يكن يعرف اللغة المصرية، كما لم يكن يعرف أية لغة أخرى غير العربية يمكنه التخاطب من خلالها مع يوحنا النحوى، فكيف إذن كانا يتفاهمان؟ الحق أن أقصى ما يمكن أن نتخيله هو أن يكون يوحنا النحوى قد التقط بعض الكلمات والعبارات الأولية العربية فى تلك الأشهر القليلة جدا التى انقضت ما بين دخول العرب مصر وفتحهم الإسكندرية يستطيع بها أن يتبادل مع العرب التحية وما إلى ذلك من الموضوعات البسيطة التى لا تحوج صاحبها ولا مستمعها أبدا إلى التبحر فى اللغة كما يحدث للواحد منا حين يذهب إلى بريطانيا مثلا أو فرنسا، ولا يكون قد ألم بشىء ذى قيمة من لغة ذلك البلد، اللهم إلا بضع كلمات وعبارات تساعده على طلب الطعام أو السؤال عن الطريق مثلا. وقد جعلتُ يوحنا هو الذى يتعلم لغة العرب لأنهم هم الفاتحون، فمن الطبيعى أن يتعلم هو المصرىَّ لغةَ عمرو لا العكس. أما الكلام فى الفلسفة والعلوم الطبيعية والمفاهيم الفلسفية والعلمية الدقيقة فهذا هو المستحيل بعينه. فلو زدتَ على ذلك أن ابن العاص لم يكن مؤهلا بطبيعة ظروفه الثقافية أن يتابع مثل تلك المناقشات، كما لم تكن العربية قد تأهلت بعد لتسع الفلسفات والعلوم بمصطلحاتها الكثيرة المعقدة ونظرياتها ومفاهيمها العالية التى لم يكن للعرب بها أى عهد، وبالتالى لا يمكن المترجم، لو كان هناك مترجم، أن ينقل هذه المصطلحات والمفاهيم إلى العربية، لتبين لنا أن جريان مناقشة بين ابن العاص ويوحنا النحوى فى الموضوعات التى ذكر ابن العبرى أنهما كانا يتناقشان فيها أمر لا يتصوره من كان فى رأسه مُسْكَةٌ من عقل. ثم هل كان وقت ابن العاص، فى تلك الأيام المضطربة المملوءة بالقتال والمعاهدات والمؤامرات والترقب والقلق والتوجس ويُصْنَع فيها التاريخ صناعة، ليسمح بمثل تلك الجلسات والمناقشات التَّرَفِيّة، إن كان أمثاله فى ذلك الحين يميلون إليها؟
كذلك كان يوحنا، كما يُفْهَم من كلام القفطى وابن العبرى، قريبا جدا من دين المسلمين، إذ هو لا يؤمن بالتثليث ولا بالصليب، فمن المستبعد أن يرفض عمرو له طلبا كهذا كان يستطيع على الأقل أن يحققه له جزئيا فيتركه يأخذ من كتب المكتبة الإسكندرانية ما يكفى استعماله الشخصى مثلا دون أن يضر المسلمين ولا شخصه هو فى شىء بدلا من أن يعقّد المسألة كل هذا التعقيد الذى تصوره الرواية، وفى نفس الوقت يتألف قلبه ولا يخزيه أمام الآخرين ممن يدينون بالصليب والثالوث. على أن الطريف لى المسألة هو أن يوحنا إنما تحدث عن حاجته هو وأمثاله إلى تلك الكتب، لنفاجأ بابن الخطاب يتحدث كما لو كان العرض المقترح هو أن يستعملها المسلمون. ولكن ما دام لن يستعملها المسلمون، بل المصريون، فما معنى أن يقول إنها إن كانت توافق القرآن ففى القرآن غُنْيَةٌ عنها، وإن كانت تخالفه فلا يصحّ للمسلم قراءتها؟ إن ابن العاص يسأله عن شىء، فيجيبه هو عن شىء آخر لم يُسْتَفْتَ فيه ولا كان مطروحا أصلا للبحث. وفى أمثال العرب: "أُرِيها السُّهَا، وتُرِينى القمر"! ليس ذلك فحسب، إذ كان العرب لا يقدرون أصلا على استعمال المكتبة لأنهم لم يكونوا فى ذلك الطور من تاريخهم الثقافى مؤهَّلين للنظر فى كتبها ولا حتى لقراءتها مجرد قراءة لجهلهم اللغة المصرية أو اليونانية التى كُتِبَتْ بها. أى أنها، لو أبقى ابن العاص عليها، لن تشكّل لهم أى ضرر على الإطلاق. كما يلفت النظر فى كلام يوحنا قوله لعمرو: "ما لك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وما لا انتفاع به فنحن أولى به"، فهل من المتصور أن يجرؤ يوحنا، مهما كان قربه من عمرو، على مخاطبة الفاتح المنتصر بهذه اللهجة، وكأنه كان قادرا على أن يعارض العرب فى شىء؟ وهل كان يوحنا من أهل السياسة حتى يفكر فى مفاوضة ابن العاص على هذا النحو؟ فمن فوّضه يا ترى فى الحديث عن أهل الإسكندرية؟ ودعنا من مصر كلها. بل هل كان هناك مجال للمفاوضة، وقد استسلمت الإسكندرية وتم الصلح وأُقِرَّت شروطه واتُّفِق فيه على كل شىء يتعلق بها؟ثم لماذا يتكلف عمرو مشقة متابعة نقل الكتب من المكتبة إلى حمامات المدينة بدلا من الأمر بحرقها فى مكان واحد؟ ولقد قام رفيق العظم بحساب الكتب التى تلزم لإيقاد النار فى حمامات الإسكندرية الأربعة الآلاف على أساس أن كل حمام يلزمه فى اليوم مائة مجلد، فوجد أن عدد الكتب فى مكتبة الإسكندرية ينبغى أن يكون اثنين وسبعين مليون مجلد. وأى مكتبة فى العالم تحتوى على هذا القدر من الكتب كما يقول بحق؟[5] ثم لماذا يتكلف عمرو مشقة متابعة نقل الكتب من المكتبة إلى حمامات المدينة بدلا من الأمر بحرقها فى مكان واحد؟ فإذا علمنا أن الرقوق، التى كانت تكتب عليها الكتب فى الغالب أوانذاك، لا تقبل الاشتعال كما يقول ألفرد بتلر فى الفصل الذى خصصه من كتابه عن فتح مصر لهذا الموضوع تبين لنا أن المسألة كلها لا تعدو أن تكون زوبعة فى كستبان لا فى فنجان إن كان للزوابع أن تهيج فى الفناجين والكستبانات!
وهذا كله إن كان عمرو بن العاص ويوحنا النحوى قد تقابلا أو حتى تعاصرا، اللهم إلا ثلاث سنوات تبدأ من ولادة عمرو وتنتهى بوفاة يوحنا، وكان بينهما من المسافة ما بين مصر والحجاز، ومن الثقافة ما بين فيلسوف ورجل دين مصرى فى القرن السادس الميلادى وبين رجل عربى كل ما يقدر عليه فى ميدان الثقافة هو القراءة والكتابة. أما والنحوى قد مات، وعمرو حديث عهد بالولادة[6]، فلا ريب أنه من المضحك القول بأنه كان بينهما بعد ذلك بعشرات السنين أى كلام بشأن المكتبة أو بشأن أى شىء آخر. ذلك أن الموتى لا يتكلمون، فضلا عن أن يتناقشوا فى الفلسفة والعقائد والمذاهب الدينية. أم هناك من يجادل فى تلك الحقيقة؟ ولقد تركت هذه المعلومة لآخر لحظة حتى يشعر القارئ بتفاهة الاتهام شعورا قويا لا ينساه مدى الدهر. أما لو كنت ألقيتها له منذ الوهلة الأولى لما أدرك قيمتها كما ينبغى، إذ إن ما نحصل عليه م بعد تعب وصعوبة أقوى فى الرسوخ فى الذاكرة وأبلغ فى البرهنة على ما نريد مما لو كنا حصلنا عليه بسهولة.
ومع ذلك كله فلسوف نمضى مع الاتهام نناقشه وكأننا لم نقم الدليل على سخفه ونسفناه نفسا. ولم لا؟ إنها لفرصة لعرض عظمة الإسلام ورجاله. وكم من نِقْمَةٍ حَوَتْ فى طَيِّها نعمةً بل نِعَمًا! أما بالنسبة إلى شخصية ابن العاص وابن الخطاب فقد كان كل منهما من القارئين الكاتبين القلائل قى مكة قبل الإسلام، فلم يكن أى منهما بالذى يجهل قيمة القراءة والكتابة والكتب. ولم يُعْرَف عن أى منهما تنطع ولا تنطس دينى من أى نوع. لقد كانا من رجال الدول الكبار الواسعى الأفق بحيث لا يمكن أن يتصورهما الإنسان واقفين ولو للحظة واحدة أمام موضوع المكتبة بوصفه يمثل أية مشكلة على الإطلاق: فأما ابن الخطاب فكان حاكم دولة عبقريا قوى الشخصية يغوص إلى أعماق الإسلام فى بصيرة نادرة وعقل متفتح وقلب شجاع مقدام لا يعرف سُخْف الصِّغَار من ضيقى الأفق الذين ينظرون إلى الدنيا والناس والدين من ثَقْب إبرة، بل كانت له آراؤه واجتهاداته اللوذعية العجيبة[7]. وكان طُلَعَةً يحب معرفة ما عند الآخرين، فكان يذهب على أيام النبى إلى اليهود ويخالطهم وينظر فى كتبهم، وإن كان التبى صلى الله عليه وسلم قد نهاه عن ذلك، لكن لا بد مع ذلك من مراعاة أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بحرق مثل تلك الكتب فى يوم من الأيام. كما ظل رضى الله عنه يروى شعر الجاهلية ويسمعه بعد الإسلام دون أى تحرج. والمعروف أنه كان عليما بتاريخ العرب وأيامها ومفاخر أنسابها وسائر أمثالها. أليس معنى ذلك إدراكه أن الثقافة غير محصورة بين دفتى المصحف رغم أن فى القرآن تبيانا لكل شىء؟ نعم فى القرآن تبيان لكل شىء، لكن من ناحية الخطوط العامة فلا يحتوى هو من ثم على التفصيلات إلا قليلا. ولو كان عمر بهذا الضيق فى التفكير لانتهز الفرصة التى واتته على طبق من ذهب من تلقاء نفسها ولصَلَّى فى كنيسة القيامة وصَيَّرها، أو أَوْعَز لرجاله أن يصيِّروها، مسجدا حين عرض عليه صفرنيوس بَطْريقُ القدس أن يؤدى فيها الصلاة لَدُنْ دخول وقتها، لكنه رضى الله عنه رفض وأصر على الصلاة خارجها رهبةَ أنْ يأتى المسلمون من بعده فيستولوا عليها ويجعلوها مسجدا بحجة أن عمر صلى فيها. فهل من يصل فى نبله وتجرده وكرمه وسعة أفقه وشفقته على عقائد المخالفين واحترامه لدور عبادتهم إلى هذا المدى البعيد يمكن أن يتدهدى إلى حضيض الغُشْم الذى تدّعيه تلك الرواية الفاشلة فيأمر بحرق مكتبة لا تضره ولا تضر المسلمين فى شىء؟ ثم إن المكتبات لم تكن بالنسبة لعُمَرَ وعَمْرٍو شيئا جديدا، إذ كان عند بعض الصحابة كتب، كسعد بن عُبَادة مثلا، الذى كانت له مكتبة خاصة صغيرة تحتوى، ضمن ما تحتوى، على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم[8].
ثم هل يصح أن نصدق ما نُسِب إلى عمر فى حق مكتبة الإسكندرية، وهو الذى كان يقول للقاضى عند تعيينه: "إذا جاءك شىء فى كتاب الله فاقض به، ولا يَلْفِتََّك عنه الرجال. فإن جاءك أمر ليس فى كتاب الله فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بها. فإن جاءك أمر ليس فى كتاب الله ولم يكن فى سنة من رسول الله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به. فإن جاءك ما ليس فى كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أى الرأيين شئت: إن شئت أن تجتهد رأيك وتَقَدَّم فتَقَدَّمْ، وإن شئت أن تَأَخَّرَ فتَأَخَّرْ. ولا أرى التأخير إلا خيرا لك"؟ ترى إذا كان ممكنا فى رأيه ألا يجد القاضى فى كتاب الله، بل ولا فى سنة رسول الله، حكما دينيا فى مسألة ما، فكيف يتصور أن فى القرآن ما يغنى عن مكتبة كمكتبة الإسكندرية فيها من علوم الدنيا ما ليس من أمور الوحى؟ كذلك أنشئت فى عهده دواوين الإحصاء والخراج والمحاسبة، وكذلك البريد وبيت المال وبيت سك النقود وما إلى ذلك، وأوكل الإشراف على بعضها لغير العرب بلغاتهم. فهل مثل هذا الرجل يمكن أن يأمر بحرق مكتبة للسبب الذى نعرفه؟
وأما ابن العاص فكان واحدا من كبار قادة الإسلام. كما كان سفيرا لقريش إلى النجاشى، وللرسول إلى مَلِكَىْ عُمَان ابنى الجَلَنْدَى. وكان كذلك تاجرا صاحب جولات داخل البلاد وخارج البلاد، وزار مصر فى الجاهلية ورأى ما هى عليه من عمران وحضارة، ومن المؤكد أنه قد عَرَف ما للكِتَاب هناك من قيمة. وكان رجلا أريبا دوخ خصومه فى ميدانَىِ السياسة والحرب، وفتح الأقطار وساسها خير سياسة. ومثل ذلك الشخص لا يمكن أن يكون بهذا التنطع أو ضيق الأفق. ولو كان عمرو رضى الله عنه قد أحرق مكتبة الإسكندرية لكان مثلا قد قام بينه وبين ابنه عبد الله حوار بهذا الشأن، إذ سبق أن أصاب عبدُ الله يوم معركة اليرموك، التى كان أبوه أحد قوادها الكبار، زاملتين (أى ناقتين محملتين) من كتب أهل الكتاب فأخذهما للانتفاع بما تحملانه من كتب. وإذا علمنا أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان من الرجال المتحرجين فى دينهم، أفيكون الأب، وهو رجل سياسة مضرَّس، أشد تحرجا من الابن؟ فما كانت حادثة حرق المكتبة إذن لتمر مرور الكرام على هذا النحو دون أن يقوم بشأنها أخذ ورد بين الأب وابنه لو كانت صحيحة، ومعروف أنه كثيرا ما قامت محاورات بين عمرو وعبد الله فى مختلف الأمور، أو دون أن يقيم المؤلفون القدامى، وبخاصة رجال الحديث وشراحه، مقارنة بين تصرف الأب والابن ويحاولوا التوفيق بين العملين المتناقضين. بل هل كانت قصة الزامتلين لتفوت على عمر دون أن يؤاخذ عليها عبد الله بن عمرو ما دام الفاروق متشددا فى هذا الموضوع إلى ذلك الحد؟ أم ترى أن قصة كهذه يبلغ من شيوعها أن يستفيض ذكرها فى كتب المؤرخين والمفسرين والمحدِّثين وكتب الأدب ثم لا يسمع بها عمر رضى الله عنه؟ فما معنى سكوت عمر عن ذلك؟ ولنلاحظ أنها لم تنتظر عدة قرون حتى تظهر على السطح كقصة حريق المكتبة، بل هى موجودة منذ وقت مبكر. وإن فى النص المنسوب لابن العبرى لشيئا مهما ليس من اليسير المرور عليه فى صمت. ذلك أن يحيى النحوى أخذ فى مدح المكتبة والملوك الذين أسسوها وأمدوها بالكتب العلمية المختلفة وأبدى من ضروب الوله بالكتب وما تحتويه من علوم وفنون ما كان من شأنه تليين قلب الجماد ذاته، فهل كان عمرو من جمود المشاعر وانغلاق الذهن بالمكانة التى لم تؤثر فيه معها كلمات الفيلسوف المصرى المشغوف بالكتب ومطالعتها الحريص على إنقاذها من يد البطش والتدمير؟ والله إنى لا أصدقنَّ أن شيئا من هذا قد وقع. أَوَيترك عمرو للقبط صلبانهم سالمة لا يمسها ماسٌّ طبقا للمعاهدة التى أُبْرِمَتْ بين الطرفين ويأمر بإحراق مكتبة تحوى كنوز العلم وذَوْب عقول العلماء؟ ثم يا ترى هل رجع ابن العاص إلى عمر فى الصلبان ليأخذ رأيه؟ أم هل أرسل إليه يستفتيه فى التماثيل والأصنام المنتشرة فى جميع المعابد القديمة؟ بالطبع لا. إذن فلماذا يجعل من الحبة قبة فى أمر المكتبة، وهى لا تهم الدولة فى قليل أو كثير لا فى السياسة ولا فى المال ولا فى أحوال الاجتماع؟ كذلك لم يكن ابن العاص بالذى ينفذ دائما ما يراه عمر دون مراجعة كما هو الحال مثلا حين اقترح عمرو عليه فتح مصر، ولم يكن ابن الخطاب متحمسا، فظل يلح عليه حتى وافق أخيرا. وتكررت مخالفته له حين بعث له الخليفةُ، وهو فى الطريق إلى مصر، برسالةٍ حَزَرَ منها عمرٌو قبل أن يفتحها أنه يريد منه الرجوع، فلم يفتحها إلا بعد أن اطمأن إلى أنه تجاوز الحدود المصرية وصار داخل الأراضى المصرية، فعندئذ فتح الخطاب، الذى كان يعرف مسبقا أن فيه أمرا بالعودة إذا لم يكن قد تجاوز هو ومن معه حدود مصر، أما لو كانوا قد تجاوزوها فليمضوا على بركة الله. ثم تكررت المخالفة فى مسألة حفر الخليج فى مصر، إذ كان عمر يريد الحفر، على حين كان هو وكبار رجال الدولة المسلمون فى مصر يَرَوْن العكس... إلخ. فلماذا نراه هنا ينزل على رأى عمر فى الحال دون مراجعة أو محاولة لعرض وجهة نظر أخرى فى مسألةٍ وجهُ الحق فيها واضحٌ، ويحتاج أن يراجِع بشأنه الخليفة ولا ينزل على رأيه دون أَخْذٍ ورَدٍّ؟
وأما من الناحية النظرية والمبدئية فإن الإسلام يُعْلِى من شأن العلم والكتب والعلماء إعلاء عجيبا حتى لقد أقسم الله بالقلم والكتابة فى كتابه الكريم، وهو قَسَمٌ لو تعلمون عظيم، ولم يُسَوِّ بين من يعلمون ومن لا يعلمون بتاتا، وكانت أول آية نزلت من القرآن هى "اقرأ"، التى تكرر الأمر بالقراءة فى الآيتين التاليتين لها، مع التذكير بدور القلم فى عملية التعلم وأنه جل شأنه خالق هذا الدور. كما ورد فيه عدة مرات ذِكْر الكتب بوصفها حجة تحسم النزاع. ولم يحدث أن أمر الله نبيه محمدا عليه السلام بالاستزادة من شىء إلا من العلم: "وقُلْ رَبِّ زِدْنِى عِلْمًا". وجعل النبىُّ الكريمُ العلماءَ ورثة الأنبياء، وجعل مِدَاد العلماء يوزن بمداد الشهداء، وجعل فضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب، وجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، على حين أن كل ما استطاعت الحضارة الحديثة فى أوج تألقها أن تصل إليه هو تقريرها التعليم حقا للفرد، وهو ما يعنى أن بمكنته طلب العلم أو إهماله دون أن يكون عليه حرج أى حرج، بخلاف ما لو أهمله فى حالة كونه فرضا من الفروض الدينية كما هو معلوم. كذلك أمر صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن يظلوا يطلبون العلم من المهد إلى اللحد. ومعروف أنه اتفق مع أسرى بدر على أن يطلق سراح كل من يعلم منهم عشرة أولاد من مسلمى المدينة. فكيف نصدق أن عمر، الذى كان يفهم الدين فهما عميقا يغوص به إلى أعمق أعماقه، يمكن أن يكون قد أصدر أمرا بإحراق مكتبة الإسكندرية، وهى التى إن لم ينفع المسلمين بقاؤها فلن يضرهم هذا البقاء فى شىء، وبقاؤها ينفعهم بكل تأكيد، إذ كانت تحتوى، ضمن ما تحتوى، على كتب الطب والرياضيات والكيمياء والطبيعة والأحياء... وما إلى ذلك. كما أن إحراق المكتبة لن يحل المشكلة لأنه كانت هناك بكل تأكيد مكاتب خاصة فى البيوت والأديرة تؤدى نفس الدور الذى كانت تؤديه مكتبة الإسكندرية العامة، وإن كان على نطاق ضيق، فضلا عن المحلات التى تبيعها.
ثم لو كان عمر قد أمر فعلا بإحراق مكتبة الإسكندرية كما تزعم الرواية المتهافتة لكان أولى به أن يدمر المعابد الوثنية، التى كانت ولا تزال منتشرة فى أرجاء البلاد، وعليها الصور والكتابات، وكذلك الأصنام التى تملأ جنباتها أو تقوم فى الساحات الأمامية لها، ومعها معابد اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وكتبهم ما دام القرآن قد خطّأ هؤلاء الناس واتهمهم فى عقائدهم وذكر أنهم عبثوا بكتبهم وحرفوا أديانهم. لكننا ننظر فنجد أنهم لم يمسوا من هذه ولا من تِيكَ ولا من تلك شيئا ولا اقتربوا من صلبان النصارى أو فكروا مجرد تفكير فى تحطيمها رغم أن دينهم يرفضها. ثم كيف يفكر عمر أو غيره بتدمير مكتبة يملكها المصريون فى الوقت الذى نعرف فيه أن الخمر التى يملكها النصرانى مثلا لا يجوز للمسلم أن يريقها أو يكسر له جرارها، وإلا لغُرِّم ثمنها رغم أنها فى الإسلام محرمة؟ ذلك أن العبرة تكمن فى أنها عند النصارى حلالٌ شربها وبيعها وشراؤها، فهى إذن مالٌ متقوِّمٌ يضمنه من يتلفه حتى لو كان قد فعل هذا يريد القُرْبَى إلى الله. وعلى كل حال فكيف أقدم المسلمون منذ وقت مبكر على ترجمة مثل تلك الكتب التى تضمها مكتبة الإسكندرية دون أن يثور فى ذلك الوقت جدل بشأنها؟ ولقد كان المسلمون يعلون من شأن الكتاب إلى حد بعيد، وكانت المكتبات الخاصة والعامة منتشرة فى كل مكان. ولم نسمع قط أن أحدا من العلماء استخدم الحجة المنسوبة إلى عمر فى رفض التعامل مع تلك الكتب. بل ولم نسمع أن النبى طلب من أى نصرانى أو يهودى آمن به وترك دينه القديم أن يتخلص من كتبه الدينية. وكان هناك من مسلمى الجيل الأول من ينظر فى التوراة والإنجيل ليستجلى بعض الأمور الموجودة فى تفسير القرآن، ولم نر من ينكر ذلك عليهم.
يقول د. نبيل لوقا بباوى: "ومن المعلوم كذلك أنه في عهد عمر بن الخطاب في ربيع الثاني من العام السادس عشر من الهجرة في عام 637م تم فتح بيت المقدس، وكان بيت المقدس به مكتبة كبيرة. ولو كان من عادة المسلمين حرق المكتبات لحرقوا مكتبة بيت المقدس. وكذلك تم فتح دمشق في العام الرابع عشر من الهجرة في عام 635م، وكان بها مكتبة كبيرة، ولم يتم حرقها. وقد تم فتح دمشق بمعرفة أبو عبيدة بن الجراح. والثابت كذلك أنه تم فتح الشام في العام الثالث عشر من الهجرة في عام 634، وكان بها مكتبة كبيرة ولم يتم حرقها، فلم يكن من عادة المسلمين والعرب حرق المكتبات. ففي أثناء غزوة يهود خيبر لنقضهم عقد الصحيفة في العام السابع الهجري في عام 628، وبعد انتصار الرسول والمسلمين علي سلام بن مشكم زعيم خيبر، كان من الغنائم صحائف التوراة وكتب اليهود: أمر الرسول بتسليمها إلي يهود خيبر. وهذا يدل علي أنه ليس من سياسة الإسلام حرق كتب ومكتبات الآخرين، وإلا كانوا قد أحرقوا كل المكتبات في بيت المقدس وفي دمشق وفي الشام. ولذلك فإن خبر أو واقعة أن عمرو بن العاص هو الذي أحرق مكتبة الإسكندرية بعد استئذان الخليفة عمر بن الخطاب واقعة مكذوبة، ولا أساس لها من الصحة لأن التاريخ ثابت، والتاريخ لا يكذب"[9].
ويؤكد المستشرق ج. ج. سوندرز أن هناك إجماعا بين الكتاب الـمُحْدَثين بأن المسلمين لم يحرقوا مكتبة الإسكندرية وأن القصة التى تزعم هذا هى قصة بغير أساس: "With the Arab occupation of Alexandria is associated the famous story of the burning of its library. According to this tale, Amr asked Omar what should be done with the thousands of books there, and received the answer: ‘If these volumes of which you speak agree with the Koran, they are useless and need not be preserved: if they disagree, they are pernicious and should be destroyed.’ They were therefore fed to the furnaces of the city baths. Modern critics are almost unanimous in rejecting the story, which is found in no author, Muslim or Christian, who wrote within 550 years of the Arab conquest. It is first referred to in a description of Egypt by Abd al-Latif, (1162–1231), compiled about 1202. There is some evidence that the Arabs burnt the Zoroastrian sacred books in Persia, which to them would be heathen writings, unlike the Jewish and Christian scriptures, and out of this in some confused way the Alexandrian story may have arisen. See E.A.Parsons, The Alexandrian Library, London, 1952."[10].
وعلى كل حال فإن مكتبة الإسكندرية كانت قد اختفت من الوجود قبل دخول المسلمين إلى الإسكندرية بزمن طويل. يوضح ذلك د. نبيل لوقا بباوى اعتمادا على ما كتبه فى هذا الصدد ألفرد بتلر: "والحقيقة المؤكدة أن عند دخول عمرو بن العاص للإسكندرية لم تكن مكتبة الإسكندرية موجودة حتى يحرقها لأنه بالبحث العلمي والتاريخي ثبت أن مكتبة الإسكندرية تم إحراقها عن آخرها في عام 48 ق.م في زمن الإمبراطور يوليوس قيصر إمبراطور الدولة الرومانية، ففي عام 48 ق.م حضر يوليوس قيصر إلى الإسكندرية لفك النزاع القائم على حكم مصر بين كليوباترا وأخيها بطليموس الصغير. وقد أحس بطليموس الصغير أن الامبراطور يميل إلي نصرة كليوبترا عليه نظرا لجمالها. وفي أثناء وجود الامبراطور يوليوس قيصر في القصر الملكي في الإسكندرية حاصره بطليموس الصغير بجنوده. لذلك طلب يوليوس قيصر النجدة من قوات من بلاد أخرى تابعة للإمبراطورية الرومانية. وكان يوجد 101 سفينة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط أمام مكتبة الإسكندرية، وأمر يوليوس قيصر بحرق المائة سفينة حتى لا تستفيد منها القوات المحاصرة له، وامتدت نيران حرق السفن إلى مكتبة الإسكندرية فأحرقتها كلها. وقام بقتل بطليموس الصغير، وعين كليوبترا ملكة علي مصر، وأشرك معها في الحكم أخاها الأصغر بطليموس الرابع عشر. ومن هذا السرد التاريخي يتضح أن الذي حرق مكتبة الإسكندرية هو يوليوس قيصر دون قصد"[11].
وينبغى أن نذكر فى هذا السياق أنه قد أُنْشِئَتْ فى الإسكندرية مكتبة أخرى أصغر، لكنها كذلك قد تم تدميرها قبل الفتح الإسلامى بأكثر من قرنين على أيدى متعصبة النصارى حسبما فَصَّل بَتْلَر القول فى ذلك أيضا. ويضيف ألفرد بتلر موضحا أنه حتى لو افترضنا أن بقية من كتب مكتبة الإسكندرية كانت لاتزال موجودة عند فتح عمرو رضى الله عنه لها لقد كان من شروط الصلح أن المسلمين لا يحق لهم دخول المدينة إلا بعد مرور أحد عشر شهرا، وهى مدة كافية تماما لنقل الكتب إلى بلاد الروم حيث لا يعوق من يريد نقل شىء منها أى عائق، إذ كان البحر مفتوحا تماما فى وجه أية سفينة طوال تلك المدة، وكان إغراء نقلها عظيما نظرا لأهميتها لمن يريد قراءتها، أو لغُلُوّ أثمانها بالنسبة لمن يفكر فى بيعها. وبالمناسبة فبتلر لم يكن يحب العرب ولا كتب ما كتب عن مكتبة الإسكندرية دفاعا عنهم. وللرجل كتاب عن ذكرياته فى البلاط الخديوى، الذى كان يشتغل فيه مدرسا لأولاد توفيق باشا خديو مصر، قرأته فى أكسفورد فى سبعينات القرن الماضى فوجدت مؤلفه لا يعجبه شىء فى أخلاق الناس هناك ولا فى تصرفاتهم وينظر إليهم من عَلُ، أى من طرف أنفه كما نقول هذه الأيام، ولا يُظْهِر الكتاب أى تعاطف من جانبه معهم على الإطلاق. واسم الكتاب هو: "Court life in Egypt". ومع ذلك فالحق يستلزم أن نذكر إلى جانب هذا أن المؤلف، فى آخر هامش للفصل الذى خصصه لمناقشة هذه القصة من كتابه عن فتح مصر، قد أشاد بالحس الحضارى الراقى لدى العرب المتمثل فى حبهم العجيب للعلم واستكثارهم من اقتناء الكتب واحترامهم لها وحفاظهم عليها، وقارن بينهم وبين الفرنسيين والإنجليز فى هذه النقطة ففضلهم على هؤلاء وأولئك، وجعل منهم مثلا يُحْتَذَى. وأشار فى هذا الصدد إلى كتاب المستشرق الفرنسى سِيدِيُّو، الذى قال كلمة حق فى حق العرب والمسلمين: "Histoire Generale des Arabes".
وفى "Encyclopaedia Britannica" (ط2011م) نقرأ عن مكتبة الإسكندرية ومُتْحَفها ما يلى: "The museum and library survived for many centuries but were destroyed in the civil war that occurred under the Roman emperor Aurelian in the late 3rd century AD". وقد بحثت فى مادتى "عمرو بن العاص" و"مكتبة الإسكندرية" بتلك الموسوعة فلم أجدها تشير أية إشارة إلى أسطورة حرق عمرو بن العاص لها. إذن فلا المكتبة المزعوم إحراقها على يد عمر وعمرو كانت موجودة فى ذلك الوقت ولا يوحنا النحوى أيضا. وبهذا يثبت ثبوتا قاطعا أن الأمر كله ليس سوى أسطورة بائسة أبدعها عقل سخيف، وكررت ما فيها من زعم بائس عقول أشد فى البؤس والسخف والتنطع.
وممن ينفون هذه القصة المستشرق الفرنسى جاستون فييت[12] بناءً على أن أقدم من أشار إليها هو عبد اللطيف البغدادى، الذى أتى بعد فتح الإسكندرية بمائتى سنة كما يقول، فى الوقت الذى لا نجد المؤرخين العرب الثقات كالكندى وابن عبد الحكم والطبرى قد أتوا على ذكرها بأى سبيل[13]. وممن ينفونها أيضا صاحب مادة "عمرو بن العاص" فى طبعة 2008م من موسوعة "الإنكارتا" الفرنسية، إذ كتب قائلا: "Une légende erronée rapporte qu’Amr ibn al-As aurait brûlé la bibliothèque d’Alexandrie". بل لقد كان جرجى زيدان قبلا ممن رفضوها وفندوها، ثم كتب أنه ظهرت له فيما بَعْدُ شواهدُ تدل على أنها صحيحة فرجع عن رأيه الأول وقال بأنها قد أُحْرِقت فعلا، غير متنبه إلى أنه لم يحدث قط أن التقى عمرو بن العاص ويوحنا النحوى لأن يوحنا قد مات وعمرو لا يزال ولدا صغيرا يعيش فى مكة ولا يزيد عمره عن ثلاث سنوات تقريبا كما قلنا، وأن المكتبة كانت قد اختفت من الوجود قبل فتح عمرو لمصر بنحو قرنين. وعلى العكس من جرجى زيدان كانت الطبعة الحادية عشرة من "الموسوعة البريطانية" فى البداية، طبقا لما يقوله د. نبيل لوقا بباوى، تتهم عمرا رضى الله عنه بإحراق المكتبة، إلا أننى حين رجعت إلى مقالة "'Amr-ibn-el-Ass" فى تلك الطبعة، وهى متاحة على المشباك، لكن بعد تحديثها مواكَبَةً للعصر، ألفيتها تنفى عنه وعن عمر بن الخطاب ذلك الاتهام مؤكدة أن مثل هذا العمل البربرى لا يتسق وشخصيةُ كلٍّ منهما، وتذكر أبا الفرج بن العبرى بوصفه المصدر الأول لتلك الخرافة مع إبرازها لنصرانيته وللقرون الستة التى تفصل بينه وبين عمرو، وكأنها تريد تحميله مسؤولية إشاعتها: "To `Amr acting on Omar's command has been attributed the burning of the famous Alexandrian library. Not only is this act of barbarism inconsistent with the characters of Omar and his general, but the earliest authority for the story is Abulfaragius (Barhebraeus), a Christian writer, who lived six centuries later."
وفى ختام هذه الرحلة العلمية المرهقة والممتعة فى آنٍ أود أن أضيف أن لبرنارد لِيوِسْ المستشرق الأمريكى المعروف الذى أتينا على ذكره فى هذا الفصل أكثر من مرة مقالا أشار فيه إلى ما كتبه المستشرق الفرنسى كازانوفا فى تفسير سبب ظهور هذه القصة فى الزمن الذى ظهرت فيه، وهو أن صلاح الدين أراد أن يدمر الكتب الإسماعيلية التى يعتمد عليها الشيعة الفاطميون فى حكم البلاد الواقعة تحت سلطانهم، فأحب أن يقول للناس إنه حين يصنع هذا لا يأتى بدعة منكرة، بل سبقه عمر بن الخطاب ذاته. ودليله على ذلك أن عبد اللطيف البغدادى، وهو أول من أشار إلى حريق مكتبة الإسكندرية، كان من المحبين لصلاح الدين والمتحمسين له، كما كان والد جمال الدين القفطى، ثانِى متناول للقصة، أحدَ قضاة صلاح الدين. لكن ثمة سؤالا يلح على الذهن هو: لو كان هذا هو السبب أكان أولئك الذين لهم مصلحة فى نشر هذه القصة بين جماهير المسلمين يكتفون بسطر أو بفقرة عارضة فى كتاب لا تقرؤه الجماهير؟ الواقع أنه فى مثل تلك الحالة لا يصلح إلا إصدار عدة كتب تُخَصَّص كلها لذلك، مع تكليف خطباء المساجد بالحديث فى الأمر وإقناع الناس بصحة ما صنعه صلاح الدين، واستحثاث الفقهاء لإصدار فتاوى تحلّله. وتكون النتيجة أن تكثر الكتب والخطب والفتاوى فى ذلك الموضوع. ثم هل كان الناس فى مصر وغيرها من البلاد التى يحكمها الفاطميون مُوَلَّهِين بحبهم بحيث يرى صلاح الدين أو من يحبونه ويريدون الدفاع عنه وجوب اللجوء إلى هذا السبيل؟ لقد كان الخلفاء الفاطميون شيعيين باطنيين يحكمون رعايا سنيين، وكانوا، على الأقل فى الفترة الأخيرة من عمر الدولة، مثار سخرية الناس وسخطهم. كذلك من الغريب جدا أن يبحث المدافعون عن صلاح الدين فلا يجدوا تسويغا للتخلص من تراث الفاطميين سوى حرق ابن العاص لما خلفه الوثنيون. وشتان الفاطميون والوثنيون مهما يكن رأى أهل السنة فى الأولين. والطريف أن لِيوِسْ قال فى هذا السياق إن صلاح الدين قد أصدر أوامره ببيع كتب الفاطميين فى مزاد علنى. وهذا ليس تصرف من يريد القضاء على التراث الفكرى والعقيدى لخصومه، بل هو إشاعة له بين الجماهير بدلا من إبقائه، كما كان الحال قبل ذلك، محصورا داخل جدران المكتبة العامة. ليس هذا فحسب، بل لو كان ما قاله لِيوِسْ صحيحا لكان الفاطميون قد قاموا بحملة فكرية مضادة تفضح هذه الحيلة التى لجأ إليها صلاح الدين ورجاله. لكنهم لم يفعلوا، على كثرة الدواعى التى من شأنها أن تدفعهم إلى ذلك وأهميتها، وهو ما يزيد فرضية لِيوِسْ ضعفا فوق ضعف. كذلك لو كان كلامه صحيحا لما ردد قصةَ حرق عمرو بأمر من عمر لمكتبة الإسكندرية المؤرخُ المصرىُّ الكبيرُ تقى الدين المقريزى[14]. ذلك أنه من سلالة الفاطميين، الذين يقول لِيوِسْ إن صلاح الدين ومشايعيه قد اخترعوا قصة حرق المكتبة لتسويغ ما صنعه بتراثهم فى مصر. ولن تفوته هذه الغاية البغيضة إلى قلبه، ومن ثم لن يساعد أعداء الفاطميين على بلوغها: فإما فَنَّدَ القصة وبَيَّن مراميها، وإما خرج بالصمت عن لا ونَعَمْ. أما أن يشارك فى اللعبة التى تسىء إلى أسلافه من خلفاء الفاطميين وأمرائهم فأمر غير متصوَّر فى حق ذلك المؤرخ الكبير. ثم كيف عرف المسلمون بمكتبة الإسكندرية رغم أنها كانت قد زالت من الوجود قبل ذلك بزمن طويل، ولم يكن فيها كتب يمكنهم قراءته لأنها لم تحتو على أى كتاب بالعربية؟ على كل حال هذا نص الفقرات الأربع الأخيرة من مقال لِيوِسْ، وهى التى تهمنا هنا:
"Myths come into existence to answer a question or to serve a purpose, and one may wonder what purpose was served by this myth. An answer sometimes given, and certainly in accord with a currently popular school of epistemology, would see the story as anti-Islamic propaganda, designed by hostile elements to blacken the good name of Islam by showing the revered Caliph ‘Umar as a destroyer of libraries. But this explanation is as absurd as the myth itself. The original sources of the story are Muslim, the only exception being Barhebraeus, who copied it from a Muslim author. Not the creation, but the demolition of the myth was the achievement of European scholarship, which from the 18th century to the present day has rejected the story as false and absurd, and thus exonerated the Caliph ‘Umar and the early Muslims from this libel.
But if the myth was created and disseminated by Muslims and not by their enemies, what could possibly have been their motive? The answer is almost certainly provided in a comment of Paul Casanova. Since the earliest occurrence of the story is in an allusion at the beginning of the 13th century, it must have become current in the late 12th century—that is to say, in the time of the great Muslim hero Saladin, famous not only for his victories over the Crusaders, but also—and in a Muslim context perhaps more importantly—for having extinguished the heretical Fatimid caliphate in Cairo, which, with its Isma’ili doctrines, had for centuries threatened the unity of Islam. ‘Abd al-Latif was an admirer of Saladin, whom he went to visit in Jerusalem. Ibn al-Qifti’s father was a follower of Saladin, who appointed him Qadi in the newly conquered city.
One of Saladin’s first tasks after the restoration of Sunnism in Cairo was to break up the Fatimid collections and treasures and sell their contents at public auction. These included a very considerable library, presumably full of heretical Isma’ili books. The break-up of a library, even one containing heretical books, might well have evoked disapproval in a civilized, literate society. The myth provided an obvious justification. According to this interpretation, the message of the myth was not that the Caliph ‘Umar was a barbarian because he destroyed a library, but that destroying a library could be justified, because the revered Caliph ‘Umar had approved of it. Thus once again, as on so many occasions, the early heroes of Islam were mobilized by later Muslim tradition to give posthumous sanction to actions and policies of which they had never heard and which they would probably not have condoned.
It is surely time that the Caliph ‘Umar and ‘Amr ibn al-‘As were finally acquitted of this charge which their admirers and later their detractors conspired to bring against them"[15].
على أن د. محمد حسين هيكل، على العكس من هذا كله، يفترض أن يكون الشيعة هم مصدر هذه الرواية المسيئة لعمر. أما أين دليله على ذلك فلا دليل، بل هو مجرد تخمين. لكن لو كان الشيعة هم مصدرها لأثبتوها فى كتبهم بجوار المعايب الأخرى المتلتلة التى يزُنّون بها الفاروق ولم يكتفوا بمجرد الكلام غير المثبت فى الأوراق[16]. أما العقاد فكان له رأى آخر فى تفسير ظهور هذه الفرية فى ذلك الوقت، وهو أن عصر الحروب الصليبية كان عصر حزازة بين الإسلام وخصومه وأن أولئك الخصوم كانوا يعرفون قيمة الكتاب وأن إحراقه مَعَابَةٌ لا يمكن تسويغها، على عكس الحال فى أيام عمر، التى لم نسمع بتلك الفرية خلالها، إذ كان إحراق الكتب وقتذاك مسألة اعتيادية لا شىء فيها. وكانت مصر وأخبارها شيئا هاما فى تلك الأيام... إلى آخر ما قال العقاد[17]، الذى كعادته قد استقصى فأحسن الاستقصاء فى وقت كتابته لـ"عبقرية عمر" منذ عشرات السنين. إلا أننى لا أستطيع موافقته على ما قال رغم إكبارى له إكبارا عظيما، فإن الخصومة بين الإسلام والعالم الغربى لم تنقطع فى يوم من الأيام. كما أن الصليبيين كانوا من الجهل والفدامة بحيث لا يسهل عليهم أن يفكروا فى أمر إحراق المكاتب بوصفه سبة يحاولون تلطيخ عمر بها.
والآن، وقد انتهينا من فضح ما فى أسطورة حرق المسلمين لمكتبة الإسكندرية من سخف، نتحول إلى وقائع حقيقية أُحْرِقت فيها الكتب، ولكنها كتب المسلمين، بل أُحْرِق فيها المسلمون أنفسهم دون أى ذنب جنَوْه، ودون أية شفقة أو رحمة. وهى وقائع ليس عليها أى خلاف من أى باحث. وسوف أكتفى فى هذا الصدد بإيراد مقال للدكتور على منتصر الكتانى بعنوان "الاضطهاد والتنصير في الأندلس (1492-1568م)"[18]:
"بعد استسلام غرناطة عين الملكان الكاثوليكيان الكونت دي تانديا حاكمًا عليها، وإيرناندو دي طلبيرة مَطْرَانًا لها. وبعد الاحتلال استقر أبو عبد الله في أندرش مع أتباعه وأهله مدةً، لكنه أجبر بعد ذلك على التنازل عن ضياعه في البشرات وأملاكه في غرناطة مقابل ثمن إجمالي قدره واحد وعشرون ألف دوقة قشتالية من الذهب الخالص. وغادر البلاد في أوائل أكتوبر سنة 1493م بأهله وأتباعه، والتحق به عدد كبير من وزرائه وقواده، واستقروا معه في حاضرة فاس عاصمة المغرب.
وهاجر عددٌ جَمٌّ من كبار أهل غرناطة وقوادها وفقهائها وعلمائها وساداتها وأعيانها. وهاجر أحد قواد الجيش الأندلسي الغرناطي أبو الحسن علي المنظري إلى جنوب سبتة، واستأذن من السلطان أبي عبد الله الوطاسي إعادة بناء مدينة تطوان الخربة، فنقل إليها عددًا كبيرًا من المهاجرين الأندلسيين. واعتنق النصرانية طواعيةً بعد الاحتلال جماعة من الأمراء والأعيان: الأميران سعد ونصر ابنا السلطان أبي السحن وأمهما ثريا، والأمير يحيى النيار ابن عم أبي عبد الله الزغل وزوجه وابنه، ومعظم آل بنيغش بما فيهم الوزير أبو القاسم بن رضوان بنيغش والوزير يوسف بن كماشة، وغيرهم كثير.
ثم تحولت سياسة الدولة الأسبانية من الاعتدال إلى الغدر الفاضح ضد أهل غرناطة. وأول الغدر تحويل مسجد غرناطة الأعظم إلى كتدرائية. ثم نظَّمت الكنيسة فرقًا تبشيريةً لتنصير المسلمين. وفي سنة 1499م استدعى الطاغيةُ الكاردينالَ سيسنيروس ليعمل على تنصير الأندلسيين بصرامة أكبر. فابتدأ فورًا بتحويل أكبر المساجد إلى كنائس، والضغط بالوعد والوعيد على وجهاء المدينة وفقهائها ليتنصروا. فقامت ثورة عارمة في حي البيازين، ثم انتقلت سنة 1500م إلى جبال البشرات بقيادة إبراهيم بن أمية. فلاحق الجيش الثوار وحاصرهم، ثم قضى عليهم بعد شهور، وقتل معظمهم، واسترقَّ أبناءهم ونساءهم. ثم قامت ثورة أخرى أواخر سنة 1500م حول بلدة يلفيق ووادي المنصورة بمنطقة ألمرية، فقُضِيَ عليها بنفس الهمجية والقساوة. وكذلك حصل لثوار منطقة رندة بين يناير وأبريل سنة 1501م .
وتابعت الدولة والكنيسة سياسة التنصير القسري بإشراف الملكين الكاثوليكيين، فتم تعميد جميع الأهالي بالقوة بين سنتي 1500 و1501م. ثم صدر مرسوم بتحويل جميع المساجد إلى كنائس. وفي 12/10/1501م صدر مرسوم آخر بإحراق جميع الكتب الإسلامية والعربية، فأحرقت آلاف الكتب في ساحة الرملة بغرناطة، ثم تتابع حرق الكتب في جميع مدن وقرى مملكة غرناطة. ثم صدر الأمر بمنع استعمال اللغة العربية ومصادرة أسلحة الأندلسيين، الذين أصبحوا يسمونهم بـ"المورسكيين". ويعاقَب المخالف لأول مرة بالحبس والمصادرة، ولثاني مرة بالإعدام. فاستغاث الأندلسيون مرةً أخرى بسلطان المغرب أبي عبد الله الوطاسي، وبسلطان مصر الأشرف قانصوه الغوري، وبالسلطان بايزيد العثماني دون جدوي .
ثم استعملت الكنسية والدولة جهازًا جهنميًّا لمتابعة الأندلسيين ومحاربة كل مظاهر الإسلام في حياتهم، ألا وهو محاكم التفتيش. أسست الكنيسة الكاثوليكية هذه المحاكم في إيطاليا وفرنسا وألمانيا لتقصي أخبار الناس ومتابعتهم إن خالفوا أفكار وأعمال الكنيسة. ثم أُنشئت في أديرة الفرانسان والدومينكان محاكم ثابتة يترأسها الأساقفة بسلطة مطلقة، فطاردت العلماء والمفكرين، وشردت وأحرقت منهم الجم الغفير. وأُنشئت أول محكمة تفتيش سنة 1242م في أراغون، وسُمّيت بـ"الديوان القديم". وفي سنة 1459م أصدر ملك قشتالة إنريكي الرابع أمرًا ملكيًّا للأساقفة بالبحث والاستقصاء في دوائرهم عن المضمرين لأفكار مخالفة للكثلكة. وفي 11/ 1478م (قبل سقوط غرناطة) أصدر البابا مرسوما بإنشاء محكمة التفتيش في أسبانيا. وطالبت المحكمة الجميع بالتحول إلى جواسيس للكنيسة. وفي 2/ 1482م توسعت المحكمة من 3 مفتشين من القساوسة إلى عشرة، فاستصدر الملكان الكاثوليكيان مرسومًا بابويًّا لتعيين المفتشين السبعة الجدد. وفي سنة 1483م صدر مرسوم بابوي بإنشاء مجلس أعلى لديوان التفتيش يتكون من أربعة أعضاء أحدهم المفتش العام رئيس المجلس، وهو توركيمادا، معترف الملكين. وكان رجلاً ظالمًا متعصبًا لا يعرف الرحمة ولا الشفقة، مع ترف في الحياة وفساد في الأخلاق. وخَلَفَ توريكمادا بعد وفاته سنة 1498م القسُّ ديسا، أسقف جيان.
تبدأ محكمة التفتيش عملها بتبليغ شخص. فإن كان معروفًا يُسْتَدْعَى لتقديم شهادته، التي تُعتبر "تفتيشًا تمهيديًّا" تُعْرَض نتائجه على "رهبان مقررين" معظمهم من الجهلة المتعصبين الذين يتجه قرارهم إلى الإدانة غالبًا. فيُقْبَض على المتهم ويُسْجَن دون أن يعرف السبب، ويُمْنَح ثلاث جلسات إنذار في ثلاثة أيام متوالية يُطْلَب منه فيها الاعتراف بذنب لا يدري ما هو. فإذا اعترف عُوقِب بدون رحمة ولا شفقة. وإذا لم يعترف، أو لم يدر بماذا، يحال إلى التعذيب حتى يعترف بأي شيء أو يموت تحت العذاب. وكانت ضروب التعذيب تصل إلى درجة من الوحشية لا تخطر على بال. وإذا اعترف المتهم بغير التهم الموجهة إليه تُلْصَق به تلك التهم على أي حال. وبعد المرافعة والاستجواب يُرْفَع الموضوع إلى القساوسة المفتشين ليعطوا رأيهم من جديد تمهيدًا للحكم النهائي، الذي يكون غالبًا الإدانة. ويمكن للمتهم أن يعلن التوبة ويطلب العفو من البابا مقابل أموال طائلة إن كانت له أموال. وإذا حُكِم على المتهم بالبراءة، وقليلاً ما يكون ذلك، فإنه يُعْطَى شهادة بطهارته من الذنوب تعويضًا على ذهاب ماله وشرفه وصحته ظلمًا وعدوانًا.
أما إذا كانت الإدانة بتهمة كبيرة فيؤخَذ المتهم من السجن دون أن يدري مصيره، ويمر بـ"مرسوم الإيمان"، فيلبس "الثوب المقدس"، ويوضع في عنقه حبل، وفي يده شمعة، ويؤخذ إلى الكنيسة للتوبة ثم إلى ساحة التنفيذ. وهناك يتلى عليه لأول مرة الحكم: سجن مؤبد، ومصادرة كاملة للأموال، أو الإعدام حرقًا بالنار في حال الكفر الصريح. أما إذا كانت التهمة صغيرةً فيحكم عليه بالسجن لمدة محدودة، وبغرامة مالية، ويسمون ذلك: "حكم التوفيق".
كانت أحكام الإعدام بالنار كثيرةً ضد المسلمين، وتكون في مهرجانات عظيمة يتفرج فيها القساوسة ورجال الدولة والأهالي، وأحيانًا الملك وكبار رجال دولته. وكان يُحْرَق المتهمون جماعيًّا في مواكب الموت للترهيب، وأحيانًا عائلات بأكلمها بأطفالها ونسائها. وكانت محاكم التفتيش تحاكم الموتى فتنبش قبورهم، وتتابع الغائبين وتعاقب أهلهم. وكان أعضاؤها يتمتعون بالحصانة الكاملة. وكانوا غالبا ذوي أخلاق سافلة لا يتورعون عن ارتكاب الموبقات والجرائم ضد ضحاياهم. وهكذا أُخْضِع الأندلسيون لهذه المحاكم الإجرامية منذ إعلان تنصيرهم القسري سنة 1499م.
ولما أُخْمِدت الثورات وأُلْغِيَ الإسلام رسميًّا لم يجد الأندلسيون بُدًّا، أمام عجزهم عن الدفاع وضياع أملهم في النجدة، سوى التظاهر مكرهين بقبول دين النصارى، والحفاظ على الإسلام سرًّا يقومون بشعائره من صلاة وصيام، وتحاشي المنكرات، ويعلِّمون أبناءهم، ويفعلون ما يجبرون عليه من التردد إلى الكنائس وتعميد الأطفال. وعملوا جهدهم للتكيف مع هذا الوضع الشاذ الحرج الخطر إلى أن يأتي الله بفرج من عنده.
وتحولت الكنيسة والدولة من أمل تنصير المسلمين الفعلي بالتبشير إلى أمل تنصيرهم بالإكراه والعنف والقوة، فجَدَّدَت القوانين الجائرة والإجراءات الصارمة. ففي سنة 1508م جَدَّدَت لائحةً ملكيةً بمنع اللباس الإسلامي. وفي سنة 1510م طَبَّقَت على المورسكيين ضرائبَ خاصةً اسمها: "الفارضة". وفي سنة 1511م جددت الحكومة قرارات بمنع السلاح عنهم، وحرق ما تبقى من الكتب الإسلامية، ومنع ذبح الحيوانات. وجُدِّدَ ذلك في سنتي 1512م و1513م. ودام الاضطهاد إلى أن مات فرناندو سنة 1516م موصيًا خَلَفه كارلوس الخامس بمتابعة سياسته نحو الإسلام.
واجه كارلوس الخامس المورسكيين بشيء من اللين في أول أمره، لكن في سنة 1423م أصدر مرسومًا جديدًا يحتم فيه تنصير كل مسلم بقي على دينه، وإخراج كل من أَبَى التنصير، وعقاب كل من خالف الأمرين بالرق مدى الحياة. فاشتكى المورسكيون إلى الملك من جور هذا القرار، فانتقل الملك سنة 1526م إلى غرناطة لمتابعة الموضوع، وندب محكمة كبرى برئاسة المفتش العام لترى فيما إذا كان تنصير المسلمين قسرًا: صحيحًا وملزمًا أم لا، فقررت المحكمة أن لا مطعن في تنصيرهم. فأصدر الملك قرارًا بمنع خروجهم من أسبانيا وضرورة تنصير أبنائهم، وقضى بالإعدام على كل من تنكر للنصرانية. وقرر القانون منع التخاطب بالعربية وكتابتها، وأجبر المورسكيين على تعلم الأسبانية، وأمر بهدم الحمامات وبأن تبقى بيوت المورسكيين مفتوحةً على الدوام ليرى الجميع ماذا يجري فيها... إلخ. فالتمس المورسكيون من الملك مرةً ثانيةً الرأفة، ودفعوا له من أجل ذلك ثمانين ألف دوقة ذهبية، فوافق على تأجيل تنفيذ هذه الإجراءات لمدة أربعين سنةً مقابل دفع ضريبة سنوية. وهكذا وصل المورسكيون مع كارلوس الخامس إلى توازن، لكن محاكم التفتيش واصلت تعسفها، خاصةً في سنة 1529م.
وخَلَف كارلوس الخامس بعد موته سنة 1555م ابنه فليبي الثاني، الذي كان متعصبًا ضعيف الشخصية أمام الرهبان: ففي سنة 1560م مَنَع المورسكيين من اقتناء العبيد. وفي سنة 1563م منعهم من جديد من امتلاك الأسلحة. وفي سنة 1564م ألغى حصانة الذين يقيمون منهم في أراضي النبلاء. وفي سنة 1566م، بعد مضي أربعين سنةً على الاتفاق مع كارلوس الخامس، قرر تطبيق قراره بكل صرامة، وفرض على المخالفين أقصى العقوبات من السجن والنفي والتعذيب والمصادرة والإعدام حرقًا. فأذيع هذا القانون الغاشم في جميع أنحاء مملكة غرناطة في 1/1/1567م، وتولى إذاعته موكب من قضاة محاكم التفتيش تتبعهم الطبول والزمور. وبدأت الحكومة في تطبيق هذا القانون بكل صرامة، فهُدِمت الحمامات، وملئت السجون، وتناثرت جثث المسلمين في شوارع غرناطة وقراها. ولم تفد المورسكيين أية شفاعة. فأخذوا يفكرون في الثورة المسلحة من جديد.
أما البرتغال فتوسعت على حساب الأراضي الإسلامية في الأندلس من إمارة صغيرة تأسست شمال غرب البلاد، فاحتلت براغة سنة 1040م، ثم قلمرية سنة 1064م حيث نقلت عاصمتها. ثم احتلت الأشبونة سنة 1093م فنقلت إليها العاصمة، ثم يابورة سنة 1166م، وقصر بني دانس سنة 1217م، وشلب، وجميع غربي الأندلس سنة 1249م. وبهذا استقرت حدود البرتغال على ماهي عليه اليوم. وعند احتلال الأراضي الإسلامية صادر البرتغاليون كل أراضي المسلمين وأملاكهم، فهاجر عدد كبير منهم، واستقر بعضهم الآخر في بلادهم كمُدَجَّنين. فلما أعلنت أسبانيا أمرها بتنصير المسلمين سنة 1499م تبعتها البرتغال سنة 1502م، فهاجر عدد منهم إلى شمال المغرب، وبقي بعضهم الآخر كمسلمين سرًّا في البلاد، ثم هاجر عدد كبير آخر سنة 1540م إلى المغرب. وبقي الباقون تحت نفس المصير الذي أصاب إخوانهم داخل الدولة الأسبانية.
ودخل عدد كبير من المسلمين تحت حكم قشتالة كمُدَجَّنين بعد سقوط طليطلة سنة 1085م، ثم مرسية وقرطبة وإشبيلية في القرن الثالث عشر الميلادي، فوقَّع الملك الفونسو الرابع سنة 1258م قانونًا فرض فيه قيودًا على المسلمين في كل المجالات، وشجع التنصير بينهم دون إرغامهم عليه. فثار المسلمون سنة 1261م من شريش غربا إلى مرسية شرقا. فقضى القشتاليون بمساعدة الأراضغونيين على الثورة سنة 1266م، وفرَّقوا في مرسية بين السكان المسلمين والنصارى حيث ظلّ حي الرشاقة الإسلامي تحت حكم وجهاء بني هود إلى سنة 1308م.
وتوالت القرارات التعسفية ضد المسلمين في قشتالة في سنة 1348م و1368م، و1371م: منها إجبار المسلمين على وضع شارات مميزة في ثيابهم، ومنعهم من الوظائف النبيلة، ومعاقبة المخالف بالمصادرة والسجن والتعذيب. وفي سنة 1387م فرقوا في المسكن بين المسلمين والنصارى، وأجبروا المسلمين على الركوع للصليب، وجُدِّد القرار سنة 1388م. وفي سنة 1408م منعوا المسلمين من الأكل مع النصارى، وعاقبوا المخالفين، وقرروا إجراءاتٍ أخرى متشددةً للتفريق بين الفئتين في كل المعاملات. وفي سنة 1422م أُصدر أمر بالإعدام على من يمنع مسلمًا من اعتناق النصرانية تبعته قرارات مالية مجحفة بالمسلمين سنة 1435م و1438م. وأصدرت الملكة إيسابيلا سنة 1476م مرسومًا تلغي فيه ما تبقى من المحاكم الشرعية، وتحدد ملبس المسلمين. وفي سنة 1480م أصدرت مرسومًا أكدت فيه استرقاق المسلمين القادمين من غرناطة، وفرقت بين سكن المسلمين والنصارى.
وفي سنة 1502م قرر الملكان الكاثوليكيان قتل المسلمين الرافضين التنصير في قشتالة أو طردهم خارج البلاد. كما أصدر أمرًا بمنع مسلمي قشتالة من الاتصال بمسلمي مملكة غرناطة. ثم أصدرا أمرًا في نفس السنة بتنصير جميع مسلمي قشتالة وليون وإخراج من يرفض التنصير. وفي سنة 1515م أصدر الملك مرسومًا يحرّم فيه على المتنصرين حديثا في أية جهة من مملكة قتشالة أن يخترقوا أراضي مملكة غرناطة أو يتصلوا بأهلها. وعقوبة المخالف الموت والمصادرة.
وقع أول المسلمين في يد النصارى بمملكة أراغون عند سقوط برشلونة ومنطقتها سنة 960م. ثم تكاثروا بعد سقوط سرقسطة سنة 1118م، وميورقة سنة 1220م، ويابسة سنة 1235م، وبلنسية سنة 1238م، ومنورقة بالجزر الشرقية سنة 1286م. ضمنت معاهدة استسلام بلنسية صيانة المسلمين وأموالهم وعقيدتهم ولغتهم العربية والشريعة الإسلامية. ولكن ملك أراغون غدر بكل عهوده فور امتلاك المدينة، فصادر مساجدهم وحَوَّلهم إلى شبه أرقاء بعد جمعهم في أحياء خاصة بهم. وفي سنة 1238م شرع الملك قوانين مجحفة، فثار المسلمون سنة 1254م، واستولَوْا على عدد من الحصون بين شاطبة ودانية ولقنت. ولم يستطع الملك القضاء عليهم إلا سنة 1257م بمساعدة أوروبا كلها بأمر من البابا. ثم تتالت القوانين المجحفة الظالمة سنة 1268م.، فثار المسلمون مرةً ثانيةً عام 1276م، وحرروا أربعين حصنًا وتمركزوا في شاطبة، ودامت الثورة إلى سنة 1277م.
ثم تتابعت القوانين الظالمة: سنة 1283م تمنع المسلمين من الوظائف النبيلة، وسنة 1301م تنزل بعض الضمانات القانونية التي أعطيت لهم من قبل.، وسنة 1328م تجعلهم تحت رحمة الإقطاعي النصراني وكأنهم عبيد له، وسنة 1342م و1370م تمنعهم من الهجرة إلى غرناطة والمغرب، وسنة 1371م و1389م و1403م تمنعهم من فداء الأسرى المسلمين وتعاقب المخالفين بالاسترقاء، وفي سنة 1418م صدر قانون يحدد تحرك المسلمين في المملكة، ويجعل أحياء المسلمين تحت إشراف مراقب نصراني ويمنع الأذان تحت طائلة الإعدام.، وفي سنة 1428م صدر قانون يجعل القضاء بين المسلمين بين يدي الإقطاعي النصراني، وكذلك التحكم في تحركاتهم.
وبعد سقوط غرناطة ساءت حالتهم، ولكن السادة الإقطاعيين عارضوا في إجبارهم على التنصير خوفًا على مصالحهم الزراعية. ولكن منذ سنة 1512م ابتدأت جماعات من النصارى المتعصبين تُغِير على القرى الإسلامية وتقتل وتحرق وتسبي دون رادع، ونَصَّروا قهرًا عددًا كبيرًا من المسلمين. وفي سنة 1525م قررت الدولة والكنيسة في أراغون أن الذين أجبروا على التنصير هم نصارى وجب عليهم أن يعيشوا كذلك، وإلا وجب على محاكم التفتيش أن تعاملهم معاملة المرتدين. ثم قرر الملك إجبار جميع المسلمين على التنصير. وبعد أن استرجع المسلمون الملك عن هذا القرار وافق منحهم مهلة عشر سنين مقابل غرامة قدرها أربعون ألف دوقة ذهبية، وخفف عليهم إبانها شروط التنصير.
لكن اليأس دخل نفوس المسلمين فثاروا في منطقتي سرقسطة وبلنسية إلى ضفاف نهر شقر. فنظَّمت الدولة الأراغونية جيشًا من المتطوعين النصارى من كل أوروبا لمحاربة المسلمين، وتكوّن جيش ضخم بقيادة الملك كارلوس الخامس نفسه، فقضى على الثورة أواخر سنة 1562م، فقَتَل الجم الغفير من المسلمين، واسترقَّ عددًا كبيرًا منهم، وأجبر الباقين على التنصير، كما فرّ عدد من المجاهدين إلى الجزائر والمغرب. فتابع الباقون في البلاد حياتهم المزدوجة بين الإسلام في السر، والنصرانية في العلانية.
وعملت الدولة الأسبانية بشطريها: أراغون وقشتالة على قطع الصلة بين المسلمين في المناطق المختلفة، خاصةً بين مسلمي مملكة بلنسية ومملكة غرناطة. ففي سنة 1541م حرمت على مسلمي غرناطة النزوح إلى بلنسية، وحرمت الهجرة من بلنسية إلا بترخيص ملكي مقابل غرامة باهظة".
[1] انظر جرجى زيدان/ تاريخ التمدن الإسلامى/ 3/ 49.
http://vb.tafsir.net/newthread.php?do=newthread&f=10#_ftnref21 عبد اللطيف البغدادى/ رحلة عبد اللطيف البغدادى فى مصر أو كتاب "الإفادة والاعتبار فى الأمور المشاهَدة والحوادث المعايَنة بأرض مصر"/ ط2/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1998م/ 98.
http://vb.tafsir.net/newthread.php?do=newthread&f=10#_ftnref3 [3]جمال الدين القفطى/ تاريخ الحكماء/ كتب خانه آصفية سركار/ حيدر أباد دكن/ 354- 356.
[4] غوريغوريوس بن أهرون المعروف بـ"ابن العبرى"/ مختصر تاريخ الدول/ تحقيق أنطون صالحانى اليسوعى/ ط2/ دار الرائد اللبنانى/ بيروت/ 1415هـ / 1994م / 175- 176.
[5] انظر رفيق العظم/ أشهر مشاهير الإسلام فى الحروب والسياسة/ ط2/ دار ا لفكر العربى/ 1972- 1973م/ 572.
[6] ولد ابن العاص عام 573م (انظر المادة الخاصة به فى "الويكيبيديا" العربية والإنجليزية، وكذلك "الموسوعة العربية العالمية"، التى أخرت ولادته عاما آخر)، ومات يوحنا النحوى فى عام 570م (انظر مادة "John Philoponus" فى "Stanford Encyclopaedia of Philosophy"، و"الويكيبيديا" فى طبعتها الإنجليزية مثلا). وقد تنبه ألفرد بتلر إلى هذه الحجة المزلزلة قبل ذلك بوقت طويل فى كتابه: "Arab Conquest of Egypt". لكنه لم يسق تواريخ وفاة يوحنا وميلاد عمرو بن العاص كما فعلت أنا هنا، بل اعتمد شيئا من التقريب والتخمين. أما د. محمد حسين هيكل فقد جعل عمر يوحنا عند فتح مصر مائة وخمسا وثلاثين سنة (انظر كتابه: "الفاروق عمر"/ ط10/ دار المعارف/ 2000م/ 2/ 171). ومن الواضح أنه يفترض جدلا أن يوحنا كان لايزال أوانذاك على قيد الحياة.
[7] من ذلك مثلا أنه كان يرى قتل محاربى بدر بدلا من اتخاذهم أسرى والحصول على فدية منهم، على خلاف أبى بكر، ونزل القرآن يعضد موقفه. وكان من رأيه ألا يصلى النبى عليه السلام على زعيم المنافقين بالمدينة حين مات، على حين كان الرسول يميل إلى الصلاة عليه، لعل وعسى، إذ لم يكن القرآن قد حسم النهى عن الصلاة على الرجل. ثم نزل القرآن بكلام شديد فى حق كبيير المنافقين ناهيا النبى بصورة قاطعة عن أن يصلى عليه. كما أوقف رضى الله عنه حد السرقة فى عام المجاعة. بل إنه هدد سيد الغلامين اللذين سرقا الناقة وذبحاها وأكلاها فى تلك الظروف بأنهما إذا عادا لمثل ذلك فسيكون العقاب من نصيبه هو بدلا منهما لأنه يجوّعهما، فهو إذن المتسبب فى السرقة، أما هما فمضطران، وليس على المضطر عقوبة. ومن ذلك أيضا أنه رأى ذات يوم شيخا يهوديا يسأل الناس، فأعطاه من الصدقات كفقراء المسلمين، قائلا إنه ممن يستتحقون الصدقة لأنه من المساكين، أى فقراء أهل الكتاب. ثم زاد فأسقط عن أمثاله الجزية. كما فرض عطاءً لكل مولودٍ لقيطٍ كالابن الشرعى سواء بسواء. وحين عزم على القدوم إلى الشام سمع بأن بها طاعونا، فاتخذ قراره بعدم الذهاب، مما أثار استغراب بعض الصحابة فسألوه: أتفر من قضاء الله؟ فكان جوابه العبقرى: نعم أفر من قضائه إلى قضائه. وقطع الشجرة التى تمت عندها بيعة الرضوان بين النبى وصحابته عندما رأى بعض الناس يتبركون بها، مخافة من توثينها...
[8] انظر مقالا منشورا بموقع "جمعية آل البيت الخيرية" عنوانه: "تاريخ المكتبات عند المسلمين- خزانة الخلفاء العباسين ببغداد (بيت الحكمة) أنموذجا". وقد يتنطع متنطع فيقول مثلا إن عمر إنما كان فى ذهنه، حين أمر بحرق المكتبة، قوله تعالى: "ونزّلنا عليك الكتاب تِبْيَانًا لكل شىء"، لكن هل يعقل أن يكون عمر أقل فهما لتلك الآية ممن سئل فى مصر فى العصر الحديث من قِبَل بعض المشككين: أين نجد فى القرآن الجواب عن السؤال الخاص بعدد الأرغفة التى تنتجها أفران القاهرة؟ إذ رد المسؤول على الفور: الجواب موجود فى قوله تعالى: "واسألوا أهل الذِّكْر إن كنتم لا تعلمون". فالقرآن لم يغفل الجواب عن مثل هذا السؤال، إذ بين لنا أين نجده. وكل ما هو مطلوب منا فى هذه الحالة أن نذهب إلى المتخصصين المسؤولين عن أفران القاهرة ونسألهم عن ذلك، وسوف يمدوننا بالجواب المطلوب لأنهم أهل الذِّكْر فى هذه النقطة.
[9] د. نبيل لوقا بباوى/ هل أحرق عمرو بن العاص مكتبة الإسكندرية؟/ جريدة "الأهرام" المصرية/ 21 رجب 1424هـ- 18 سبتمبر 2003م.
[10] J.J.Saunders, A History of Medieval Islam, Routledge, London and New York, 2002, P. 53, n. 3.
[11] د. نبيل لوقا بباوى/ المرجع السابق.
[12] انظر رفيق العظم/ أشهر مشاهير الإسلام فى الحروب والسياسة/ 577.
[13] انظر ما كتبه زهير الشايب فى هذا الموضوع فى كتاب "وصف مصر" لعلماء الحملة الفرنسية/ ترجمة زهير الشايب/ دار الشايب للنشر/ 1984م/ 3/ 336 بالهامش.
[14] كتب المقريزى فى كتابه: "المواعظ والآثار" عن عمود السوارى بالإسكندرية: "وفيه خزانة كتب أحرقها عمرو بن العاص بإشارة من عمر بن الخطاب رضى الله عنه". وأرجو من القارئ أن يتنبه إلى أن المقريزى إنما ينقل عبارة عبد اللطيف البغدادى بنصها، وفى نفس سياقها بالضبط، وهو الكلام عن عمود السوارى ودار العلم التى كانت هناك. وإلى القارئ الكريم نص عبارة البغدادى مرة أخرى: "وفيها كانت خزانة الكتب التى أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر رضى الله عنه".
[15]Bernard Lewis, Lost History of the Lost Library, The New York Review of Books, the June 14, 1990 issue
[16] انظر د. محمد حسين هيكل/ الفاروق عمر/ 2/ 170. وعبارته بنصها هى: "ولعل هذه الأسطورة نجمت فى بيئات الشيعة".
[17] انظر العقاد/ موسوعة عباس العقاد الإسلامية/ دار الكتاب العربى/ بيروت/ 1391هـ- 1971م/ 2/ 502.
[18] مجلة "الداعى" الشهرية الصادرة عن دارالعلوم- ديوبند/ محرم – صفر 1431 هـ: ديسمبر 2009 م- يناير- فبراير 2010م.
ومن هنا فلا معنى لما قاله جرجى زيدان، الذى يفترض أن المصادر الإسلامية المبكرة تكلمت عن هذا الموضوع، لكن المسلمين بعد تمدنهم حذفوا هذا الكلام تصورا منهم أنه يسىء إلى دينهم وكبار رجالهم[1]. إنها حجة غير مقبولة البتة لأن السكوت عن هذا الموضوع لا يقتصر على المصادر الإسلامية وحدها كما رأينا، فضلا عن أن المسلمين، على العكس مما يقول، كانوا لا يتركون صغيرة ولا كبيرة إلا وسجلوها وأفاضوا فيها القول مهما كان من إساءتها إليهم حتى إننا لنشكو مُرَّ الشكوى من هذا الأمر الذى يستغله خصوم الإسلام الآن، وأرى أن المسلمين المتقدمين ما كانوا ليبالوا به أدنى بالة، إذ كانوا من القوة والعافية والثقة بأنفسهم وبدولتهم وتاريخهم ورجالهم بحيث ما كانوا ليفكروا فى هذه الاعتبارات. ولو افترضنا أنهم فعلا قد تصوروا فيما بعد أنها مسيئة إليهم لقد كان فى مناقشتهم لها وردهم على ما جاء فيها مندوحة واسعة بدلا من حذفها. ومعروف أن مناقشة الفكرة بفكرة مثلها كانت سُنَّة المسلمين، وإلا فكيف وصلت إلينا كتب الملاحدة والشكّاكين من المنتسبين إلى الإسلام، وكذلك كتب الفرق المختلفة التى يكذب بعضها بعضا وتتصور كل فرقة أنها هى وحدها الصواب؟ بل كيف وصلت إلينا كتب اليهود والنصارى التى هاجموا فيها الإسلام؟ وحتى لو غضضنا النظر عن ذلك وقلنا إن الحذف قد حصل فهو خاص بالنسخ الجديدة، أما القديمة فبقيت على حالها، اللهم إلا إذا زعمنا كذبا وبهتانا أن متولى رقابة المخطوطات داروا على أصحاب النسخ الجديدة واحدا واحدا فأعطوه نسخة جديدة وأخذوا منه القديمة ودمروها بحيث لا يتبقى منها أى أثر. ولنفترض أننا غضضنا البصر عن هذا أيضا أمن الممكن أن يتواطأ على ذلك المسلمون والمنتسبون إلى الإسلام جميعا سُنّةً وخوارجَ ومعتزلةً ومتصوفةً وملاحدةً ومنافقين، ودعنا من اليهود والنصارى والصابئة والمجوس الذين كانوا يستظلون بظل الدولة الإسلامية آنذاك. ولا تنس الشيعة وكتابهم ومؤرخيهم، فما كانوا ليفلتوا مثل تلك الفرصة الخطيرة دون أن ينتهزوها ليشوهوا صورة عمر بن الخطاب، الذى لم يتركوا مثلبة إلا وألصقوها به وافْتَرَوْا عليه المفتريات التى لا تدخل العقل كما يعرف ذلك كل أحد، وكذلك عمرو بن العاص، الذى اتخذ جانب معاوية ضد على بن أبى طالب، لكننا ننظر فلا نلفى أحدا منهم ينبس ببنت شفة واحدة فى هذ الموضوع! ولو كان عمرو وعمر قد أحرقا مكتبة الإسكندرية لَطَنْطَنُوا بالزِّرَايَة عليهما والمقارنة بين هذين الكارِهَيْن للكتب والمكتبات وبين عَلِىّ بن أبى طالب باب مدينة العلم كما يصفونه، ولكن الشيعة لم يفعلوا، فما معناه؟ ثم فلنفترض أننا غضضنا النظر أيضا عن كل ما قلناه، فلم يا ترى ترك المسلمون ما كتبه عبد اللطيف البغدادى والقفطى فلم يحذفوه ما دام الحذف عندهم سهلا إلى هذا المدى؟
ثم بعد الانتهاء من خطوتنا الأولى نُثَنِّى بتحليل النص ذاته. وسوف أنقل ما كتبه كل واحد من الثلاثة اذين أوردوا فى كتبهم هذه الحكاية: فأما البغدادى فعبارته شديدة الإيجاز وتجرى على النحو التالى: "وفيها (أى فى دار العلم التى أنشأها الإسكندر الأكبر بمدينة الإسكندرية) كانت خزانة الكتب التى أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر رضى الله عنه"[2]. ولا ينبغى أن يفوتنا أن البغدادى كان مارا بمصر، إذ كان رحالة يجوب البلاد، ولم يكن من أهلها.
وأما ما كتبه القفطى فهو متاح فى المادة المخصصة ليحيى النحوى من كتابه: "تاريخ الحكماء"، وهو يجرى هكذا: "يحيى النحوى المصرى الإسكندرانى تلميذ شاوارى. كان أسقفا فى كنيسة الإسكندرية بمصر، ويعتقد مذهب النصارى اليعقوبية، ثم رجع عما يعتقده النصسارى فى التثليث لما قرأ كتب الحكمة واستحال عنده جًعْل الواحد ثلاثة، والثلاثة واحدا. ولما تحققت الأساقفة بمصر رجوعه عزَّ عليهم ذلك، فاجتمعوا إليه وناظروه، فغُلِب وزُيِّف طريقُه، فعَزَّ عليهم جهله واستعطفوه وآنسوه وسألوه الرجوع عما هو عليه وترك إظهار ما تحققه وناظرهم عليه، فلم يرجع، فأسقطوه من المنزلة التى هو فيها بعد خطوب جرت. وعاش إلى أنْ فتح عمرو مصر والإسكندرية، ودخل على عمرو، ورأى له موضعا، وسمع كلامه أيضا فى انقضاء البدهر، ففُتِن به وشاهد من حججه المنطقية، وسمع من ألفاظه الفلسفية التى لم تكن للعرب بها أُنْسَةٌ ما هَالَهُ. وكان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر، فلازمه. وكان لا يكاد يفارقه، ثم قال له يحيى يوما: إنك قد أحطت حواصل الإسكندرية وختمتَ على كل الأصناف الموجودة بها: فأما ما لك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وما لا انتفاع لكم به فنحن أولى به، فَأْمٌرْ بالإفراج عنه. فقال له عمرو: وما الذى تحتاج إليه؟ قال: كُتُب الحكمة التى فى الخزائن الملوكية". ثم مضى يصف ما فيها من الكتب، ذاكرا من أنشأها ومن اعتنى بها... فـ"قال (عمرو): لا يمكننى أن آمر فيها إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وكتب إلى عمر وعرَّفه قولَ يحيى الذى ذكرناه واستأذنه ماذا يصنع فيها. فورد إليه كتاب عمر يقول فيه: وأما الكتب التى ذكرتَها فإن كان فيه ما يوافق كتابَ الله ففى كتاب الله عنه غِنًى. وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه، فتَقَدَّمْ بإعدامها. فشرع عمرو بن العاص فى تفرقتها على حمامات الإسكندرية وإحراقها فى مواقدها. وذُكِرَت عِدّة الحمامات يومئذ، وأُنْسيتُها، فذكروا أنها استُنْفِدَتْ فى مدة ستة أشهر. فاسمع ما جرى واعجب!"[3].
ويبقى ابن العبرى، الذى كان يضع كلام القفطى أمام عينيه وهو يسطر ما كتبه، والذى لا يوجد فى النسخة السريانية من كتابه النص التالى الذى يتناول الموضوع ذاته: "وفى هذا الزمان (أى فى خلافة عمر بن الخطاب) اشتهر بين الإسلاميين يحيى المعروف عندنا بـ"غرماطيقوس"، أى النحوى. وكان إسكندريا يعتقد اعتقاد النصارى اليعقوبية ويشيد عقيدة ساورى. ثم رجع عما يعتقده النصارى فى التثليث، فاجتمع إليه الأساقفة بمصر وسألوه الرجوع عما هو عليه، فلم يرجع، فأسقطوه عن منزلته. وعاش إلى أن فتح عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية. ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلوم، فأكرمه عمرو وسمع من ألفاظه الفلسفية التى لم تكن للعرب بها أُنْسَةٌ ما هَالَهُ ففُتِنَ به. وكان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه، وكان لا يفارقه. ثم قال له يحيى يوما: إنك قد أحطتَ بحواصل الإسكندرية وختمت على كل الأصناف الموجودة بها: فما لك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وما لا انتفاع به فنحن أولى به. فقال له عمرو: وما الذى تحتاج إليه؟ قال: كُتُب الحكمة التى فى الخزائن الملوكية. فقال له عمرو: لا يمكننى أن آمر فيها إلا بعد استئذان عمر بن الخطاب. وكتب إلى عمر وعرَّفه قَوْلَ يحيى، فورد إليه كتاب عمر يقول فيه: وأما الكتب التى ذكرتَها فإن كان فيه ما يوافق كتابَ الله ففى كتاب الله عنه غِنًى. وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه، فتَقَدَّمْ بإعدامها. فشرع عمرو بن العاص فى تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها فى مواقدها، فاستُوقِدَتْ فى مدة ستة أشهر. فاسمع ما جرى واعجب"[4].
وبعدما أوردنا ما قاله كل من الثلاثة نشرع على بركة الله فى التحليل، فنقول: من المعروف أن يوحنا النحوى لم يكن عربيا، فلم يكن يعرف العربية من ثم، مثلما لم يكن ابن العاص مصريا، وعليه لم يكن يعرف اللغة المصرية، كما لم يكن يعرف أية لغة أخرى غير العربية يمكنه التخاطب من خلالها مع يوحنا النحوى، فكيف إذن كانا يتفاهمان؟ الحق أن أقصى ما يمكن أن نتخيله هو أن يكون يوحنا النحوى قد التقط بعض الكلمات والعبارات الأولية العربية فى تلك الأشهر القليلة جدا التى انقضت ما بين دخول العرب مصر وفتحهم الإسكندرية يستطيع بها أن يتبادل مع العرب التحية وما إلى ذلك من الموضوعات البسيطة التى لا تحوج صاحبها ولا مستمعها أبدا إلى التبحر فى اللغة كما يحدث للواحد منا حين يذهب إلى بريطانيا مثلا أو فرنسا، ولا يكون قد ألم بشىء ذى قيمة من لغة ذلك البلد، اللهم إلا بضع كلمات وعبارات تساعده على طلب الطعام أو السؤال عن الطريق مثلا. وقد جعلتُ يوحنا هو الذى يتعلم لغة العرب لأنهم هم الفاتحون، فمن الطبيعى أن يتعلم هو المصرىَّ لغةَ عمرو لا العكس. أما الكلام فى الفلسفة والعلوم الطبيعية والمفاهيم الفلسفية والعلمية الدقيقة فهذا هو المستحيل بعينه. فلو زدتَ على ذلك أن ابن العاص لم يكن مؤهلا بطبيعة ظروفه الثقافية أن يتابع مثل تلك المناقشات، كما لم تكن العربية قد تأهلت بعد لتسع الفلسفات والعلوم بمصطلحاتها الكثيرة المعقدة ونظرياتها ومفاهيمها العالية التى لم يكن للعرب بها أى عهد، وبالتالى لا يمكن المترجم، لو كان هناك مترجم، أن ينقل هذه المصطلحات والمفاهيم إلى العربية، لتبين لنا أن جريان مناقشة بين ابن العاص ويوحنا النحوى فى الموضوعات التى ذكر ابن العبرى أنهما كانا يتناقشان فيها أمر لا يتصوره من كان فى رأسه مُسْكَةٌ من عقل. ثم هل كان وقت ابن العاص، فى تلك الأيام المضطربة المملوءة بالقتال والمعاهدات والمؤامرات والترقب والقلق والتوجس ويُصْنَع فيها التاريخ صناعة، ليسمح بمثل تلك الجلسات والمناقشات التَّرَفِيّة، إن كان أمثاله فى ذلك الحين يميلون إليها؟
كذلك كان يوحنا، كما يُفْهَم من كلام القفطى وابن العبرى، قريبا جدا من دين المسلمين، إذ هو لا يؤمن بالتثليث ولا بالصليب، فمن المستبعد أن يرفض عمرو له طلبا كهذا كان يستطيع على الأقل أن يحققه له جزئيا فيتركه يأخذ من كتب المكتبة الإسكندرانية ما يكفى استعماله الشخصى مثلا دون أن يضر المسلمين ولا شخصه هو فى شىء بدلا من أن يعقّد المسألة كل هذا التعقيد الذى تصوره الرواية، وفى نفس الوقت يتألف قلبه ولا يخزيه أمام الآخرين ممن يدينون بالصليب والثالوث. على أن الطريف لى المسألة هو أن يوحنا إنما تحدث عن حاجته هو وأمثاله إلى تلك الكتب، لنفاجأ بابن الخطاب يتحدث كما لو كان العرض المقترح هو أن يستعملها المسلمون. ولكن ما دام لن يستعملها المسلمون، بل المصريون، فما معنى أن يقول إنها إن كانت توافق القرآن ففى القرآن غُنْيَةٌ عنها، وإن كانت تخالفه فلا يصحّ للمسلم قراءتها؟ إن ابن العاص يسأله عن شىء، فيجيبه هو عن شىء آخر لم يُسْتَفْتَ فيه ولا كان مطروحا أصلا للبحث. وفى أمثال العرب: "أُرِيها السُّهَا، وتُرِينى القمر"! ليس ذلك فحسب، إذ كان العرب لا يقدرون أصلا على استعمال المكتبة لأنهم لم يكونوا فى ذلك الطور من تاريخهم الثقافى مؤهَّلين للنظر فى كتبها ولا حتى لقراءتها مجرد قراءة لجهلهم اللغة المصرية أو اليونانية التى كُتِبَتْ بها. أى أنها، لو أبقى ابن العاص عليها، لن تشكّل لهم أى ضرر على الإطلاق. كما يلفت النظر فى كلام يوحنا قوله لعمرو: "ما لك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وما لا انتفاع به فنحن أولى به"، فهل من المتصور أن يجرؤ يوحنا، مهما كان قربه من عمرو، على مخاطبة الفاتح المنتصر بهذه اللهجة، وكأنه كان قادرا على أن يعارض العرب فى شىء؟ وهل كان يوحنا من أهل السياسة حتى يفكر فى مفاوضة ابن العاص على هذا النحو؟ فمن فوّضه يا ترى فى الحديث عن أهل الإسكندرية؟ ودعنا من مصر كلها. بل هل كان هناك مجال للمفاوضة، وقد استسلمت الإسكندرية وتم الصلح وأُقِرَّت شروطه واتُّفِق فيه على كل شىء يتعلق بها؟ثم لماذا يتكلف عمرو مشقة متابعة نقل الكتب من المكتبة إلى حمامات المدينة بدلا من الأمر بحرقها فى مكان واحد؟ ولقد قام رفيق العظم بحساب الكتب التى تلزم لإيقاد النار فى حمامات الإسكندرية الأربعة الآلاف على أساس أن كل حمام يلزمه فى اليوم مائة مجلد، فوجد أن عدد الكتب فى مكتبة الإسكندرية ينبغى أن يكون اثنين وسبعين مليون مجلد. وأى مكتبة فى العالم تحتوى على هذا القدر من الكتب كما يقول بحق؟[5] ثم لماذا يتكلف عمرو مشقة متابعة نقل الكتب من المكتبة إلى حمامات المدينة بدلا من الأمر بحرقها فى مكان واحد؟ فإذا علمنا أن الرقوق، التى كانت تكتب عليها الكتب فى الغالب أوانذاك، لا تقبل الاشتعال كما يقول ألفرد بتلر فى الفصل الذى خصصه من كتابه عن فتح مصر لهذا الموضوع تبين لنا أن المسألة كلها لا تعدو أن تكون زوبعة فى كستبان لا فى فنجان إن كان للزوابع أن تهيج فى الفناجين والكستبانات!
وهذا كله إن كان عمرو بن العاص ويوحنا النحوى قد تقابلا أو حتى تعاصرا، اللهم إلا ثلاث سنوات تبدأ من ولادة عمرو وتنتهى بوفاة يوحنا، وكان بينهما من المسافة ما بين مصر والحجاز، ومن الثقافة ما بين فيلسوف ورجل دين مصرى فى القرن السادس الميلادى وبين رجل عربى كل ما يقدر عليه فى ميدان الثقافة هو القراءة والكتابة. أما والنحوى قد مات، وعمرو حديث عهد بالولادة[6]، فلا ريب أنه من المضحك القول بأنه كان بينهما بعد ذلك بعشرات السنين أى كلام بشأن المكتبة أو بشأن أى شىء آخر. ذلك أن الموتى لا يتكلمون، فضلا عن أن يتناقشوا فى الفلسفة والعقائد والمذاهب الدينية. أم هناك من يجادل فى تلك الحقيقة؟ ولقد تركت هذه المعلومة لآخر لحظة حتى يشعر القارئ بتفاهة الاتهام شعورا قويا لا ينساه مدى الدهر. أما لو كنت ألقيتها له منذ الوهلة الأولى لما أدرك قيمتها كما ينبغى، إذ إن ما نحصل عليه م بعد تعب وصعوبة أقوى فى الرسوخ فى الذاكرة وأبلغ فى البرهنة على ما نريد مما لو كنا حصلنا عليه بسهولة.
ومع ذلك كله فلسوف نمضى مع الاتهام نناقشه وكأننا لم نقم الدليل على سخفه ونسفناه نفسا. ولم لا؟ إنها لفرصة لعرض عظمة الإسلام ورجاله. وكم من نِقْمَةٍ حَوَتْ فى طَيِّها نعمةً بل نِعَمًا! أما بالنسبة إلى شخصية ابن العاص وابن الخطاب فقد كان كل منهما من القارئين الكاتبين القلائل قى مكة قبل الإسلام، فلم يكن أى منهما بالذى يجهل قيمة القراءة والكتابة والكتب. ولم يُعْرَف عن أى منهما تنطع ولا تنطس دينى من أى نوع. لقد كانا من رجال الدول الكبار الواسعى الأفق بحيث لا يمكن أن يتصورهما الإنسان واقفين ولو للحظة واحدة أمام موضوع المكتبة بوصفه يمثل أية مشكلة على الإطلاق: فأما ابن الخطاب فكان حاكم دولة عبقريا قوى الشخصية يغوص إلى أعماق الإسلام فى بصيرة نادرة وعقل متفتح وقلب شجاع مقدام لا يعرف سُخْف الصِّغَار من ضيقى الأفق الذين ينظرون إلى الدنيا والناس والدين من ثَقْب إبرة، بل كانت له آراؤه واجتهاداته اللوذعية العجيبة[7]. وكان طُلَعَةً يحب معرفة ما عند الآخرين، فكان يذهب على أيام النبى إلى اليهود ويخالطهم وينظر فى كتبهم، وإن كان التبى صلى الله عليه وسلم قد نهاه عن ذلك، لكن لا بد مع ذلك من مراعاة أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بحرق مثل تلك الكتب فى يوم من الأيام. كما ظل رضى الله عنه يروى شعر الجاهلية ويسمعه بعد الإسلام دون أى تحرج. والمعروف أنه كان عليما بتاريخ العرب وأيامها ومفاخر أنسابها وسائر أمثالها. أليس معنى ذلك إدراكه أن الثقافة غير محصورة بين دفتى المصحف رغم أن فى القرآن تبيانا لكل شىء؟ نعم فى القرآن تبيان لكل شىء، لكن من ناحية الخطوط العامة فلا يحتوى هو من ثم على التفصيلات إلا قليلا. ولو كان عمر بهذا الضيق فى التفكير لانتهز الفرصة التى واتته على طبق من ذهب من تلقاء نفسها ولصَلَّى فى كنيسة القيامة وصَيَّرها، أو أَوْعَز لرجاله أن يصيِّروها، مسجدا حين عرض عليه صفرنيوس بَطْريقُ القدس أن يؤدى فيها الصلاة لَدُنْ دخول وقتها، لكنه رضى الله عنه رفض وأصر على الصلاة خارجها رهبةَ أنْ يأتى المسلمون من بعده فيستولوا عليها ويجعلوها مسجدا بحجة أن عمر صلى فيها. فهل من يصل فى نبله وتجرده وكرمه وسعة أفقه وشفقته على عقائد المخالفين واحترامه لدور عبادتهم إلى هذا المدى البعيد يمكن أن يتدهدى إلى حضيض الغُشْم الذى تدّعيه تلك الرواية الفاشلة فيأمر بحرق مكتبة لا تضره ولا تضر المسلمين فى شىء؟ ثم إن المكتبات لم تكن بالنسبة لعُمَرَ وعَمْرٍو شيئا جديدا، إذ كان عند بعض الصحابة كتب، كسعد بن عُبَادة مثلا، الذى كانت له مكتبة خاصة صغيرة تحتوى، ضمن ما تحتوى، على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم[8].
ثم هل يصح أن نصدق ما نُسِب إلى عمر فى حق مكتبة الإسكندرية، وهو الذى كان يقول للقاضى عند تعيينه: "إذا جاءك شىء فى كتاب الله فاقض به، ولا يَلْفِتََّك عنه الرجال. فإن جاءك أمر ليس فى كتاب الله فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بها. فإن جاءك أمر ليس فى كتاب الله ولم يكن فى سنة من رسول الله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به. فإن جاءك ما ليس فى كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أى الرأيين شئت: إن شئت أن تجتهد رأيك وتَقَدَّم فتَقَدَّمْ، وإن شئت أن تَأَخَّرَ فتَأَخَّرْ. ولا أرى التأخير إلا خيرا لك"؟ ترى إذا كان ممكنا فى رأيه ألا يجد القاضى فى كتاب الله، بل ولا فى سنة رسول الله، حكما دينيا فى مسألة ما، فكيف يتصور أن فى القرآن ما يغنى عن مكتبة كمكتبة الإسكندرية فيها من علوم الدنيا ما ليس من أمور الوحى؟ كذلك أنشئت فى عهده دواوين الإحصاء والخراج والمحاسبة، وكذلك البريد وبيت المال وبيت سك النقود وما إلى ذلك، وأوكل الإشراف على بعضها لغير العرب بلغاتهم. فهل مثل هذا الرجل يمكن أن يأمر بحرق مكتبة للسبب الذى نعرفه؟
وأما ابن العاص فكان واحدا من كبار قادة الإسلام. كما كان سفيرا لقريش إلى النجاشى، وللرسول إلى مَلِكَىْ عُمَان ابنى الجَلَنْدَى. وكان كذلك تاجرا صاحب جولات داخل البلاد وخارج البلاد، وزار مصر فى الجاهلية ورأى ما هى عليه من عمران وحضارة، ومن المؤكد أنه قد عَرَف ما للكِتَاب هناك من قيمة. وكان رجلا أريبا دوخ خصومه فى ميدانَىِ السياسة والحرب، وفتح الأقطار وساسها خير سياسة. ومثل ذلك الشخص لا يمكن أن يكون بهذا التنطع أو ضيق الأفق. ولو كان عمرو رضى الله عنه قد أحرق مكتبة الإسكندرية لكان مثلا قد قام بينه وبين ابنه عبد الله حوار بهذا الشأن، إذ سبق أن أصاب عبدُ الله يوم معركة اليرموك، التى كان أبوه أحد قوادها الكبار، زاملتين (أى ناقتين محملتين) من كتب أهل الكتاب فأخذهما للانتفاع بما تحملانه من كتب. وإذا علمنا أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان من الرجال المتحرجين فى دينهم، أفيكون الأب، وهو رجل سياسة مضرَّس، أشد تحرجا من الابن؟ فما كانت حادثة حرق المكتبة إذن لتمر مرور الكرام على هذا النحو دون أن يقوم بشأنها أخذ ورد بين الأب وابنه لو كانت صحيحة، ومعروف أنه كثيرا ما قامت محاورات بين عمرو وعبد الله فى مختلف الأمور، أو دون أن يقيم المؤلفون القدامى، وبخاصة رجال الحديث وشراحه، مقارنة بين تصرف الأب والابن ويحاولوا التوفيق بين العملين المتناقضين. بل هل كانت قصة الزامتلين لتفوت على عمر دون أن يؤاخذ عليها عبد الله بن عمرو ما دام الفاروق متشددا فى هذا الموضوع إلى ذلك الحد؟ أم ترى أن قصة كهذه يبلغ من شيوعها أن يستفيض ذكرها فى كتب المؤرخين والمفسرين والمحدِّثين وكتب الأدب ثم لا يسمع بها عمر رضى الله عنه؟ فما معنى سكوت عمر عن ذلك؟ ولنلاحظ أنها لم تنتظر عدة قرون حتى تظهر على السطح كقصة حريق المكتبة، بل هى موجودة منذ وقت مبكر. وإن فى النص المنسوب لابن العبرى لشيئا مهما ليس من اليسير المرور عليه فى صمت. ذلك أن يحيى النحوى أخذ فى مدح المكتبة والملوك الذين أسسوها وأمدوها بالكتب العلمية المختلفة وأبدى من ضروب الوله بالكتب وما تحتويه من علوم وفنون ما كان من شأنه تليين قلب الجماد ذاته، فهل كان عمرو من جمود المشاعر وانغلاق الذهن بالمكانة التى لم تؤثر فيه معها كلمات الفيلسوف المصرى المشغوف بالكتب ومطالعتها الحريص على إنقاذها من يد البطش والتدمير؟ والله إنى لا أصدقنَّ أن شيئا من هذا قد وقع. أَوَيترك عمرو للقبط صلبانهم سالمة لا يمسها ماسٌّ طبقا للمعاهدة التى أُبْرِمَتْ بين الطرفين ويأمر بإحراق مكتبة تحوى كنوز العلم وذَوْب عقول العلماء؟ ثم يا ترى هل رجع ابن العاص إلى عمر فى الصلبان ليأخذ رأيه؟ أم هل أرسل إليه يستفتيه فى التماثيل والأصنام المنتشرة فى جميع المعابد القديمة؟ بالطبع لا. إذن فلماذا يجعل من الحبة قبة فى أمر المكتبة، وهى لا تهم الدولة فى قليل أو كثير لا فى السياسة ولا فى المال ولا فى أحوال الاجتماع؟ كذلك لم يكن ابن العاص بالذى ينفذ دائما ما يراه عمر دون مراجعة كما هو الحال مثلا حين اقترح عمرو عليه فتح مصر، ولم يكن ابن الخطاب متحمسا، فظل يلح عليه حتى وافق أخيرا. وتكررت مخالفته له حين بعث له الخليفةُ، وهو فى الطريق إلى مصر، برسالةٍ حَزَرَ منها عمرٌو قبل أن يفتحها أنه يريد منه الرجوع، فلم يفتحها إلا بعد أن اطمأن إلى أنه تجاوز الحدود المصرية وصار داخل الأراضى المصرية، فعندئذ فتح الخطاب، الذى كان يعرف مسبقا أن فيه أمرا بالعودة إذا لم يكن قد تجاوز هو ومن معه حدود مصر، أما لو كانوا قد تجاوزوها فليمضوا على بركة الله. ثم تكررت المخالفة فى مسألة حفر الخليج فى مصر، إذ كان عمر يريد الحفر، على حين كان هو وكبار رجال الدولة المسلمون فى مصر يَرَوْن العكس... إلخ. فلماذا نراه هنا ينزل على رأى عمر فى الحال دون مراجعة أو محاولة لعرض وجهة نظر أخرى فى مسألةٍ وجهُ الحق فيها واضحٌ، ويحتاج أن يراجِع بشأنه الخليفة ولا ينزل على رأيه دون أَخْذٍ ورَدٍّ؟
وأما من الناحية النظرية والمبدئية فإن الإسلام يُعْلِى من شأن العلم والكتب والعلماء إعلاء عجيبا حتى لقد أقسم الله بالقلم والكتابة فى كتابه الكريم، وهو قَسَمٌ لو تعلمون عظيم، ولم يُسَوِّ بين من يعلمون ومن لا يعلمون بتاتا، وكانت أول آية نزلت من القرآن هى "اقرأ"، التى تكرر الأمر بالقراءة فى الآيتين التاليتين لها، مع التذكير بدور القلم فى عملية التعلم وأنه جل شأنه خالق هذا الدور. كما ورد فيه عدة مرات ذِكْر الكتب بوصفها حجة تحسم النزاع. ولم يحدث أن أمر الله نبيه محمدا عليه السلام بالاستزادة من شىء إلا من العلم: "وقُلْ رَبِّ زِدْنِى عِلْمًا". وجعل النبىُّ الكريمُ العلماءَ ورثة الأنبياء، وجعل مِدَاد العلماء يوزن بمداد الشهداء، وجعل فضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب، وجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، على حين أن كل ما استطاعت الحضارة الحديثة فى أوج تألقها أن تصل إليه هو تقريرها التعليم حقا للفرد، وهو ما يعنى أن بمكنته طلب العلم أو إهماله دون أن يكون عليه حرج أى حرج، بخلاف ما لو أهمله فى حالة كونه فرضا من الفروض الدينية كما هو معلوم. كذلك أمر صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن يظلوا يطلبون العلم من المهد إلى اللحد. ومعروف أنه اتفق مع أسرى بدر على أن يطلق سراح كل من يعلم منهم عشرة أولاد من مسلمى المدينة. فكيف نصدق أن عمر، الذى كان يفهم الدين فهما عميقا يغوص به إلى أعمق أعماقه، يمكن أن يكون قد أصدر أمرا بإحراق مكتبة الإسكندرية، وهى التى إن لم ينفع المسلمين بقاؤها فلن يضرهم هذا البقاء فى شىء، وبقاؤها ينفعهم بكل تأكيد، إذ كانت تحتوى، ضمن ما تحتوى، على كتب الطب والرياضيات والكيمياء والطبيعة والأحياء... وما إلى ذلك. كما أن إحراق المكتبة لن يحل المشكلة لأنه كانت هناك بكل تأكيد مكاتب خاصة فى البيوت والأديرة تؤدى نفس الدور الذى كانت تؤديه مكتبة الإسكندرية العامة، وإن كان على نطاق ضيق، فضلا عن المحلات التى تبيعها.
ثم لو كان عمر قد أمر فعلا بإحراق مكتبة الإسكندرية كما تزعم الرواية المتهافتة لكان أولى به أن يدمر المعابد الوثنية، التى كانت ولا تزال منتشرة فى أرجاء البلاد، وعليها الصور والكتابات، وكذلك الأصنام التى تملأ جنباتها أو تقوم فى الساحات الأمامية لها، ومعها معابد اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وكتبهم ما دام القرآن قد خطّأ هؤلاء الناس واتهمهم فى عقائدهم وذكر أنهم عبثوا بكتبهم وحرفوا أديانهم. لكننا ننظر فنجد أنهم لم يمسوا من هذه ولا من تِيكَ ولا من تلك شيئا ولا اقتربوا من صلبان النصارى أو فكروا مجرد تفكير فى تحطيمها رغم أن دينهم يرفضها. ثم كيف يفكر عمر أو غيره بتدمير مكتبة يملكها المصريون فى الوقت الذى نعرف فيه أن الخمر التى يملكها النصرانى مثلا لا يجوز للمسلم أن يريقها أو يكسر له جرارها، وإلا لغُرِّم ثمنها رغم أنها فى الإسلام محرمة؟ ذلك أن العبرة تكمن فى أنها عند النصارى حلالٌ شربها وبيعها وشراؤها، فهى إذن مالٌ متقوِّمٌ يضمنه من يتلفه حتى لو كان قد فعل هذا يريد القُرْبَى إلى الله. وعلى كل حال فكيف أقدم المسلمون منذ وقت مبكر على ترجمة مثل تلك الكتب التى تضمها مكتبة الإسكندرية دون أن يثور فى ذلك الوقت جدل بشأنها؟ ولقد كان المسلمون يعلون من شأن الكتاب إلى حد بعيد، وكانت المكتبات الخاصة والعامة منتشرة فى كل مكان. ولم نسمع قط أن أحدا من العلماء استخدم الحجة المنسوبة إلى عمر فى رفض التعامل مع تلك الكتب. بل ولم نسمع أن النبى طلب من أى نصرانى أو يهودى آمن به وترك دينه القديم أن يتخلص من كتبه الدينية. وكان هناك من مسلمى الجيل الأول من ينظر فى التوراة والإنجيل ليستجلى بعض الأمور الموجودة فى تفسير القرآن، ولم نر من ينكر ذلك عليهم.
يقول د. نبيل لوقا بباوى: "ومن المعلوم كذلك أنه في عهد عمر بن الخطاب في ربيع الثاني من العام السادس عشر من الهجرة في عام 637م تم فتح بيت المقدس، وكان بيت المقدس به مكتبة كبيرة. ولو كان من عادة المسلمين حرق المكتبات لحرقوا مكتبة بيت المقدس. وكذلك تم فتح دمشق في العام الرابع عشر من الهجرة في عام 635م، وكان بها مكتبة كبيرة، ولم يتم حرقها. وقد تم فتح دمشق بمعرفة أبو عبيدة بن الجراح. والثابت كذلك أنه تم فتح الشام في العام الثالث عشر من الهجرة في عام 634، وكان بها مكتبة كبيرة ولم يتم حرقها، فلم يكن من عادة المسلمين والعرب حرق المكتبات. ففي أثناء غزوة يهود خيبر لنقضهم عقد الصحيفة في العام السابع الهجري في عام 628، وبعد انتصار الرسول والمسلمين علي سلام بن مشكم زعيم خيبر، كان من الغنائم صحائف التوراة وكتب اليهود: أمر الرسول بتسليمها إلي يهود خيبر. وهذا يدل علي أنه ليس من سياسة الإسلام حرق كتب ومكتبات الآخرين، وإلا كانوا قد أحرقوا كل المكتبات في بيت المقدس وفي دمشق وفي الشام. ولذلك فإن خبر أو واقعة أن عمرو بن العاص هو الذي أحرق مكتبة الإسكندرية بعد استئذان الخليفة عمر بن الخطاب واقعة مكذوبة، ولا أساس لها من الصحة لأن التاريخ ثابت، والتاريخ لا يكذب"[9].
ويؤكد المستشرق ج. ج. سوندرز أن هناك إجماعا بين الكتاب الـمُحْدَثين بأن المسلمين لم يحرقوا مكتبة الإسكندرية وأن القصة التى تزعم هذا هى قصة بغير أساس: "With the Arab occupation of Alexandria is associated the famous story of the burning of its library. According to this tale, Amr asked Omar what should be done with the thousands of books there, and received the answer: ‘If these volumes of which you speak agree with the Koran, they are useless and need not be preserved: if they disagree, they are pernicious and should be destroyed.’ They were therefore fed to the furnaces of the city baths. Modern critics are almost unanimous in rejecting the story, which is found in no author, Muslim or Christian, who wrote within 550 years of the Arab conquest. It is first referred to in a description of Egypt by Abd al-Latif, (1162–1231), compiled about 1202. There is some evidence that the Arabs burnt the Zoroastrian sacred books in Persia, which to them would be heathen writings, unlike the Jewish and Christian scriptures, and out of this in some confused way the Alexandrian story may have arisen. See E.A.Parsons, The Alexandrian Library, London, 1952."[10].
وعلى كل حال فإن مكتبة الإسكندرية كانت قد اختفت من الوجود قبل دخول المسلمين إلى الإسكندرية بزمن طويل. يوضح ذلك د. نبيل لوقا بباوى اعتمادا على ما كتبه فى هذا الصدد ألفرد بتلر: "والحقيقة المؤكدة أن عند دخول عمرو بن العاص للإسكندرية لم تكن مكتبة الإسكندرية موجودة حتى يحرقها لأنه بالبحث العلمي والتاريخي ثبت أن مكتبة الإسكندرية تم إحراقها عن آخرها في عام 48 ق.م في زمن الإمبراطور يوليوس قيصر إمبراطور الدولة الرومانية، ففي عام 48 ق.م حضر يوليوس قيصر إلى الإسكندرية لفك النزاع القائم على حكم مصر بين كليوباترا وأخيها بطليموس الصغير. وقد أحس بطليموس الصغير أن الامبراطور يميل إلي نصرة كليوبترا عليه نظرا لجمالها. وفي أثناء وجود الامبراطور يوليوس قيصر في القصر الملكي في الإسكندرية حاصره بطليموس الصغير بجنوده. لذلك طلب يوليوس قيصر النجدة من قوات من بلاد أخرى تابعة للإمبراطورية الرومانية. وكان يوجد 101 سفينة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط أمام مكتبة الإسكندرية، وأمر يوليوس قيصر بحرق المائة سفينة حتى لا تستفيد منها القوات المحاصرة له، وامتدت نيران حرق السفن إلى مكتبة الإسكندرية فأحرقتها كلها. وقام بقتل بطليموس الصغير، وعين كليوبترا ملكة علي مصر، وأشرك معها في الحكم أخاها الأصغر بطليموس الرابع عشر. ومن هذا السرد التاريخي يتضح أن الذي حرق مكتبة الإسكندرية هو يوليوس قيصر دون قصد"[11].
وينبغى أن نذكر فى هذا السياق أنه قد أُنْشِئَتْ فى الإسكندرية مكتبة أخرى أصغر، لكنها كذلك قد تم تدميرها قبل الفتح الإسلامى بأكثر من قرنين على أيدى متعصبة النصارى حسبما فَصَّل بَتْلَر القول فى ذلك أيضا. ويضيف ألفرد بتلر موضحا أنه حتى لو افترضنا أن بقية من كتب مكتبة الإسكندرية كانت لاتزال موجودة عند فتح عمرو رضى الله عنه لها لقد كان من شروط الصلح أن المسلمين لا يحق لهم دخول المدينة إلا بعد مرور أحد عشر شهرا، وهى مدة كافية تماما لنقل الكتب إلى بلاد الروم حيث لا يعوق من يريد نقل شىء منها أى عائق، إذ كان البحر مفتوحا تماما فى وجه أية سفينة طوال تلك المدة، وكان إغراء نقلها عظيما نظرا لأهميتها لمن يريد قراءتها، أو لغُلُوّ أثمانها بالنسبة لمن يفكر فى بيعها. وبالمناسبة فبتلر لم يكن يحب العرب ولا كتب ما كتب عن مكتبة الإسكندرية دفاعا عنهم. وللرجل كتاب عن ذكرياته فى البلاط الخديوى، الذى كان يشتغل فيه مدرسا لأولاد توفيق باشا خديو مصر، قرأته فى أكسفورد فى سبعينات القرن الماضى فوجدت مؤلفه لا يعجبه شىء فى أخلاق الناس هناك ولا فى تصرفاتهم وينظر إليهم من عَلُ، أى من طرف أنفه كما نقول هذه الأيام، ولا يُظْهِر الكتاب أى تعاطف من جانبه معهم على الإطلاق. واسم الكتاب هو: "Court life in Egypt". ومع ذلك فالحق يستلزم أن نذكر إلى جانب هذا أن المؤلف، فى آخر هامش للفصل الذى خصصه لمناقشة هذه القصة من كتابه عن فتح مصر، قد أشاد بالحس الحضارى الراقى لدى العرب المتمثل فى حبهم العجيب للعلم واستكثارهم من اقتناء الكتب واحترامهم لها وحفاظهم عليها، وقارن بينهم وبين الفرنسيين والإنجليز فى هذه النقطة ففضلهم على هؤلاء وأولئك، وجعل منهم مثلا يُحْتَذَى. وأشار فى هذا الصدد إلى كتاب المستشرق الفرنسى سِيدِيُّو، الذى قال كلمة حق فى حق العرب والمسلمين: "Histoire Generale des Arabes".
وفى "Encyclopaedia Britannica" (ط2011م) نقرأ عن مكتبة الإسكندرية ومُتْحَفها ما يلى: "The museum and library survived for many centuries but were destroyed in the civil war that occurred under the Roman emperor Aurelian in the late 3rd century AD". وقد بحثت فى مادتى "عمرو بن العاص" و"مكتبة الإسكندرية" بتلك الموسوعة فلم أجدها تشير أية إشارة إلى أسطورة حرق عمرو بن العاص لها. إذن فلا المكتبة المزعوم إحراقها على يد عمر وعمرو كانت موجودة فى ذلك الوقت ولا يوحنا النحوى أيضا. وبهذا يثبت ثبوتا قاطعا أن الأمر كله ليس سوى أسطورة بائسة أبدعها عقل سخيف، وكررت ما فيها من زعم بائس عقول أشد فى البؤس والسخف والتنطع.
وممن ينفون هذه القصة المستشرق الفرنسى جاستون فييت[12] بناءً على أن أقدم من أشار إليها هو عبد اللطيف البغدادى، الذى أتى بعد فتح الإسكندرية بمائتى سنة كما يقول، فى الوقت الذى لا نجد المؤرخين العرب الثقات كالكندى وابن عبد الحكم والطبرى قد أتوا على ذكرها بأى سبيل[13]. وممن ينفونها أيضا صاحب مادة "عمرو بن العاص" فى طبعة 2008م من موسوعة "الإنكارتا" الفرنسية، إذ كتب قائلا: "Une légende erronée rapporte qu’Amr ibn al-As aurait brûlé la bibliothèque d’Alexandrie". بل لقد كان جرجى زيدان قبلا ممن رفضوها وفندوها، ثم كتب أنه ظهرت له فيما بَعْدُ شواهدُ تدل على أنها صحيحة فرجع عن رأيه الأول وقال بأنها قد أُحْرِقت فعلا، غير متنبه إلى أنه لم يحدث قط أن التقى عمرو بن العاص ويوحنا النحوى لأن يوحنا قد مات وعمرو لا يزال ولدا صغيرا يعيش فى مكة ولا يزيد عمره عن ثلاث سنوات تقريبا كما قلنا، وأن المكتبة كانت قد اختفت من الوجود قبل فتح عمرو لمصر بنحو قرنين. وعلى العكس من جرجى زيدان كانت الطبعة الحادية عشرة من "الموسوعة البريطانية" فى البداية، طبقا لما يقوله د. نبيل لوقا بباوى، تتهم عمرا رضى الله عنه بإحراق المكتبة، إلا أننى حين رجعت إلى مقالة "'Amr-ibn-el-Ass" فى تلك الطبعة، وهى متاحة على المشباك، لكن بعد تحديثها مواكَبَةً للعصر، ألفيتها تنفى عنه وعن عمر بن الخطاب ذلك الاتهام مؤكدة أن مثل هذا العمل البربرى لا يتسق وشخصيةُ كلٍّ منهما، وتذكر أبا الفرج بن العبرى بوصفه المصدر الأول لتلك الخرافة مع إبرازها لنصرانيته وللقرون الستة التى تفصل بينه وبين عمرو، وكأنها تريد تحميله مسؤولية إشاعتها: "To `Amr acting on Omar's command has been attributed the burning of the famous Alexandrian library. Not only is this act of barbarism inconsistent with the characters of Omar and his general, but the earliest authority for the story is Abulfaragius (Barhebraeus), a Christian writer, who lived six centuries later."
وفى ختام هذه الرحلة العلمية المرهقة والممتعة فى آنٍ أود أن أضيف أن لبرنارد لِيوِسْ المستشرق الأمريكى المعروف الذى أتينا على ذكره فى هذا الفصل أكثر من مرة مقالا أشار فيه إلى ما كتبه المستشرق الفرنسى كازانوفا فى تفسير سبب ظهور هذه القصة فى الزمن الذى ظهرت فيه، وهو أن صلاح الدين أراد أن يدمر الكتب الإسماعيلية التى يعتمد عليها الشيعة الفاطميون فى حكم البلاد الواقعة تحت سلطانهم، فأحب أن يقول للناس إنه حين يصنع هذا لا يأتى بدعة منكرة، بل سبقه عمر بن الخطاب ذاته. ودليله على ذلك أن عبد اللطيف البغدادى، وهو أول من أشار إلى حريق مكتبة الإسكندرية، كان من المحبين لصلاح الدين والمتحمسين له، كما كان والد جمال الدين القفطى، ثانِى متناول للقصة، أحدَ قضاة صلاح الدين. لكن ثمة سؤالا يلح على الذهن هو: لو كان هذا هو السبب أكان أولئك الذين لهم مصلحة فى نشر هذه القصة بين جماهير المسلمين يكتفون بسطر أو بفقرة عارضة فى كتاب لا تقرؤه الجماهير؟ الواقع أنه فى مثل تلك الحالة لا يصلح إلا إصدار عدة كتب تُخَصَّص كلها لذلك، مع تكليف خطباء المساجد بالحديث فى الأمر وإقناع الناس بصحة ما صنعه صلاح الدين، واستحثاث الفقهاء لإصدار فتاوى تحلّله. وتكون النتيجة أن تكثر الكتب والخطب والفتاوى فى ذلك الموضوع. ثم هل كان الناس فى مصر وغيرها من البلاد التى يحكمها الفاطميون مُوَلَّهِين بحبهم بحيث يرى صلاح الدين أو من يحبونه ويريدون الدفاع عنه وجوب اللجوء إلى هذا السبيل؟ لقد كان الخلفاء الفاطميون شيعيين باطنيين يحكمون رعايا سنيين، وكانوا، على الأقل فى الفترة الأخيرة من عمر الدولة، مثار سخرية الناس وسخطهم. كذلك من الغريب جدا أن يبحث المدافعون عن صلاح الدين فلا يجدوا تسويغا للتخلص من تراث الفاطميين سوى حرق ابن العاص لما خلفه الوثنيون. وشتان الفاطميون والوثنيون مهما يكن رأى أهل السنة فى الأولين. والطريف أن لِيوِسْ قال فى هذا السياق إن صلاح الدين قد أصدر أوامره ببيع كتب الفاطميين فى مزاد علنى. وهذا ليس تصرف من يريد القضاء على التراث الفكرى والعقيدى لخصومه، بل هو إشاعة له بين الجماهير بدلا من إبقائه، كما كان الحال قبل ذلك، محصورا داخل جدران المكتبة العامة. ليس هذا فحسب، بل لو كان ما قاله لِيوِسْ صحيحا لكان الفاطميون قد قاموا بحملة فكرية مضادة تفضح هذه الحيلة التى لجأ إليها صلاح الدين ورجاله. لكنهم لم يفعلوا، على كثرة الدواعى التى من شأنها أن تدفعهم إلى ذلك وأهميتها، وهو ما يزيد فرضية لِيوِسْ ضعفا فوق ضعف. كذلك لو كان كلامه صحيحا لما ردد قصةَ حرق عمرو بأمر من عمر لمكتبة الإسكندرية المؤرخُ المصرىُّ الكبيرُ تقى الدين المقريزى[14]. ذلك أنه من سلالة الفاطميين، الذين يقول لِيوِسْ إن صلاح الدين ومشايعيه قد اخترعوا قصة حرق المكتبة لتسويغ ما صنعه بتراثهم فى مصر. ولن تفوته هذه الغاية البغيضة إلى قلبه، ومن ثم لن يساعد أعداء الفاطميين على بلوغها: فإما فَنَّدَ القصة وبَيَّن مراميها، وإما خرج بالصمت عن لا ونَعَمْ. أما أن يشارك فى اللعبة التى تسىء إلى أسلافه من خلفاء الفاطميين وأمرائهم فأمر غير متصوَّر فى حق ذلك المؤرخ الكبير. ثم كيف عرف المسلمون بمكتبة الإسكندرية رغم أنها كانت قد زالت من الوجود قبل ذلك بزمن طويل، ولم يكن فيها كتب يمكنهم قراءته لأنها لم تحتو على أى كتاب بالعربية؟ على كل حال هذا نص الفقرات الأربع الأخيرة من مقال لِيوِسْ، وهى التى تهمنا هنا:
"Myths come into existence to answer a question or to serve a purpose, and one may wonder what purpose was served by this myth. An answer sometimes given, and certainly in accord with a currently popular school of epistemology, would see the story as anti-Islamic propaganda, designed by hostile elements to blacken the good name of Islam by showing the revered Caliph ‘Umar as a destroyer of libraries. But this explanation is as absurd as the myth itself. The original sources of the story are Muslim, the only exception being Barhebraeus, who copied it from a Muslim author. Not the creation, but the demolition of the myth was the achievement of European scholarship, which from the 18th century to the present day has rejected the story as false and absurd, and thus exonerated the Caliph ‘Umar and the early Muslims from this libel.
But if the myth was created and disseminated by Muslims and not by their enemies, what could possibly have been their motive? The answer is almost certainly provided in a comment of Paul Casanova. Since the earliest occurrence of the story is in an allusion at the beginning of the 13th century, it must have become current in the late 12th century—that is to say, in the time of the great Muslim hero Saladin, famous not only for his victories over the Crusaders, but also—and in a Muslim context perhaps more importantly—for having extinguished the heretical Fatimid caliphate in Cairo, which, with its Isma’ili doctrines, had for centuries threatened the unity of Islam. ‘Abd al-Latif was an admirer of Saladin, whom he went to visit in Jerusalem. Ibn al-Qifti’s father was a follower of Saladin, who appointed him Qadi in the newly conquered city.
One of Saladin’s first tasks after the restoration of Sunnism in Cairo was to break up the Fatimid collections and treasures and sell their contents at public auction. These included a very considerable library, presumably full of heretical Isma’ili books. The break-up of a library, even one containing heretical books, might well have evoked disapproval in a civilized, literate society. The myth provided an obvious justification. According to this interpretation, the message of the myth was not that the Caliph ‘Umar was a barbarian because he destroyed a library, but that destroying a library could be justified, because the revered Caliph ‘Umar had approved of it. Thus once again, as on so many occasions, the early heroes of Islam were mobilized by later Muslim tradition to give posthumous sanction to actions and policies of which they had never heard and which they would probably not have condoned.
It is surely time that the Caliph ‘Umar and ‘Amr ibn al-‘As were finally acquitted of this charge which their admirers and later their detractors conspired to bring against them"[15].
على أن د. محمد حسين هيكل، على العكس من هذا كله، يفترض أن يكون الشيعة هم مصدر هذه الرواية المسيئة لعمر. أما أين دليله على ذلك فلا دليل، بل هو مجرد تخمين. لكن لو كان الشيعة هم مصدرها لأثبتوها فى كتبهم بجوار المعايب الأخرى المتلتلة التى يزُنّون بها الفاروق ولم يكتفوا بمجرد الكلام غير المثبت فى الأوراق[16]. أما العقاد فكان له رأى آخر فى تفسير ظهور هذه الفرية فى ذلك الوقت، وهو أن عصر الحروب الصليبية كان عصر حزازة بين الإسلام وخصومه وأن أولئك الخصوم كانوا يعرفون قيمة الكتاب وأن إحراقه مَعَابَةٌ لا يمكن تسويغها، على عكس الحال فى أيام عمر، التى لم نسمع بتلك الفرية خلالها، إذ كان إحراق الكتب وقتذاك مسألة اعتيادية لا شىء فيها. وكانت مصر وأخبارها شيئا هاما فى تلك الأيام... إلى آخر ما قال العقاد[17]، الذى كعادته قد استقصى فأحسن الاستقصاء فى وقت كتابته لـ"عبقرية عمر" منذ عشرات السنين. إلا أننى لا أستطيع موافقته على ما قال رغم إكبارى له إكبارا عظيما، فإن الخصومة بين الإسلام والعالم الغربى لم تنقطع فى يوم من الأيام. كما أن الصليبيين كانوا من الجهل والفدامة بحيث لا يسهل عليهم أن يفكروا فى أمر إحراق المكاتب بوصفه سبة يحاولون تلطيخ عمر بها.
والآن، وقد انتهينا من فضح ما فى أسطورة حرق المسلمين لمكتبة الإسكندرية من سخف، نتحول إلى وقائع حقيقية أُحْرِقت فيها الكتب، ولكنها كتب المسلمين، بل أُحْرِق فيها المسلمون أنفسهم دون أى ذنب جنَوْه، ودون أية شفقة أو رحمة. وهى وقائع ليس عليها أى خلاف من أى باحث. وسوف أكتفى فى هذا الصدد بإيراد مقال للدكتور على منتصر الكتانى بعنوان "الاضطهاد والتنصير في الأندلس (1492-1568م)"[18]:
"بعد استسلام غرناطة عين الملكان الكاثوليكيان الكونت دي تانديا حاكمًا عليها، وإيرناندو دي طلبيرة مَطْرَانًا لها. وبعد الاحتلال استقر أبو عبد الله في أندرش مع أتباعه وأهله مدةً، لكنه أجبر بعد ذلك على التنازل عن ضياعه في البشرات وأملاكه في غرناطة مقابل ثمن إجمالي قدره واحد وعشرون ألف دوقة قشتالية من الذهب الخالص. وغادر البلاد في أوائل أكتوبر سنة 1493م بأهله وأتباعه، والتحق به عدد كبير من وزرائه وقواده، واستقروا معه في حاضرة فاس عاصمة المغرب.
وهاجر عددٌ جَمٌّ من كبار أهل غرناطة وقوادها وفقهائها وعلمائها وساداتها وأعيانها. وهاجر أحد قواد الجيش الأندلسي الغرناطي أبو الحسن علي المنظري إلى جنوب سبتة، واستأذن من السلطان أبي عبد الله الوطاسي إعادة بناء مدينة تطوان الخربة، فنقل إليها عددًا كبيرًا من المهاجرين الأندلسيين. واعتنق النصرانية طواعيةً بعد الاحتلال جماعة من الأمراء والأعيان: الأميران سعد ونصر ابنا السلطان أبي السحن وأمهما ثريا، والأمير يحيى النيار ابن عم أبي عبد الله الزغل وزوجه وابنه، ومعظم آل بنيغش بما فيهم الوزير أبو القاسم بن رضوان بنيغش والوزير يوسف بن كماشة، وغيرهم كثير.
ثم تحولت سياسة الدولة الأسبانية من الاعتدال إلى الغدر الفاضح ضد أهل غرناطة. وأول الغدر تحويل مسجد غرناطة الأعظم إلى كتدرائية. ثم نظَّمت الكنيسة فرقًا تبشيريةً لتنصير المسلمين. وفي سنة 1499م استدعى الطاغيةُ الكاردينالَ سيسنيروس ليعمل على تنصير الأندلسيين بصرامة أكبر. فابتدأ فورًا بتحويل أكبر المساجد إلى كنائس، والضغط بالوعد والوعيد على وجهاء المدينة وفقهائها ليتنصروا. فقامت ثورة عارمة في حي البيازين، ثم انتقلت سنة 1500م إلى جبال البشرات بقيادة إبراهيم بن أمية. فلاحق الجيش الثوار وحاصرهم، ثم قضى عليهم بعد شهور، وقتل معظمهم، واسترقَّ أبناءهم ونساءهم. ثم قامت ثورة أخرى أواخر سنة 1500م حول بلدة يلفيق ووادي المنصورة بمنطقة ألمرية، فقُضِيَ عليها بنفس الهمجية والقساوة. وكذلك حصل لثوار منطقة رندة بين يناير وأبريل سنة 1501م .
وتابعت الدولة والكنيسة سياسة التنصير القسري بإشراف الملكين الكاثوليكيين، فتم تعميد جميع الأهالي بالقوة بين سنتي 1500 و1501م. ثم صدر مرسوم بتحويل جميع المساجد إلى كنائس. وفي 12/10/1501م صدر مرسوم آخر بإحراق جميع الكتب الإسلامية والعربية، فأحرقت آلاف الكتب في ساحة الرملة بغرناطة، ثم تتابع حرق الكتب في جميع مدن وقرى مملكة غرناطة. ثم صدر الأمر بمنع استعمال اللغة العربية ومصادرة أسلحة الأندلسيين، الذين أصبحوا يسمونهم بـ"المورسكيين". ويعاقَب المخالف لأول مرة بالحبس والمصادرة، ولثاني مرة بالإعدام. فاستغاث الأندلسيون مرةً أخرى بسلطان المغرب أبي عبد الله الوطاسي، وبسلطان مصر الأشرف قانصوه الغوري، وبالسلطان بايزيد العثماني دون جدوي .
ثم استعملت الكنسية والدولة جهازًا جهنميًّا لمتابعة الأندلسيين ومحاربة كل مظاهر الإسلام في حياتهم، ألا وهو محاكم التفتيش. أسست الكنيسة الكاثوليكية هذه المحاكم في إيطاليا وفرنسا وألمانيا لتقصي أخبار الناس ومتابعتهم إن خالفوا أفكار وأعمال الكنيسة. ثم أُنشئت في أديرة الفرانسان والدومينكان محاكم ثابتة يترأسها الأساقفة بسلطة مطلقة، فطاردت العلماء والمفكرين، وشردت وأحرقت منهم الجم الغفير. وأُنشئت أول محكمة تفتيش سنة 1242م في أراغون، وسُمّيت بـ"الديوان القديم". وفي سنة 1459م أصدر ملك قشتالة إنريكي الرابع أمرًا ملكيًّا للأساقفة بالبحث والاستقصاء في دوائرهم عن المضمرين لأفكار مخالفة للكثلكة. وفي 11/ 1478م (قبل سقوط غرناطة) أصدر البابا مرسوما بإنشاء محكمة التفتيش في أسبانيا. وطالبت المحكمة الجميع بالتحول إلى جواسيس للكنيسة. وفي 2/ 1482م توسعت المحكمة من 3 مفتشين من القساوسة إلى عشرة، فاستصدر الملكان الكاثوليكيان مرسومًا بابويًّا لتعيين المفتشين السبعة الجدد. وفي سنة 1483م صدر مرسوم بابوي بإنشاء مجلس أعلى لديوان التفتيش يتكون من أربعة أعضاء أحدهم المفتش العام رئيس المجلس، وهو توركيمادا، معترف الملكين. وكان رجلاً ظالمًا متعصبًا لا يعرف الرحمة ولا الشفقة، مع ترف في الحياة وفساد في الأخلاق. وخَلَفَ توريكمادا بعد وفاته سنة 1498م القسُّ ديسا، أسقف جيان.
تبدأ محكمة التفتيش عملها بتبليغ شخص. فإن كان معروفًا يُسْتَدْعَى لتقديم شهادته، التي تُعتبر "تفتيشًا تمهيديًّا" تُعْرَض نتائجه على "رهبان مقررين" معظمهم من الجهلة المتعصبين الذين يتجه قرارهم إلى الإدانة غالبًا. فيُقْبَض على المتهم ويُسْجَن دون أن يعرف السبب، ويُمْنَح ثلاث جلسات إنذار في ثلاثة أيام متوالية يُطْلَب منه فيها الاعتراف بذنب لا يدري ما هو. فإذا اعترف عُوقِب بدون رحمة ولا شفقة. وإذا لم يعترف، أو لم يدر بماذا، يحال إلى التعذيب حتى يعترف بأي شيء أو يموت تحت العذاب. وكانت ضروب التعذيب تصل إلى درجة من الوحشية لا تخطر على بال. وإذا اعترف المتهم بغير التهم الموجهة إليه تُلْصَق به تلك التهم على أي حال. وبعد المرافعة والاستجواب يُرْفَع الموضوع إلى القساوسة المفتشين ليعطوا رأيهم من جديد تمهيدًا للحكم النهائي، الذي يكون غالبًا الإدانة. ويمكن للمتهم أن يعلن التوبة ويطلب العفو من البابا مقابل أموال طائلة إن كانت له أموال. وإذا حُكِم على المتهم بالبراءة، وقليلاً ما يكون ذلك، فإنه يُعْطَى شهادة بطهارته من الذنوب تعويضًا على ذهاب ماله وشرفه وصحته ظلمًا وعدوانًا.
أما إذا كانت الإدانة بتهمة كبيرة فيؤخَذ المتهم من السجن دون أن يدري مصيره، ويمر بـ"مرسوم الإيمان"، فيلبس "الثوب المقدس"، ويوضع في عنقه حبل، وفي يده شمعة، ويؤخذ إلى الكنيسة للتوبة ثم إلى ساحة التنفيذ. وهناك يتلى عليه لأول مرة الحكم: سجن مؤبد، ومصادرة كاملة للأموال، أو الإعدام حرقًا بالنار في حال الكفر الصريح. أما إذا كانت التهمة صغيرةً فيحكم عليه بالسجن لمدة محدودة، وبغرامة مالية، ويسمون ذلك: "حكم التوفيق".
كانت أحكام الإعدام بالنار كثيرةً ضد المسلمين، وتكون في مهرجانات عظيمة يتفرج فيها القساوسة ورجال الدولة والأهالي، وأحيانًا الملك وكبار رجال دولته. وكان يُحْرَق المتهمون جماعيًّا في مواكب الموت للترهيب، وأحيانًا عائلات بأكلمها بأطفالها ونسائها. وكانت محاكم التفتيش تحاكم الموتى فتنبش قبورهم، وتتابع الغائبين وتعاقب أهلهم. وكان أعضاؤها يتمتعون بالحصانة الكاملة. وكانوا غالبا ذوي أخلاق سافلة لا يتورعون عن ارتكاب الموبقات والجرائم ضد ضحاياهم. وهكذا أُخْضِع الأندلسيون لهذه المحاكم الإجرامية منذ إعلان تنصيرهم القسري سنة 1499م.
ولما أُخْمِدت الثورات وأُلْغِيَ الإسلام رسميًّا لم يجد الأندلسيون بُدًّا، أمام عجزهم عن الدفاع وضياع أملهم في النجدة، سوى التظاهر مكرهين بقبول دين النصارى، والحفاظ على الإسلام سرًّا يقومون بشعائره من صلاة وصيام، وتحاشي المنكرات، ويعلِّمون أبناءهم، ويفعلون ما يجبرون عليه من التردد إلى الكنائس وتعميد الأطفال. وعملوا جهدهم للتكيف مع هذا الوضع الشاذ الحرج الخطر إلى أن يأتي الله بفرج من عنده.
وتحولت الكنيسة والدولة من أمل تنصير المسلمين الفعلي بالتبشير إلى أمل تنصيرهم بالإكراه والعنف والقوة، فجَدَّدَت القوانين الجائرة والإجراءات الصارمة. ففي سنة 1508م جَدَّدَت لائحةً ملكيةً بمنع اللباس الإسلامي. وفي سنة 1510م طَبَّقَت على المورسكيين ضرائبَ خاصةً اسمها: "الفارضة". وفي سنة 1511م جددت الحكومة قرارات بمنع السلاح عنهم، وحرق ما تبقى من الكتب الإسلامية، ومنع ذبح الحيوانات. وجُدِّدَ ذلك في سنتي 1512م و1513م. ودام الاضطهاد إلى أن مات فرناندو سنة 1516م موصيًا خَلَفه كارلوس الخامس بمتابعة سياسته نحو الإسلام.
واجه كارلوس الخامس المورسكيين بشيء من اللين في أول أمره، لكن في سنة 1423م أصدر مرسومًا جديدًا يحتم فيه تنصير كل مسلم بقي على دينه، وإخراج كل من أَبَى التنصير، وعقاب كل من خالف الأمرين بالرق مدى الحياة. فاشتكى المورسكيون إلى الملك من جور هذا القرار، فانتقل الملك سنة 1526م إلى غرناطة لمتابعة الموضوع، وندب محكمة كبرى برئاسة المفتش العام لترى فيما إذا كان تنصير المسلمين قسرًا: صحيحًا وملزمًا أم لا، فقررت المحكمة أن لا مطعن في تنصيرهم. فأصدر الملك قرارًا بمنع خروجهم من أسبانيا وضرورة تنصير أبنائهم، وقضى بالإعدام على كل من تنكر للنصرانية. وقرر القانون منع التخاطب بالعربية وكتابتها، وأجبر المورسكيين على تعلم الأسبانية، وأمر بهدم الحمامات وبأن تبقى بيوت المورسكيين مفتوحةً على الدوام ليرى الجميع ماذا يجري فيها... إلخ. فالتمس المورسكيون من الملك مرةً ثانيةً الرأفة، ودفعوا له من أجل ذلك ثمانين ألف دوقة ذهبية، فوافق على تأجيل تنفيذ هذه الإجراءات لمدة أربعين سنةً مقابل دفع ضريبة سنوية. وهكذا وصل المورسكيون مع كارلوس الخامس إلى توازن، لكن محاكم التفتيش واصلت تعسفها، خاصةً في سنة 1529م.
وخَلَف كارلوس الخامس بعد موته سنة 1555م ابنه فليبي الثاني، الذي كان متعصبًا ضعيف الشخصية أمام الرهبان: ففي سنة 1560م مَنَع المورسكيين من اقتناء العبيد. وفي سنة 1563م منعهم من جديد من امتلاك الأسلحة. وفي سنة 1564م ألغى حصانة الذين يقيمون منهم في أراضي النبلاء. وفي سنة 1566م، بعد مضي أربعين سنةً على الاتفاق مع كارلوس الخامس، قرر تطبيق قراره بكل صرامة، وفرض على المخالفين أقصى العقوبات من السجن والنفي والتعذيب والمصادرة والإعدام حرقًا. فأذيع هذا القانون الغاشم في جميع أنحاء مملكة غرناطة في 1/1/1567م، وتولى إذاعته موكب من قضاة محاكم التفتيش تتبعهم الطبول والزمور. وبدأت الحكومة في تطبيق هذا القانون بكل صرامة، فهُدِمت الحمامات، وملئت السجون، وتناثرت جثث المسلمين في شوارع غرناطة وقراها. ولم تفد المورسكيين أية شفاعة. فأخذوا يفكرون في الثورة المسلحة من جديد.
أما البرتغال فتوسعت على حساب الأراضي الإسلامية في الأندلس من إمارة صغيرة تأسست شمال غرب البلاد، فاحتلت براغة سنة 1040م، ثم قلمرية سنة 1064م حيث نقلت عاصمتها. ثم احتلت الأشبونة سنة 1093م فنقلت إليها العاصمة، ثم يابورة سنة 1166م، وقصر بني دانس سنة 1217م، وشلب، وجميع غربي الأندلس سنة 1249م. وبهذا استقرت حدود البرتغال على ماهي عليه اليوم. وعند احتلال الأراضي الإسلامية صادر البرتغاليون كل أراضي المسلمين وأملاكهم، فهاجر عدد كبير منهم، واستقر بعضهم الآخر في بلادهم كمُدَجَّنين. فلما أعلنت أسبانيا أمرها بتنصير المسلمين سنة 1499م تبعتها البرتغال سنة 1502م، فهاجر عدد منهم إلى شمال المغرب، وبقي بعضهم الآخر كمسلمين سرًّا في البلاد، ثم هاجر عدد كبير آخر سنة 1540م إلى المغرب. وبقي الباقون تحت نفس المصير الذي أصاب إخوانهم داخل الدولة الأسبانية.
ودخل عدد كبير من المسلمين تحت حكم قشتالة كمُدَجَّنين بعد سقوط طليطلة سنة 1085م، ثم مرسية وقرطبة وإشبيلية في القرن الثالث عشر الميلادي، فوقَّع الملك الفونسو الرابع سنة 1258م قانونًا فرض فيه قيودًا على المسلمين في كل المجالات، وشجع التنصير بينهم دون إرغامهم عليه. فثار المسلمون سنة 1261م من شريش غربا إلى مرسية شرقا. فقضى القشتاليون بمساعدة الأراضغونيين على الثورة سنة 1266م، وفرَّقوا في مرسية بين السكان المسلمين والنصارى حيث ظلّ حي الرشاقة الإسلامي تحت حكم وجهاء بني هود إلى سنة 1308م.
وتوالت القرارات التعسفية ضد المسلمين في قشتالة في سنة 1348م و1368م، و1371م: منها إجبار المسلمين على وضع شارات مميزة في ثيابهم، ومنعهم من الوظائف النبيلة، ومعاقبة المخالف بالمصادرة والسجن والتعذيب. وفي سنة 1387م فرقوا في المسكن بين المسلمين والنصارى، وأجبروا المسلمين على الركوع للصليب، وجُدِّد القرار سنة 1388م. وفي سنة 1408م منعوا المسلمين من الأكل مع النصارى، وعاقبوا المخالفين، وقرروا إجراءاتٍ أخرى متشددةً للتفريق بين الفئتين في كل المعاملات. وفي سنة 1422م أُصدر أمر بالإعدام على من يمنع مسلمًا من اعتناق النصرانية تبعته قرارات مالية مجحفة بالمسلمين سنة 1435م و1438م. وأصدرت الملكة إيسابيلا سنة 1476م مرسومًا تلغي فيه ما تبقى من المحاكم الشرعية، وتحدد ملبس المسلمين. وفي سنة 1480م أصدرت مرسومًا أكدت فيه استرقاق المسلمين القادمين من غرناطة، وفرقت بين سكن المسلمين والنصارى.
وفي سنة 1502م قرر الملكان الكاثوليكيان قتل المسلمين الرافضين التنصير في قشتالة أو طردهم خارج البلاد. كما أصدر أمرًا بمنع مسلمي قشتالة من الاتصال بمسلمي مملكة غرناطة. ثم أصدرا أمرًا في نفس السنة بتنصير جميع مسلمي قشتالة وليون وإخراج من يرفض التنصير. وفي سنة 1515م أصدر الملك مرسومًا يحرّم فيه على المتنصرين حديثا في أية جهة من مملكة قتشالة أن يخترقوا أراضي مملكة غرناطة أو يتصلوا بأهلها. وعقوبة المخالف الموت والمصادرة.
وقع أول المسلمين في يد النصارى بمملكة أراغون عند سقوط برشلونة ومنطقتها سنة 960م. ثم تكاثروا بعد سقوط سرقسطة سنة 1118م، وميورقة سنة 1220م، ويابسة سنة 1235م، وبلنسية سنة 1238م، ومنورقة بالجزر الشرقية سنة 1286م. ضمنت معاهدة استسلام بلنسية صيانة المسلمين وأموالهم وعقيدتهم ولغتهم العربية والشريعة الإسلامية. ولكن ملك أراغون غدر بكل عهوده فور امتلاك المدينة، فصادر مساجدهم وحَوَّلهم إلى شبه أرقاء بعد جمعهم في أحياء خاصة بهم. وفي سنة 1238م شرع الملك قوانين مجحفة، فثار المسلمون سنة 1254م، واستولَوْا على عدد من الحصون بين شاطبة ودانية ولقنت. ولم يستطع الملك القضاء عليهم إلا سنة 1257م بمساعدة أوروبا كلها بأمر من البابا. ثم تتالت القوانين المجحفة الظالمة سنة 1268م.، فثار المسلمون مرةً ثانيةً عام 1276م، وحرروا أربعين حصنًا وتمركزوا في شاطبة، ودامت الثورة إلى سنة 1277م.
ثم تتابعت القوانين الظالمة: سنة 1283م تمنع المسلمين من الوظائف النبيلة، وسنة 1301م تنزل بعض الضمانات القانونية التي أعطيت لهم من قبل.، وسنة 1328م تجعلهم تحت رحمة الإقطاعي النصراني وكأنهم عبيد له، وسنة 1342م و1370م تمنعهم من الهجرة إلى غرناطة والمغرب، وسنة 1371م و1389م و1403م تمنعهم من فداء الأسرى المسلمين وتعاقب المخالفين بالاسترقاء، وفي سنة 1418م صدر قانون يحدد تحرك المسلمين في المملكة، ويجعل أحياء المسلمين تحت إشراف مراقب نصراني ويمنع الأذان تحت طائلة الإعدام.، وفي سنة 1428م صدر قانون يجعل القضاء بين المسلمين بين يدي الإقطاعي النصراني، وكذلك التحكم في تحركاتهم.
وبعد سقوط غرناطة ساءت حالتهم، ولكن السادة الإقطاعيين عارضوا في إجبارهم على التنصير خوفًا على مصالحهم الزراعية. ولكن منذ سنة 1512م ابتدأت جماعات من النصارى المتعصبين تُغِير على القرى الإسلامية وتقتل وتحرق وتسبي دون رادع، ونَصَّروا قهرًا عددًا كبيرًا من المسلمين. وفي سنة 1525م قررت الدولة والكنيسة في أراغون أن الذين أجبروا على التنصير هم نصارى وجب عليهم أن يعيشوا كذلك، وإلا وجب على محاكم التفتيش أن تعاملهم معاملة المرتدين. ثم قرر الملك إجبار جميع المسلمين على التنصير. وبعد أن استرجع المسلمون الملك عن هذا القرار وافق منحهم مهلة عشر سنين مقابل غرامة قدرها أربعون ألف دوقة ذهبية، وخفف عليهم إبانها شروط التنصير.
لكن اليأس دخل نفوس المسلمين فثاروا في منطقتي سرقسطة وبلنسية إلى ضفاف نهر شقر. فنظَّمت الدولة الأراغونية جيشًا من المتطوعين النصارى من كل أوروبا لمحاربة المسلمين، وتكوّن جيش ضخم بقيادة الملك كارلوس الخامس نفسه، فقضى على الثورة أواخر سنة 1562م، فقَتَل الجم الغفير من المسلمين، واسترقَّ عددًا كبيرًا منهم، وأجبر الباقين على التنصير، كما فرّ عدد من المجاهدين إلى الجزائر والمغرب. فتابع الباقون في البلاد حياتهم المزدوجة بين الإسلام في السر، والنصرانية في العلانية.
وعملت الدولة الأسبانية بشطريها: أراغون وقشتالة على قطع الصلة بين المسلمين في المناطق المختلفة، خاصةً بين مسلمي مملكة بلنسية ومملكة غرناطة. ففي سنة 1541م حرمت على مسلمي غرناطة النزوح إلى بلنسية، وحرمت الهجرة من بلنسية إلا بترخيص ملكي مقابل غرامة باهظة".
[1] انظر جرجى زيدان/ تاريخ التمدن الإسلامى/ 3/ 49.
http://vb.tafsir.net/newthread.php?do=newthread&f=10#_ftnref21 عبد اللطيف البغدادى/ رحلة عبد اللطيف البغدادى فى مصر أو كتاب "الإفادة والاعتبار فى الأمور المشاهَدة والحوادث المعايَنة بأرض مصر"/ ط2/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1998م/ 98.
http://vb.tafsir.net/newthread.php?do=newthread&f=10#_ftnref3 [3]جمال الدين القفطى/ تاريخ الحكماء/ كتب خانه آصفية سركار/ حيدر أباد دكن/ 354- 356.
[4] غوريغوريوس بن أهرون المعروف بـ"ابن العبرى"/ مختصر تاريخ الدول/ تحقيق أنطون صالحانى اليسوعى/ ط2/ دار الرائد اللبنانى/ بيروت/ 1415هـ / 1994م / 175- 176.
[5] انظر رفيق العظم/ أشهر مشاهير الإسلام فى الحروب والسياسة/ ط2/ دار ا لفكر العربى/ 1972- 1973م/ 572.
[6] ولد ابن العاص عام 573م (انظر المادة الخاصة به فى "الويكيبيديا" العربية والإنجليزية، وكذلك "الموسوعة العربية العالمية"، التى أخرت ولادته عاما آخر)، ومات يوحنا النحوى فى عام 570م (انظر مادة "John Philoponus" فى "Stanford Encyclopaedia of Philosophy"، و"الويكيبيديا" فى طبعتها الإنجليزية مثلا). وقد تنبه ألفرد بتلر إلى هذه الحجة المزلزلة قبل ذلك بوقت طويل فى كتابه: "Arab Conquest of Egypt". لكنه لم يسق تواريخ وفاة يوحنا وميلاد عمرو بن العاص كما فعلت أنا هنا، بل اعتمد شيئا من التقريب والتخمين. أما د. محمد حسين هيكل فقد جعل عمر يوحنا عند فتح مصر مائة وخمسا وثلاثين سنة (انظر كتابه: "الفاروق عمر"/ ط10/ دار المعارف/ 2000م/ 2/ 171). ومن الواضح أنه يفترض جدلا أن يوحنا كان لايزال أوانذاك على قيد الحياة.
[7] من ذلك مثلا أنه كان يرى قتل محاربى بدر بدلا من اتخاذهم أسرى والحصول على فدية منهم، على خلاف أبى بكر، ونزل القرآن يعضد موقفه. وكان من رأيه ألا يصلى النبى عليه السلام على زعيم المنافقين بالمدينة حين مات، على حين كان الرسول يميل إلى الصلاة عليه، لعل وعسى، إذ لم يكن القرآن قد حسم النهى عن الصلاة على الرجل. ثم نزل القرآن بكلام شديد فى حق كبيير المنافقين ناهيا النبى بصورة قاطعة عن أن يصلى عليه. كما أوقف رضى الله عنه حد السرقة فى عام المجاعة. بل إنه هدد سيد الغلامين اللذين سرقا الناقة وذبحاها وأكلاها فى تلك الظروف بأنهما إذا عادا لمثل ذلك فسيكون العقاب من نصيبه هو بدلا منهما لأنه يجوّعهما، فهو إذن المتسبب فى السرقة، أما هما فمضطران، وليس على المضطر عقوبة. ومن ذلك أيضا أنه رأى ذات يوم شيخا يهوديا يسأل الناس، فأعطاه من الصدقات كفقراء المسلمين، قائلا إنه ممن يستتحقون الصدقة لأنه من المساكين، أى فقراء أهل الكتاب. ثم زاد فأسقط عن أمثاله الجزية. كما فرض عطاءً لكل مولودٍ لقيطٍ كالابن الشرعى سواء بسواء. وحين عزم على القدوم إلى الشام سمع بأن بها طاعونا، فاتخذ قراره بعدم الذهاب، مما أثار استغراب بعض الصحابة فسألوه: أتفر من قضاء الله؟ فكان جوابه العبقرى: نعم أفر من قضائه إلى قضائه. وقطع الشجرة التى تمت عندها بيعة الرضوان بين النبى وصحابته عندما رأى بعض الناس يتبركون بها، مخافة من توثينها...
[8] انظر مقالا منشورا بموقع "جمعية آل البيت الخيرية" عنوانه: "تاريخ المكتبات عند المسلمين- خزانة الخلفاء العباسين ببغداد (بيت الحكمة) أنموذجا". وقد يتنطع متنطع فيقول مثلا إن عمر إنما كان فى ذهنه، حين أمر بحرق المكتبة، قوله تعالى: "ونزّلنا عليك الكتاب تِبْيَانًا لكل شىء"، لكن هل يعقل أن يكون عمر أقل فهما لتلك الآية ممن سئل فى مصر فى العصر الحديث من قِبَل بعض المشككين: أين نجد فى القرآن الجواب عن السؤال الخاص بعدد الأرغفة التى تنتجها أفران القاهرة؟ إذ رد المسؤول على الفور: الجواب موجود فى قوله تعالى: "واسألوا أهل الذِّكْر إن كنتم لا تعلمون". فالقرآن لم يغفل الجواب عن مثل هذا السؤال، إذ بين لنا أين نجده. وكل ما هو مطلوب منا فى هذه الحالة أن نذهب إلى المتخصصين المسؤولين عن أفران القاهرة ونسألهم عن ذلك، وسوف يمدوننا بالجواب المطلوب لأنهم أهل الذِّكْر فى هذه النقطة.
[9] د. نبيل لوقا بباوى/ هل أحرق عمرو بن العاص مكتبة الإسكندرية؟/ جريدة "الأهرام" المصرية/ 21 رجب 1424هـ- 18 سبتمبر 2003م.
[10] J.J.Saunders, A History of Medieval Islam, Routledge, London and New York, 2002, P. 53, n. 3.
[11] د. نبيل لوقا بباوى/ المرجع السابق.
[12] انظر رفيق العظم/ أشهر مشاهير الإسلام فى الحروب والسياسة/ 577.
[13] انظر ما كتبه زهير الشايب فى هذا الموضوع فى كتاب "وصف مصر" لعلماء الحملة الفرنسية/ ترجمة زهير الشايب/ دار الشايب للنشر/ 1984م/ 3/ 336 بالهامش.
[14] كتب المقريزى فى كتابه: "المواعظ والآثار" عن عمود السوارى بالإسكندرية: "وفيه خزانة كتب أحرقها عمرو بن العاص بإشارة من عمر بن الخطاب رضى الله عنه". وأرجو من القارئ أن يتنبه إلى أن المقريزى إنما ينقل عبارة عبد اللطيف البغدادى بنصها، وفى نفس سياقها بالضبط، وهو الكلام عن عمود السوارى ودار العلم التى كانت هناك. وإلى القارئ الكريم نص عبارة البغدادى مرة أخرى: "وفيها كانت خزانة الكتب التى أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر رضى الله عنه".
[15]Bernard Lewis, Lost History of the Lost Library, The New York Review of Books, the June 14, 1990 issue
[16] انظر د. محمد حسين هيكل/ الفاروق عمر/ 2/ 170. وعبارته بنصها هى: "ولعل هذه الأسطورة نجمت فى بيئات الشيعة".
[17] انظر العقاد/ موسوعة عباس العقاد الإسلامية/ دار الكتاب العربى/ بيروت/ 1391هـ- 1971م/ 2/ 502.
[18] مجلة "الداعى" الشهرية الصادرة عن دارالعلوم- ديوبند/ محرم – صفر 1431 هـ: ديسمبر 2009 م- يناير- فبراير 2010م.