سمر الأرناؤوط
Member
- إنضم
- 07/05/2004
- المشاركات
- 2,562
- مستوى التفاعل
- 13
- النقاط
- 38
- الإقامة
- الخبر - المملكة ا
- الموقع الالكتروني
- www.islamiyyat.com
أزمة التثبت / سلمان العودة
لعل أكثر أعضاء الإنسان شغلاً هو اللسان؛ فهو لا يكف عن الكلام حتى لو كان صاحبه مريضاً لسنين طويلة،ومن هنا جاءت أهمية آداب اللسان والعناية بها والتي من بينها التثبت فيما يقال أو ينقل.
وواقع الناس اليوم يشهد تساهلاً مفرطاً في نقل ما يسمعون من أحكام وفتاوى وأخبار وأحداث،سواء تعلقت بعلماء أو زعماء ومشاهير أو عامة،وكلما كثر جهل المتحدث وقل ورعه كان أشد وأجرأ في هذا المضمار.
يقول تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء.
ويندرج تحت الآية كل معنى يدل على قول ما لا علم للإنسان به.
فلا يَرْم الإنسان غيره بما ليس له به علم،ولا يقول رأيت ولم ير،ولا سمعت ولم يسمع،ولا يشهد الزور. وكل هذا مروي عن السلف.
ومنهج القرآن في التثبت أعظم منهج وأحكم طريق؛ قال تعالى:{قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(118)سورة البقرة.
وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون، لأنهم أهل التثبت في الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة، فهؤلاء المنتفعون بالبيان،الذين لا يجرون وراء الشكوك ولا يأخذون بالتقولات،وإنما يبحثون عن اليقين.
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6)سورة الحجرات.
قرأ الجمهور (فتبينوا) من التبيين،وقرأ حمزة والكسائي وخلف،فتثبتوا من التثبت.
والتبيين: تطلب البيان،وهو ظهور الأمر. والتثبت التحري وتطلب الثبات وهو الصدق.
ومآل القراءتين واحد وإن اختلف معناهما.
والآية أصل في الشهادة والرواية والنقل ورعاية حال الناقل،وعدم الاسترسال وراء الشائعات والظنون والأوهام.
وهي أصل في وجوب التثبت،وألا يتتبع السامع القيل والقال،ولا ينصاع إلى الوقوع في المزالق بسبب التسرع أو تصديق ما لا حقيقة له.
فخبر الفاسق يكون داعياً إلى التتبع والتثبت ولا يصلح لأن يكون مستنداً للحكم بحال من الأحوال،وإنما كان الفاسق معرضاً خبره للريبة والاختلاق لأن الفاسق ضعيف الوازع الديني في نفسه،وضعف الوازع يجرئه على الاستخفاف بالمحظور،وبما يخبر به مما يترتب عليه إضرار بالغير أو بالصالح العام.
وعلة التثبت هي: {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ}فربما سمع السامع كلمة ونشرها في المجالس والمحافل والمنتديات وصفحات الإنترنت ثم تبين له بعدُ أن صاحبها بريء؛ فيندم على وقوعه في عرضه،وما لا يمكن تداركه،ولذلك كانت الكلمة كالرصاصة إذا انطلقت لم يمكن إرجاعها.
قال الشاعر:
يَموتُ الفَتى مِن عَثرَةٍ بِلسانِهِ **وَلَيسَ يَموتُ المَرءُ مِن عَثرَةِ الرِّجلِ
فَعثرَتُهُ مَن فيهِ تَرمي بِرَأسِهِ **وَعَثرَتهِ بِالرِّجلِ تَبَرا عَلى مَهـلِ
والآية نزلت في الوليد بن عقبة لما ذهب لأخذ الزكاة من الحارث بن ضرار الخزاعي فخشيهم لشيء كان بينه وبينهم في الجاهلية فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بامتناعهم عن دفع الزكاة. والقصة ذكرها أهل السير والتفسير،ورواها الطبراني، والإمام أحمد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وغيرهم - بسند لا بأس به،وتوارد أهل التفسير كافة على حكاية هذه القصة على أنها سبب النزول.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من القول بغير علم،والكذب عليه في حديث بلغ مبلغ التواتر ففي الصحيحين عَنِ الْمُغِيرَةِ - رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ النَّبيَ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (إِنَّ كَذِبًا عَلَي لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَي مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ).
وعند البخاري في قصة خالد بن الوليد مع بَنِي جَذِيمَةَ، لما دَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا، صَبَأْنَا. فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ...، قَالَ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ). مَرَّتَيْنِ.
قال الخطابي: أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا،فاللفظ المحتمل يجب الأناة فيه حتى تفهم حقيقته،وقد تختلف لغات الناس ومصطلحاتهم وأعرافهم.
وفي الأثر عند الترمذي وغيره بسند لا بأس به (الأَنَاةُ مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ).
وفي حادثة الإفك،ربّى الله سبحان الله وتعالى المؤمنين فيها تربية سامية رفيعة على التثبت والأناة والتحري : {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ * لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} سورة النور .
ومن أثر هذا التوجه الرباني سألت أم الدرداء زوجها أبا الدرداء: (أسمعت ما قيل عن عائشة؟) قال: (نعم يا أم الدرداء، وذلك الكذب) ثم قال لها: يا أم الدرداء، أرأيت لو كنت مكان عائشة؛ أكنت تفعلين؟ قالت: (لا) قال: (لو كان أبو الدرداء مكان صفوان؛ هل كان يفعل؟) قالت: (لا) قال: (فصفوان خير مني، وعائشة خير منكِ).
وللتثبت أنواع وضروب كثيرة منها:
1- التثبت في القول على الله عز وجل.
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(33)سورة الأعراف.
فجعل القول على الله بغير علم قريناً للشرك بالله؛ لأن من يتكلم في الحرام والحلال والتشريع هو موقع عن رب العالمين.
2- التثبت في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كذباً على رسول الله ليس ككذب على أحد.
وهذا عمر رضي الله عنه لا يقبل من أبي موسى حديث الاستئذان إلا ببينة ولما قال له أبي بن كعب: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَلاَ تَكُونَنَّ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ.
وقال علي رَضِي اللَّهُ عَنْهُ -: كُنْتُ رَجُلاً إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي وَإِذَا حَدَّثَنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اسْتَحْلَفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ قَالَ وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -..
وفي مقدمة مسلم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: (إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ.)
ومن هنا نشأ علم الجرح والتعديل،والذي وضعت له ضوابط وشروط في النقل والرواية،قال عنها المستشرقون: إن السنة النبوية توفر لها من التثبت في النقل واتصال السند ما لم يتوفر للإنجيل والتوراة.
وصنف السلف الدواوين الكبيرة في الصحيح والحسن والضعيف والموضوع حياطة منهم وتثبتاً في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الضرورة التحري في تصحيح الأحاديث المروية،وألا يتساهل في قبولها ونسبتها للرسول صلى الله عليه وسلم،لأن الأصل عدم النسبة حتى تثبت،والأصل براءة ذمة المكلف وعدم الالتزام بهذا النص حتى يصح،ولا تجوز رواية الضعيف إلا مع بيان ضعفه أو حاله.
3 - التثبت في أقوال أهل العلم،فعدم التثبت في نقل أقوالهم،يحدث أخطاء كبيرة وفساداً عريضاً.
4 - التثبت في نقل أقوال الناس.
وهذا النوع ينبغي ألا ينقل إلا لحاجة قاضية أو ضرورة ملحّة،لكن الفراغ وضعف التربية قد يحمل المرء على القيل والقال تبرعا من غير سؤال ولا مصلحة وقد جاء في الصحيحين عَنْ هَمَّامٍ قَالَ كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ رَجُلاً يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى عُثْمَانَ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ)، وفي رواية (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ).
وفي مقدمة صحيح مسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ). وفيه عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما: بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ.
ولن يعدم الإنسان المتحري لنفسه من وسائل التثبت ما يجعله يقطع شكاً بيقين فمن ذلك:
1- الوقوف على ما نقل إليه بنفسه،إن كان ثمت حاجة لذلك،أو تجاوز الموضوع ونسيانه إذا لم يكن ثمت حاجة.
2- الاعتماد على الرواة الثقات عندما لا يستطع أن يقف على الأمر بنفسه.
وليس الثقة هنا هو فقط من دل مظهره على أنه من الصالحين بل يعتمد ذلك على أمور أخرى؛ من الفطنة والتعقل والتأني والتجربة والسلامة من الهوى واعتلال المزاج والغرض الشخصي باستهداف شخص أو جماعة من الناس.
وقد قال مالك: أدركت بالمدينة سبعين يستسقى بهم المطر من السماء لا آخذ عن واحد منهم حديثاً.
وعَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَدْرَكْتُ بِالْمَدِينَةِ مِائَةً كُلُّهُمْ مَأْمُونٌ. مَا يُؤْخَذُ عَنْهُمُ الْحَدِيثُ يُقَالُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
وليس ذلك عن قدح فيهم،إنما لغفلة منهم لقبولهم رواية كل من يسمعون منه.
ومن الناس من هو متسرع في الكلام يختلق الروايات اختلاقاً فهذا واضح وظاهر.
لي حِيلَةٌ في مَن يَنُم وَلَيسَ في الكذّابِ حيلَه **مَن كانَ يَخلق ما يَقولُ فَحيلَتي فيهِ قَليلَه
ومنهم من فيه نوع تغفيل يصدّق كل ما قيل له،فكل من حدثه حديثاً فهو عنده ثقة ثبت،خاصة إن كان ظاهره يوحي بذلك،ومثل هذا يسهل خداعه.
ومنهم من هو متعجل لا يكذب لكنه يرى الأمور على غير ما هي عليه،كمن يرى زحاماً للناس فيراه حادثاً وهو ليس كذلك فيعطي خياله أو عاطفته مجالاً للتأثير على الرواية وإضافة بعض (البهارات) عليها،ولعل أهم ما يوقع الناس في أزمة النقل أمور منها:
أولاً: الفراغ الذي يعيشه الكثير خاصة الشباب،فيتعاطون الأحاديث ويتناولون الموضوعات دون اكتمال المعرفة،وقد ينسى بعضهم الأدب الشرعي،ويفوته أننا في عصر المعلوماتية وثورة الاتصال التي لا تعفينا من البحث عن اليقين،أو على الأقل التأكد من حقائق الأشياء!
ثانياً: التربية حيث قلّ المربون والموجهون والناصحون وأصبح الكثيرون يعتمدون على أنفسهم في التربية دون نصيحة من أحد أو توجيه من مرب.
ثالثاً: أجهزة الإعلام التي حركت في الناس نوازع المعرفة والاطلاع،ولم تمنحهم أدوات التثبت وآليات التحصيل.
وينبغي إشاعة منهج التثبت عند أي حكم فكثيراً ما نخفق عند التطبيق خاصة عندما تكثر الإشاعات أو تطل الأزمات، ويعز المصدر الموثوق.
والمسلم يأوي إلى جبل من اليقين والأصل البراءة، والسلامة.
يقولون أقوالا ولا يعلمونها **ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
إن الانسياق وراء الظنون والشكوك له آثار مدمرة على العمل الإسلامي والحياة الإسلامية ومنها توهين الصف المسلم، بنشر الإشاعات، وتداول الأقوال،وإعمال الظنون،والكثيرون حين يتعلق الأمر بهم ينزعجون،ويطالبون الآخرين بالتثبت،ويستغربون كيف يجرؤ مؤمن على نقل هذا القول أو حكايته،لكن حين يتعلق الأمر بالآخرين ينسون هذا المعنى،ويستجيزون لأنفسهم التساهل في النقل والرواية،وقصارى ما يعتذر به المرء منهم أن يقول: أنا ناقل،وأبرأ من عهدة الكلام،والحق أنه روجه وأشاعه ونشره،وقد يكون استحسنه بصفة مباشرة،أو بفحوى السياق،أو بقسماته وملامحه.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ).
إن إطلاق القول في الآخرين ليس محمدة ولا صفة خير،ورحم الله الشافعي إذ يقول:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ **فكلك عورات وللناس ألسن
وما شيء أحق بطول سجن من لسان،وإذا غلبت على المرء شهوة الحديث أو القول فليكن في خير أو برّ،أو على الأقل في مباح لا يؤاخذ به في الآخرة ولا يذم به في الدنيا.
لعل أكثر أعضاء الإنسان شغلاً هو اللسان؛ فهو لا يكف عن الكلام حتى لو كان صاحبه مريضاً لسنين طويلة،ومن هنا جاءت أهمية آداب اللسان والعناية بها والتي من بينها التثبت فيما يقال أو ينقل.
وواقع الناس اليوم يشهد تساهلاً مفرطاً في نقل ما يسمعون من أحكام وفتاوى وأخبار وأحداث،سواء تعلقت بعلماء أو زعماء ومشاهير أو عامة،وكلما كثر جهل المتحدث وقل ورعه كان أشد وأجرأ في هذا المضمار.
يقول تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء.
ويندرج تحت الآية كل معنى يدل على قول ما لا علم للإنسان به.
فلا يَرْم الإنسان غيره بما ليس له به علم،ولا يقول رأيت ولم ير،ولا سمعت ولم يسمع،ولا يشهد الزور. وكل هذا مروي عن السلف.
ومنهج القرآن في التثبت أعظم منهج وأحكم طريق؛ قال تعالى:{قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(118)سورة البقرة.
وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون، لأنهم أهل التثبت في الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة، فهؤلاء المنتفعون بالبيان،الذين لا يجرون وراء الشكوك ولا يأخذون بالتقولات،وإنما يبحثون عن اليقين.
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6)سورة الحجرات.
قرأ الجمهور (فتبينوا) من التبيين،وقرأ حمزة والكسائي وخلف،فتثبتوا من التثبت.
والتبيين: تطلب البيان،وهو ظهور الأمر. والتثبت التحري وتطلب الثبات وهو الصدق.
ومآل القراءتين واحد وإن اختلف معناهما.
والآية أصل في الشهادة والرواية والنقل ورعاية حال الناقل،وعدم الاسترسال وراء الشائعات والظنون والأوهام.
وهي أصل في وجوب التثبت،وألا يتتبع السامع القيل والقال،ولا ينصاع إلى الوقوع في المزالق بسبب التسرع أو تصديق ما لا حقيقة له.
فخبر الفاسق يكون داعياً إلى التتبع والتثبت ولا يصلح لأن يكون مستنداً للحكم بحال من الأحوال،وإنما كان الفاسق معرضاً خبره للريبة والاختلاق لأن الفاسق ضعيف الوازع الديني في نفسه،وضعف الوازع يجرئه على الاستخفاف بالمحظور،وبما يخبر به مما يترتب عليه إضرار بالغير أو بالصالح العام.
وعلة التثبت هي: {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ}فربما سمع السامع كلمة ونشرها في المجالس والمحافل والمنتديات وصفحات الإنترنت ثم تبين له بعدُ أن صاحبها بريء؛ فيندم على وقوعه في عرضه،وما لا يمكن تداركه،ولذلك كانت الكلمة كالرصاصة إذا انطلقت لم يمكن إرجاعها.
قال الشاعر:
يَموتُ الفَتى مِن عَثرَةٍ بِلسانِهِ **وَلَيسَ يَموتُ المَرءُ مِن عَثرَةِ الرِّجلِ
فَعثرَتُهُ مَن فيهِ تَرمي بِرَأسِهِ **وَعَثرَتهِ بِالرِّجلِ تَبَرا عَلى مَهـلِ
والآية نزلت في الوليد بن عقبة لما ذهب لأخذ الزكاة من الحارث بن ضرار الخزاعي فخشيهم لشيء كان بينه وبينهم في الجاهلية فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بامتناعهم عن دفع الزكاة. والقصة ذكرها أهل السير والتفسير،ورواها الطبراني، والإمام أحمد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وغيرهم - بسند لا بأس به،وتوارد أهل التفسير كافة على حكاية هذه القصة على أنها سبب النزول.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من القول بغير علم،والكذب عليه في حديث بلغ مبلغ التواتر ففي الصحيحين عَنِ الْمُغِيرَةِ - رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ النَّبيَ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (إِنَّ كَذِبًا عَلَي لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَي مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ).
وعند البخاري في قصة خالد بن الوليد مع بَنِي جَذِيمَةَ، لما دَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا، صَبَأْنَا. فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ...، قَالَ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ). مَرَّتَيْنِ.
قال الخطابي: أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا،فاللفظ المحتمل يجب الأناة فيه حتى تفهم حقيقته،وقد تختلف لغات الناس ومصطلحاتهم وأعرافهم.
وفي الأثر عند الترمذي وغيره بسند لا بأس به (الأَنَاةُ مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ).
وفي حادثة الإفك،ربّى الله سبحان الله وتعالى المؤمنين فيها تربية سامية رفيعة على التثبت والأناة والتحري : {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ * لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} سورة النور .
ومن أثر هذا التوجه الرباني سألت أم الدرداء زوجها أبا الدرداء: (أسمعت ما قيل عن عائشة؟) قال: (نعم يا أم الدرداء، وذلك الكذب) ثم قال لها: يا أم الدرداء، أرأيت لو كنت مكان عائشة؛ أكنت تفعلين؟ قالت: (لا) قال: (لو كان أبو الدرداء مكان صفوان؛ هل كان يفعل؟) قالت: (لا) قال: (فصفوان خير مني، وعائشة خير منكِ).
وللتثبت أنواع وضروب كثيرة منها:
1- التثبت في القول على الله عز وجل.
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(33)سورة الأعراف.
فجعل القول على الله بغير علم قريناً للشرك بالله؛ لأن من يتكلم في الحرام والحلال والتشريع هو موقع عن رب العالمين.
2- التثبت في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كذباً على رسول الله ليس ككذب على أحد.
وهذا عمر رضي الله عنه لا يقبل من أبي موسى حديث الاستئذان إلا ببينة ولما قال له أبي بن كعب: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَلاَ تَكُونَنَّ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ.
وقال علي رَضِي اللَّهُ عَنْهُ -: كُنْتُ رَجُلاً إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي وَإِذَا حَدَّثَنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اسْتَحْلَفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ قَالَ وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -..
وفي مقدمة مسلم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: (إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ.)
ومن هنا نشأ علم الجرح والتعديل،والذي وضعت له ضوابط وشروط في النقل والرواية،قال عنها المستشرقون: إن السنة النبوية توفر لها من التثبت في النقل واتصال السند ما لم يتوفر للإنجيل والتوراة.
وصنف السلف الدواوين الكبيرة في الصحيح والحسن والضعيف والموضوع حياطة منهم وتثبتاً في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الضرورة التحري في تصحيح الأحاديث المروية،وألا يتساهل في قبولها ونسبتها للرسول صلى الله عليه وسلم،لأن الأصل عدم النسبة حتى تثبت،والأصل براءة ذمة المكلف وعدم الالتزام بهذا النص حتى يصح،ولا تجوز رواية الضعيف إلا مع بيان ضعفه أو حاله.
3 - التثبت في أقوال أهل العلم،فعدم التثبت في نقل أقوالهم،يحدث أخطاء كبيرة وفساداً عريضاً.
4 - التثبت في نقل أقوال الناس.
وهذا النوع ينبغي ألا ينقل إلا لحاجة قاضية أو ضرورة ملحّة،لكن الفراغ وضعف التربية قد يحمل المرء على القيل والقال تبرعا من غير سؤال ولا مصلحة وقد جاء في الصحيحين عَنْ هَمَّامٍ قَالَ كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ رَجُلاً يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى عُثْمَانَ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ)، وفي رواية (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ).
وفي مقدمة صحيح مسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ). وفيه عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما: بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ.
ولن يعدم الإنسان المتحري لنفسه من وسائل التثبت ما يجعله يقطع شكاً بيقين فمن ذلك:
1- الوقوف على ما نقل إليه بنفسه،إن كان ثمت حاجة لذلك،أو تجاوز الموضوع ونسيانه إذا لم يكن ثمت حاجة.
2- الاعتماد على الرواة الثقات عندما لا يستطع أن يقف على الأمر بنفسه.
وليس الثقة هنا هو فقط من دل مظهره على أنه من الصالحين بل يعتمد ذلك على أمور أخرى؛ من الفطنة والتعقل والتأني والتجربة والسلامة من الهوى واعتلال المزاج والغرض الشخصي باستهداف شخص أو جماعة من الناس.
وقد قال مالك: أدركت بالمدينة سبعين يستسقى بهم المطر من السماء لا آخذ عن واحد منهم حديثاً.
وعَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَدْرَكْتُ بِالْمَدِينَةِ مِائَةً كُلُّهُمْ مَأْمُونٌ. مَا يُؤْخَذُ عَنْهُمُ الْحَدِيثُ يُقَالُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
وليس ذلك عن قدح فيهم،إنما لغفلة منهم لقبولهم رواية كل من يسمعون منه.
ومن الناس من هو متسرع في الكلام يختلق الروايات اختلاقاً فهذا واضح وظاهر.
لي حِيلَةٌ في مَن يَنُم وَلَيسَ في الكذّابِ حيلَه **مَن كانَ يَخلق ما يَقولُ فَحيلَتي فيهِ قَليلَه
ومنهم من فيه نوع تغفيل يصدّق كل ما قيل له،فكل من حدثه حديثاً فهو عنده ثقة ثبت،خاصة إن كان ظاهره يوحي بذلك،ومثل هذا يسهل خداعه.
ومنهم من هو متعجل لا يكذب لكنه يرى الأمور على غير ما هي عليه،كمن يرى زحاماً للناس فيراه حادثاً وهو ليس كذلك فيعطي خياله أو عاطفته مجالاً للتأثير على الرواية وإضافة بعض (البهارات) عليها،ولعل أهم ما يوقع الناس في أزمة النقل أمور منها:
أولاً: الفراغ الذي يعيشه الكثير خاصة الشباب،فيتعاطون الأحاديث ويتناولون الموضوعات دون اكتمال المعرفة،وقد ينسى بعضهم الأدب الشرعي،ويفوته أننا في عصر المعلوماتية وثورة الاتصال التي لا تعفينا من البحث عن اليقين،أو على الأقل التأكد من حقائق الأشياء!
ثانياً: التربية حيث قلّ المربون والموجهون والناصحون وأصبح الكثيرون يعتمدون على أنفسهم في التربية دون نصيحة من أحد أو توجيه من مرب.
ثالثاً: أجهزة الإعلام التي حركت في الناس نوازع المعرفة والاطلاع،ولم تمنحهم أدوات التثبت وآليات التحصيل.
وينبغي إشاعة منهج التثبت عند أي حكم فكثيراً ما نخفق عند التطبيق خاصة عندما تكثر الإشاعات أو تطل الأزمات، ويعز المصدر الموثوق.
والمسلم يأوي إلى جبل من اليقين والأصل البراءة، والسلامة.
يقولون أقوالا ولا يعلمونها **ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
إن الانسياق وراء الظنون والشكوك له آثار مدمرة على العمل الإسلامي والحياة الإسلامية ومنها توهين الصف المسلم، بنشر الإشاعات، وتداول الأقوال،وإعمال الظنون،والكثيرون حين يتعلق الأمر بهم ينزعجون،ويطالبون الآخرين بالتثبت،ويستغربون كيف يجرؤ مؤمن على نقل هذا القول أو حكايته،لكن حين يتعلق الأمر بالآخرين ينسون هذا المعنى،ويستجيزون لأنفسهم التساهل في النقل والرواية،وقصارى ما يعتذر به المرء منهم أن يقول: أنا ناقل،وأبرأ من عهدة الكلام،والحق أنه روجه وأشاعه ونشره،وقد يكون استحسنه بصفة مباشرة،أو بفحوى السياق،أو بقسماته وملامحه.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ).
إن إطلاق القول في الآخرين ليس محمدة ولا صفة خير،ورحم الله الشافعي إذ يقول:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ **فكلك عورات وللناس ألسن
وما شيء أحق بطول سجن من لسان،وإذا غلبت على المرء شهوة الحديث أو القول فليكن في خير أو برّ،أو على الأقل في مباح لا يؤاخذ به في الآخرة ولا يذم به في الدنيا.