محمد يعقوب ياسين
New member
- إنضم
- 22/01/2011
- المشاركات
- 12
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
- العمر
- 39
- الإقامة
- فاس المغرب
- الموقع الالكتروني
- www.facebook.com
بقلم الدكتور: الشيخ التجاني أحمدي أستاذ الإعجاز القرآني في كلية الآداب جامعة نواكشوط
أسباب النزول بين الحقيقة والأسطورة
يعمد المشككون في علم أسباب النزول إلى القول ببطلانه وعدم قوته وصلابته، أمام النقد الموجه إليه، كما يتهمون العلماء بالوقوف وراء تأليفه، وتزويره بأسانيد وروايات منتقاة حتى يصدقها المتلقي، ويرصدون مظاهر عدة لهذه المزاعم، بعضها يتصل بالثقافة السائدة أيام المؤلفين الأوائل لهذا العلم، إضافة إلى أخرى معرفية وايديولوجية، وهم في ذلك يتجاهلون المصداقية التي بنى عليها المسلمون علومهم، وشيدوها بالصدق ومحاربة الكذب والتدليس.
صحيح أن ثمة أخطاء حصلت في مؤلفات هذا الفن ولكنها غير مقصودة، تنم عن تساهل المؤلفين وخلطهم بين مفهوم واسع ساد عند الصحابة، ومفهوم آخر ارتضاه المؤلفون بعدهم، أضف إلى ذلك شغف بعضهم في جمع كل الروايات التي تعزى لهذا الفن، وإن كانت روايات تفسيرية لبعض الصحابة وبعضها اجتهاد منهم، وما تميزت به هذه الروايات من تناقض وتقابل وتباين في رسم المشهد الواحد، على أنه لم يخل مؤلف في هذا الفن من الإشارة إلى الحذر والتحرز تجاه أسباب النزول، وأن لا تؤخذ على علاتها، بل يجب عرضها على القرآن نفسه، فما وافق القرآن أخذ به، وما عارض القرآن طرح( 1).
ولم يقفوا عند هذا الحد وإنما تجاوزوه إلى نقد المرويات وتبيين صحيحها من سقيمها، وتحرير المفهوم من الالتباس، حتى غدا هذا العلم مشيدا على أركان ثابتة وأعمدة راسخة، ولكن من الهام جدا أن نتساءل التساؤلات الآتية:
ما هي المحطات التي قطعها هذا العلم لكي يصبح ناضجا مستقلا؟ وهل التجاوزات المرتكبة في جمعه وتأليفه ترقى إلى حد العمد، ومن ثم يمكن أن تتسلل فكرة الصناعة؟ وهل دعوى الصناعة لها ما يسوغها؟.
أولا: مسار التأليف في أسباب النزول
يرجع علم أسباب النزول إلى فترة تنزل الوحي على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد كان محل اهتمام كبير من قبل الصحابة -رضوان الله عليهم- لكونهم الشاهدين على التنزيل، والعارفين بمواقعه وأحوله، ومن ثم بلغتنا روايات تعزز هذا الجانب، كما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يرشد أحيانا إلى سبب النزول، وبعد انقضاء الوحي بات الصحابة المصدر الوحيد لهذا العلم، وهو ما جعل التابعين وتابعيهم يجدون في طلبه منهم، وحفظه شفاهة حتى جاءت فترة التدوين في القرن الثاني الهجري، فتم تدوينه في معارف مختلفة أبرزها الحديث والتفسير والسير والمغازي، فتوزع عليها، وتعد مدونة الإمام محمد بن جرير الطبري (ت:310هـ) من أضخم المدونات في التفسير، وأكثرها تناولا وشمولا في مجال الرواية لأسباب النزول( 2)، وقد تميز عمله بالرصانة والإتقان، فلم يكن يعرض لكثير من الموضوعات، بل كان ينبه في مواضع كثيرة على وهن الروايات التي تبين ضعفها( 3).
أما عن منهجه في تناول أسباب النزول، فهو يوردها غالبا بعبارات مثل: «الآية نزلت في سبب»، «ونزل في سبب» ( 4)، وبعد هذه المدونة تسللت أخبار النزول إلى كتب التفسير التي بعده، كأحكام القرآن لأبي بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص (370هـ).
واستمر الأمر إلى القرن الخامس الهجري، حيث عرف منعرجا في مسار تاريخ هذا الفن تمثل في استقلاله، بعد ما كان طيلة الفترة الماضية مندرجا في كتب وعلوم شتى، ويعتبر كتاب (أسباب النزول) للواحدي النيسابوري (ت:468هـ) أول تأليف كامل أفرد لهذا العلم، وكان دافعه لهذا العمل هو شيوع وذيوع الأخبار الموضوعة المنسوبة لهذا العلم، والرغبة في تنقيته منها، حتى لا تتزعزع ثقة العلماء فيه، لكونه لا غنى لأحد عنه في فهم آيات الأحكام، وهذا ما أشار إليه بقوله: «وأما اليوم فكل أحد يخترع شيئا ويختلق إفكا وكذبا ملقيا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب الآية، وذلك الذي حدا بي إلى إملاء هذا الكتاب الجامع للأسباب؛ لينتهي إليه طالبوا هذا الشأن والمتكلمون في نزول القرآن، فيعرفوا الصدق ويستغنوا عن التمويه والكذب، ويجدوا في تحفظه بعد السماع والطلب» (5).
وما قام به الواحدي(6) من جهد لم يرتق إلى مستوى الهم الذي حمله على عاتقه، وهو تأسيس علم جديد مستقل بذاته، فصنيعه يدل على عدم قدرته على تجاوز ما كتبه السابقون، فلم يستطع إلا أن يتأثر بهم -وخاصة الثعلبي والطبري- وأن يغرف من معينهم، فأغلب الروايات التي ساقها في كتابه هي موجودة في كتب شتى لأئمة التفسير كالسدي والكلبي ومقاتل و الطبري وغيرهم، وأضاف إلى ذلك مصادر أخرى، مثل كتب الحديث والتاريخ والمغازي.
ومصداق ذلك ما ذكره بإسناد عقيل بن محمد الجرجاني، عن المعافى بن زكريا القاضي، عن محمد بن جرير في سبب نزول قوله تعالى: ﴿ إنما يريد الهك ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا 7) قال: ليس الذين يذهبون إليه، إنما هي أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: وكان عكرمة ينادي بهذا في السوق( 8).
وكان تركيز الواحدي في أغلب رواياته على ما يرويه عن شيخه الثعلبي، وهذا الأخير معروف بروايته للموضوعات، وهو ما جعل كتاب الواحدي مهلهلا وغير مرضي عند علماء الحديث والرواية، ولذا يقول ابن تيمية( 9):«فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعة، كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبي إمامة في فضل تلك السورة، وكأمثال ذلك، و لهذا يقولون هو كحاطب ليل، وهكذا الواحدي تلميذه» ( 10).
وما رسمه الواحدي في خطبة كتابه من منهج يتتبع الروايات ويمحصها، لم يكن موفقا في كثير منه على حد قول الحافظ ابن حجر( 11)، فقد وقع في أغلاط كثيرة عابها عليه غيره( 12)، إضافة لعدم استيعابه لكثير من روايات أسباب النزول( 13)، كما يعد مؤلفه متضمنا لجملة من الأغلاط المنهجية.
البعض التمس له العذر، بأنه لم يكن من فرسان هذا الميدان ولا من صبيانه، بل كان لغويا ماهرا، ولم يكن محدثا مؤرخا حازما، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها ما ذكره الذهبي عنه أنه كان بارعا في اللغة( 14)، ومنها أيضا خلطه في الرواية بين الصحيحة والسقيمة، وسوء فهمه لسبب النزول، والمطلقية التي تحدث بها وهي أن الآيات القرآنية كلها لها أسباب( 15)، وهي أدلة فعلا تبعده من الريادة في هذا العلم، إلا أن عمله فتح الباب للآخرين ليساهموا في تقويمه وتصحيحه، فوجود شيء خير من لا شيء، وأرض وطئت خير من أرض لم توطأ، و العلماء البارعون قد يقدمون على هذا النوع من الأعمال فيضمنون كتبهم الكثير من الروايات الصحيحة والسقيمة، ويأتوا بالغث والسمين، وتقديرهم أن عملهم سيقرؤه من يفصل بين هذا وذاك.
وإذا كان الواحدي وكتابه المشتهر قد حصد هذا الكم الهائل من النقد، فإن ابن حجر (ت:852هـ) قام بعمل تقويمي له، وعمل على فرز الروايات الصحيحة من الروايات الضعيفة، وذلك في كتابه العجاب في بيان الأسباب، وعمله وإن لم يكتمل إلا أنه من أجود ما دون في هذا الفن، وتبعه السيوطي( 16) بكتابه "لباب النقول في أسباب النزول"، وبذل جهدا عظيما فيه، ثم تلا ذلك جملة من الأعمال مثل كتاب "الصحيح المسند من أسباب النزول" لمقبل بن هادي الوادعي، إلى غير ذلك، وقد جاء الباحث المحقق لكتاب ابن حجر السابق الذكر بلائحة لأسماء الكتب المؤلفة في هذا الفن بلغت عنده ستا وعشرين كتابا( 17).
ثانيا: الانتقادات الموجهة لمنهجية التأليف في أسباب النزول:
وهي تتركز على اتهامين رئيسيين هما:
1. جمع الروايات دون تمحيص وتدقيق
شحنت كتب أسباب النزول والتفسير، بأخبار ضعيفة ووقائع موضوعة، وقصص واهية، وأقوال سقيمة غير لائقة، ولأجل هذا قال الإمام أحمد بن حنبل: «ثلاث علوم لا إسناد لها، وفي لفظ ليس لها أصل: التفسير، والمغازي، والملاحم» ( 18).
قال الخطيب البغدادي( 19): «ولا أعلم في التفسير كتابا مصنفا سلم من علة فيه أو عري من مطعن عليه» ( 20).
وسبب هذا عدم التمحيص للروايات والتدقيق فيها وتمييز الصحيح والسقيم منها، قال ابن خلدون: «وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولاسيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات، إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر، ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد» ( 21).
وبرهان هذا ما ورد في كثير من كتب التفسير من روايات في تفسير قوله تعالى: ﴿ولقد همت به وهم بها لولا أن رءا برهان ربه﴾ وخلاصتها أن هم يوسف بلغ منه أنه تصرف تصرفا مريبا( 22)، وقد أورد بعض المفسرين هذه الروايات وأيدها، وصرف بعض التفسيرات المعارضة لها، ومن ذلك قول البغوي( 23)، بعد أن ذكر الروايات التي ذكرنا مضمونها آنفا: «وهذا قول أكثر المتقدمين ... والقول ما قال متقدموا هذه الأمة، وهم كانوا أعلم بالله من أن يقولوا في الأنبياء من غير علم»( 24).
إلا أن الإمام الرازي( 25) تنبه لهذه الروايات فردها ونقضها، وذب عن براءة يوسف -عليه السلام- من العمل الباطل والهم المحرم( 26).
وأمثال هذه الروايات كثير في كتب التفسير، وأسباب النزول، مثل حديث علي الطويل في تصدقه بخاتمه في الصلاة، فإنه موضوع باتفاق أهل العلم، ومثل ما روي في قوله: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾( 27) أنه علي ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾( 28) أذنك يا علي( 29).
ولهذا أكد علماء القرآن على أن علم أسباب النزول لا طريق لمعرفته إلا النقل الصحيح، يقول السيوطي: «قد تقرر في علوم الحديث أن سبب النزول حكمه حكم الحديث المرفوع، لا يقبل منه إلا الصحيح المتصل الإسناد، لا ضعيف ولا مقطوع» ( 30)، ولا يكتفى بمجرد الرواية والسماع، بل لا بد من اشتراط الصحة؛ ولهذا انتقد ابن حجر(31) على الواحدي قوله: «لا يحل القول في أسباب الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدُّوا في الطلاب»(32)، حيث لم يقيد ذلك بالصحة، وإنما اكتفى بذكر الرواية والسماع، وهذا يعني جمع الروايات دون تمحيص وتدقيق، وهو أمر وقع فيه كثير ممن كتبوا في العلم بمن فيهم الواحدي وابن إسحاق(33)
والواقدي(34) والكلبي، فخلطوا في مروياتهم بين الصحيح والسقيم، بين المتسق مع النص والمتنافر معه، فهناك التناقض الكثير في بعض الروايات، وهناك القصص الخرافي في جانب منه، وهناك الإسرائيليات المطولة التي لا يحتملها النص القرآني.
قال ابن تيمية: «ومعلوم أن في "كتب التفسير" من النقل عن ابن عباس من الكذب شيئا كثيرا من رواية الكلبي عن أبي صالح وغيره، فلا بد من تصحيح النقل لتقوم الحجة فلتراجع "كتب التفسير" التي يحرر فيها النقل، مثل تفسير محمد بن جرير الطبري الذي ينقل فيه كلام السلف بالإسناد، وليعرض عن تفسير مقاتل والكلبي ... » ( 35).
كما حذر الدهلوي( 36) من إفراطهم في ذكرهم تحت كل آية قصة مع أن الكثير منها غير صحيح عند المحدثين وفي إسناده نظر، ودعا إلى الاختصار على الروايات الصحيحة الواردة في كتاب البخاري والترمذي والحاكم فقط( 37).
أما ابن حجر فعمل على تصحيح الروايات بعدما أدرك خلط الأقدمين بين الروايات الصحيحة وغيرها، وآثر أن يسلك طريق التتبع والتوثق من صحتها أو حسنها أو ضعفها، إلا أنه لم يكمل كتابه.
2. عدم تحديد المصطلح تحديدا دقيقا:
إن تحديد مصطلح أسباب النزول له إسهام كبير في فهم الموضوع، ولذلك جنح المتأخرون إلى وضع مصطلح حسب فهمهم لهذا العلم دون ملاحظة كل المعاني التي كان يدل عليها عند الصحابة، ولهذا وقع الخلط في بعض المرويات عندهم، نظرا لاختلاف المفهوم، فأصبح ما لا يوحي بالسبب يسمى سببا، وقد يطلق في هذا المضمار السبب على اللازم والمتعلق، وهو غير السبب، وقد يطلق السبب على ما يعتبر من باب الجري وقبيل الانطباق وليسا من الأسباب( 38).
وهذا راجع إلى أن الصحابة يفهمون السبب بمعناه اللغوي، وهو ما يتوصل به إلى الشيء، وعلى ذلك فكل لفظ يؤدي إلى معنى في الآية فهو مقصود، سواء كان سبب نزول الآية أو كان تفسيرا للآية، أو كان ذكرا لقصة الآية، أو كان تنزيلا للآية على الواقع، ولكن عندما جاء المتأخرون قالوا: سبب النزول هو «ما نزل قرآن بشأنه أيام وقوعه» (39)، وقعوا في مغالطات كلها ناشئة عن عدم مراعاتهم لشمولية مصطلح الصحابة والتابعين المتسع، فطفقوا يبحثون عن الألفاظ الداخلة في مصطلحهم، فما إن يجدوا قول الصحابي: "حدث كذا فأنزل الله كذا"، أو قوله: "نزلت هذه الآية في فلان أو في فلان"، حتى يقولوا: هذا سبب النزول، ويغضون الطرف عن مفهوم قول الصحابي، وهذا جعل بعض العلماء يشير إلى ذلك ويضع ضابطا لذلك( 40).
وهذه النظرة السريعة على مجمل ما وجه من انتقادات تعطينا نتائج، وتقنعنا باقتناعات هامة، أما النتائج فهي:
أولا:أن الأعمال المشيدة في هذا المجال ارتكبت فيها أخطاء رجعت أساسا إلى جملة من الأسباب تركزت على التساهل في نقل الأخبار، وعدم التمييز بين الصحيح منها من السقيم، وعدم وضوح مصطلح أسباب النزول عند المؤلفين، مما جعل كثيرا من المفاهيم تختلط معه.
ثانيا: أن ما قام من جهد تأليفي يرجع للقرون الأولى تعرض للنقد فيما بعد وصحح وقوم، فانتزع الكثير من الروايات الضعيفة من كتب المتأخرين، ونقد الخلط الحاصل في المفهوم، وحدد تحديدا علميا دقيقا.
ثالثا: من خلال القراءة في تراث أسباب النزول لا نلحظ صناعة الأخبار ولا نسج الأكاذيب، ولا مانع من تسرب بعض الأخبار الكاذبة والمختلقة إلى كتب المؤلفين ما دام التساهل طاغيا عليهم، والمفهوم ملتبسا، وهذا ليس من عملهم.
أما الاقتناعات فهي:
الاقتناع الأول: أن تكَوُّن هذا العلم وتشكله كان نتيجة جهد جهيد عمله السابقون في ملاحقة الروايات التي يعتقد أنها تهتم بواقع التنزيل، وترسم حالة الناس في زمنه، وتعطي فكرة عن تنزل بعض الآيات القرآنية التي قد تساعد في فهمها، وهذا الأمر تم وسط ثقافة تعلي من شأن الرواية وتهتم بصحتها ونسبتها، ولا يلتفت إلى ما ذكره بسام الجمل من أن تشكله وتكونه كان نتيجة عامل ثقافي حيث يضيف شارحا ذلك، «أما بخصوص العامل الثقافي: فإنه راجع إلى التغير العميق الذي أصاب الوضع الثقافي بعد انقطاع الوحي المحمدي»( 41)، وفي نظره أن هذا الانقطاع أدى إلى محاولة العلماء عقد صلة بين آيات المصحف وما شاع من أخبار سيرة الرسول –صلى الله عليه وسلم- ومغازيه انطلاقاً من مجالس القصاص والإخباريين، فأعادوا بناء علاقة الرسول –صلى الله عليه وسلم- بالوحي، خاصة لحظة تقبله التنزيل، وهذه العلاقة لا تعكس الأخبار الصحيحة عن الوحي في زمنه، بقدر ما تعكس تمثلهم الخاص له، «وكان للقصاص دور كبير في نشأة هذا العلم نظرا لمنزلتهم الرفيعة في المجتمع خصوصا عند العامة؛ وعلة ذلك رغبة هؤلاء القصاص والإخباريين في عطف قلوب الجمهور الذي يتوجهون إليه على تميز التجربة النبوية، وبدهي أن ينسجم أسلوب خطابهم مع انتظارات المتقبلين، وهم أساسا العامة» ( 42).
وفي الإطار نفسه يتساءل الشرفي، هل كان نزول الآية لهذه المناسبات من قبيل القصص التي نسجها المخيال الجمعي في حرصه على ربط الأحكام الفقهية المجردة بأحداث ملموسة وأشخاص تاريخيين، حسب ما كان يفعله القصاص والوعاظ المدفوعون بوازع تقريب النص المقدس من الأذهان أكثر من احتفائهم بالحقيقة التاريخية كما نفهمها اليوم؟ ( 43).
حقيقة ما أسماه العامل الثقافي لا يصف ثقافة المسلمين، فالفترة التي تحدث عنها كانت مليئة بالعلماء الثقات، وعلمهم موثق من الصحابة والتابعين، والقصاص لهم دور في القصص وليس في نشأة وتكون علم أسباب النزول، فأسباب النزول فيها روايات صحيحة نقلت إلينا من ثقات ودونت فيما بعد في كتب السنن والصحاح، وبعضها الآخر بقي ضمن السير والمغازي فدون معها، وكثير من هذه الأسباب نقل إلينا بواسطة الثقات العدول الضابطين عن الصحابة -رضوان الله عليهم- و أهل السير والمغازي لم يتمثلوا واقع الوحي إلا بما نقلوا عمن شاهدوه، وليس ثمة انقطاع كما يدعي، فكل ادعاءاته تحتاج إلى براهين.
وهو في ادعائه يتصور واقعا غير واقع المسلمين، وبيئة غير بيئتهم، ويمارس في ما يبدو فكرة الإسقاط، فالمسلمون لم يبنوا أيا من علومهم على القصص ونسج الخيال الجمعي، وإنما عرفوا بالرواية والتثبت في النقل.
وما قدمناه من تتبع علماء القرآن للروايات الباطلة، وردهم لها، ودعوتهم لتنقية كتب التفسير منها، لا يدل إلا على حرصهم على الدقة في الرواية والصحة في النقل.
الاقتناع الثاني: أن اهتمام هؤلاء العلماء بهذا الفن كان نتيجة لأهميته البالغة، ودوره الحاسم في تحديد تاريخ النزول، ومن ثم معرفة الناسخ والمنسوخ، ومعرفة المكي والمدني، وحيثيات النزول بأكملها، وهذا الإقناع جعل البحث يتجه إلى أسباب النزول، والعمل على تدوين كل الروايات المنسوبة له، فبقدر معرفة الفقيه لهذه الأسباب بقدر ما تكامل عنده الوعي بالآية، وهذا أمر في غاية الأهمية.
ولا صحة لما ادعاه بسام الجمل والشرفي من أن انتقال الناس من التدين العفوي إلى التدين المعقلن لزم منه الاعتماد على النظر والتفكير، ومن ثم لجأ الفقهاء إلى تسويغ الأحكام وإنشاء التشريعات بما يخدم مصالحهم، وهذا ما سماه العامل الثاني في تكون علم أسباب النزول وهو العامل المعرفي، حيث يقول: «أما العامل المعرفي الذي ساهم في نشأة علم أسباب النزول فيبدو في شكلين هما:
الانتقال من طور التدين العفوي إلى التدين المعقلن، فلازم الثاني النظر، وكان هذا النظر حسب تصوره في شيء اندثر، وهو تاريخ النزول وأسبابه، مما أدى إلى اهتمام العلماء به، والحرص على معرفته.
أما الشكل الثاني: فهو حاجة الفقهاء إلى الترجيح بين الأحكام المتعارضة في النص الديني، فاستندوا من بين ما استندوا عليه النسخ، وهو يحتم معرفة تاريخ النزول وأسبابه»( 44).
و في نظره أن هذا العامل أبرز تصدر رجال دين استأثروا بحق معرفة النص الديني وفهم مراد الله منه، وهم لا يعنيهم سوى اعتباراتهم السياسية والاجتماعية؛ لأنها مقدمة على المقتضيات الدينية(45).
يقول مسترسلا في دعواه: «وتبرز الحاجة أكثر إلى معرفة أسباب النزول في آيات الأحكام عبادات ومعاملات، حتى يتكئ عليها الفقهاء على معيار مرجح يبنونه بواسطة منظومتهم الفقهية، ومن ثم يضعون عليها المشروعية الدينية (46).
ولا شك أن أخبار أسباب النزول تشير -من منظور معين- إلى تلك المساءلات والمشاغل والأوضاع التي تراعي أكثر ما تراعي انتماءات المفسرين الفقهية، ويعكس هذا المنظور أفاقهم الذهنية، ولذلك وظف علم أسباب النزول في توجيه معاني القرآن الكريم، قصد تأكيد صحة فهمهم له، فمهما حاول أهل الفقه والشريعة الاحتجاج على فهم لهذا النص الديني الفذ بقرائن مثل أسباب النزول وغيرها، فإنما كانوا يبحثون في الواقع عن سلطة بها يشرعون لفهم ذلك، ولا أدل على ذلك من توظيفهم لأسباب النزول التي قررت لتركب فهما للآيات، والواقع أن أسباب النزول تأطير بعدي للنص القرآني، ولا يخفى ما في هذه البعدية من عمل للذاكرة الجمعية والضمير الإسلامي( 47)».
الدافع الحقيقي للعلماء القدامى كما وصفهم هو فهم الآيات التي تحتاج إلى أسباب نزول توضحها، و استخلاص الحكم المراد من النص، فهم عباد الله وهو سيدهم ومعاذ الله أن تكون لهم أغراض كما وصفهم، فهم شارحون وموضحون لا مشرعون متألهون، فتلك صفة المحرفين الضالين، ورجال الدين المرتشين.
فعلماؤنا عرفوا بالصدق والأمانة، وبالابتعاد عن مغريات المادة وطغيانها، فهم ليسوا كرجال القانون كما أحب أن يصفهم، فالشريعة ليست وضعا منهم، ولا خطا خطوه بأيمانهم، وإنما هي تشريع من الله، وإسهام هؤلاء بما يمتلكون من قدرات الفهم والتدبر أن يمعنوا التفكير ويخرجوا الحكم بتبيان كيفية تنزيله على الواقع.
وكان الأحرى به أن يعطينا حكما واحدا استند فيه فقيه معتبر لسبب يحقق فيه مصلحة له ذاتية أو جماعية ضيقة، وحين يأتي بالدليل يكون الجواب.
الاقتناع الثالث: أن معرفة أسباب النزول كانت الفيصل في تحصين الفهم للنص القرآني من الغلط والأوهام، والاهتداء إلى التأويل الصحيح، وهذا يقال في التأويل المستند على سبب صحيح رواية ودراية، وإلا فهو كمستنده خاطئ، وليست كما فهم بسام الجمل أن تعدد الإيديولوجيات ساهم في تشكلها، وهو ما يعده العامل الثالث والأخير؛ لأنه تقدم عندنا العامل الثقافي والعامل المعرفي، وأما العامل الإيديولوجي فيتمثل عنده في الصراعات التي وقعت بين المسلمين على السلطة، وافتراقهم إلى فرق متنازعة، «حولت النص الديني إلى وسيلة رد على المخالف، وكان توجيه النص يحتاج إلى مادة من خارجه تسلط عليه بعيدا عن سياقه ومقتضاه ومقصده، فوجد أصحاب الفرق مبتغاهم، فنشأ علم أسباب النزول» ( 48).
أما الهادي الجطلاوي: «فهو يرى أن أسباب النزول -كما لا يخفى- عنصر من عناصر التفسير لا يستأثر به منهج دون آخر، وهو سلاح في غاية الخطورة، يمكن أن ينفخ بالمعنى في جميع الاتجاهات، فكان من أكبر الذرائع التي توسلت بها الفرق لتوجيه الدلالة في خدمة المذهب دفاعا عن النفس، وطعنا في الغير، ولم يكن ذلك يكلف من العناء سوى تهيئة السند الصحيح الموهم بصحة الخبر» ( 49).
الإيديولوجيات وظفت أسباب النزول -وإن كان على نطاق ضيق- لكنها لم تساهم في تشكلها، والأسباب التي وظفت في تغليب الحجة أو الرد على الخصم قليلة مشهورة، والعلماء بينوها، ولا أرى مساهمة لها في هذا الباب، إلا إذا قصد التأويل غير البريء الذي يمارسه أصحاب المذاهب المدينة للهوى والشطط للنص القرآني حتى يتماشى مع أطروحاتهم، وأراد من خلال ذلك القصد أن يسقطه على علماء ربانيين غارقين في الإيمان والخضوع، وهنا بالطبع نقول هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟.
الاقتناع الرابع: أن مادة أسباب النزول ليست مصنوعة ولا مبتكرة، وإنما هي روايات تمتد جذورها لعهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، و قد جمعت من كتب الحديث الصحيحة والسير والمغازي وغير ذلك، ولا يعني هذا أن كل هذه المادة صحيحة معتبرة، بل كثير منها بين النقاد فساده لاعتبارات عدة: منها اعتبار الضعف في الرواية، واعتبار تناقضه مع مقاصد الشريعة، واعتبار آخر وهو عدم موافقته للسياق(50)، وهي اعتبارات أسقطت الكثير من الروايات، وأبقت على القليل المقبول رواية ودراية.
ونخلص إلى أن أسباب النزول علم من علوم القرآن الكريم يعتمد فيه على ما صح من الرواية، وهو موجود في كتبه المستقلة وكتب الصحاح والسنن والسير والتفاسير، وينظر في إسقاطه وإبعاده بنظر الصحة في الرواية وموافقة مقصد القرآن، فما كان كذلك اعتبر من علم أسباب النزول وهو موجود، وما كان على خلاف ذلك اعتبر من الباطل والخرافة، وعليه فإن ما ادعاه بسام الجمل من أن أسباب النزول مختلقة مصنوعة لا دليل عليه سوى بعض التشكيكات المنبعثة من هنا وهناك، مع غياب -كما يعترف بذلك هو نفسه- استدلال واضح المعالم والمسالك، وإن كان اعتذر عن ذلك بأن قضايا علم أسباب النزول لم تكن مطلبهم الرئيس فيما ألفوا(51)، وما أقبحه من عذر، كيف لإنسان أن يتكلم في فن وهو غير مهتم به، ولا طالب له؟!.
والله أجل وأعلم.
الهوامش:
- تاريخ القرآن لمحمد حسين علي الصغير، ص(53).
2 - ينظر العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني (1/203).
3 - جامع البيان في تأويل القرآن للطبري (6/547).
4 - جامع البيان ( 6/547).
5 - أسباب النزول للواحدي، ص (11).
6- هو علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متوية، أبو الحسن الواحدي: مفسر، عالم بالأدب، نعته الذهبي بإمام علماء التأويل. له "البسيط" و "الوسيط" و "الوجيز" كلها في التفسير، توفي سنة: ثمان وستين وأربعمائة.طبقات المفسرين، للسيوطي، ص (78-79)، الأعلام: (4/255).
7 - سورة الأحزاب من الآية (33).
8 - أسباب النزول للواحدي، ص (356).
9 - هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر النميري الحراني الدمشقي الحنبلي، أبو العباس، تقي الدين ابن تيمية: الإمام، شيخ الإسلام. من تصانيفه: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" والفتاوي وغير ذلك. توفي سنة: ثمان وعشرين وسبعمائة. الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، لابن حجر (1/186)، الأعلام للزركلي (1/144).
10- منهاج السنة، لابن تيمية، ص (7/12).
11 - هو أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل، شهاب الدين، ابن حجر: من أئمة العلم والتاريخ. أما تصانيفه فكثيرة جليلة، منها: "فتح الباري على صحيح البخاري" و"الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة" توفي سنة: اثنين وخمسين وثمانمائة. طبقات الحفاظ للسيوطي (1/253-254)، الأعلام: (1/178).
12- العجاب في بيان الأسباب (1/200).
13- نفسه.
14- ذكر ذلك عنه الذهبي حيث وصفه كان من أئمة اللغة العربية تاريخ الإسلام للذهبي (31/259).
15- مباحث في علوم القرآن الدكتور صبحي الصالح، ص: (137).
16- هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري السيوطي، جلال الدين: إمام حافظ مؤرخ أديب، من كتبه "الإتقان في علوم القرآن" و "ترجمان القرآن" وغير ذلك. توفي سنة إحدى عشر وتسعمائة. الأعلام: للزركلي(3/301).
17- العجاب في بيان الأسباب، (1/80-90).
18- منهاج السنة النبوية، لابن تيمية (7/35).
19- هو أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، أبو بكر، المعروف بالخطيب: أحد الحفاظ المؤرخين المقدمين.من كتبه: "الكفاية في علم الرواية"و "البخلاء"، توفي سنة: ثلاث وستين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء، للذهبي (18/270).
20- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (2/163).
21- مقدمة ابن خلدون (10).
22- ينظر جامع البيان (16/35). لباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن (3/274).
23- الحسين بن مسعود بن محمد، الفراء، أو ابن الفراء، أبو محمد، ويلقب بمحيي السنة، البغوي فقيه، محدث، مفسر. نسبته إلى (بغا) من قرى خراسان، بين هراة ومرو. له (لباب التأويل في معالم التنزيل) في التفسير، و (مصابيح السنة) و (الجمع بين الصحيحين) وغير ذلك. توفي بمرو الروذ. سنة: عشر وخمسمائة. سير أعلام النبلاء (19/439).
24- ينظر معالم التنزيل في تفسير القرآن، للبغوي (4/448)، لباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن، (3/274).
25 - هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، أبو عبد الله، فخر الدين الرازي: الإمام المفسر، من تصانيفه "مفاتيح الغيب" في تفسير القرآن الكريم، و"معالم أصول الدين". توفي سنة:ست وستمائة. وفيات الأعيان، لابن خلكان (4/248-249).
26 - ينظر مفتاح الغيب أو التفسير الكبير (18/82). ينظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (9/199).
27 - سورة الرعد من الآية (7).
28 - سورة الحاقة من الآية (11).
29- ينظر مقدمة التفسير، لابن تيمية (2/26).
30 - التحبير في علم التفسير للسيوطي، ص (86).
31 - العجاب ص (200).
32- أسباب النزول للواحدي ص (10).
33- محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء، المدني: من أقدم مؤرخي العرب من أهل المدينة. له "السيرة النبوية" هذبها ابن هشام. و "كتاب الخلفاء" و "كتاب المبدأ"، توفي سنة: واحد وخمسين ومئة. وفيات الأعيان (4/276).
34- هو محمد بن عمر بن واقد السهمي الاسلمي بالولاء، المدني، أبو عبد الله، الواقدي: من أقدم المؤرخين في الإسلام، ومن أشهرهم، ومن حفاظ الحديث. من كتبه "المغازي النبوية" و"فتح إفريقية" وغير ذلك، توفي سنة: سبع ومائتين. وفيات الأعيان (4/348).
35- مجموع الفتاوي، لابن تيمية (13/389).
36- هو أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الدهلوي الهندي، أبو عبد العزيز، الملقب شاه ولي الله: فقيه حنفي من المحدثين. من كتبه "الفوز الكبير في أصول التفسير" ألفه بالفارسية، وترجم بعد وفاته إلى العربية والأردية ونشر بهما، "حجة الله البالغة" وغير ذلك. توفي سنة: تسع وسبعين ومئة وألف. الأعلام: للزركلي، (1/149).
37- الفوز الكبير في أصول التفسير للدهلوي ص (60).
38- ينظر تاريخ القرآن للصغير، ص (53).
39- ينظر مقدمة في أصول التفسير، ص (60) والبرهان في علوم القرآن للزركشي (1/126) والإتقان (1/208).
40- ينظر مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية ص (60) والإتقان (1/208).
41- أسباب النزول علما من علوم القرآن، بسام الجمل، ص (53).
42- نفسه.
43- نفسه، ص (33).
44- أسباب النزول علما من علوم القرآن، ص (58).
45- نفسه.
46- نفسه، ص (59).
47- نفسه، ص (34).
48- أسباب النزول علما من علوم القرآن ص (59).
49- نفسه، ص( 34).
50- ينظر إتقان البرهان في علوم القرآن د. حسن عباس، ص (316).
51- أسباب النزول علما من علوم القرآن، ص (34).
أسباب النزول بين الحقيقة والأسطورة
يعمد المشككون في علم أسباب النزول إلى القول ببطلانه وعدم قوته وصلابته، أمام النقد الموجه إليه، كما يتهمون العلماء بالوقوف وراء تأليفه، وتزويره بأسانيد وروايات منتقاة حتى يصدقها المتلقي، ويرصدون مظاهر عدة لهذه المزاعم، بعضها يتصل بالثقافة السائدة أيام المؤلفين الأوائل لهذا العلم، إضافة إلى أخرى معرفية وايديولوجية، وهم في ذلك يتجاهلون المصداقية التي بنى عليها المسلمون علومهم، وشيدوها بالصدق ومحاربة الكذب والتدليس.
صحيح أن ثمة أخطاء حصلت في مؤلفات هذا الفن ولكنها غير مقصودة، تنم عن تساهل المؤلفين وخلطهم بين مفهوم واسع ساد عند الصحابة، ومفهوم آخر ارتضاه المؤلفون بعدهم، أضف إلى ذلك شغف بعضهم في جمع كل الروايات التي تعزى لهذا الفن، وإن كانت روايات تفسيرية لبعض الصحابة وبعضها اجتهاد منهم، وما تميزت به هذه الروايات من تناقض وتقابل وتباين في رسم المشهد الواحد، على أنه لم يخل مؤلف في هذا الفن من الإشارة إلى الحذر والتحرز تجاه أسباب النزول، وأن لا تؤخذ على علاتها، بل يجب عرضها على القرآن نفسه، فما وافق القرآن أخذ به، وما عارض القرآن طرح( 1).
ولم يقفوا عند هذا الحد وإنما تجاوزوه إلى نقد المرويات وتبيين صحيحها من سقيمها، وتحرير المفهوم من الالتباس، حتى غدا هذا العلم مشيدا على أركان ثابتة وأعمدة راسخة، ولكن من الهام جدا أن نتساءل التساؤلات الآتية:
ما هي المحطات التي قطعها هذا العلم لكي يصبح ناضجا مستقلا؟ وهل التجاوزات المرتكبة في جمعه وتأليفه ترقى إلى حد العمد، ومن ثم يمكن أن تتسلل فكرة الصناعة؟ وهل دعوى الصناعة لها ما يسوغها؟.
أولا: مسار التأليف في أسباب النزول
يرجع علم أسباب النزول إلى فترة تنزل الوحي على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد كان محل اهتمام كبير من قبل الصحابة -رضوان الله عليهم- لكونهم الشاهدين على التنزيل، والعارفين بمواقعه وأحوله، ومن ثم بلغتنا روايات تعزز هذا الجانب، كما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يرشد أحيانا إلى سبب النزول، وبعد انقضاء الوحي بات الصحابة المصدر الوحيد لهذا العلم، وهو ما جعل التابعين وتابعيهم يجدون في طلبه منهم، وحفظه شفاهة حتى جاءت فترة التدوين في القرن الثاني الهجري، فتم تدوينه في معارف مختلفة أبرزها الحديث والتفسير والسير والمغازي، فتوزع عليها، وتعد مدونة الإمام محمد بن جرير الطبري (ت:310هـ) من أضخم المدونات في التفسير، وأكثرها تناولا وشمولا في مجال الرواية لأسباب النزول( 2)، وقد تميز عمله بالرصانة والإتقان، فلم يكن يعرض لكثير من الموضوعات، بل كان ينبه في مواضع كثيرة على وهن الروايات التي تبين ضعفها( 3).
أما عن منهجه في تناول أسباب النزول، فهو يوردها غالبا بعبارات مثل: «الآية نزلت في سبب»، «ونزل في سبب» ( 4)، وبعد هذه المدونة تسللت أخبار النزول إلى كتب التفسير التي بعده، كأحكام القرآن لأبي بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص (370هـ).
واستمر الأمر إلى القرن الخامس الهجري، حيث عرف منعرجا في مسار تاريخ هذا الفن تمثل في استقلاله، بعد ما كان طيلة الفترة الماضية مندرجا في كتب وعلوم شتى، ويعتبر كتاب (أسباب النزول) للواحدي النيسابوري (ت:468هـ) أول تأليف كامل أفرد لهذا العلم، وكان دافعه لهذا العمل هو شيوع وذيوع الأخبار الموضوعة المنسوبة لهذا العلم، والرغبة في تنقيته منها، حتى لا تتزعزع ثقة العلماء فيه، لكونه لا غنى لأحد عنه في فهم آيات الأحكام، وهذا ما أشار إليه بقوله: «وأما اليوم فكل أحد يخترع شيئا ويختلق إفكا وكذبا ملقيا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب الآية، وذلك الذي حدا بي إلى إملاء هذا الكتاب الجامع للأسباب؛ لينتهي إليه طالبوا هذا الشأن والمتكلمون في نزول القرآن، فيعرفوا الصدق ويستغنوا عن التمويه والكذب، ويجدوا في تحفظه بعد السماع والطلب» (5).
وما قام به الواحدي(6) من جهد لم يرتق إلى مستوى الهم الذي حمله على عاتقه، وهو تأسيس علم جديد مستقل بذاته، فصنيعه يدل على عدم قدرته على تجاوز ما كتبه السابقون، فلم يستطع إلا أن يتأثر بهم -وخاصة الثعلبي والطبري- وأن يغرف من معينهم، فأغلب الروايات التي ساقها في كتابه هي موجودة في كتب شتى لأئمة التفسير كالسدي والكلبي ومقاتل و الطبري وغيرهم، وأضاف إلى ذلك مصادر أخرى، مثل كتب الحديث والتاريخ والمغازي.
ومصداق ذلك ما ذكره بإسناد عقيل بن محمد الجرجاني، عن المعافى بن زكريا القاضي، عن محمد بن جرير في سبب نزول قوله تعالى: ﴿ إنما يريد الهك ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا 7) قال: ليس الذين يذهبون إليه، إنما هي أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: وكان عكرمة ينادي بهذا في السوق( 8).
وكان تركيز الواحدي في أغلب رواياته على ما يرويه عن شيخه الثعلبي، وهذا الأخير معروف بروايته للموضوعات، وهو ما جعل كتاب الواحدي مهلهلا وغير مرضي عند علماء الحديث والرواية، ولذا يقول ابن تيمية( 9):«فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعة، كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبي إمامة في فضل تلك السورة، وكأمثال ذلك، و لهذا يقولون هو كحاطب ليل، وهكذا الواحدي تلميذه» ( 10).
وما رسمه الواحدي في خطبة كتابه من منهج يتتبع الروايات ويمحصها، لم يكن موفقا في كثير منه على حد قول الحافظ ابن حجر( 11)، فقد وقع في أغلاط كثيرة عابها عليه غيره( 12)، إضافة لعدم استيعابه لكثير من روايات أسباب النزول( 13)، كما يعد مؤلفه متضمنا لجملة من الأغلاط المنهجية.
البعض التمس له العذر، بأنه لم يكن من فرسان هذا الميدان ولا من صبيانه، بل كان لغويا ماهرا، ولم يكن محدثا مؤرخا حازما، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها ما ذكره الذهبي عنه أنه كان بارعا في اللغة( 14)، ومنها أيضا خلطه في الرواية بين الصحيحة والسقيمة، وسوء فهمه لسبب النزول، والمطلقية التي تحدث بها وهي أن الآيات القرآنية كلها لها أسباب( 15)، وهي أدلة فعلا تبعده من الريادة في هذا العلم، إلا أن عمله فتح الباب للآخرين ليساهموا في تقويمه وتصحيحه، فوجود شيء خير من لا شيء، وأرض وطئت خير من أرض لم توطأ، و العلماء البارعون قد يقدمون على هذا النوع من الأعمال فيضمنون كتبهم الكثير من الروايات الصحيحة والسقيمة، ويأتوا بالغث والسمين، وتقديرهم أن عملهم سيقرؤه من يفصل بين هذا وذاك.
وإذا كان الواحدي وكتابه المشتهر قد حصد هذا الكم الهائل من النقد، فإن ابن حجر (ت:852هـ) قام بعمل تقويمي له، وعمل على فرز الروايات الصحيحة من الروايات الضعيفة، وذلك في كتابه العجاب في بيان الأسباب، وعمله وإن لم يكتمل إلا أنه من أجود ما دون في هذا الفن، وتبعه السيوطي( 16) بكتابه "لباب النقول في أسباب النزول"، وبذل جهدا عظيما فيه، ثم تلا ذلك جملة من الأعمال مثل كتاب "الصحيح المسند من أسباب النزول" لمقبل بن هادي الوادعي، إلى غير ذلك، وقد جاء الباحث المحقق لكتاب ابن حجر السابق الذكر بلائحة لأسماء الكتب المؤلفة في هذا الفن بلغت عنده ستا وعشرين كتابا( 17).
ثانيا: الانتقادات الموجهة لمنهجية التأليف في أسباب النزول:
وهي تتركز على اتهامين رئيسيين هما:
1. جمع الروايات دون تمحيص وتدقيق
شحنت كتب أسباب النزول والتفسير، بأخبار ضعيفة ووقائع موضوعة، وقصص واهية، وأقوال سقيمة غير لائقة، ولأجل هذا قال الإمام أحمد بن حنبل: «ثلاث علوم لا إسناد لها، وفي لفظ ليس لها أصل: التفسير، والمغازي، والملاحم» ( 18).
قال الخطيب البغدادي( 19): «ولا أعلم في التفسير كتابا مصنفا سلم من علة فيه أو عري من مطعن عليه» ( 20).
وسبب هذا عدم التمحيص للروايات والتدقيق فيها وتمييز الصحيح والسقيم منها، قال ابن خلدون: «وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولاسيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات، إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر، ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد» ( 21).
وبرهان هذا ما ورد في كثير من كتب التفسير من روايات في تفسير قوله تعالى: ﴿ولقد همت به وهم بها لولا أن رءا برهان ربه﴾ وخلاصتها أن هم يوسف بلغ منه أنه تصرف تصرفا مريبا( 22)، وقد أورد بعض المفسرين هذه الروايات وأيدها، وصرف بعض التفسيرات المعارضة لها، ومن ذلك قول البغوي( 23)، بعد أن ذكر الروايات التي ذكرنا مضمونها آنفا: «وهذا قول أكثر المتقدمين ... والقول ما قال متقدموا هذه الأمة، وهم كانوا أعلم بالله من أن يقولوا في الأنبياء من غير علم»( 24).
إلا أن الإمام الرازي( 25) تنبه لهذه الروايات فردها ونقضها، وذب عن براءة يوسف -عليه السلام- من العمل الباطل والهم المحرم( 26).
وأمثال هذه الروايات كثير في كتب التفسير، وأسباب النزول، مثل حديث علي الطويل في تصدقه بخاتمه في الصلاة، فإنه موضوع باتفاق أهل العلم، ومثل ما روي في قوله: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾( 27) أنه علي ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾( 28) أذنك يا علي( 29).
ولهذا أكد علماء القرآن على أن علم أسباب النزول لا طريق لمعرفته إلا النقل الصحيح، يقول السيوطي: «قد تقرر في علوم الحديث أن سبب النزول حكمه حكم الحديث المرفوع، لا يقبل منه إلا الصحيح المتصل الإسناد، لا ضعيف ولا مقطوع» ( 30)، ولا يكتفى بمجرد الرواية والسماع، بل لا بد من اشتراط الصحة؛ ولهذا انتقد ابن حجر(31) على الواحدي قوله: «لا يحل القول في أسباب الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدُّوا في الطلاب»(32)، حيث لم يقيد ذلك بالصحة، وإنما اكتفى بذكر الرواية والسماع، وهذا يعني جمع الروايات دون تمحيص وتدقيق، وهو أمر وقع فيه كثير ممن كتبوا في العلم بمن فيهم الواحدي وابن إسحاق(33)
والواقدي(34) والكلبي، فخلطوا في مروياتهم بين الصحيح والسقيم، بين المتسق مع النص والمتنافر معه، فهناك التناقض الكثير في بعض الروايات، وهناك القصص الخرافي في جانب منه، وهناك الإسرائيليات المطولة التي لا يحتملها النص القرآني.
قال ابن تيمية: «ومعلوم أن في "كتب التفسير" من النقل عن ابن عباس من الكذب شيئا كثيرا من رواية الكلبي عن أبي صالح وغيره، فلا بد من تصحيح النقل لتقوم الحجة فلتراجع "كتب التفسير" التي يحرر فيها النقل، مثل تفسير محمد بن جرير الطبري الذي ينقل فيه كلام السلف بالإسناد، وليعرض عن تفسير مقاتل والكلبي ... » ( 35).
كما حذر الدهلوي( 36) من إفراطهم في ذكرهم تحت كل آية قصة مع أن الكثير منها غير صحيح عند المحدثين وفي إسناده نظر، ودعا إلى الاختصار على الروايات الصحيحة الواردة في كتاب البخاري والترمذي والحاكم فقط( 37).
أما ابن حجر فعمل على تصحيح الروايات بعدما أدرك خلط الأقدمين بين الروايات الصحيحة وغيرها، وآثر أن يسلك طريق التتبع والتوثق من صحتها أو حسنها أو ضعفها، إلا أنه لم يكمل كتابه.
2. عدم تحديد المصطلح تحديدا دقيقا:
إن تحديد مصطلح أسباب النزول له إسهام كبير في فهم الموضوع، ولذلك جنح المتأخرون إلى وضع مصطلح حسب فهمهم لهذا العلم دون ملاحظة كل المعاني التي كان يدل عليها عند الصحابة، ولهذا وقع الخلط في بعض المرويات عندهم، نظرا لاختلاف المفهوم، فأصبح ما لا يوحي بالسبب يسمى سببا، وقد يطلق في هذا المضمار السبب على اللازم والمتعلق، وهو غير السبب، وقد يطلق السبب على ما يعتبر من باب الجري وقبيل الانطباق وليسا من الأسباب( 38).
وهذا راجع إلى أن الصحابة يفهمون السبب بمعناه اللغوي، وهو ما يتوصل به إلى الشيء، وعلى ذلك فكل لفظ يؤدي إلى معنى في الآية فهو مقصود، سواء كان سبب نزول الآية أو كان تفسيرا للآية، أو كان ذكرا لقصة الآية، أو كان تنزيلا للآية على الواقع، ولكن عندما جاء المتأخرون قالوا: سبب النزول هو «ما نزل قرآن بشأنه أيام وقوعه» (39)، وقعوا في مغالطات كلها ناشئة عن عدم مراعاتهم لشمولية مصطلح الصحابة والتابعين المتسع، فطفقوا يبحثون عن الألفاظ الداخلة في مصطلحهم، فما إن يجدوا قول الصحابي: "حدث كذا فأنزل الله كذا"، أو قوله: "نزلت هذه الآية في فلان أو في فلان"، حتى يقولوا: هذا سبب النزول، ويغضون الطرف عن مفهوم قول الصحابي، وهذا جعل بعض العلماء يشير إلى ذلك ويضع ضابطا لذلك( 40).
وهذه النظرة السريعة على مجمل ما وجه من انتقادات تعطينا نتائج، وتقنعنا باقتناعات هامة، أما النتائج فهي:
أولا:أن الأعمال المشيدة في هذا المجال ارتكبت فيها أخطاء رجعت أساسا إلى جملة من الأسباب تركزت على التساهل في نقل الأخبار، وعدم التمييز بين الصحيح منها من السقيم، وعدم وضوح مصطلح أسباب النزول عند المؤلفين، مما جعل كثيرا من المفاهيم تختلط معه.
ثانيا: أن ما قام من جهد تأليفي يرجع للقرون الأولى تعرض للنقد فيما بعد وصحح وقوم، فانتزع الكثير من الروايات الضعيفة من كتب المتأخرين، ونقد الخلط الحاصل في المفهوم، وحدد تحديدا علميا دقيقا.
ثالثا: من خلال القراءة في تراث أسباب النزول لا نلحظ صناعة الأخبار ولا نسج الأكاذيب، ولا مانع من تسرب بعض الأخبار الكاذبة والمختلقة إلى كتب المؤلفين ما دام التساهل طاغيا عليهم، والمفهوم ملتبسا، وهذا ليس من عملهم.
أما الاقتناعات فهي:
الاقتناع الأول: أن تكَوُّن هذا العلم وتشكله كان نتيجة جهد جهيد عمله السابقون في ملاحقة الروايات التي يعتقد أنها تهتم بواقع التنزيل، وترسم حالة الناس في زمنه، وتعطي فكرة عن تنزل بعض الآيات القرآنية التي قد تساعد في فهمها، وهذا الأمر تم وسط ثقافة تعلي من شأن الرواية وتهتم بصحتها ونسبتها، ولا يلتفت إلى ما ذكره بسام الجمل من أن تشكله وتكونه كان نتيجة عامل ثقافي حيث يضيف شارحا ذلك، «أما بخصوص العامل الثقافي: فإنه راجع إلى التغير العميق الذي أصاب الوضع الثقافي بعد انقطاع الوحي المحمدي»( 41)، وفي نظره أن هذا الانقطاع أدى إلى محاولة العلماء عقد صلة بين آيات المصحف وما شاع من أخبار سيرة الرسول –صلى الله عليه وسلم- ومغازيه انطلاقاً من مجالس القصاص والإخباريين، فأعادوا بناء علاقة الرسول –صلى الله عليه وسلم- بالوحي، خاصة لحظة تقبله التنزيل، وهذه العلاقة لا تعكس الأخبار الصحيحة عن الوحي في زمنه، بقدر ما تعكس تمثلهم الخاص له، «وكان للقصاص دور كبير في نشأة هذا العلم نظرا لمنزلتهم الرفيعة في المجتمع خصوصا عند العامة؛ وعلة ذلك رغبة هؤلاء القصاص والإخباريين في عطف قلوب الجمهور الذي يتوجهون إليه على تميز التجربة النبوية، وبدهي أن ينسجم أسلوب خطابهم مع انتظارات المتقبلين، وهم أساسا العامة» ( 42).
وفي الإطار نفسه يتساءل الشرفي، هل كان نزول الآية لهذه المناسبات من قبيل القصص التي نسجها المخيال الجمعي في حرصه على ربط الأحكام الفقهية المجردة بأحداث ملموسة وأشخاص تاريخيين، حسب ما كان يفعله القصاص والوعاظ المدفوعون بوازع تقريب النص المقدس من الأذهان أكثر من احتفائهم بالحقيقة التاريخية كما نفهمها اليوم؟ ( 43).
حقيقة ما أسماه العامل الثقافي لا يصف ثقافة المسلمين، فالفترة التي تحدث عنها كانت مليئة بالعلماء الثقات، وعلمهم موثق من الصحابة والتابعين، والقصاص لهم دور في القصص وليس في نشأة وتكون علم أسباب النزول، فأسباب النزول فيها روايات صحيحة نقلت إلينا من ثقات ودونت فيما بعد في كتب السنن والصحاح، وبعضها الآخر بقي ضمن السير والمغازي فدون معها، وكثير من هذه الأسباب نقل إلينا بواسطة الثقات العدول الضابطين عن الصحابة -رضوان الله عليهم- و أهل السير والمغازي لم يتمثلوا واقع الوحي إلا بما نقلوا عمن شاهدوه، وليس ثمة انقطاع كما يدعي، فكل ادعاءاته تحتاج إلى براهين.
وهو في ادعائه يتصور واقعا غير واقع المسلمين، وبيئة غير بيئتهم، ويمارس في ما يبدو فكرة الإسقاط، فالمسلمون لم يبنوا أيا من علومهم على القصص ونسج الخيال الجمعي، وإنما عرفوا بالرواية والتثبت في النقل.
وما قدمناه من تتبع علماء القرآن للروايات الباطلة، وردهم لها، ودعوتهم لتنقية كتب التفسير منها، لا يدل إلا على حرصهم على الدقة في الرواية والصحة في النقل.
الاقتناع الثاني: أن اهتمام هؤلاء العلماء بهذا الفن كان نتيجة لأهميته البالغة، ودوره الحاسم في تحديد تاريخ النزول، ومن ثم معرفة الناسخ والمنسوخ، ومعرفة المكي والمدني، وحيثيات النزول بأكملها، وهذا الإقناع جعل البحث يتجه إلى أسباب النزول، والعمل على تدوين كل الروايات المنسوبة له، فبقدر معرفة الفقيه لهذه الأسباب بقدر ما تكامل عنده الوعي بالآية، وهذا أمر في غاية الأهمية.
ولا صحة لما ادعاه بسام الجمل والشرفي من أن انتقال الناس من التدين العفوي إلى التدين المعقلن لزم منه الاعتماد على النظر والتفكير، ومن ثم لجأ الفقهاء إلى تسويغ الأحكام وإنشاء التشريعات بما يخدم مصالحهم، وهذا ما سماه العامل الثاني في تكون علم أسباب النزول وهو العامل المعرفي، حيث يقول: «أما العامل المعرفي الذي ساهم في نشأة علم أسباب النزول فيبدو في شكلين هما:
الانتقال من طور التدين العفوي إلى التدين المعقلن، فلازم الثاني النظر، وكان هذا النظر حسب تصوره في شيء اندثر، وهو تاريخ النزول وأسبابه، مما أدى إلى اهتمام العلماء به، والحرص على معرفته.
أما الشكل الثاني: فهو حاجة الفقهاء إلى الترجيح بين الأحكام المتعارضة في النص الديني، فاستندوا من بين ما استندوا عليه النسخ، وهو يحتم معرفة تاريخ النزول وأسبابه»( 44).
و في نظره أن هذا العامل أبرز تصدر رجال دين استأثروا بحق معرفة النص الديني وفهم مراد الله منه، وهم لا يعنيهم سوى اعتباراتهم السياسية والاجتماعية؛ لأنها مقدمة على المقتضيات الدينية(45).
يقول مسترسلا في دعواه: «وتبرز الحاجة أكثر إلى معرفة أسباب النزول في آيات الأحكام عبادات ومعاملات، حتى يتكئ عليها الفقهاء على معيار مرجح يبنونه بواسطة منظومتهم الفقهية، ومن ثم يضعون عليها المشروعية الدينية (46).
ولا شك أن أخبار أسباب النزول تشير -من منظور معين- إلى تلك المساءلات والمشاغل والأوضاع التي تراعي أكثر ما تراعي انتماءات المفسرين الفقهية، ويعكس هذا المنظور أفاقهم الذهنية، ولذلك وظف علم أسباب النزول في توجيه معاني القرآن الكريم، قصد تأكيد صحة فهمهم له، فمهما حاول أهل الفقه والشريعة الاحتجاج على فهم لهذا النص الديني الفذ بقرائن مثل أسباب النزول وغيرها، فإنما كانوا يبحثون في الواقع عن سلطة بها يشرعون لفهم ذلك، ولا أدل على ذلك من توظيفهم لأسباب النزول التي قررت لتركب فهما للآيات، والواقع أن أسباب النزول تأطير بعدي للنص القرآني، ولا يخفى ما في هذه البعدية من عمل للذاكرة الجمعية والضمير الإسلامي( 47)».
الدافع الحقيقي للعلماء القدامى كما وصفهم هو فهم الآيات التي تحتاج إلى أسباب نزول توضحها، و استخلاص الحكم المراد من النص، فهم عباد الله وهو سيدهم ومعاذ الله أن تكون لهم أغراض كما وصفهم، فهم شارحون وموضحون لا مشرعون متألهون، فتلك صفة المحرفين الضالين، ورجال الدين المرتشين.
فعلماؤنا عرفوا بالصدق والأمانة، وبالابتعاد عن مغريات المادة وطغيانها، فهم ليسوا كرجال القانون كما أحب أن يصفهم، فالشريعة ليست وضعا منهم، ولا خطا خطوه بأيمانهم، وإنما هي تشريع من الله، وإسهام هؤلاء بما يمتلكون من قدرات الفهم والتدبر أن يمعنوا التفكير ويخرجوا الحكم بتبيان كيفية تنزيله على الواقع.
وكان الأحرى به أن يعطينا حكما واحدا استند فيه فقيه معتبر لسبب يحقق فيه مصلحة له ذاتية أو جماعية ضيقة، وحين يأتي بالدليل يكون الجواب.
الاقتناع الثالث: أن معرفة أسباب النزول كانت الفيصل في تحصين الفهم للنص القرآني من الغلط والأوهام، والاهتداء إلى التأويل الصحيح، وهذا يقال في التأويل المستند على سبب صحيح رواية ودراية، وإلا فهو كمستنده خاطئ، وليست كما فهم بسام الجمل أن تعدد الإيديولوجيات ساهم في تشكلها، وهو ما يعده العامل الثالث والأخير؛ لأنه تقدم عندنا العامل الثقافي والعامل المعرفي، وأما العامل الإيديولوجي فيتمثل عنده في الصراعات التي وقعت بين المسلمين على السلطة، وافتراقهم إلى فرق متنازعة، «حولت النص الديني إلى وسيلة رد على المخالف، وكان توجيه النص يحتاج إلى مادة من خارجه تسلط عليه بعيدا عن سياقه ومقتضاه ومقصده، فوجد أصحاب الفرق مبتغاهم، فنشأ علم أسباب النزول» ( 48).
أما الهادي الجطلاوي: «فهو يرى أن أسباب النزول -كما لا يخفى- عنصر من عناصر التفسير لا يستأثر به منهج دون آخر، وهو سلاح في غاية الخطورة، يمكن أن ينفخ بالمعنى في جميع الاتجاهات، فكان من أكبر الذرائع التي توسلت بها الفرق لتوجيه الدلالة في خدمة المذهب دفاعا عن النفس، وطعنا في الغير، ولم يكن ذلك يكلف من العناء سوى تهيئة السند الصحيح الموهم بصحة الخبر» ( 49).
الإيديولوجيات وظفت أسباب النزول -وإن كان على نطاق ضيق- لكنها لم تساهم في تشكلها، والأسباب التي وظفت في تغليب الحجة أو الرد على الخصم قليلة مشهورة، والعلماء بينوها، ولا أرى مساهمة لها في هذا الباب، إلا إذا قصد التأويل غير البريء الذي يمارسه أصحاب المذاهب المدينة للهوى والشطط للنص القرآني حتى يتماشى مع أطروحاتهم، وأراد من خلال ذلك القصد أن يسقطه على علماء ربانيين غارقين في الإيمان والخضوع، وهنا بالطبع نقول هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟.
الاقتناع الرابع: أن مادة أسباب النزول ليست مصنوعة ولا مبتكرة، وإنما هي روايات تمتد جذورها لعهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، و قد جمعت من كتب الحديث الصحيحة والسير والمغازي وغير ذلك، ولا يعني هذا أن كل هذه المادة صحيحة معتبرة، بل كثير منها بين النقاد فساده لاعتبارات عدة: منها اعتبار الضعف في الرواية، واعتبار تناقضه مع مقاصد الشريعة، واعتبار آخر وهو عدم موافقته للسياق(50)، وهي اعتبارات أسقطت الكثير من الروايات، وأبقت على القليل المقبول رواية ودراية.
ونخلص إلى أن أسباب النزول علم من علوم القرآن الكريم يعتمد فيه على ما صح من الرواية، وهو موجود في كتبه المستقلة وكتب الصحاح والسنن والسير والتفاسير، وينظر في إسقاطه وإبعاده بنظر الصحة في الرواية وموافقة مقصد القرآن، فما كان كذلك اعتبر من علم أسباب النزول وهو موجود، وما كان على خلاف ذلك اعتبر من الباطل والخرافة، وعليه فإن ما ادعاه بسام الجمل من أن أسباب النزول مختلقة مصنوعة لا دليل عليه سوى بعض التشكيكات المنبعثة من هنا وهناك، مع غياب -كما يعترف بذلك هو نفسه- استدلال واضح المعالم والمسالك، وإن كان اعتذر عن ذلك بأن قضايا علم أسباب النزول لم تكن مطلبهم الرئيس فيما ألفوا(51)، وما أقبحه من عذر، كيف لإنسان أن يتكلم في فن وهو غير مهتم به، ولا طالب له؟!.
والله أجل وأعلم.
الهوامش:
- تاريخ القرآن لمحمد حسين علي الصغير، ص(53).
2 - ينظر العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني (1/203).
3 - جامع البيان في تأويل القرآن للطبري (6/547).
4 - جامع البيان ( 6/547).
5 - أسباب النزول للواحدي، ص (11).
6- هو علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متوية، أبو الحسن الواحدي: مفسر، عالم بالأدب، نعته الذهبي بإمام علماء التأويل. له "البسيط" و "الوسيط" و "الوجيز" كلها في التفسير، توفي سنة: ثمان وستين وأربعمائة.طبقات المفسرين، للسيوطي، ص (78-79)، الأعلام: (4/255).
7 - سورة الأحزاب من الآية (33).
8 - أسباب النزول للواحدي، ص (356).
9 - هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر النميري الحراني الدمشقي الحنبلي، أبو العباس، تقي الدين ابن تيمية: الإمام، شيخ الإسلام. من تصانيفه: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" والفتاوي وغير ذلك. توفي سنة: ثمان وعشرين وسبعمائة. الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، لابن حجر (1/186)، الأعلام للزركلي (1/144).
10- منهاج السنة، لابن تيمية، ص (7/12).
11 - هو أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل، شهاب الدين، ابن حجر: من أئمة العلم والتاريخ. أما تصانيفه فكثيرة جليلة، منها: "فتح الباري على صحيح البخاري" و"الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة" توفي سنة: اثنين وخمسين وثمانمائة. طبقات الحفاظ للسيوطي (1/253-254)، الأعلام: (1/178).
12- العجاب في بيان الأسباب (1/200).
13- نفسه.
14- ذكر ذلك عنه الذهبي حيث وصفه كان من أئمة اللغة العربية تاريخ الإسلام للذهبي (31/259).
15- مباحث في علوم القرآن الدكتور صبحي الصالح، ص: (137).
16- هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري السيوطي، جلال الدين: إمام حافظ مؤرخ أديب، من كتبه "الإتقان في علوم القرآن" و "ترجمان القرآن" وغير ذلك. توفي سنة إحدى عشر وتسعمائة. الأعلام: للزركلي(3/301).
17- العجاب في بيان الأسباب، (1/80-90).
18- منهاج السنة النبوية، لابن تيمية (7/35).
19- هو أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، أبو بكر، المعروف بالخطيب: أحد الحفاظ المؤرخين المقدمين.من كتبه: "الكفاية في علم الرواية"و "البخلاء"، توفي سنة: ثلاث وستين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء، للذهبي (18/270).
20- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (2/163).
21- مقدمة ابن خلدون (10).
22- ينظر جامع البيان (16/35). لباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن (3/274).
23- الحسين بن مسعود بن محمد، الفراء، أو ابن الفراء، أبو محمد، ويلقب بمحيي السنة، البغوي فقيه، محدث، مفسر. نسبته إلى (بغا) من قرى خراسان، بين هراة ومرو. له (لباب التأويل في معالم التنزيل) في التفسير، و (مصابيح السنة) و (الجمع بين الصحيحين) وغير ذلك. توفي بمرو الروذ. سنة: عشر وخمسمائة. سير أعلام النبلاء (19/439).
24- ينظر معالم التنزيل في تفسير القرآن، للبغوي (4/448)، لباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن، (3/274).
25 - هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، أبو عبد الله، فخر الدين الرازي: الإمام المفسر، من تصانيفه "مفاتيح الغيب" في تفسير القرآن الكريم، و"معالم أصول الدين". توفي سنة:ست وستمائة. وفيات الأعيان، لابن خلكان (4/248-249).
26 - ينظر مفتاح الغيب أو التفسير الكبير (18/82). ينظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (9/199).
27 - سورة الرعد من الآية (7).
28 - سورة الحاقة من الآية (11).
29- ينظر مقدمة التفسير، لابن تيمية (2/26).
30 - التحبير في علم التفسير للسيوطي، ص (86).
31 - العجاب ص (200).
32- أسباب النزول للواحدي ص (10).
33- محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء، المدني: من أقدم مؤرخي العرب من أهل المدينة. له "السيرة النبوية" هذبها ابن هشام. و "كتاب الخلفاء" و "كتاب المبدأ"، توفي سنة: واحد وخمسين ومئة. وفيات الأعيان (4/276).
34- هو محمد بن عمر بن واقد السهمي الاسلمي بالولاء، المدني، أبو عبد الله، الواقدي: من أقدم المؤرخين في الإسلام، ومن أشهرهم، ومن حفاظ الحديث. من كتبه "المغازي النبوية" و"فتح إفريقية" وغير ذلك، توفي سنة: سبع ومائتين. وفيات الأعيان (4/348).
35- مجموع الفتاوي، لابن تيمية (13/389).
36- هو أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الدهلوي الهندي، أبو عبد العزيز، الملقب شاه ولي الله: فقيه حنفي من المحدثين. من كتبه "الفوز الكبير في أصول التفسير" ألفه بالفارسية، وترجم بعد وفاته إلى العربية والأردية ونشر بهما، "حجة الله البالغة" وغير ذلك. توفي سنة: تسع وسبعين ومئة وألف. الأعلام: للزركلي، (1/149).
37- الفوز الكبير في أصول التفسير للدهلوي ص (60).
38- ينظر تاريخ القرآن للصغير، ص (53).
39- ينظر مقدمة في أصول التفسير، ص (60) والبرهان في علوم القرآن للزركشي (1/126) والإتقان (1/208).
40- ينظر مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية ص (60) والإتقان (1/208).
41- أسباب النزول علما من علوم القرآن، بسام الجمل، ص (53).
42- نفسه.
43- نفسه، ص (33).
44- أسباب النزول علما من علوم القرآن، ص (58).
45- نفسه.
46- نفسه، ص (59).
47- نفسه، ص (34).
48- أسباب النزول علما من علوم القرآن ص (59).
49- نفسه، ص( 34).
50- ينظر إتقان البرهان في علوم القرآن د. حسن عباس، ص (316).
51- أسباب النزول علما من علوم القرآن، ص (34).