عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,331
- مستوى التفاعل
- 138
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
هذه مقالة نقدية للكاتب المغربي الدكتور محمد همام حول كتاب الكاتب التونسي الأستاذ أحميدة النيفر "الإنسان والقرآن وجها لوجه" بعنوان (أزمة المنهج في الدراسات القرآنية الحديثة)، بعث بها لي الأستاذ محمد بن جماعة للاطلاع .
[align=center]أزمة المنهج في الدراسات القرآنية الحديثة
بقلم: د محمد همام[/align]
انطلق الكاتب التونسي احميدة النيفر في كتابه "الإنسان والقرآن وجها لوجه" من مسلمة راسخة وصل إليها المفكرون العرب اليوم، بعد تيه طويل، وهي أن النص القرآني احتفظ بمكانة مرجعية في المنظومة الثقافية العربية رغم طبيعة التحولات التي عرفتها المجتمعات في علاقتها بالمقدس طيلة الفترة الحديثة.(ص14) كما نوه بدخول دراسات قرآنية جديدة إلى الساحة الفكرية من غير المختصين عادة في علم التفسير؛ وهي لأدباء ومهندسين وأطباء واجتماعيين ومتفلسفة ومختصين في علوم التربية واللسانيات... وهم ليسوا بالضرورة من خريجي المعاهد الشرعية أو كليات أصول الدين.
ولكن النيفر انتقد علم التفسير في ذاته، باعتباره علما لا أصل له كما قال احمد بن حنبل ونقله السيوطي في الإتقان. والتفسير بنظر النيفر، وهو يسعى للوصول إلى مدلولات القرآن، يرتكز دائما على نظام فكري ونسق ثقافي؛ أي شبكة من الأفكار والقيم والتصورات والرموز، تمثل المرجع الأساس لهذا العلم، أو ما يمكن تسميته بقاعدة توازنه الداخلي، أو بمعنى آخر، فالتفاسير، بنظر النيفر، كانت توظف خلفية معرفية وشعورية من أجل الإقناع بالعقائد الدينية المصاغة في أسلوب دفاعي تواجه به ما يثار من أسئلة عن دلالات النصوص القرآنية.
والأدهى من ذلك، عند النيفر، أن هذا القاع الفكري التصوري قد سكنته رؤية مثالية تجعل المعاني والقيم مطلقة؛ أي لا تدركها إلا خارج سياق التاريخ بانفصال عن ملابسات الواقع.(ص17). والكشف عن هذه العناصر المعرفية والمفاهيمية والأسلوبية هو ما سعى الكتاب للإجابة عنه بدراسة منهج التفاسير القرآنية.
ومباشرة، ومن فكرة مسبقة راسخة من غير استدلال ولاعرض لمعطيات ودراسة لمنهج هذه التفاسير، يباغتنا السيد النيفر، بحكم قيمة هو نتيجة مضمرة منذ البدء، وهو أن هذه التفاسير، على تنوعها المذهبي، تحولت إلى ضرب من الترديد داخل إطار معرفي قار لتقدم المدلولات القرآنية في محاورها الكبرى على نفس البناء ونفس الرواية وكأنه وقع التوصل بهما إلى معنى كلام الله في صيغة مثلى (ص17-18). فوفق أي منهج توصل النيفر إلى هذا الحكم ؟ وبناء على أية معرفة أو إطلاع؟ لا نظفر بجواب لذلك ! مما يعني أن النيفر دخل موضوعه مستصحبا هو الآخر لمقولات ومسلمات، وحاملا لأحكام مسبقة تعوزها الأدلة، مما يعتبر خللا في المعرفة والمنهج، وهذا ما صاحبه طيلة الكتاب، مما سنقف عليه بعد عرض أفكاره وتصوراته !
فقد عرض مجموعة من التفاسير الحديثة، للالوسي والقنوجي والبيرختي وأطفيش، وهي في مجلدات ضخام، لم يكلف نفسه عناء فتح مقدماتها، مكتفيا في تقييمها بما استله من كتاب الفاضل بن عاشور "التفسير ورجاله" مع ما صاحب ذلك من ثغرات في المعلومات والترتيب التاريخي للأفكار والأشخاص. ومن خلال سرد لأسماء كتب التفسير وأصحابها المذكورين من غير إطلاع ولا بحث، يستنتج أن علم التفسير اليوم قد احترق؛ أي أن الجهود التفسيرية العصرية المكثفة لم تتمكن من تجاوز السمة المنهجية التي طبع بها المفسرون القدامى هذا العلم، برغم ما يجده في التفاسير الأربع المذكورة !! من آثار المعاصرة، في بعض ما يقع تناوله من مسائل، لكن هذه المعاصرة تبقى هامشية.(ص21). فما مفهوم المعاصرة الذي يقصده الباحث، وفي أي تفسير من التفاسير بالضبط وجد ذلك؟ أمور غير محددة لا منهجا ولا معرفة، مما يجعل النيفر، يحوم حول قضايا واستنتاجات يغلب عليها الإسقاط الذاتي، والتوهم الفكري، والهروب من رسم الخط المعرفي والمنهجي الواضح ! إلا أن هذا لا ينقص من كتاب النيفر، من حيث قيمته المنهجية والنقدية؛ فالرجل بذل مجهودا كبيرا في المقارنة والتركيب مما لا تخطئه العين المنصفة. ومن هذه الأحكام والنتائج ينتقل الباحث إلى إثبات فكرة حملها معه إلى بحثه؛ وهي أنه يعسر العثور على الجديد في المستوى المعرفي للتفاسير المعاصرة، طالما لم يحصل جديد في البناء المنهجي الذي يحكم العلاقة بين المفسر والنص.هذا التأسيس المنهجي "التجديدي" يراه النيفر متجسدا في بعض الدراسات الحديثة كما عند أركون مثلا، الذي اعتمد عدة معرفية حديثة لتأسيس منهجية أخرى وقراءة جديدة للنص القرآني (ص23)، تتجاوز القراءة التراثية التي فقدت مشروعيتها في الحاضر؛ قراءة مغلقة للنص القرآني وأحادية ومعتصمة داخل علوم النص أي علوم القرآن ! ومالم يحدد المفسر المعاصر موقفا واضحا من هذا التراث التفسيري فلن يحقق تجديدا منهجيا من قبله، ويلزمه كذلك تحديد عدته المعرفية، وتحديد وظيفته وطبيعة علاقته بالنص القرآني.
من هنا فالهم الإشكالي الذي يطرحه النيفر في كتابه هو: كيف يكون التفسير معاناة للحكمة الإلهية بمشاغل الواقع؟ أو كيف يصبح التفسير هو جدل الوحي مع التاريخ؟
وعليه صنف الكاتب الدراسات التفسيرية إلى أقسام غير مبررة تاريخيا ومعرفيا ومنهجيا: قسم سماه "المدرسة التراثية أو التصور السلفي" ويؤاخذ عليه قوله بقدسية النص القرآني، مصدرا وفهما وأدوات مستعملة لذلك، ومن ثمة قدسية المعرفة والهوية والتاريخ. وقد رسخ هذا المبدأ بنظر النيفر، امتزاج وحدة الكتابة بوحدة القراءة أي توحيد النص القرآني الذي وقع ضبطه وتدوينه في أقل من نصف قرن، مما أعطى الشرعية لمنهجية التفسير القائمة على المجال المغلق للقراءة، ومما رسخ أيضا هذا المبدأ الخصوصية التجميعية للمعرفة في غياب النقد والتقويم، كما نجد مع الزركشي أو السيوطي..
وفي مقابل قدسية النص القرآني يقول النيفر بأطروحة "النص المؤسس"؛ أي يتم استحضاره دوما علامة إجماع ومركز نشاط فكري متجدد؛ فهو في نبرته الأولى غني خصب بقدر من المعاني والاحتمالات التي لا تنضب والتي تجعل المقبل عليه أيا كانت مشاغله واجدا فيه ضالته.
إن مقولة النص المؤسس عند النيفر، تقوم على أن التجديد لا يكون إلا انطلاقا من النص القرآني والمحافظة عليه، وهي محافظة لاتتم إلا بإغنائه عبر اغتناء الجماعة بالوعي العلمي والفكر التاريخي؛ من هنا يصبح النص المؤسس "رأس مال رمزي" يستمد قدسيته ليس من مصدره ومن إغنائه التجربة الإنسانية والثقافية للشعوب المسلمة في الأيام الخوالي فحسب، بل من قدرة الأمة في تطورها أن تبدعه حاضرا ومستقبلا؛ وهذا ما يحفظ للنص راهنيته.(29).
ودعا النيفر إلى التوسع في دلالـــة "قدسية النص"، وفك الحجر المعرفي على النص القرآني، وإنهاء عزلته التي ضربتها حوله "النصوص الثانية"، ودعا إلى إعادة النظر في طبيعة الوحي وشخصية الرسول (ص) (30). وانتقد من جديد، المنهجية التفسيرية التراثية، والتي يلخصها في التقيد في فهم النص بمعانيه كما فهمت زمن نزوله. وعرض لقواعد التفسير كما حددتها هذه المدرسة التي تدور في تلك المسائل العقائدية والفقهية التشريعية. وقارن بين تفاسير الناصري والشنقيطي والصابوني والقطان، فتوصل إلى أنها تفاسير لا تاريخية ولا تعترف بالفواصل المنهجية بين عصر وآخر.
وتاريخية النص يختزلها النيفر في أسباب النزول، مع العلم أن الآيات التي لها أسباب نزول واضحة ومحدودة جدا. ثم إن الدراسة المنهجية المجددة التي يسعى إلى ترسيخها الباحث، تقتضي النظر إلى القرآن نصا متكاملا مرتب بطريقة توقيفية وتتسم بالترابط والاتساق والانسجام بين مكوناته اللغوية والموضوعية. وبرغم رسوخ فكرة الوحي في وعي المسلمين، وأن القرآن وحي من الله إلى الرسول (ص) بواسطة جبريل، إلا أن النيفر وبشكل مختل معرفيا ومنهجيا، يسعى في خجل وتردد واضطراب إلى المشاغبة على هذا الاقتناع الراسخ بالمقارنة بين الوحي في الإسلام والإلهام في المسيحية؛ وعرض إشكالات كلامية هامشية بالنظر إلى طبيعة الموضوع الذي يخوض فيه فتاه في نظرية قدم القرآن وعلاقة أهل السنة والجماعة بالمعتزلة، مما يعتبر من الوجهة المنهجية خللا وكلاما خارج السياق، ومن الوجهة المعرفية انغلاقا تصوريا داخل رؤية تراثية عتيقة وقضايا فكرية وتاريخية متجاوزة. وهذا ما لام عليه من اعتبرهم مفسرين تراثيين أو سلفيين !! كابن عاشور والطباطبائي اللذين استولى، بنظره، المنهج التراثي على كل طاقاتهما وملكاتهما المتحررة؛ فغرقا في الرد على الإسماعيلية والمعتزلة... وانغلقا في دائرة قراءة الماضي.(ص37). فهما لم يطرحا منهج التفسير القديم للنقاش، ولم يستطيعا تجاوز الأجهزة المفهومية التي اعتمدها القدامى في فهم النص القرآني. والأمر نفسه ينطبق على المدرسة التي سماها النيفر "السلفية الإصلاحية" والتي تزعمها فريق المنار، الأفغاني وعبده ورشيد رضا؛ فهم بدورهم لم يراجعوا المنهجية التراثية السلفية فيما يتعلق بطبيعة النص القرآني، وتكريس الخصوصيات المعرفية والثقافية التي ينبغي أن تتركز عليها القراءة الحديثة. ورغم هذا أشاد الكاتب ببعض الفلتات "التحررية" في تفسير الأفغاني، والمتمثلة في قراءته "الجديدة" لبعض القضايا الغيبية في القرآن، ونظرته إلى الربا "المعقول"، والقول بجوازه ما لم يثقل كاهل المقترض !! ورفضه لتعدد الزوجات. ولكن برغم كل هذا لم يستطع الأفغاني، بنظر النيفر، فتح باب تساؤلات عميقة ذات صبغة منهجية ومعرفية.(ص43). وواصل محمد عبده عمل أستاذه من أجل تنقية العمل التفسيري مما علق به من الخرافات والاستطرادات النحوية، والأحاديث الموضوعة، وجدالات المتكلمين، واستنباطات الفقهاء المقلدين، وجاء بتخريجات مثيرة؛ فانكر السحر، ورفض بعض المرويات مما جاء في صحيح البخاري، وتردد في القول ببعض المعجزات وأعطى رأيا خاصا في تفسير صورة الفيل، مع إباحته لأنواع الربا مما لم يرد فيه نص وإقراره بتحرر اجتماعي واسع للمرأة (ص44).
إلا أن النيفر يلاحظ على محمد عبده برغم سعيه لتدشين علاقة "شبه تأسيسية" مع النص القرآني، إلا أنه مثل أستاذه الأفغاني لم يقتحم التجديد المنهجي بأدوات جديدة أو مفاهيم مختلفة عن النص القرآني أو عن المفسر؛ بل بقيت علاقته ذات طابع "نفعي" عاجزة عن التحرر من المذهبية السلفية. أما في مرحلة رشيد رضا فقد عرفت السلفية الإصلاحية ارتدادا وتراجعا عن مكاسب الأفغاني وعبده؛ إذ سد أفق التجديد ! وهذا بنظر النيفر لا يرجع فقط إلى شخص رشيد رضا ولكن إلى بنية معرفية سلفية تعتمد منهجية لا تاريخية ودفاعية وتتمكن باستمرار من استئناف الفعل وإنتاج نفس الفكر طالما لم تعر آلياتها بمنهجية مغايرة ووعي تاريخي فعال(ص47).
وعرج النيفر على تفاسير أخرى؛ مثل تفسير محمد جمال الدين القاسمي، ومحمد مصطفى المراغي، وابن باديس، ومحمد عزة دروزة، وأحمد مصطفى المراغي، ومحمود شلتوت، وعبد الكريم الخطيب. ولم يتحمس إلا لهذا الأخير خصوصا عندما أرجع مجموعة من المفاهيم العبادية الإسلامية إلى المسيحية، وكذا عبد العزيز الثعالبي (ت1944م) الذي حوكم بتهمة الزندقة ! أما بقية التفاسير المذكورة فظلت، بنظره، أسيرة للمنهج السلفي وآلياته؛ فكانت سريعة الاندثار ومسدودة الآفاق (ص54).
لقد هاجم النيفر إذا بقسوة، ما سماه بالتيار السلفي، وتيار السلفية الإصلاحية، واعتبرهم حراسا أوفياء لموروث ثقافي عتيق ينبغي تجاوزه. وإن الباحث المنصف لا يملك إلا أن يقر النيفر على بعض ملاحظاته الموضوعية في حق بعض التفاسير التي أوردها، التراثية أو الحديثة، لما تضربه من أسيجة على النص القرآني حتى ضاع بينها، ولما تمارسه من حجر فكري وتعطيل للإبداع عند المسلمين اليوم، بل ولما تكرسه من مفاهيم غامضة، ولما تبثه من أخبار غير موثقة عن الدين ومسيرته، إلا أن ذلك لا يعني إقرار الكاتب على نزعته التآمرية على علماء التفسير، وإخلاله بمقتضيات الاستدلال الموضوعي، والاستنتاج النزيه، وإغفال ما كان يمثله المفسرون من قوة علمية ونخبة مثقفة وواعية وعيا تاريخيا محترما، وتمتلك أدوات منهجية فعالة لقراءة النص القرآني، وفهمه في ضوء شروط تاريخية، وسياق حضاري، لا يسمح بأكثر من ذلك.
ثم إن كثيرا من المفسرين كانوا في الحقيقة مناضلين بالمعنى المعاصر، ومنخرطين عضويا في هموم المجتمع، عكس المتفلسفة من مقلدي اليونان الذين يمثلون عند النيفر وغيره رمز العقلانية والحداثة، والذين كانوا منقطعين إلى الترف والبذخ في البلاطات والمنتديات "الأروستوقراطية" في انعزال عن الشعب وهموم الناس، ليسوا كلهم بالطبع ! واليوم لا أحد من "الحداثيين" و"العقلانيين" يستطيع أن يتوجه بالنقد إلى إنتاجهم المقلد، من شروح وتلاخيص وحواشي، على الإنتاج الأجنبي. أما المفسرون فقد أبدعوا في قراءة النص القرآني، وصنعوا معارف وصنعوا مناهج، ورسخوا مفاهيم تستجيب لمقتضيات مجالهم التداولي. ثم إنه لم يدع أحد من المفسرين العصمة لإنتاجه ولا بلوغ الكمال في بحثه، بل نسبية المعرفة كانت هاجسهم الأصيل في دراساتهم ! ولم يجعلوا تفاسيرهم عوضا عن القرآن الكريم، ولم يقولوا بنموذجية فهومهم. والوقوف عندما وصلوا إليه من غير إضافة وإبداع أمر ارتبط بانهيار حضاري عام، واستقالة عقل أمة بكامله ! ولا يمكن تحميل المسؤولية للمفسرين الذين فكروا وأبدعوا وأنتجوا بما تسمح به ظروفهم وطاقتهم ! ويمكن الاستفادة منهم اليوم على سبيل الاستئناس والتراكم المعرفي التاريخي. ولكن النيفر لم يكن هذا قصده؛ بل تراه في كتابه يحمل بعنف وتحيز على كل فكر عميق وأصيل، ويتحمس لكل شاذ ودخيل ! وهو الإسلامي التقدمي الذي ساهم في وضع المقدمات النظرية للإسلاميين التقدميين ! وهذا ما سنقف عليه لاحقا.
وصنف النيفر مجموعة من الدراسات القرآنية ضمن ما أسماه "التيار الإيديولوجي"؛ والإيديولوجيا عنده هي العمل التفسيري الذي يوضع للإجابة عن أسئلة مطروحة مسبقا. ويعرض هذا التيار نفسه عبر بناء عقلاني بصفة نقدية.(ص57) ولما كان هذا التيار يعتبر المعنى أمرا ثابتا مطلقا، وهو اختياره المنهجي، فهو يصنف إذن، حسب النيفر، ضمن المدرسة السلفية رغم اختلافات ظاهرية.
كما أن هذا التيار امتداد لنفس المنظومة الثقافية التي اعتبرت النص القرآني نصا مقدسا لاصلة له بنفس الإنسان وأفقه وثقافته. فكأن قدسيته لا تتحقق إلا بغياب طاقات الإنسان ونفي فاعلية واقعة الفكري والاجتماعي عند الكشف عن المعنى.(ص59). وذكر النيفر من بين ممثلي هذا التيار: جوهري طنطاوي (1940ه) الذي اعتبر تفسيره نفخة ربانية وإشارة قدسية وبشارة رمزية.. وابتعد، بنظر النيفر، عن الحقول المعرفية التي اعتنى بها المفسرون القدامى والمتعلقة بالبلاغة والفقه والتصوف. ونحى تفسيره منحى عصريا.. ولكنه يبقى في جوهره غير مختلف عن التفسير السلفي.
أما تفسير سيد قطب، فيرى النيفر، أنه يضفي مواصفات نضالية على المفسر، ويؤكد على خوض تجارب تغيير الواقع. وعليه فالمرجعية السلفية عند سيد قطب ليست مرجعية ثقافية فكرية بل هي مرجعية نضالية حركية.(ص56) من هنا يمكن ملاحظة المكونات الوجدانية والفكرية لسيد قطب في تفسيره. ولكن خطاب سيد قطب، عند النيفر، يبقى مجرد إيديولوجيا مثالية مرتبطة بضغط مفهوم "الهوية المثالية" بدلالاتها اللاتاريخية. وكل هذا يضع فهم النص القرآني خارج الاعتبارات الزمانية والمكانية، ويكسب المفاهيم التي يعتمدها المفسر سمة الإطلاق والمنفذ الوحيد لتحقيق نضاليته الثورية.
وأدرج النيفر، أيضا، الكواكبي ومجاهدي خلق ضمن التيار الإيديولوجي، ولم يخف الكاتب نقده المبطن للكواكبي لما وصف به القرآن من أنه شمس العلوم وكنز الحكم.(ص68) أما مجاهدي خلق فتميز تصورهم برفض كل التفاسير، مع استفادة ملحوظة من تقسيمات سيد قطب.
وختم النيفر حديثه عن التيار الإيديولوجي بنقده لنماذج ثلاثة معاصرة وهي: المهندس محمد شحرور، وحسن حنفي، والمفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد؛ فقد وصف دراساتهم بأنها تتصف بالمراجعة لما هو متفق عليه في التراث التفسيري من نظرة إلى النص القرآني، أو من تحديد لوظيفة المفسر في الفترة المعاصرة، لكنها تتفق على تبني خطاب إيديولوجي يسقط على النص، بنحو من الأنحاء، مفاهيم لا تحتملها بنيته، وتقحم عليه من المعاني مالا يقتضيه سياقه (ص71)؛ فمؤلف محمد شحرور "الكتاب والقرآن"، يمثل نموذج الخطاب الإيديولوجي المتأرجح بين المنهج اللاتاريخي التراثي وبين بداية القراءة العصرية التي تفسر النص عبر وضعيته التاريخية. إلا أن هذه المحاولة لم تستطع، بنظر النيفر، حسم العلاقة مع المنهج التراثي الذي ظل راسخا.
أما حسن حنفي الذي عالج في أطروحته مناهج التفسير، فقد قطع مع النظرة السلفية في تحديد "الوحي"؛ فهو لا يراه وحيا عن الله بل عن الإنسان الباحث عن الحقيقية الإلهية عبر تجربته وصراعه؛ فالوحي ليس نازلا من الله إلى الإنسان بل هو صاعد من الإنسان إلى الله لتلبية نداء الواقع، وللتعبير عن مطامح الأمة أو الجماهير.(ص73). من غير أن يخفى حنفي نزعته الإيديولوجية؛ إذ لا يتردد في القول بضرورة تحويل الدين إلى إيديولوجيا.
أما أبو القاسم حاج حمد، فيراه النيفر، مصرا على الفهم العربي السلفي للقرآن في كتابه "العالمية الإسلامية الثانية"؛ كما أنه يصر على أن القرآن هو مصدر الحقيقة المفتوح على التجربة الوجودية الكونية ! وهو مصدر الحكمة الشاملة التي تنبعث عبر التزكية الإلهية للإنسان. والحاج حمد، بنظر النيفر، لا يؤمن بوجود فهم جديد للقرآن كان غائبا فيما مضى وهو يتبنى بذلك رؤية المدرسة السلفية التي تعتبر أن الفهم الأمثل للنص القرآني قد أتيح للجيل الأول من المسلمين وأن الصيرورة التاريخية لن تزيد شيئا على الفهم الأول للنص. ثم ينخرط الحاج حمد، بنظر النيفر، في خطاب إيديولوجي مغلق النسق، يرفض بموجبه اعتماد منهجية تاريخية في دراسة التراث التفسيري.(ص77).
وخلاصة هذا التيار الإيديولوجي، أنه لم يستطع الخروج عن حدود المدرسة السلفية، ولم يبلغ درجة التطور النوعي، برغم تطور عدتهم المعرفية من خلال الاستنجاد بالاكتشافات العلمية في الطب والفلك والكيمياء والطبيعة، بل اتسعت الاستفادة لتشمل الألسنية وعلم الاجتماع وعلم النفس. ولكن الوثوقية التي ميزت هذا التيار جعلته، برأي النيفر، يؤمن بالمعنى الثابت والنهائي في القرآن، وعلى المفسر أن يتوصل إليه. في حين القراءة التجديدية التي يطمح إليها النيفر، هي التي ترى أن معنى النص يعتمد مجموعة من العلاقات المتفاعلة والمعدلة من فهم النص بصفة دائمة بحسب أفق المفسر وموقعه المعرفي والتصوري؛ أي الجدل بين النص والقارئ وفتح آفاق جديدة لجهود تفسيرية مجددة.(ص77).
وانتقل النيفر إلى ما يعتبره مدرسة حديثة تتبنى سؤال التجديد ! والتي استفادت من الكشوفات العلمية الجديدة لقراءة النص؛ إذ قطعت منهجيا مع أصحاب التراث التفسيري القديم والتيار الإيديولوجي وفكره الوثوقي، المسكون بالهاجس الغربي والرافض لأية مراجعة جذرية وعلمية لمسألة الوحي وطبيعة النص القرآني.(ص79).
ويمثل هذه المدرسة الحديثة ثلاثة رواد هم: أمين الخولي وعائشة عبد الرحمن وأحمد خلف الله. وقد أرسى أمين الخولي بناء هذه المدرسة، منهجيا، على ما أسماه "التفسير البياني للقرآن"، وطرح أسئلة عن وظيفة المفسر ومكانة النص المفسر، ورفض أن يظل التفسير مجرد أداة لاختبارات مذهبية وتوظيفات دعوية مهما كانت أهميتها.
وحدد خصائص منهجه التجديدي في ثلاث خاصيات هي:
أ- الخاصية الموضوعية: أي جمع الآيات المتصلة بموضوع من المواضيع جمعا إحصائيا ودراسة مفرداتها في سياقها وعلاقة الواقع بالمعنى.
ب- الخاصية المعرفية: تهتم بما حول النص من معارف: وهي علوم القرآن.
ج- الخاصية التاريخية اللغوية: أي الاهتمام بالبيئة التي نزل فيها القرآن، مادية أو معنوية...
كما دعا إلى الاستفادة من علمي النفس والاجتماع. ولو أن الخولي لم ينجز تفسيرا وفق منهجه التجديدي فإن رسالته تابعها بعض تلامذته؛ فعائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ، تعاملت مع النص القرآني باعتباره نصا لغويا متكاملا يفسر بعضه بعضا، كما تابعت الخولي في قوله بتاريخية الألفاظ القرآنية ومناسبة التراكيب لها، مما تفتقر إليه المعاجم اللغوية.
أما محمد أحمد خلف الله، فقد ذهب بهذا المنهج التجديدي، بنظر النيفر، إلى أبعد مدى ممكن في وقته؛ من خلال أطروحته عن الفن القصصي في القرآن الكريم سنة 1947م. فخرج بآراء جريئة تعتبر القصة في القرآن ذات بعد تربوي ولم تكن معطيات تاريخية. كما اعتمد على معطيات اجتماعية للقول بوجود قصة أسطورية في القرآن، وهذه القصص هي عبارة عن وسائط فقط لمقاصد أهم.(ص87). وانتقد توجه المفسرين إلى اعتبار هذه القصص وثائق تاريخية، ومن هنا وصل خلف الله إلى القول بنسبية النص القرآني بل وادعى أن الأخبار الواردة في القرآن هي مواعظ وحكم وأمثال تضرب للناس؛ من هنا يصبح من حق العقل البشري أن يهمل صفتها الإخبارية أو يجهلها أو يخالفها أو ينكرها ! (ص88).
هذا التيار التجديدي، أشاد به النيفر كثيرا، وتحمس له واعتبر منهجه في التفاعل اللغوي مع النص القرآني استبعادا للتوظيف الإيديولوجي، هذا التيار الأخير الذي يتجاهل ما للنص القرآني من مضامين وخصوصيات لغوية أدبية وتاريخية ينبغي الإنصات إليها.
وهذا التيار التجديدي الذي قاده خلف الله هو الذي مهد الطريق لقراءات حديثة للقرآن بنفس المنهج ولكن بعدة معرفية أكثر تطورا. وهو ماسماه النيفر بالقراءة التأويلية وفتوحات المعرفة. وقد اغتنى هذا التيار من مكاسب الفكر الغربي، ويمثله محمد أركون ونصر حامد أبوزيد وفضل الرحمان الباكستاني.
فأركون ربط بين الخصوصية اللغوية للنص القرآني وبين مسألة التأويل، كما أنه ينفي المعنى النهائي للنص، ويلح على أن النص ظاهرة ثقافية تقترح لها مناهج للتفكيك والتأويل بالاعتماد على "فتوحات العلم الحديث"، وذلك قصد اكتشاف خصائص التفكير الذي جاء النص القرآني ليؤسسه؛ ذلك أن الوحي، بنظر هذا التيار، في جانب أساسي منه، تعبير عن إنسانية العرب وزمنيتهم، مما يعني أن المتعالي لا يتجلى إلا في التاريخ وأن المقدس لا يظهر إلا عبر الدنيوي، وأن الوحي لا يقرأ إلا بلغة مخصوصة !
إن محمد أركون يرى أن لا تحديث للفكر الإسلامي إلا باعتبار النص القرآني غنيا ومنفتحا على عدة احتمالات؛ أي أنه معروض للفكر الإنساني أن يتأمله ويفكر فيه دون انقطاع. من هنا دعا أركون إلى دراسة النص القرآني والنصوص الثانية، أي الجهد التفسيري القديم، على أساس منهج تفكيكي أو حفري (أركيولوجي)، واستعمال آليات الالسنيات الحديثة وما تطرح على النص من أسئلة تختلف جذريا عما كانت تطرحه اللغويات التقليدية التي استخدمها كبار المفسرين في العصور السابقة، ثم معالجة الخصوصيات الثقافية والمجتمعية باعتماد الأنتروبولوجيا وما تتيحه من تحليل للمنظومات التفسيرية للعالم مثل "الأسطورة". وبتوظيف هذه الآليات التطبيقية يمكن لقارئ النص القرآني تجاوز منطوق الخطاب للبحث عن مضمراته، والكشف عن آليات عمله مما يتيح قراءة مالم يقرأ في النص عبر الوعي بالنظام المعرفي.
إذا مثلنا لتطبيقات أركون التفكيكية، نأخذ سورة الكهف؛ إذ اعتبر قصة الفتية من منطلق انتروبولوجي، بنظره، من قبيل القصص الأسطورية أي القصص التي تعتني بعبقرية التشكيل والتركيب والإبداع، والمقدرة على الإحياء وتقديم العبرة للناس، وليست حقائق تاريخية ! (ص97).
أما نصر حامد أبو زيد فإن قراءته تضع لنفسها هدفا هو التوصل إلى اكتشاف العلاقات العضوية المبثوثة في مختلف مجالات الفكر التراثي العربي الإسلامي. أي الوعي بمنهج التراث والآليات الفكرية لبنيته. وقد استثمر في مشروعه أدوات نظرية تأويل النصوص أو "الهرميونيطيقا"؛ وهي نظرية تهتم بعملية الفهم وآليات شرح النص الديني وتأويله. والتأويل عند نصر حامد أبو زيد هو الحركة الذهنية لإدراك الظواهر وهي عملية إستنتاجية بصرف الآية إلى ما تحمله من المعاني الموافقة لما قبلها وما بعدها. ويشدد أبو زيد على الارتباط بين النص القرآني والواقع التاريخي، ويرفض مقولة اعتبار القرآن مصدرا للمعرفة التامة بتجاهل علاقته مع الزمان والمكان.
إن النص عند حامد أبو زيد له كينونته والقارئ له أفق، وعليه أن يعمل لجذب النص إلى أفقه من خلال المعرفة. وفهم الواقع وإدراك حركيته والتأويل عند نصر حامد هو الوجه الآخر للنص، وهو يمثل آلية من آليات إنتاج المعرفة. ولا يمكن اعتبار النص صالحا لكل زمان ومكان إلا إذا كان منتجا ثقافيا، ترجع إليه النصوص الأخرى فتجدد به مشروعيتها.
أما الباحث الباكستاني فضل الرحمن (1919-1988م) فقد ذهب في منهجه التجديدي إلى مستوى بعيد جدا فاعتبر القرآن كلام الله وكلام الرسول، وألح هو أيضا على المنهج التاريخي في فهم القرآن لأحداث تغيير في البناء الثقافي الإسلامي.
هذا المنهج التاريخي يتحرك على محورين:
الأول: فهم النص في الزمان القرآني الذي شهد نزوله.
الثاني: رصد "كليات القرآن" المكونة للوحدة الأساسية له والتي تجعل له موقفا محددا من الحياة ونظرة للعالم. ثم العودة إلى الزمن الراهن للتزود بما يتيح صياغة تعاليم القرآن ومنطقه بشكل حي وفعال.
وختم النيفر كتابه بفصل عنونه ب "نحو اكتمال النص" عقد فيه مقارنة منهجية ومعرفية بين ما يسميه التيار الإيديولوجي والتيار التأويلي، متحمسا لهذا الأخير الذي يؤكد، بنظره، على تاريخية المنهج في مقابل "الموضوعية المطلقة" لفهم النص عند التيار الأول. كما أن تيار التأويل لا يقول بالمعنى الثابت، بل يعتبر الأزمة "أزمة معنى"، وهذا ارتباط وثيق، بنظره، بمسألة الإيمان والتدين في العالم الإسلامي؛ ذلك أن منهجية إخضاع النص القرآني لغاية استخراج التقنينات الفقهية والعقدية يفضي إلى انحسار علاقة المؤمن مع النص في حدود المجال التوظيفي فحسب؛ مما يولد ذهنية توظيفية للنص وإنتاج إيمان قصير المدى، لا يرى في تعامله مع القرآن إلا الجانب النفعي الخارجي، إيمان هذه الذهنية يقوم على الاطمئنان والترديد، في تجاوز سافر لحيرة المؤمن وتساؤلاته وتوقه إلى الارتقاء الروحي. أما المنهجية النقدية التاريخية فتعيد للوحي حيوية لغته ورموزه وطاقته الروحية والفكرية، مكرسة إيمانا يعتمد على يقين متسائل ومعتز برحابة رسالة القرآن.(ص108).
المصدر: موقع سوس درعة (موقع مغربي)
[align=center]أزمة المنهج في الدراسات القرآنية الحديثة
بقلم: د محمد همام[/align]
انطلق الكاتب التونسي احميدة النيفر في كتابه "الإنسان والقرآن وجها لوجه" من مسلمة راسخة وصل إليها المفكرون العرب اليوم، بعد تيه طويل، وهي أن النص القرآني احتفظ بمكانة مرجعية في المنظومة الثقافية العربية رغم طبيعة التحولات التي عرفتها المجتمعات في علاقتها بالمقدس طيلة الفترة الحديثة.(ص14) كما نوه بدخول دراسات قرآنية جديدة إلى الساحة الفكرية من غير المختصين عادة في علم التفسير؛ وهي لأدباء ومهندسين وأطباء واجتماعيين ومتفلسفة ومختصين في علوم التربية واللسانيات... وهم ليسوا بالضرورة من خريجي المعاهد الشرعية أو كليات أصول الدين.
ولكن النيفر انتقد علم التفسير في ذاته، باعتباره علما لا أصل له كما قال احمد بن حنبل ونقله السيوطي في الإتقان. والتفسير بنظر النيفر، وهو يسعى للوصول إلى مدلولات القرآن، يرتكز دائما على نظام فكري ونسق ثقافي؛ أي شبكة من الأفكار والقيم والتصورات والرموز، تمثل المرجع الأساس لهذا العلم، أو ما يمكن تسميته بقاعدة توازنه الداخلي، أو بمعنى آخر، فالتفاسير، بنظر النيفر، كانت توظف خلفية معرفية وشعورية من أجل الإقناع بالعقائد الدينية المصاغة في أسلوب دفاعي تواجه به ما يثار من أسئلة عن دلالات النصوص القرآنية.
والأدهى من ذلك، عند النيفر، أن هذا القاع الفكري التصوري قد سكنته رؤية مثالية تجعل المعاني والقيم مطلقة؛ أي لا تدركها إلا خارج سياق التاريخ بانفصال عن ملابسات الواقع.(ص17). والكشف عن هذه العناصر المعرفية والمفاهيمية والأسلوبية هو ما سعى الكتاب للإجابة عنه بدراسة منهج التفاسير القرآنية.
ومباشرة، ومن فكرة مسبقة راسخة من غير استدلال ولاعرض لمعطيات ودراسة لمنهج هذه التفاسير، يباغتنا السيد النيفر، بحكم قيمة هو نتيجة مضمرة منذ البدء، وهو أن هذه التفاسير، على تنوعها المذهبي، تحولت إلى ضرب من الترديد داخل إطار معرفي قار لتقدم المدلولات القرآنية في محاورها الكبرى على نفس البناء ونفس الرواية وكأنه وقع التوصل بهما إلى معنى كلام الله في صيغة مثلى (ص17-18). فوفق أي منهج توصل النيفر إلى هذا الحكم ؟ وبناء على أية معرفة أو إطلاع؟ لا نظفر بجواب لذلك ! مما يعني أن النيفر دخل موضوعه مستصحبا هو الآخر لمقولات ومسلمات، وحاملا لأحكام مسبقة تعوزها الأدلة، مما يعتبر خللا في المعرفة والمنهج، وهذا ما صاحبه طيلة الكتاب، مما سنقف عليه بعد عرض أفكاره وتصوراته !
فقد عرض مجموعة من التفاسير الحديثة، للالوسي والقنوجي والبيرختي وأطفيش، وهي في مجلدات ضخام، لم يكلف نفسه عناء فتح مقدماتها، مكتفيا في تقييمها بما استله من كتاب الفاضل بن عاشور "التفسير ورجاله" مع ما صاحب ذلك من ثغرات في المعلومات والترتيب التاريخي للأفكار والأشخاص. ومن خلال سرد لأسماء كتب التفسير وأصحابها المذكورين من غير إطلاع ولا بحث، يستنتج أن علم التفسير اليوم قد احترق؛ أي أن الجهود التفسيرية العصرية المكثفة لم تتمكن من تجاوز السمة المنهجية التي طبع بها المفسرون القدامى هذا العلم، برغم ما يجده في التفاسير الأربع المذكورة !! من آثار المعاصرة، في بعض ما يقع تناوله من مسائل، لكن هذه المعاصرة تبقى هامشية.(ص21). فما مفهوم المعاصرة الذي يقصده الباحث، وفي أي تفسير من التفاسير بالضبط وجد ذلك؟ أمور غير محددة لا منهجا ولا معرفة، مما يجعل النيفر، يحوم حول قضايا واستنتاجات يغلب عليها الإسقاط الذاتي، والتوهم الفكري، والهروب من رسم الخط المعرفي والمنهجي الواضح ! إلا أن هذا لا ينقص من كتاب النيفر، من حيث قيمته المنهجية والنقدية؛ فالرجل بذل مجهودا كبيرا في المقارنة والتركيب مما لا تخطئه العين المنصفة. ومن هذه الأحكام والنتائج ينتقل الباحث إلى إثبات فكرة حملها معه إلى بحثه؛ وهي أنه يعسر العثور على الجديد في المستوى المعرفي للتفاسير المعاصرة، طالما لم يحصل جديد في البناء المنهجي الذي يحكم العلاقة بين المفسر والنص.هذا التأسيس المنهجي "التجديدي" يراه النيفر متجسدا في بعض الدراسات الحديثة كما عند أركون مثلا، الذي اعتمد عدة معرفية حديثة لتأسيس منهجية أخرى وقراءة جديدة للنص القرآني (ص23)، تتجاوز القراءة التراثية التي فقدت مشروعيتها في الحاضر؛ قراءة مغلقة للنص القرآني وأحادية ومعتصمة داخل علوم النص أي علوم القرآن ! ومالم يحدد المفسر المعاصر موقفا واضحا من هذا التراث التفسيري فلن يحقق تجديدا منهجيا من قبله، ويلزمه كذلك تحديد عدته المعرفية، وتحديد وظيفته وطبيعة علاقته بالنص القرآني.
من هنا فالهم الإشكالي الذي يطرحه النيفر في كتابه هو: كيف يكون التفسير معاناة للحكمة الإلهية بمشاغل الواقع؟ أو كيف يصبح التفسير هو جدل الوحي مع التاريخ؟
وعليه صنف الكاتب الدراسات التفسيرية إلى أقسام غير مبررة تاريخيا ومعرفيا ومنهجيا: قسم سماه "المدرسة التراثية أو التصور السلفي" ويؤاخذ عليه قوله بقدسية النص القرآني، مصدرا وفهما وأدوات مستعملة لذلك، ومن ثمة قدسية المعرفة والهوية والتاريخ. وقد رسخ هذا المبدأ بنظر النيفر، امتزاج وحدة الكتابة بوحدة القراءة أي توحيد النص القرآني الذي وقع ضبطه وتدوينه في أقل من نصف قرن، مما أعطى الشرعية لمنهجية التفسير القائمة على المجال المغلق للقراءة، ومما رسخ أيضا هذا المبدأ الخصوصية التجميعية للمعرفة في غياب النقد والتقويم، كما نجد مع الزركشي أو السيوطي..
وفي مقابل قدسية النص القرآني يقول النيفر بأطروحة "النص المؤسس"؛ أي يتم استحضاره دوما علامة إجماع ومركز نشاط فكري متجدد؛ فهو في نبرته الأولى غني خصب بقدر من المعاني والاحتمالات التي لا تنضب والتي تجعل المقبل عليه أيا كانت مشاغله واجدا فيه ضالته.
إن مقولة النص المؤسس عند النيفر، تقوم على أن التجديد لا يكون إلا انطلاقا من النص القرآني والمحافظة عليه، وهي محافظة لاتتم إلا بإغنائه عبر اغتناء الجماعة بالوعي العلمي والفكر التاريخي؛ من هنا يصبح النص المؤسس "رأس مال رمزي" يستمد قدسيته ليس من مصدره ومن إغنائه التجربة الإنسانية والثقافية للشعوب المسلمة في الأيام الخوالي فحسب، بل من قدرة الأمة في تطورها أن تبدعه حاضرا ومستقبلا؛ وهذا ما يحفظ للنص راهنيته.(29).
ودعا النيفر إلى التوسع في دلالـــة "قدسية النص"، وفك الحجر المعرفي على النص القرآني، وإنهاء عزلته التي ضربتها حوله "النصوص الثانية"، ودعا إلى إعادة النظر في طبيعة الوحي وشخصية الرسول (ص) (30). وانتقد من جديد، المنهجية التفسيرية التراثية، والتي يلخصها في التقيد في فهم النص بمعانيه كما فهمت زمن نزوله. وعرض لقواعد التفسير كما حددتها هذه المدرسة التي تدور في تلك المسائل العقائدية والفقهية التشريعية. وقارن بين تفاسير الناصري والشنقيطي والصابوني والقطان، فتوصل إلى أنها تفاسير لا تاريخية ولا تعترف بالفواصل المنهجية بين عصر وآخر.
وتاريخية النص يختزلها النيفر في أسباب النزول، مع العلم أن الآيات التي لها أسباب نزول واضحة ومحدودة جدا. ثم إن الدراسة المنهجية المجددة التي يسعى إلى ترسيخها الباحث، تقتضي النظر إلى القرآن نصا متكاملا مرتب بطريقة توقيفية وتتسم بالترابط والاتساق والانسجام بين مكوناته اللغوية والموضوعية. وبرغم رسوخ فكرة الوحي في وعي المسلمين، وأن القرآن وحي من الله إلى الرسول (ص) بواسطة جبريل، إلا أن النيفر وبشكل مختل معرفيا ومنهجيا، يسعى في خجل وتردد واضطراب إلى المشاغبة على هذا الاقتناع الراسخ بالمقارنة بين الوحي في الإسلام والإلهام في المسيحية؛ وعرض إشكالات كلامية هامشية بالنظر إلى طبيعة الموضوع الذي يخوض فيه فتاه في نظرية قدم القرآن وعلاقة أهل السنة والجماعة بالمعتزلة، مما يعتبر من الوجهة المنهجية خللا وكلاما خارج السياق، ومن الوجهة المعرفية انغلاقا تصوريا داخل رؤية تراثية عتيقة وقضايا فكرية وتاريخية متجاوزة. وهذا ما لام عليه من اعتبرهم مفسرين تراثيين أو سلفيين !! كابن عاشور والطباطبائي اللذين استولى، بنظره، المنهج التراثي على كل طاقاتهما وملكاتهما المتحررة؛ فغرقا في الرد على الإسماعيلية والمعتزلة... وانغلقا في دائرة قراءة الماضي.(ص37). فهما لم يطرحا منهج التفسير القديم للنقاش، ولم يستطيعا تجاوز الأجهزة المفهومية التي اعتمدها القدامى في فهم النص القرآني. والأمر نفسه ينطبق على المدرسة التي سماها النيفر "السلفية الإصلاحية" والتي تزعمها فريق المنار، الأفغاني وعبده ورشيد رضا؛ فهم بدورهم لم يراجعوا المنهجية التراثية السلفية فيما يتعلق بطبيعة النص القرآني، وتكريس الخصوصيات المعرفية والثقافية التي ينبغي أن تتركز عليها القراءة الحديثة. ورغم هذا أشاد الكاتب ببعض الفلتات "التحررية" في تفسير الأفغاني، والمتمثلة في قراءته "الجديدة" لبعض القضايا الغيبية في القرآن، ونظرته إلى الربا "المعقول"، والقول بجوازه ما لم يثقل كاهل المقترض !! ورفضه لتعدد الزوجات. ولكن برغم كل هذا لم يستطع الأفغاني، بنظر النيفر، فتح باب تساؤلات عميقة ذات صبغة منهجية ومعرفية.(ص43). وواصل محمد عبده عمل أستاذه من أجل تنقية العمل التفسيري مما علق به من الخرافات والاستطرادات النحوية، والأحاديث الموضوعة، وجدالات المتكلمين، واستنباطات الفقهاء المقلدين، وجاء بتخريجات مثيرة؛ فانكر السحر، ورفض بعض المرويات مما جاء في صحيح البخاري، وتردد في القول ببعض المعجزات وأعطى رأيا خاصا في تفسير صورة الفيل، مع إباحته لأنواع الربا مما لم يرد فيه نص وإقراره بتحرر اجتماعي واسع للمرأة (ص44).
إلا أن النيفر يلاحظ على محمد عبده برغم سعيه لتدشين علاقة "شبه تأسيسية" مع النص القرآني، إلا أنه مثل أستاذه الأفغاني لم يقتحم التجديد المنهجي بأدوات جديدة أو مفاهيم مختلفة عن النص القرآني أو عن المفسر؛ بل بقيت علاقته ذات طابع "نفعي" عاجزة عن التحرر من المذهبية السلفية. أما في مرحلة رشيد رضا فقد عرفت السلفية الإصلاحية ارتدادا وتراجعا عن مكاسب الأفغاني وعبده؛ إذ سد أفق التجديد ! وهذا بنظر النيفر لا يرجع فقط إلى شخص رشيد رضا ولكن إلى بنية معرفية سلفية تعتمد منهجية لا تاريخية ودفاعية وتتمكن باستمرار من استئناف الفعل وإنتاج نفس الفكر طالما لم تعر آلياتها بمنهجية مغايرة ووعي تاريخي فعال(ص47).
وعرج النيفر على تفاسير أخرى؛ مثل تفسير محمد جمال الدين القاسمي، ومحمد مصطفى المراغي، وابن باديس، ومحمد عزة دروزة، وأحمد مصطفى المراغي، ومحمود شلتوت، وعبد الكريم الخطيب. ولم يتحمس إلا لهذا الأخير خصوصا عندما أرجع مجموعة من المفاهيم العبادية الإسلامية إلى المسيحية، وكذا عبد العزيز الثعالبي (ت1944م) الذي حوكم بتهمة الزندقة ! أما بقية التفاسير المذكورة فظلت، بنظره، أسيرة للمنهج السلفي وآلياته؛ فكانت سريعة الاندثار ومسدودة الآفاق (ص54).
لقد هاجم النيفر إذا بقسوة، ما سماه بالتيار السلفي، وتيار السلفية الإصلاحية، واعتبرهم حراسا أوفياء لموروث ثقافي عتيق ينبغي تجاوزه. وإن الباحث المنصف لا يملك إلا أن يقر النيفر على بعض ملاحظاته الموضوعية في حق بعض التفاسير التي أوردها، التراثية أو الحديثة، لما تضربه من أسيجة على النص القرآني حتى ضاع بينها، ولما تمارسه من حجر فكري وتعطيل للإبداع عند المسلمين اليوم، بل ولما تكرسه من مفاهيم غامضة، ولما تبثه من أخبار غير موثقة عن الدين ومسيرته، إلا أن ذلك لا يعني إقرار الكاتب على نزعته التآمرية على علماء التفسير، وإخلاله بمقتضيات الاستدلال الموضوعي، والاستنتاج النزيه، وإغفال ما كان يمثله المفسرون من قوة علمية ونخبة مثقفة وواعية وعيا تاريخيا محترما، وتمتلك أدوات منهجية فعالة لقراءة النص القرآني، وفهمه في ضوء شروط تاريخية، وسياق حضاري، لا يسمح بأكثر من ذلك.
ثم إن كثيرا من المفسرين كانوا في الحقيقة مناضلين بالمعنى المعاصر، ومنخرطين عضويا في هموم المجتمع، عكس المتفلسفة من مقلدي اليونان الذين يمثلون عند النيفر وغيره رمز العقلانية والحداثة، والذين كانوا منقطعين إلى الترف والبذخ في البلاطات والمنتديات "الأروستوقراطية" في انعزال عن الشعب وهموم الناس، ليسوا كلهم بالطبع ! واليوم لا أحد من "الحداثيين" و"العقلانيين" يستطيع أن يتوجه بالنقد إلى إنتاجهم المقلد، من شروح وتلاخيص وحواشي، على الإنتاج الأجنبي. أما المفسرون فقد أبدعوا في قراءة النص القرآني، وصنعوا معارف وصنعوا مناهج، ورسخوا مفاهيم تستجيب لمقتضيات مجالهم التداولي. ثم إنه لم يدع أحد من المفسرين العصمة لإنتاجه ولا بلوغ الكمال في بحثه، بل نسبية المعرفة كانت هاجسهم الأصيل في دراساتهم ! ولم يجعلوا تفاسيرهم عوضا عن القرآن الكريم، ولم يقولوا بنموذجية فهومهم. والوقوف عندما وصلوا إليه من غير إضافة وإبداع أمر ارتبط بانهيار حضاري عام، واستقالة عقل أمة بكامله ! ولا يمكن تحميل المسؤولية للمفسرين الذين فكروا وأبدعوا وأنتجوا بما تسمح به ظروفهم وطاقتهم ! ويمكن الاستفادة منهم اليوم على سبيل الاستئناس والتراكم المعرفي التاريخي. ولكن النيفر لم يكن هذا قصده؛ بل تراه في كتابه يحمل بعنف وتحيز على كل فكر عميق وأصيل، ويتحمس لكل شاذ ودخيل ! وهو الإسلامي التقدمي الذي ساهم في وضع المقدمات النظرية للإسلاميين التقدميين ! وهذا ما سنقف عليه لاحقا.
وصنف النيفر مجموعة من الدراسات القرآنية ضمن ما أسماه "التيار الإيديولوجي"؛ والإيديولوجيا عنده هي العمل التفسيري الذي يوضع للإجابة عن أسئلة مطروحة مسبقا. ويعرض هذا التيار نفسه عبر بناء عقلاني بصفة نقدية.(ص57) ولما كان هذا التيار يعتبر المعنى أمرا ثابتا مطلقا، وهو اختياره المنهجي، فهو يصنف إذن، حسب النيفر، ضمن المدرسة السلفية رغم اختلافات ظاهرية.
كما أن هذا التيار امتداد لنفس المنظومة الثقافية التي اعتبرت النص القرآني نصا مقدسا لاصلة له بنفس الإنسان وأفقه وثقافته. فكأن قدسيته لا تتحقق إلا بغياب طاقات الإنسان ونفي فاعلية واقعة الفكري والاجتماعي عند الكشف عن المعنى.(ص59). وذكر النيفر من بين ممثلي هذا التيار: جوهري طنطاوي (1940ه) الذي اعتبر تفسيره نفخة ربانية وإشارة قدسية وبشارة رمزية.. وابتعد، بنظر النيفر، عن الحقول المعرفية التي اعتنى بها المفسرون القدامى والمتعلقة بالبلاغة والفقه والتصوف. ونحى تفسيره منحى عصريا.. ولكنه يبقى في جوهره غير مختلف عن التفسير السلفي.
أما تفسير سيد قطب، فيرى النيفر، أنه يضفي مواصفات نضالية على المفسر، ويؤكد على خوض تجارب تغيير الواقع. وعليه فالمرجعية السلفية عند سيد قطب ليست مرجعية ثقافية فكرية بل هي مرجعية نضالية حركية.(ص56) من هنا يمكن ملاحظة المكونات الوجدانية والفكرية لسيد قطب في تفسيره. ولكن خطاب سيد قطب، عند النيفر، يبقى مجرد إيديولوجيا مثالية مرتبطة بضغط مفهوم "الهوية المثالية" بدلالاتها اللاتاريخية. وكل هذا يضع فهم النص القرآني خارج الاعتبارات الزمانية والمكانية، ويكسب المفاهيم التي يعتمدها المفسر سمة الإطلاق والمنفذ الوحيد لتحقيق نضاليته الثورية.
وأدرج النيفر، أيضا، الكواكبي ومجاهدي خلق ضمن التيار الإيديولوجي، ولم يخف الكاتب نقده المبطن للكواكبي لما وصف به القرآن من أنه شمس العلوم وكنز الحكم.(ص68) أما مجاهدي خلق فتميز تصورهم برفض كل التفاسير، مع استفادة ملحوظة من تقسيمات سيد قطب.
وختم النيفر حديثه عن التيار الإيديولوجي بنقده لنماذج ثلاثة معاصرة وهي: المهندس محمد شحرور، وحسن حنفي، والمفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد؛ فقد وصف دراساتهم بأنها تتصف بالمراجعة لما هو متفق عليه في التراث التفسيري من نظرة إلى النص القرآني، أو من تحديد لوظيفة المفسر في الفترة المعاصرة، لكنها تتفق على تبني خطاب إيديولوجي يسقط على النص، بنحو من الأنحاء، مفاهيم لا تحتملها بنيته، وتقحم عليه من المعاني مالا يقتضيه سياقه (ص71)؛ فمؤلف محمد شحرور "الكتاب والقرآن"، يمثل نموذج الخطاب الإيديولوجي المتأرجح بين المنهج اللاتاريخي التراثي وبين بداية القراءة العصرية التي تفسر النص عبر وضعيته التاريخية. إلا أن هذه المحاولة لم تستطع، بنظر النيفر، حسم العلاقة مع المنهج التراثي الذي ظل راسخا.
أما حسن حنفي الذي عالج في أطروحته مناهج التفسير، فقد قطع مع النظرة السلفية في تحديد "الوحي"؛ فهو لا يراه وحيا عن الله بل عن الإنسان الباحث عن الحقيقية الإلهية عبر تجربته وصراعه؛ فالوحي ليس نازلا من الله إلى الإنسان بل هو صاعد من الإنسان إلى الله لتلبية نداء الواقع، وللتعبير عن مطامح الأمة أو الجماهير.(ص73). من غير أن يخفى حنفي نزعته الإيديولوجية؛ إذ لا يتردد في القول بضرورة تحويل الدين إلى إيديولوجيا.
أما أبو القاسم حاج حمد، فيراه النيفر، مصرا على الفهم العربي السلفي للقرآن في كتابه "العالمية الإسلامية الثانية"؛ كما أنه يصر على أن القرآن هو مصدر الحقيقة المفتوح على التجربة الوجودية الكونية ! وهو مصدر الحكمة الشاملة التي تنبعث عبر التزكية الإلهية للإنسان. والحاج حمد، بنظر النيفر، لا يؤمن بوجود فهم جديد للقرآن كان غائبا فيما مضى وهو يتبنى بذلك رؤية المدرسة السلفية التي تعتبر أن الفهم الأمثل للنص القرآني قد أتيح للجيل الأول من المسلمين وأن الصيرورة التاريخية لن تزيد شيئا على الفهم الأول للنص. ثم ينخرط الحاج حمد، بنظر النيفر، في خطاب إيديولوجي مغلق النسق، يرفض بموجبه اعتماد منهجية تاريخية في دراسة التراث التفسيري.(ص77).
وخلاصة هذا التيار الإيديولوجي، أنه لم يستطع الخروج عن حدود المدرسة السلفية، ولم يبلغ درجة التطور النوعي، برغم تطور عدتهم المعرفية من خلال الاستنجاد بالاكتشافات العلمية في الطب والفلك والكيمياء والطبيعة، بل اتسعت الاستفادة لتشمل الألسنية وعلم الاجتماع وعلم النفس. ولكن الوثوقية التي ميزت هذا التيار جعلته، برأي النيفر، يؤمن بالمعنى الثابت والنهائي في القرآن، وعلى المفسر أن يتوصل إليه. في حين القراءة التجديدية التي يطمح إليها النيفر، هي التي ترى أن معنى النص يعتمد مجموعة من العلاقات المتفاعلة والمعدلة من فهم النص بصفة دائمة بحسب أفق المفسر وموقعه المعرفي والتصوري؛ أي الجدل بين النص والقارئ وفتح آفاق جديدة لجهود تفسيرية مجددة.(ص77).
وانتقل النيفر إلى ما يعتبره مدرسة حديثة تتبنى سؤال التجديد ! والتي استفادت من الكشوفات العلمية الجديدة لقراءة النص؛ إذ قطعت منهجيا مع أصحاب التراث التفسيري القديم والتيار الإيديولوجي وفكره الوثوقي، المسكون بالهاجس الغربي والرافض لأية مراجعة جذرية وعلمية لمسألة الوحي وطبيعة النص القرآني.(ص79).
ويمثل هذه المدرسة الحديثة ثلاثة رواد هم: أمين الخولي وعائشة عبد الرحمن وأحمد خلف الله. وقد أرسى أمين الخولي بناء هذه المدرسة، منهجيا، على ما أسماه "التفسير البياني للقرآن"، وطرح أسئلة عن وظيفة المفسر ومكانة النص المفسر، ورفض أن يظل التفسير مجرد أداة لاختبارات مذهبية وتوظيفات دعوية مهما كانت أهميتها.
وحدد خصائص منهجه التجديدي في ثلاث خاصيات هي:
أ- الخاصية الموضوعية: أي جمع الآيات المتصلة بموضوع من المواضيع جمعا إحصائيا ودراسة مفرداتها في سياقها وعلاقة الواقع بالمعنى.
ب- الخاصية المعرفية: تهتم بما حول النص من معارف: وهي علوم القرآن.
ج- الخاصية التاريخية اللغوية: أي الاهتمام بالبيئة التي نزل فيها القرآن، مادية أو معنوية...
كما دعا إلى الاستفادة من علمي النفس والاجتماع. ولو أن الخولي لم ينجز تفسيرا وفق منهجه التجديدي فإن رسالته تابعها بعض تلامذته؛ فعائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ، تعاملت مع النص القرآني باعتباره نصا لغويا متكاملا يفسر بعضه بعضا، كما تابعت الخولي في قوله بتاريخية الألفاظ القرآنية ومناسبة التراكيب لها، مما تفتقر إليه المعاجم اللغوية.
أما محمد أحمد خلف الله، فقد ذهب بهذا المنهج التجديدي، بنظر النيفر، إلى أبعد مدى ممكن في وقته؛ من خلال أطروحته عن الفن القصصي في القرآن الكريم سنة 1947م. فخرج بآراء جريئة تعتبر القصة في القرآن ذات بعد تربوي ولم تكن معطيات تاريخية. كما اعتمد على معطيات اجتماعية للقول بوجود قصة أسطورية في القرآن، وهذه القصص هي عبارة عن وسائط فقط لمقاصد أهم.(ص87). وانتقد توجه المفسرين إلى اعتبار هذه القصص وثائق تاريخية، ومن هنا وصل خلف الله إلى القول بنسبية النص القرآني بل وادعى أن الأخبار الواردة في القرآن هي مواعظ وحكم وأمثال تضرب للناس؛ من هنا يصبح من حق العقل البشري أن يهمل صفتها الإخبارية أو يجهلها أو يخالفها أو ينكرها ! (ص88).
هذا التيار التجديدي، أشاد به النيفر كثيرا، وتحمس له واعتبر منهجه في التفاعل اللغوي مع النص القرآني استبعادا للتوظيف الإيديولوجي، هذا التيار الأخير الذي يتجاهل ما للنص القرآني من مضامين وخصوصيات لغوية أدبية وتاريخية ينبغي الإنصات إليها.
وهذا التيار التجديدي الذي قاده خلف الله هو الذي مهد الطريق لقراءات حديثة للقرآن بنفس المنهج ولكن بعدة معرفية أكثر تطورا. وهو ماسماه النيفر بالقراءة التأويلية وفتوحات المعرفة. وقد اغتنى هذا التيار من مكاسب الفكر الغربي، ويمثله محمد أركون ونصر حامد أبوزيد وفضل الرحمان الباكستاني.
فأركون ربط بين الخصوصية اللغوية للنص القرآني وبين مسألة التأويل، كما أنه ينفي المعنى النهائي للنص، ويلح على أن النص ظاهرة ثقافية تقترح لها مناهج للتفكيك والتأويل بالاعتماد على "فتوحات العلم الحديث"، وذلك قصد اكتشاف خصائص التفكير الذي جاء النص القرآني ليؤسسه؛ ذلك أن الوحي، بنظر هذا التيار، في جانب أساسي منه، تعبير عن إنسانية العرب وزمنيتهم، مما يعني أن المتعالي لا يتجلى إلا في التاريخ وأن المقدس لا يظهر إلا عبر الدنيوي، وأن الوحي لا يقرأ إلا بلغة مخصوصة !
إن محمد أركون يرى أن لا تحديث للفكر الإسلامي إلا باعتبار النص القرآني غنيا ومنفتحا على عدة احتمالات؛ أي أنه معروض للفكر الإنساني أن يتأمله ويفكر فيه دون انقطاع. من هنا دعا أركون إلى دراسة النص القرآني والنصوص الثانية، أي الجهد التفسيري القديم، على أساس منهج تفكيكي أو حفري (أركيولوجي)، واستعمال آليات الالسنيات الحديثة وما تطرح على النص من أسئلة تختلف جذريا عما كانت تطرحه اللغويات التقليدية التي استخدمها كبار المفسرين في العصور السابقة، ثم معالجة الخصوصيات الثقافية والمجتمعية باعتماد الأنتروبولوجيا وما تتيحه من تحليل للمنظومات التفسيرية للعالم مثل "الأسطورة". وبتوظيف هذه الآليات التطبيقية يمكن لقارئ النص القرآني تجاوز منطوق الخطاب للبحث عن مضمراته، والكشف عن آليات عمله مما يتيح قراءة مالم يقرأ في النص عبر الوعي بالنظام المعرفي.
إذا مثلنا لتطبيقات أركون التفكيكية، نأخذ سورة الكهف؛ إذ اعتبر قصة الفتية من منطلق انتروبولوجي، بنظره، من قبيل القصص الأسطورية أي القصص التي تعتني بعبقرية التشكيل والتركيب والإبداع، والمقدرة على الإحياء وتقديم العبرة للناس، وليست حقائق تاريخية ! (ص97).
أما نصر حامد أبو زيد فإن قراءته تضع لنفسها هدفا هو التوصل إلى اكتشاف العلاقات العضوية المبثوثة في مختلف مجالات الفكر التراثي العربي الإسلامي. أي الوعي بمنهج التراث والآليات الفكرية لبنيته. وقد استثمر في مشروعه أدوات نظرية تأويل النصوص أو "الهرميونيطيقا"؛ وهي نظرية تهتم بعملية الفهم وآليات شرح النص الديني وتأويله. والتأويل عند نصر حامد أبو زيد هو الحركة الذهنية لإدراك الظواهر وهي عملية إستنتاجية بصرف الآية إلى ما تحمله من المعاني الموافقة لما قبلها وما بعدها. ويشدد أبو زيد على الارتباط بين النص القرآني والواقع التاريخي، ويرفض مقولة اعتبار القرآن مصدرا للمعرفة التامة بتجاهل علاقته مع الزمان والمكان.
إن النص عند حامد أبو زيد له كينونته والقارئ له أفق، وعليه أن يعمل لجذب النص إلى أفقه من خلال المعرفة. وفهم الواقع وإدراك حركيته والتأويل عند نصر حامد هو الوجه الآخر للنص، وهو يمثل آلية من آليات إنتاج المعرفة. ولا يمكن اعتبار النص صالحا لكل زمان ومكان إلا إذا كان منتجا ثقافيا، ترجع إليه النصوص الأخرى فتجدد به مشروعيتها.
أما الباحث الباكستاني فضل الرحمن (1919-1988م) فقد ذهب في منهجه التجديدي إلى مستوى بعيد جدا فاعتبر القرآن كلام الله وكلام الرسول، وألح هو أيضا على المنهج التاريخي في فهم القرآن لأحداث تغيير في البناء الثقافي الإسلامي.
هذا المنهج التاريخي يتحرك على محورين:
الأول: فهم النص في الزمان القرآني الذي شهد نزوله.
الثاني: رصد "كليات القرآن" المكونة للوحدة الأساسية له والتي تجعل له موقفا محددا من الحياة ونظرة للعالم. ثم العودة إلى الزمن الراهن للتزود بما يتيح صياغة تعاليم القرآن ومنطقه بشكل حي وفعال.
وختم النيفر كتابه بفصل عنونه ب "نحو اكتمال النص" عقد فيه مقارنة منهجية ومعرفية بين ما يسميه التيار الإيديولوجي والتيار التأويلي، متحمسا لهذا الأخير الذي يؤكد، بنظره، على تاريخية المنهج في مقابل "الموضوعية المطلقة" لفهم النص عند التيار الأول. كما أن تيار التأويل لا يقول بالمعنى الثابت، بل يعتبر الأزمة "أزمة معنى"، وهذا ارتباط وثيق، بنظره، بمسألة الإيمان والتدين في العالم الإسلامي؛ ذلك أن منهجية إخضاع النص القرآني لغاية استخراج التقنينات الفقهية والعقدية يفضي إلى انحسار علاقة المؤمن مع النص في حدود المجال التوظيفي فحسب؛ مما يولد ذهنية توظيفية للنص وإنتاج إيمان قصير المدى، لا يرى في تعامله مع القرآن إلا الجانب النفعي الخارجي، إيمان هذه الذهنية يقوم على الاطمئنان والترديد، في تجاوز سافر لحيرة المؤمن وتساؤلاته وتوقه إلى الارتقاء الروحي. أما المنهجية النقدية التاريخية فتعيد للوحي حيوية لغته ورموزه وطاقته الروحية والفكرية، مكرسة إيمانا يعتمد على يقين متسائل ومعتز برحابة رسالة القرآن.(ص108).
المصدر: موقع سوس درعة (موقع مغربي)