مروان الظفيري
New member
- إنضم
- 13/09/2006
- المشاركات
- 847
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
منذ زمن أعمل في ترجمة أستاذنا العلامة أحمد راتب النفّاخ ـ رحمه الله ، وبرّد مضجعه ـ
ووجدت لزاما علي التعريف به ريثما ينتهي ويطبع كتابي هذا
ففزعت إلى مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق
ووجدت هذه الفصلة من مطبوعات المجمع ؛ فاستحسنتها
وهأنذا أقدمها وفاء وتذكرة ...
ووجدت لزاما علي التعريف به ريثما ينتهي ويطبع كتابي هذا
ففزعت إلى مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق
ووجدت هذه الفصلة من مطبوعات المجمع ؛ فاستحسنتها
وهأنذا أقدمها وفاء وتذكرة ...
مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق
حفل تأبين
فقيد المجمع
الأستاذ أحمد راتب النفاخ
1927-1992م
مطبعة الصباح
1413هـ-1992م
حفل تأبين
فقيد المجمع
الأستاذ أحمد راتب النفاخ
1927-1992م
مطبعة الصباح
1413هـ-1992م
حفل تأبين فقيد المجمع
الأستاذ العلامة أحمد راتب النفاخ
الأستاذ العلامة أحمد راتب النفاخ
أقام مجمع اللغة العربية بدمشق حفلاً تأبينياً بمناسبة انقضاء أربعين يوماً على وفاة عضو المجمع الفقيد الأستاذ أحمد راتب النفاخ رحمه الله، وذلك في تمام الساعة السادسة من مساء يوم الأربعاء السادس من شوال 1412هـ/ 8 نيسان 1992 في قاعة المحاضرات بمكتبة الأسد بدمشق .
وقد حضر الحفل ثلة من كبار العلماء والأدباء والمثقفين ومن محبي الأستاذ النفاخ وطلابه وذويه .
افتتح الحفل بتلاوة من آي الذكر الحكيم، ثم تلاها كلمة المجمع ألقاها الأستاذ الدكتور شاكر الفحام نائب رئيس المجمع، ثم كلمة الزملاء الجامعيين (جامعة دمشق) ألقاها الأستاذ الدكتور عادل العوّا، ثم كلمة أصدقاء الفقيد للأستاذ الدكتور عبد الكريم الأشتر، ثم كلمة طلاب الفقيد للدكتور محمد الدالي، وفي الختام كلمة آل الفقيد ألقاها الأستاذ نزار النفاخ شقيق الفقيد .
وننشر فيما يلي كلمات الحفل :
كلمة مجمع اللغة العربية
فقيد المجمع
الأستاذ أحمد راتب النفاخ
(1927-1992م)
الدكتور شاكر الفحام
شاءت إرادة الله العلي القدير أن يفارقنا الأخ الصديق الأستاذ أحمد راتب النفاخ إلى جوار ربه الكريم أوفر ما كان نشاطاً، وأكثر ما كان عطاء .
ما زلت أتمثل صورته في جلسات المجمع الأخيرة، وهو يناقش معنا بكل الجد والحيوية مشروع خطة جديدة ترسم وجوه نشاط المجمع في المستقبل، لتفسخ له أن يكون أقدر على تأدية أغراضه وتحقيق مقاصده في ميادين اللغة والأدب وإحياء التراث وإقرار المصطلح ووضع المعجمات، ولتتيح له المشاركة الواسعة في الحركة الثقافية بإلقاء المحاضرات وعقد الندوات وإقامة المؤتمرات وتوثيق الصلات بالمجامع والمؤسسات اللغوية والثقافية .
وكان أشدّ ما كان تفاؤلاً بما توفره الخطة المقترحة من افتتاح صفحة جديدة في العمل المجمعي المثمر.
وشهد معنا جلسة يوم الأربعاء في 12/2/1992م ، واتعدنا على اللقاء صباح الأحد في لجنة المجلة والمطبوعات، ولكن القدر لم يمهله، لقد نهض صباح يوم الجمعة (11/8/1412هـ - 14/2/1992م) كعادته، فأدى صلاته أحسن أداء، ثم التلاوة، فقرأ ما شاء الله له أن يقرأ من سورة البقرة، ولكن الصوت المرتّل لم يلبث أن خفت وسكت، وهرع الأهل إلى الطبيب. وبذل الأطباء ما بذلوا فما أنجحوا، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فأسلم الروح إلى بارئها، راضياً مرضيا. رحمه الله الرحمة الواسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .
لقد ترك بوفاته ثلمة لا تسدّ، وإن الخسارة بفقده جسيمة لا تعوّض .
فما كان قيسٌ هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدّما
* * *
ولد رحمه الله عام 1927م في أسرة كانت قد وفدت على دمشق من بعلبك في أوائل القرن الماضي، وعرفت بالصلاح والتقوى .
وبدأ التعلم في سنّ مبكرة، وكان المجلّي في دراسته الابتدائية والثانوية، فأحبه مدرسوه، وأشادوا به. وقد مهر بالعربية، وبرّز في معرفتها تبريزاً أفرده بين لداته، وطالما فاخر به أستاذه محمد البزم وأثنى عليه.
ولما التحق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب (جامعة دمشق) وجد المجال رحباً لتفتح مواهبه، والتفوق على أقرانه. وشهد له أساتذته بالمقدرة والفضل، وأحلّوه المحلّ الأرفع، وتخرّج من كلية الآداب عام 1950م، ونال من بعد شهادة أهلية التعليم الثانوي من كلية التربية عام 1951م. وقضى سنتين يدرّس العربية في المدارس الثانوية بحوران .
واستقبلته كلية الآداب بجامعة دمشق معيداً (1953-1955م) لتوفده إلى جامعة القاهرة، فنال درجة الماجستير ( عام 1958م ) وكان موضوع رسالته: دراسة حياة الشاعر ابن الدمينة وشعره وتحقيق ديوانه .
ثم اختار موضوعاً في القراءات لشهادة الدكتوراه. وبعد أن أنجز القسم الأكبر من رسالته، وقدّمه إلى الأستاذ الدكتور شوقي ضيف المشرف على الرسالة بدا له أن يتوقف عن إنجاز ما بدأ، وزهد في الألقاب، وعزف عنها، وعاد إلى دمشق ليستأنف التدريس في الجامعة .
وما زلت أذكر أن الدكتور شوقي ضيف، وكان المشرف على رسالتي أيضاً، حدثني عن رسالة الأستاذ راتب في القراءات حديث المعجب، وذكر لي أن الجزء الذي قدّمه كاف لنيل درجة الدكتوراه، وطلب إليّ أن أبلغه ذلك، وأحثّه على الحضور إلى القاهرة للمناقشة، وأبلغت الصديق الرسالة، فما زاد على أن تبسم .
وأمضى الأستاذ النفاخ على منبر التدريس في جامعة دمشق بعد عودته من القاهرة سبعة عشر عاماً (1962-1979م) ، وتخرّجت به أجيال من الطلاب ما زالت تذكر له ما بذل من جهد، وما قدّم من عون، ليبصّرهم ويرشدهم ويدلّهم على أصول البحث، ويضع بين أيديهم مفاتيح المعرفة يتهدّون بها إلى فهم كلام الأقدمين .
واختار أعضاء مجمع اللغة العربية بدمشق الأستاذ أحمد راتب النفاخ عضواً عاملاً في المجمع عام 1976م، فكان هذا الاختيار تتويجاً للصلات الوطيدة بينه وبين المجمع. وشارك الأستاذ النفاخ في أعمال المجمع المشاركة الطيبة، وقام بجهد جاهد في لجانه، وكان له القدح المعلّى في أعمال لجنة الأصول ولجنة المجلة والمطبوعات.
وسعد المجمع من بعد بتسميته رئيس المقررين فيه (1979-1992م) .
* * *
كان رحمه الله جبلاً راسخاً من جبال العلم، قد جعل الكتاب خدينه وأنيسه، فلا تراه إلا قارئاً أو مقرئاً، "وقد أتقن كثيراً من العلوم التي عرفها السلف، أو استحدثها الخلف، وبذّ الأقران في فنون منها، انتهت إليه الرياسة فيها في عصرنا هذا في بلدنا هذا، كالقراءات والنحو والبلاغة والعروض واللغة فقهها وعلمها، وأصبح حجة فيها لا ينازعه منازع. هذا إلى أسلوب جزل متميز في الكتابة تفرّد به واشتهر" .
وقد ألف طلابه وأصدقاؤه أن ينعتوه بلقب (علامة الشام) إيذاناً بما يكنّون له من الإجلال والتقدير .
عرفته في أواخر الخمسينات، وأنست بصحبته، وامتدت صداقتنا حتى قضى الله قضاءه، فعرفت فيه الصديق المخلص، الكريم الخلق، الطيب القلب، الصادق الوّد، يسارع في الخيرات، قد نصب نفسه لتلبية قاصديه، ومساعدة طلابه، فلا يبخل بعلم، ولا يضن ّ بعون، مهما يكلفه ذلك من مشقة وجهد .
وكنت كثيراً ما أستشيره وأسائله في قضايا لغوية ونحوية شمست واستعصت، فيلين أبيّها، ويستدني قاصيها، فأحسنّ. أنه البحر علماً ومعرفة.
من أبرز صفاته أنه كان معلماً، بالمعنى الرفيع للكلمة. فطر على القراءة والمطالعة، وأحب العربية وعلومها الحب الجمّ. وكان طلعة لا يريد أن يفوته شيء في الباب الذي ندب نفسه للقراءة والإقراء فيه، فأكبّ على الكتب المصادر التي أّلفها علماء العربية الأقدمون، وما زال يدارسها حتى كشفت له أسرارها، وتبيّن أصولها ومراميها. ثم ضمّ إلى ذلك مطالعة ما ألف في عصرنا من علوم اللغة المستحدثة ليستبين خطأها من صوابها، على هدي ما عرف من منطق العربية الصحيح. ولقد تعشق العربية وشغفه حبها، إنها له لسان وهوية وحياة، وقد عبّر عما يحسّه من ذلك بقوله: " آليت على نفسي ألا أعيش إلا لها، ولكتابها العربي المبين" . ولقد وقف حياته حقاً لدرس العربية وتدريسها .
وكان شديد الحرص أن يذيع بين تلامذته وإخوانه ومريديه أطرافاً من عبقرية هذا اللسان العربي المبين ليحبّبه إليهم، فكان لا يكتفي بالمحاضرات التي يلقيها على منبر الجامعة، ولا بالحلقات التي تعقد في غرفته بالجامعة، بل كان يستقبل طلابه وزائريه في منزله المعمور دائماً، حيث كان يلتقي العالم قد جاء يستفتي في مشكل صادفه، والطالب قد أقبل يريد العون في موضوع تصدى لمعالجته، والأصدقاء الذين ألفوا مجلس الأستاذ يلتقطون الفوائد النفيسة.
وكان الأستاذ جمّ النشاط، يتدفق في حديثه لا يمّل ولا يتوقف، يحيط بجوانب المسألة المطروحة، ويعدّد الآراء والأقوال، ويحيل على المصادر ليقدم لسائله وسامعه ما ينير الطريق، ويهدي إلى سواء السبيل.
وكان يفد إلى مجلسه كبار العلماء الذين يزورون دمشق، يأتونه_ قاصدين، حباً في لقائه، وتطلعاً إلى فوائده .
كان شعاره الأول في حياته نشر العلم وبثه، وكان يرى في نهج علماء السف الصالح قدوة طيبة. ففتح بابه، وأقبل إليه الطلاب والمريدون والأصدقاء. وطالما تطلع إلى أن يكون مجلسه بأحاديثه، وما يتفرغ إليه من حوار، النواة الصالحة، والوسيلة الناجعة لتخريج طلاب يحملون عنه العلم، لينشروه في الملأ .
وكان من تمام إيمانه بنشر العلم وبثه أنه وضع مكتبته المترعة بنفائس الكتب، وصور المخطوطات بين أيدي طلابه وزائريه، يبحثون فيها عن طلباتهم، فإذا شاؤوا الاستعارة أعارهم من الكتب النادرة ما يريدون، خلّة نبيلة كريمة جبل عليها، ولم يعدل عن عادته تلك، على ما رزىء به من ضياع كثير من كتبه النفائس.
وحفلت كتبه بالتعليقات الثمينة القيّمة، فقد كان، رحمه الله، إذا لاح له، وهو يقرأ كتاباً، موضعٌ يحتاج إلى تعليق لإيضاح مبهم، أو إصلاح غلط، يسارع إلى إثباته في حاشية الكتاب. وكانت هذه الفوائد التي لا يقوى عليها إلا عالم ثبت متمكن كالأستاذ راتب، معروضة لكل واردٍ أحبّ أن ينتفع بها.
وكان رحمه الله يسارع أحياناً فيرسل بتلك التعليقات إلى محقق الكتاب، يضعها بين يديه، لأن غايته ومطلبه أن ينشر الكتاب محققاً صحيحاً بريئاً من الآفات .
وما أكثر ما كتب وصحح للآخرين، يبذل ذلك دون منّ، ولولا أن أشار عدة مؤلفين في كتبهم إلى ما قدّم لهم، وشكروا له جميل ما صنع من أجلهم، لما علمنا علم ذلك.
وإذا كانت مكتبة الأستاذ أحمد راتب تغصّ بالكتب النوادر والنفائس، فإن أغلى ما فيها وأنفسه تلك التعليقات التي حفلت بها حواشي كتبه. وطالما رجوت الصديق الكريم أن ينشر تلك التعليقات ليفيد منها الباحثون وطلاب العلم .
وكان رحمه الله على خلق كريم، وفياً لأصدقائه، محباً لإخوانه، وكان شديد التعلق بالمثل العليا، والقيم الخلقية، قد أخذ نفسه بها أخذاً شديداً. وكان صريحاً صلباً في الحق، م يعرف الهوادة، ولم يرض عن المصانعة.
وفي هذا وحده تفسيرٌ لمسلكه وصلاته بالناس. وكان هذا المسلك الصارم سبب تنكّبه حيناً بعد حين عن أصدقاء خيل إليه أنهم دون ما كان يأمله فيهم. وكانت هذه الصدمات تزيده تشبثاً بموقفه، وإصراراً على نهجه، وابتعاداً عن دنيا الناس وواقعهم، وزهداً فيما يرغبون فيه .
فقصر نفسه على عمله المجمعي، ووقف عليه كثيراً من جهده ووقته: كان رئيس لجنة الأصول، وكان عضواً في لجنة المجلة والمطبوعات، فكان ينفق الساعات الطوال في النظر في مقالات المجلة وتصحيح ما زاغ عن الصواب، فإذا ما انتهى من عمله المجمعي انقلب إلى منزله ليستأنف العمل والقراءة، ليستقبل الطلاب والمريدين والعلماء من أصدقائه. واكن يرى في ابنه الصغير عبد الله –سلمه الله- قرّة عينه، وأنسه الأنيس، يستروح به من أثقال الهموم التي يكابد. وهكذا قضى سنواته الأخيرة بين المجمع والمنزل، متزهداً مترفعاً، لا همّ له إلا القراءة والتعليم ومعونة أصدقائه وقاصديه في بحوثهم .
وبدا له أنه لم يحقق ما كان يصبو إليه. لقد دأب وعمل، وجهد وجاهد ليل نهار لتخريج جيل يضطلع بعبء درس العربية وتدريسها، قد وعى منطقها، واستبانت له أسرارها، وأوتي القدرة على نشر كنوزها الثمينة فلم يبلغ مأموله .
كان يحسّ أنه غريب في دنياه، فهو يحمل همومه، وتبهظه أحزانه، ولا يكاد يرى من يبوح له بها. لقد أفردته أخلاقه ومثله، وباعدت بينه وبين ما حوله. وكنت حين أراه، وأحسّ ما يعتلج في نفسه أردّد هامساً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوبى للغرباء" .
لم أجد في صفته أبلغ من قوله يصف صديقه الأستاذ عبد الكريم زهور وكأنما كان يصف نفسه: "كان –رحمة الله- لا يتعلق من الحياة إلا بمعانيها السامية، لا تزدهيه المناصب، ولا تغرّه الألقاب، ولا تستغرقه هموم نفسه. وإنما كان همّه الأكبر الذي ظلّ أبداً يعتلج في فكره وضميره، ويصرّفه في كل مازاول من عمل على حكمه همّ أمته ومطامحها ومستقبلها، يسدده في مساعيه فكر نير لا تعمى عليه معه السبل، وخلقٌ قويم يرتفع به فوق ما ينحطّ فيه ضعاف النفوس من سفاسف، وإلى ذلك عزمٌ صادق لا يلين أمام الصعاب. ولم تزده –أكرم الله مثواه- تجاربه وما قاسى من محن إلا مضاءً في عزمه، وتسامياً في فكره، واستبصاراً في طريقه، كالذهب الإبريز لا يزداد على امتحانه بالنار إلا خلوصاُ وتوهجاً .
كان الصدق في القول والعمل طبيعةً راسخة فيه. يتوخى الحق ويتبعه حيثما لاح له، ثم يثبت عليه لا يفتنه عنه هوى، ولا تنحرف به عنه رهبة، ولا تحمله على الترخّص فيه مصانعة ............ " .
* * *
وأداه حبّه للعربية وحرصه على إظهار تراثها المكنون، محقّقاً، محرّراً، أن يشّق على نفسه حين يتصدى للتأليف أو التحقيق أو النقد، فهو يروّي في عمله ويتأنى في خطواته، لا يقبل أول خاطر يهجم عليه، بل يقلّب وجوه النظر، ويأخذ نفسه بالتثبت، ويتشوف إلى بلوغ الكمال.
لقد هيّأ وكتب الكثير، ولكنه لم ينشر إلا القليل القليل.
ولهذه الخصلة التي تملكنه كان يضيق ذرعاً بأولئك الذين يتعجلون في تحقيق التراث، ولا يوفّونه حقه من الجهد والتمحيص، ولا يرعون ما يجب في مثله من الدقة والأمانة، فيقعون في الغلط تلو الغلط، فكان يرى من واجبه أن ينهض للتصحيح والتقويم، ذياداً عن عن التراث، يقول: "ومن ثمّ رأيت من حق العلم عليّ، ومن الوفاء لهذا التراث، وللأئمة الذين أورثونا إياه، ألا أدع بيان ما وقفت عليه" .
ولكنه كان رحمه الله يقسو أحياناً في النقد، مأخوذاً بغيرته على تراث الأجداد.
أول ما نشر كلمة في نقد رسالة الغفران التي ظهرت في مصر عام 1950م، وقد أرسل كلمته إلى مجلة الكتاب المصرية فنشرتها بعد أن تصرفت بها تصرفاً أفسدها.
فلما ظهرت الطبعة الثانية لرسالة الغفران عام 1957م علق عليها في مقال له في مجلة المجمع. واكن رائده في كل ما صنع هو الوصول إلى وجه الصواب. يقول: ".... فأحببت أن أعرض وجهة نظري فيما توقفت [أي الدكتورة بنت الشاطئ] فيه، على العاملين في هذا المضمار ليدلي بوجهة نظره من عنّ له رأي فيه، عسى أن نصل إلى وجه الصواب في هذا كله........". ثم يختم تعليقاته بقوله :"هذا ما عنّ لي من خواطر حول الطبعة الجديدة من رسالة الغفران، وإني لأشكر من رأى فيما أبديت خطأ فردني إلى الصواب....." .
وأصدر الأستاذ راتب ديوان ابن الدمينة عام 1959م، وهو جزء من رسالة الماجستير فدل على تمكنه في باب التحقيق، وسعة إطلاعه على مصادر التراث، ومقدرته الفذة في البحث والتقصي والتهدي إلى حل المشكلات المعضلات .
وكتب مقالة جليلة في نقد الجزء الأول من طبعة المحتسب لابن جني، وعرض جملة ما استدركه حتى ختام الكلام في سورة البقرة، ثم رغب إلى القائمين بالكتاب أن يعيدوا معارضته بالأصل ثانية، وأن يستعينوا على استكمال تحقيقه بأصول أخرى .
ومن كتبه القيمة: فهرس شواهد سيبويه (عام 1970م).
وقد نسق فيه شواهد القرآن فشواهد الحديث (وهي قليلة لا تتجاوز خمسة /ص57-58)، فشواهد الشعر (وقد بلغت 1047بيت، بإلغاء المكرر/ ص9). فقرب بفهرسه الممتع كتاب سيبويه إلى الناس، ودلّهم على مواضع كثيرة من مسائله، ومهّد لهم بتعليقاته الإفادة منه .
وأصدر كتاب القوافي للأخفش عام 1974م، إثر طبعة للكتاب لم تكن عنده بالمرضية. وكان هو قد هيأ الكتاب وأعده للنشر، فنقد الكتاب المطبوع، وأظهر عثراته ، ثم نشر كتابه محققاً محرراً. وإنك لتحس الجهد البالغ الذي بذله المحقق والعلم الغزير في تلك التعليقات التي شفت قارئها، ووضعت يده على مصادر المعرفة .
ووكل إليه مراجعة كتاب (شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف) لأبي أحمد العسكري وقد قام بتحقيقه الدكتور السيد محمد يوسف، فأضاف الأستاذ النفاخ بتعليقاته فوائد جمة. ثم دعت الضرورة أن تزيد تعليقاته في الأبواب الأخيرة زيادة كبيرة طال بها الكتاب، مما دعا إلى جعله في قسمين: وقد صدر القسم الأول من الكتاب عام 1981م، ومما يؤسف له أن الأسباب لم تتهيأ لصدور القسم الثاني منه، ففاتنا بذلك علم غزير .
وللأستاذ مقالات شتى صحح بها جملة من كتب التراث المحققة وهي تمور بالفوائد النفيسة .
وقد رأيت من المفيد أن أجعل في ختام كلمتي لحقاً يضم كل ما عثرت عليه من آثار الأستاذ الكريم .
اللهم ارحمه الرحمة الواسعة، وأنزله منازل الأبرار في عليين، وارزق آله وأصدقاءه وعارفيه الصبر الجميل .
ولا زال ريحان ومســـك وعنبر على منتهـــاه ديمـة ٌ ثم هــــاطلُ
* * *
لحق
آثار الأستاذ أحمد راتب النفاخ
أولاً – الكتب
1- النصوص الأدبية: (منهاج شهادة الثقافة العامة في كلية الآداب) بإشراف أحمد راتب النفاخ، مطبعة الجامعة السورية 1374هـ-1955م .
2- ديوان ابن الدمينة: صنعة ابي العباس ثعلب ومحمد بن حبيب، تح. أحمد راتب النفاخ، مكتبة دار العروبة – القاهرة 1378هـ-1959م .
3- مختارات من الشعر الجاهلي: اختارها وعلق عليها أحمد راتب النفاخ، مكتبة دار الفتح- دمشق 1386هـ-1966م .
4- فهرس شواهد سيبويه: صنعة أحمد راتب النفاخ، دار الإرشاد – دار الأمانة/ بيروت 1389هـ - 1970م .
5- كتاب القوافي: لأبي الحسن الأخفش، تح. أحمد راتب النفاخ، دار الأمانة- بيروت 1394هـ - 1974م .
6- شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف: لأبي أحمد العسكري ج1، تح. الدكتور السيد محمد يوسف مراجعة الأستاذ أحمد اتب النفاخ، مجمع اللغة العربية بدمشق 1401هـ - 1981م .
ثانياً – المقالات
1- رسالة الغفران: مجلة الكتاب المصرية، مج10، ج6 حزيران / يونيه 1951م.
2- القصيدة الصورية: مجلة معهد المخطوطات العربية، مج2، ج1/ 1956م .
3- رسالة الغفران: مجلة المجمع بدمشق، مج32، ج4/ 1957م، مج33، ج1 / 1958م .
4- المحتسب: مجلة المجمع بدمشق، مج42، ج4/ 1967م، مج43، ج1، ج2/ 1968م .
5- المعيار في أوزان الأشعار: مجلة معهد المخطوطات العربية مج15، ج1 – 2/1969م .
6- نظرات في كتاب اللامات: مجلة العرب، س5، ج1/ 1970م .
7- كتاب القوافي لأبي الحسن الأخفش: مجلة المجمع بدمشق، مج47، ج1 / 1972م .
8- تعقيب على أرجوزة في العروض: مجلة المجمع بدمشق، مج47، ج4 / 1972م .
9- كتاب إعراب القرآن المنسوب إلى الزجاج: مجلة المجمع بدمشق، مج48، ج4 / 1973م، مج 49، ج1 / 1974م .
10- كلمة في حفل استقباله يتحدث فيها عن سلفه الشيخ محمد بهجة البيطار: مجلة المجمع بدمشق، مج53، ج1 / 1974م .
11- حركة عين المضارع من ( فَعَل ): مجلة المجمع بدمشق، مج57، ج3 / 1982م .
12- كتاب المحبة لله سبحانه: تح. الأستاذ عبد الكريم زهور مراجعة الأستاذ أحمد راتب النفاخ، مجلة المجمع بدمشق مج58، ج4 / 1983م، مج59، ج1، ج2، ج3 / 1984م .
13- نظرات في نظرات: مجلة المجمع بدمشق، مج59، ج3 / 1984م، مج60، ج2، ج3 / 1985م .
14- فقيد المجمع الأستاذ عبد الكريم زهور: مجلة المجمع بدمشق، مج60، ج3 / 1985م .
15- استفتاء وجوابه: مجلة المجمع بدمشق، مج60، ج4 / 1985م .
16- أشعار اللصوص وأخبارهم: التعليقات الأستاذان أحمد راتب النفاخ وشاكر الفحام، مجلة المجمع بدمشق، مج66، ج4 / 1991م .
كلمة الزملاء الجامعيين
الدكتور عادل العوا
في الومضة الأولى من فجر استقلالنا السياسي الراهن، ومنذ جلاء كرب الغزو الأجنبي بالجلاء، أنشأت الجامعة السورية المعهد العالي للمعلمين بجناحين هما كليتا الآداب والعلوم .
وقد جمعتني منذ السنة الأولى من تاريخ هذا الحدث العظيم قاعة تدريس عرفت فيها الفقيد الغالي المرحوم الأستاذ (راتب)، طالباً متميزاً بأفكاره، وسلوكه، وشخصيته، ومزاجه. وقد بان ولعه، بل شغفه باللغة العربية أجلى بيان حين كاد يعزف عن النطق بلغة أجنبية، وكأن لغة الإنسان الحق هي اللغة القرآنية، لغة الصدق واللسان المبين .
وقد حرص أعضاء الهيئة التدريسية في المعهد المذكور، وفي كلية الآداب، على رعاية الطالب (راتب) رعاية محبة وإعجاب، وما لبثت الجامعة أن احتضنته مدّرساً واعداً للغة العربية وعلومها، وأوفدته لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة، فأصاب نجاحاً موفوراً في الأولى، واعترض سبيله شيء ما حال دون بلوغه المرام في نيل الدرجة الأخيرة. وهذا الشيء القاهر العنيد لم يكن في الحق أمراً طارئاً جديداً، ولا أمراً خارجياً غريباً، بل كان ذاتياً حميداً. وهل سمعتم بعائق نفسي يقف عثرة في درب نجاح صاحبه فيغدو دافعاً ورادعاً معاً ؟
أجل، إنني أشير هنا إلى خصلة جلّى، خصلة واحدة ذات دلالة إيضاحية شاملة، ألا وهي مطلب الاتقان الذي تحلى به عزيزنا (راتب) الطالب الموفد، وزميلنا الأستاذ في الجامعة، والفقيد الغالي لمجمع الخالدين. إنه إتقانٌ مبتغى في كل ما ابتغى هو ذاته من شؤون الحياة .
اختار المرحوم القراءات القرآنية موضوعاً لدراسته لنيل درجة الدكتوراه في الآداب. وعمل من أجل ذلك وأجاد. وإنما غجادته تلك هي الإتقان الذي أعاقه بعض نقص ٍ في المصادر، على نحو ما سمعت منه غير مرة، فكان أن أحجم من ذاته، وبذاته، عن طماح اللقب، ولم يستجب لالحاح معلميه في القاهرة، وهم ما برحوا سنين كثيرة ً، ومرات متعاقبة، يدعونه للحضور إليهم، مجرد الحضور، لمناقشة ما كتب، والاستمتاع باللقب، ولكنه أبى، وأصرّ على موقفه حرصاً مخلصاً منه على تلبية حافز الإتقان. وهذا الحافز هو الذي عرفناه في حياة زميلنا الجامعي الأستاذ (راتب) طوال سني تدريسه في كلية الآداب .
أنفق الفقيد في هذه الكلية ما وسعه الجهد والإخلاص في تدريس علوم اللغة العربية، وفي نشر نصوص مختارة من تراثها المجيد. ومثلاً من كتاب "الكامل" أو من كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف". وقد نقّب في كل مرة عن الصواب التائه بين علماء الكوفة والبصرة. وحكى رأيه مؤيداً بالدليل. والدليل معيار. وهذا المعيار عنده هو تواتر الرواية عن إنسان عربي صريح من صميم العرب. فكلام هذا الإنسان العربي الصريح هو إذن كلام صحيح، وحجة دامغة، وبرهان قاطع. ومثل هذا التدقيق البصير يطالعنا به الاستاذ (راتب) في سائر أعماله العلمية، ومختلف إسهاماته، ومثلاً عندما نشر كتاب "القوافي" للأخفش، و"فهرس كتاب سيبويه" .........
وقد حضر الحفل ثلة من كبار العلماء والأدباء والمثقفين ومن محبي الأستاذ النفاخ وطلابه وذويه .
افتتح الحفل بتلاوة من آي الذكر الحكيم، ثم تلاها كلمة المجمع ألقاها الأستاذ الدكتور شاكر الفحام نائب رئيس المجمع، ثم كلمة الزملاء الجامعيين (جامعة دمشق) ألقاها الأستاذ الدكتور عادل العوّا، ثم كلمة أصدقاء الفقيد للأستاذ الدكتور عبد الكريم الأشتر، ثم كلمة طلاب الفقيد للدكتور محمد الدالي، وفي الختام كلمة آل الفقيد ألقاها الأستاذ نزار النفاخ شقيق الفقيد .
وننشر فيما يلي كلمات الحفل :
كلمة مجمع اللغة العربية
فقيد المجمع
الأستاذ أحمد راتب النفاخ
(1927-1992م)
الدكتور شاكر الفحام
شاءت إرادة الله العلي القدير أن يفارقنا الأخ الصديق الأستاذ أحمد راتب النفاخ إلى جوار ربه الكريم أوفر ما كان نشاطاً، وأكثر ما كان عطاء .
ما زلت أتمثل صورته في جلسات المجمع الأخيرة، وهو يناقش معنا بكل الجد والحيوية مشروع خطة جديدة ترسم وجوه نشاط المجمع في المستقبل، لتفسخ له أن يكون أقدر على تأدية أغراضه وتحقيق مقاصده في ميادين اللغة والأدب وإحياء التراث وإقرار المصطلح ووضع المعجمات، ولتتيح له المشاركة الواسعة في الحركة الثقافية بإلقاء المحاضرات وعقد الندوات وإقامة المؤتمرات وتوثيق الصلات بالمجامع والمؤسسات اللغوية والثقافية .
وكان أشدّ ما كان تفاؤلاً بما توفره الخطة المقترحة من افتتاح صفحة جديدة في العمل المجمعي المثمر.
وشهد معنا جلسة يوم الأربعاء في 12/2/1992م ، واتعدنا على اللقاء صباح الأحد في لجنة المجلة والمطبوعات، ولكن القدر لم يمهله، لقد نهض صباح يوم الجمعة (11/8/1412هـ - 14/2/1992م) كعادته، فأدى صلاته أحسن أداء، ثم التلاوة، فقرأ ما شاء الله له أن يقرأ من سورة البقرة، ولكن الصوت المرتّل لم يلبث أن خفت وسكت، وهرع الأهل إلى الطبيب. وبذل الأطباء ما بذلوا فما أنجحوا، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فأسلم الروح إلى بارئها، راضياً مرضيا. رحمه الله الرحمة الواسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .
لقد ترك بوفاته ثلمة لا تسدّ، وإن الخسارة بفقده جسيمة لا تعوّض .
فما كان قيسٌ هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدّما
* * *
ولد رحمه الله عام 1927م في أسرة كانت قد وفدت على دمشق من بعلبك في أوائل القرن الماضي، وعرفت بالصلاح والتقوى .
وبدأ التعلم في سنّ مبكرة، وكان المجلّي في دراسته الابتدائية والثانوية، فأحبه مدرسوه، وأشادوا به. وقد مهر بالعربية، وبرّز في معرفتها تبريزاً أفرده بين لداته، وطالما فاخر به أستاذه محمد البزم وأثنى عليه.
ولما التحق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب (جامعة دمشق) وجد المجال رحباً لتفتح مواهبه، والتفوق على أقرانه. وشهد له أساتذته بالمقدرة والفضل، وأحلّوه المحلّ الأرفع، وتخرّج من كلية الآداب عام 1950م، ونال من بعد شهادة أهلية التعليم الثانوي من كلية التربية عام 1951م. وقضى سنتين يدرّس العربية في المدارس الثانوية بحوران .
واستقبلته كلية الآداب بجامعة دمشق معيداً (1953-1955م) لتوفده إلى جامعة القاهرة، فنال درجة الماجستير ( عام 1958م ) وكان موضوع رسالته: دراسة حياة الشاعر ابن الدمينة وشعره وتحقيق ديوانه .
ثم اختار موضوعاً في القراءات لشهادة الدكتوراه. وبعد أن أنجز القسم الأكبر من رسالته، وقدّمه إلى الأستاذ الدكتور شوقي ضيف المشرف على الرسالة بدا له أن يتوقف عن إنجاز ما بدأ، وزهد في الألقاب، وعزف عنها، وعاد إلى دمشق ليستأنف التدريس في الجامعة .
وما زلت أذكر أن الدكتور شوقي ضيف، وكان المشرف على رسالتي أيضاً، حدثني عن رسالة الأستاذ راتب في القراءات حديث المعجب، وذكر لي أن الجزء الذي قدّمه كاف لنيل درجة الدكتوراه، وطلب إليّ أن أبلغه ذلك، وأحثّه على الحضور إلى القاهرة للمناقشة، وأبلغت الصديق الرسالة، فما زاد على أن تبسم .
وأمضى الأستاذ النفاخ على منبر التدريس في جامعة دمشق بعد عودته من القاهرة سبعة عشر عاماً (1962-1979م) ، وتخرّجت به أجيال من الطلاب ما زالت تذكر له ما بذل من جهد، وما قدّم من عون، ليبصّرهم ويرشدهم ويدلّهم على أصول البحث، ويضع بين أيديهم مفاتيح المعرفة يتهدّون بها إلى فهم كلام الأقدمين .
واختار أعضاء مجمع اللغة العربية بدمشق الأستاذ أحمد راتب النفاخ عضواً عاملاً في المجمع عام 1976م، فكان هذا الاختيار تتويجاً للصلات الوطيدة بينه وبين المجمع. وشارك الأستاذ النفاخ في أعمال المجمع المشاركة الطيبة، وقام بجهد جاهد في لجانه، وكان له القدح المعلّى في أعمال لجنة الأصول ولجنة المجلة والمطبوعات.
وسعد المجمع من بعد بتسميته رئيس المقررين فيه (1979-1992م) .
* * *
كان رحمه الله جبلاً راسخاً من جبال العلم، قد جعل الكتاب خدينه وأنيسه، فلا تراه إلا قارئاً أو مقرئاً، "وقد أتقن كثيراً من العلوم التي عرفها السلف، أو استحدثها الخلف، وبذّ الأقران في فنون منها، انتهت إليه الرياسة فيها في عصرنا هذا في بلدنا هذا، كالقراءات والنحو والبلاغة والعروض واللغة فقهها وعلمها، وأصبح حجة فيها لا ينازعه منازع. هذا إلى أسلوب جزل متميز في الكتابة تفرّد به واشتهر" .
وقد ألف طلابه وأصدقاؤه أن ينعتوه بلقب (علامة الشام) إيذاناً بما يكنّون له من الإجلال والتقدير .
عرفته في أواخر الخمسينات، وأنست بصحبته، وامتدت صداقتنا حتى قضى الله قضاءه، فعرفت فيه الصديق المخلص، الكريم الخلق، الطيب القلب، الصادق الوّد، يسارع في الخيرات، قد نصب نفسه لتلبية قاصديه، ومساعدة طلابه، فلا يبخل بعلم، ولا يضن ّ بعون، مهما يكلفه ذلك من مشقة وجهد .
وكنت كثيراً ما أستشيره وأسائله في قضايا لغوية ونحوية شمست واستعصت، فيلين أبيّها، ويستدني قاصيها، فأحسنّ. أنه البحر علماً ومعرفة.
من أبرز صفاته أنه كان معلماً، بالمعنى الرفيع للكلمة. فطر على القراءة والمطالعة، وأحب العربية وعلومها الحب الجمّ. وكان طلعة لا يريد أن يفوته شيء في الباب الذي ندب نفسه للقراءة والإقراء فيه، فأكبّ على الكتب المصادر التي أّلفها علماء العربية الأقدمون، وما زال يدارسها حتى كشفت له أسرارها، وتبيّن أصولها ومراميها. ثم ضمّ إلى ذلك مطالعة ما ألف في عصرنا من علوم اللغة المستحدثة ليستبين خطأها من صوابها، على هدي ما عرف من منطق العربية الصحيح. ولقد تعشق العربية وشغفه حبها، إنها له لسان وهوية وحياة، وقد عبّر عما يحسّه من ذلك بقوله: " آليت على نفسي ألا أعيش إلا لها، ولكتابها العربي المبين" . ولقد وقف حياته حقاً لدرس العربية وتدريسها .
وكان شديد الحرص أن يذيع بين تلامذته وإخوانه ومريديه أطرافاً من عبقرية هذا اللسان العربي المبين ليحبّبه إليهم، فكان لا يكتفي بالمحاضرات التي يلقيها على منبر الجامعة، ولا بالحلقات التي تعقد في غرفته بالجامعة، بل كان يستقبل طلابه وزائريه في منزله المعمور دائماً، حيث كان يلتقي العالم قد جاء يستفتي في مشكل صادفه، والطالب قد أقبل يريد العون في موضوع تصدى لمعالجته، والأصدقاء الذين ألفوا مجلس الأستاذ يلتقطون الفوائد النفيسة.
وكان الأستاذ جمّ النشاط، يتدفق في حديثه لا يمّل ولا يتوقف، يحيط بجوانب المسألة المطروحة، ويعدّد الآراء والأقوال، ويحيل على المصادر ليقدم لسائله وسامعه ما ينير الطريق، ويهدي إلى سواء السبيل.
وكان يفد إلى مجلسه كبار العلماء الذين يزورون دمشق، يأتونه_ قاصدين، حباً في لقائه، وتطلعاً إلى فوائده .
كان شعاره الأول في حياته نشر العلم وبثه، وكان يرى في نهج علماء السف الصالح قدوة طيبة. ففتح بابه، وأقبل إليه الطلاب والمريدون والأصدقاء. وطالما تطلع إلى أن يكون مجلسه بأحاديثه، وما يتفرغ إليه من حوار، النواة الصالحة، والوسيلة الناجعة لتخريج طلاب يحملون عنه العلم، لينشروه في الملأ .
وكان من تمام إيمانه بنشر العلم وبثه أنه وضع مكتبته المترعة بنفائس الكتب، وصور المخطوطات بين أيدي طلابه وزائريه، يبحثون فيها عن طلباتهم، فإذا شاؤوا الاستعارة أعارهم من الكتب النادرة ما يريدون، خلّة نبيلة كريمة جبل عليها، ولم يعدل عن عادته تلك، على ما رزىء به من ضياع كثير من كتبه النفائس.
وحفلت كتبه بالتعليقات الثمينة القيّمة، فقد كان، رحمه الله، إذا لاح له، وهو يقرأ كتاباً، موضعٌ يحتاج إلى تعليق لإيضاح مبهم، أو إصلاح غلط، يسارع إلى إثباته في حاشية الكتاب. وكانت هذه الفوائد التي لا يقوى عليها إلا عالم ثبت متمكن كالأستاذ راتب، معروضة لكل واردٍ أحبّ أن ينتفع بها.
وكان رحمه الله يسارع أحياناً فيرسل بتلك التعليقات إلى محقق الكتاب، يضعها بين يديه، لأن غايته ومطلبه أن ينشر الكتاب محققاً صحيحاً بريئاً من الآفات .
وما أكثر ما كتب وصحح للآخرين، يبذل ذلك دون منّ، ولولا أن أشار عدة مؤلفين في كتبهم إلى ما قدّم لهم، وشكروا له جميل ما صنع من أجلهم، لما علمنا علم ذلك.
وإذا كانت مكتبة الأستاذ أحمد راتب تغصّ بالكتب النوادر والنفائس، فإن أغلى ما فيها وأنفسه تلك التعليقات التي حفلت بها حواشي كتبه. وطالما رجوت الصديق الكريم أن ينشر تلك التعليقات ليفيد منها الباحثون وطلاب العلم .
وكان رحمه الله على خلق كريم، وفياً لأصدقائه، محباً لإخوانه، وكان شديد التعلق بالمثل العليا، والقيم الخلقية، قد أخذ نفسه بها أخذاً شديداً. وكان صريحاً صلباً في الحق، م يعرف الهوادة، ولم يرض عن المصانعة.
وفي هذا وحده تفسيرٌ لمسلكه وصلاته بالناس. وكان هذا المسلك الصارم سبب تنكّبه حيناً بعد حين عن أصدقاء خيل إليه أنهم دون ما كان يأمله فيهم. وكانت هذه الصدمات تزيده تشبثاً بموقفه، وإصراراً على نهجه، وابتعاداً عن دنيا الناس وواقعهم، وزهداً فيما يرغبون فيه .
فقصر نفسه على عمله المجمعي، ووقف عليه كثيراً من جهده ووقته: كان رئيس لجنة الأصول، وكان عضواً في لجنة المجلة والمطبوعات، فكان ينفق الساعات الطوال في النظر في مقالات المجلة وتصحيح ما زاغ عن الصواب، فإذا ما انتهى من عمله المجمعي انقلب إلى منزله ليستأنف العمل والقراءة، ليستقبل الطلاب والمريدين والعلماء من أصدقائه. واكن يرى في ابنه الصغير عبد الله –سلمه الله- قرّة عينه، وأنسه الأنيس، يستروح به من أثقال الهموم التي يكابد. وهكذا قضى سنواته الأخيرة بين المجمع والمنزل، متزهداً مترفعاً، لا همّ له إلا القراءة والتعليم ومعونة أصدقائه وقاصديه في بحوثهم .
وبدا له أنه لم يحقق ما كان يصبو إليه. لقد دأب وعمل، وجهد وجاهد ليل نهار لتخريج جيل يضطلع بعبء درس العربية وتدريسها، قد وعى منطقها، واستبانت له أسرارها، وأوتي القدرة على نشر كنوزها الثمينة فلم يبلغ مأموله .
كان يحسّ أنه غريب في دنياه، فهو يحمل همومه، وتبهظه أحزانه، ولا يكاد يرى من يبوح له بها. لقد أفردته أخلاقه ومثله، وباعدت بينه وبين ما حوله. وكنت حين أراه، وأحسّ ما يعتلج في نفسه أردّد هامساً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوبى للغرباء" .
لم أجد في صفته أبلغ من قوله يصف صديقه الأستاذ عبد الكريم زهور وكأنما كان يصف نفسه: "كان –رحمة الله- لا يتعلق من الحياة إلا بمعانيها السامية، لا تزدهيه المناصب، ولا تغرّه الألقاب، ولا تستغرقه هموم نفسه. وإنما كان همّه الأكبر الذي ظلّ أبداً يعتلج في فكره وضميره، ويصرّفه في كل مازاول من عمل على حكمه همّ أمته ومطامحها ومستقبلها، يسدده في مساعيه فكر نير لا تعمى عليه معه السبل، وخلقٌ قويم يرتفع به فوق ما ينحطّ فيه ضعاف النفوس من سفاسف، وإلى ذلك عزمٌ صادق لا يلين أمام الصعاب. ولم تزده –أكرم الله مثواه- تجاربه وما قاسى من محن إلا مضاءً في عزمه، وتسامياً في فكره، واستبصاراً في طريقه، كالذهب الإبريز لا يزداد على امتحانه بالنار إلا خلوصاُ وتوهجاً .
كان الصدق في القول والعمل طبيعةً راسخة فيه. يتوخى الحق ويتبعه حيثما لاح له، ثم يثبت عليه لا يفتنه عنه هوى، ولا تنحرف به عنه رهبة، ولا تحمله على الترخّص فيه مصانعة ............ " .
* * *
وأداه حبّه للعربية وحرصه على إظهار تراثها المكنون، محقّقاً، محرّراً، أن يشّق على نفسه حين يتصدى للتأليف أو التحقيق أو النقد، فهو يروّي في عمله ويتأنى في خطواته، لا يقبل أول خاطر يهجم عليه، بل يقلّب وجوه النظر، ويأخذ نفسه بالتثبت، ويتشوف إلى بلوغ الكمال.
لقد هيّأ وكتب الكثير، ولكنه لم ينشر إلا القليل القليل.
ولهذه الخصلة التي تملكنه كان يضيق ذرعاً بأولئك الذين يتعجلون في تحقيق التراث، ولا يوفّونه حقه من الجهد والتمحيص، ولا يرعون ما يجب في مثله من الدقة والأمانة، فيقعون في الغلط تلو الغلط، فكان يرى من واجبه أن ينهض للتصحيح والتقويم، ذياداً عن عن التراث، يقول: "ومن ثمّ رأيت من حق العلم عليّ، ومن الوفاء لهذا التراث، وللأئمة الذين أورثونا إياه، ألا أدع بيان ما وقفت عليه" .
ولكنه كان رحمه الله يقسو أحياناً في النقد، مأخوذاً بغيرته على تراث الأجداد.
أول ما نشر كلمة في نقد رسالة الغفران التي ظهرت في مصر عام 1950م، وقد أرسل كلمته إلى مجلة الكتاب المصرية فنشرتها بعد أن تصرفت بها تصرفاً أفسدها.
فلما ظهرت الطبعة الثانية لرسالة الغفران عام 1957م علق عليها في مقال له في مجلة المجمع. واكن رائده في كل ما صنع هو الوصول إلى وجه الصواب. يقول: ".... فأحببت أن أعرض وجهة نظري فيما توقفت [أي الدكتورة بنت الشاطئ] فيه، على العاملين في هذا المضمار ليدلي بوجهة نظره من عنّ له رأي فيه، عسى أن نصل إلى وجه الصواب في هذا كله........". ثم يختم تعليقاته بقوله :"هذا ما عنّ لي من خواطر حول الطبعة الجديدة من رسالة الغفران، وإني لأشكر من رأى فيما أبديت خطأ فردني إلى الصواب....." .
وأصدر الأستاذ راتب ديوان ابن الدمينة عام 1959م، وهو جزء من رسالة الماجستير فدل على تمكنه في باب التحقيق، وسعة إطلاعه على مصادر التراث، ومقدرته الفذة في البحث والتقصي والتهدي إلى حل المشكلات المعضلات .
وكتب مقالة جليلة في نقد الجزء الأول من طبعة المحتسب لابن جني، وعرض جملة ما استدركه حتى ختام الكلام في سورة البقرة، ثم رغب إلى القائمين بالكتاب أن يعيدوا معارضته بالأصل ثانية، وأن يستعينوا على استكمال تحقيقه بأصول أخرى .
ومن كتبه القيمة: فهرس شواهد سيبويه (عام 1970م).
وقد نسق فيه شواهد القرآن فشواهد الحديث (وهي قليلة لا تتجاوز خمسة /ص57-58)، فشواهد الشعر (وقد بلغت 1047بيت، بإلغاء المكرر/ ص9). فقرب بفهرسه الممتع كتاب سيبويه إلى الناس، ودلّهم على مواضع كثيرة من مسائله، ومهّد لهم بتعليقاته الإفادة منه .
وأصدر كتاب القوافي للأخفش عام 1974م، إثر طبعة للكتاب لم تكن عنده بالمرضية. وكان هو قد هيأ الكتاب وأعده للنشر، فنقد الكتاب المطبوع، وأظهر عثراته ، ثم نشر كتابه محققاً محرراً. وإنك لتحس الجهد البالغ الذي بذله المحقق والعلم الغزير في تلك التعليقات التي شفت قارئها، ووضعت يده على مصادر المعرفة .
ووكل إليه مراجعة كتاب (شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف) لأبي أحمد العسكري وقد قام بتحقيقه الدكتور السيد محمد يوسف، فأضاف الأستاذ النفاخ بتعليقاته فوائد جمة. ثم دعت الضرورة أن تزيد تعليقاته في الأبواب الأخيرة زيادة كبيرة طال بها الكتاب، مما دعا إلى جعله في قسمين: وقد صدر القسم الأول من الكتاب عام 1981م، ومما يؤسف له أن الأسباب لم تتهيأ لصدور القسم الثاني منه، ففاتنا بذلك علم غزير .
وللأستاذ مقالات شتى صحح بها جملة من كتب التراث المحققة وهي تمور بالفوائد النفيسة .
وقد رأيت من المفيد أن أجعل في ختام كلمتي لحقاً يضم كل ما عثرت عليه من آثار الأستاذ الكريم .
اللهم ارحمه الرحمة الواسعة، وأنزله منازل الأبرار في عليين، وارزق آله وأصدقاءه وعارفيه الصبر الجميل .
ولا زال ريحان ومســـك وعنبر على منتهـــاه ديمـة ٌ ثم هــــاطلُ
* * *
لحق
آثار الأستاذ أحمد راتب النفاخ
أولاً – الكتب
1- النصوص الأدبية: (منهاج شهادة الثقافة العامة في كلية الآداب) بإشراف أحمد راتب النفاخ، مطبعة الجامعة السورية 1374هـ-1955م .
2- ديوان ابن الدمينة: صنعة ابي العباس ثعلب ومحمد بن حبيب، تح. أحمد راتب النفاخ، مكتبة دار العروبة – القاهرة 1378هـ-1959م .
3- مختارات من الشعر الجاهلي: اختارها وعلق عليها أحمد راتب النفاخ، مكتبة دار الفتح- دمشق 1386هـ-1966م .
4- فهرس شواهد سيبويه: صنعة أحمد راتب النفاخ، دار الإرشاد – دار الأمانة/ بيروت 1389هـ - 1970م .
5- كتاب القوافي: لأبي الحسن الأخفش، تح. أحمد راتب النفاخ، دار الأمانة- بيروت 1394هـ - 1974م .
6- شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف: لأبي أحمد العسكري ج1، تح. الدكتور السيد محمد يوسف مراجعة الأستاذ أحمد اتب النفاخ، مجمع اللغة العربية بدمشق 1401هـ - 1981م .
ثانياً – المقالات
1- رسالة الغفران: مجلة الكتاب المصرية، مج10، ج6 حزيران / يونيه 1951م.
2- القصيدة الصورية: مجلة معهد المخطوطات العربية، مج2، ج1/ 1956م .
3- رسالة الغفران: مجلة المجمع بدمشق، مج32، ج4/ 1957م، مج33، ج1 / 1958م .
4- المحتسب: مجلة المجمع بدمشق، مج42، ج4/ 1967م، مج43، ج1، ج2/ 1968م .
5- المعيار في أوزان الأشعار: مجلة معهد المخطوطات العربية مج15، ج1 – 2/1969م .
6- نظرات في كتاب اللامات: مجلة العرب، س5، ج1/ 1970م .
7- كتاب القوافي لأبي الحسن الأخفش: مجلة المجمع بدمشق، مج47، ج1 / 1972م .
8- تعقيب على أرجوزة في العروض: مجلة المجمع بدمشق، مج47، ج4 / 1972م .
9- كتاب إعراب القرآن المنسوب إلى الزجاج: مجلة المجمع بدمشق، مج48، ج4 / 1973م، مج 49، ج1 / 1974م .
10- كلمة في حفل استقباله يتحدث فيها عن سلفه الشيخ محمد بهجة البيطار: مجلة المجمع بدمشق، مج53، ج1 / 1974م .
11- حركة عين المضارع من ( فَعَل ): مجلة المجمع بدمشق، مج57، ج3 / 1982م .
12- كتاب المحبة لله سبحانه: تح. الأستاذ عبد الكريم زهور مراجعة الأستاذ أحمد راتب النفاخ، مجلة المجمع بدمشق مج58، ج4 / 1983م، مج59، ج1، ج2، ج3 / 1984م .
13- نظرات في نظرات: مجلة المجمع بدمشق، مج59، ج3 / 1984م، مج60، ج2، ج3 / 1985م .
14- فقيد المجمع الأستاذ عبد الكريم زهور: مجلة المجمع بدمشق، مج60، ج3 / 1985م .
15- استفتاء وجوابه: مجلة المجمع بدمشق، مج60، ج4 / 1985م .
16- أشعار اللصوص وأخبارهم: التعليقات الأستاذان أحمد راتب النفاخ وشاكر الفحام، مجلة المجمع بدمشق، مج66، ج4 / 1991م .
كلمة الزملاء الجامعيين
الدكتور عادل العوا
في الومضة الأولى من فجر استقلالنا السياسي الراهن، ومنذ جلاء كرب الغزو الأجنبي بالجلاء، أنشأت الجامعة السورية المعهد العالي للمعلمين بجناحين هما كليتا الآداب والعلوم .
وقد جمعتني منذ السنة الأولى من تاريخ هذا الحدث العظيم قاعة تدريس عرفت فيها الفقيد الغالي المرحوم الأستاذ (راتب)، طالباً متميزاً بأفكاره، وسلوكه، وشخصيته، ومزاجه. وقد بان ولعه، بل شغفه باللغة العربية أجلى بيان حين كاد يعزف عن النطق بلغة أجنبية، وكأن لغة الإنسان الحق هي اللغة القرآنية، لغة الصدق واللسان المبين .
وقد حرص أعضاء الهيئة التدريسية في المعهد المذكور، وفي كلية الآداب، على رعاية الطالب (راتب) رعاية محبة وإعجاب، وما لبثت الجامعة أن احتضنته مدّرساً واعداً للغة العربية وعلومها، وأوفدته لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة، فأصاب نجاحاً موفوراً في الأولى، واعترض سبيله شيء ما حال دون بلوغه المرام في نيل الدرجة الأخيرة. وهذا الشيء القاهر العنيد لم يكن في الحق أمراً طارئاً جديداً، ولا أمراً خارجياً غريباً، بل كان ذاتياً حميداً. وهل سمعتم بعائق نفسي يقف عثرة في درب نجاح صاحبه فيغدو دافعاً ورادعاً معاً ؟
أجل، إنني أشير هنا إلى خصلة جلّى، خصلة واحدة ذات دلالة إيضاحية شاملة، ألا وهي مطلب الاتقان الذي تحلى به عزيزنا (راتب) الطالب الموفد، وزميلنا الأستاذ في الجامعة، والفقيد الغالي لمجمع الخالدين. إنه إتقانٌ مبتغى في كل ما ابتغى هو ذاته من شؤون الحياة .
اختار المرحوم القراءات القرآنية موضوعاً لدراسته لنيل درجة الدكتوراه في الآداب. وعمل من أجل ذلك وأجاد. وإنما غجادته تلك هي الإتقان الذي أعاقه بعض نقص ٍ في المصادر، على نحو ما سمعت منه غير مرة، فكان أن أحجم من ذاته، وبذاته، عن طماح اللقب، ولم يستجب لالحاح معلميه في القاهرة، وهم ما برحوا سنين كثيرة ً، ومرات متعاقبة، يدعونه للحضور إليهم، مجرد الحضور، لمناقشة ما كتب، والاستمتاع باللقب، ولكنه أبى، وأصرّ على موقفه حرصاً مخلصاً منه على تلبية حافز الإتقان. وهذا الحافز هو الذي عرفناه في حياة زميلنا الجامعي الأستاذ (راتب) طوال سني تدريسه في كلية الآداب .
أنفق الفقيد في هذه الكلية ما وسعه الجهد والإخلاص في تدريس علوم اللغة العربية، وفي نشر نصوص مختارة من تراثها المجيد. ومثلاً من كتاب "الكامل" أو من كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف". وقد نقّب في كل مرة عن الصواب التائه بين علماء الكوفة والبصرة. وحكى رأيه مؤيداً بالدليل. والدليل معيار. وهذا المعيار عنده هو تواتر الرواية عن إنسان عربي صريح من صميم العرب. فكلام هذا الإنسان العربي الصريح هو إذن كلام صحيح، وحجة دامغة، وبرهان قاطع. ومثل هذا التدقيق البصير يطالعنا به الاستاذ (راتب) في سائر أعماله العلمية، ومختلف إسهاماته، ومثلاً عندما نشر كتاب "القوافي" للأخفش، و"فهرس كتاب سيبويه" .........
يتبع ـ بمشيئة الله ـ