طارق مصطفى حميدة
New member
أركون ... أراد إثبات بشرية القرآن فأنطقه الله بعكس مراده (4)
طارق حميدة/ مركز نون للدراسات القرآنية
القصص القرآني في سورة الكهف
يمكن تقسيم قراءة أركون لقصص السورة من عدة جوانب، على النحو الآتي:
أولاً: مزاعم أركون بأن المفسرين يجعلون الإسرائيليات والروايات الواهية عن القصص القرآني في المنزلة ذاتها التي للنص القرآني،
حيث يتحدث عن كتب التفسير القديم بأنها حولت " النص التلميحي الإيحائي المجازي الرمزي، إلى شيء عادي جداً .. عن طريق تفسيره بشكل واقعي صرف أو تحويله إلى خطاب عادي حيث تتراكم أسماء الأعلام والأشخاص والأماكن، وحيث تكثر روايات الأحداث المهووسة بالتفاصيل الصغيرة[SUP]([SUP][1][/SUP][/SUP])"، حتى إنها تحدد هويات أصحاب الكهف بأسمائهم الإغريقية، وتحدد كهفهم وكلبهم وقريتهم وملكهم.
ثم يدعي بأن مقتضى قوله تعالى: ﴿ نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى﴾[ الكهف: 13]، هو التصديق بأن" شخصيات القصة، وتصرفاتهم، والأماكن الوارد ذكرها، والأقوال المتبادلة، كلها أشياء صحيحة بحرفيتها؛ فالله لا يمكنه أن يستخدم الخرافات أو القصص الخيالية لكي يكشف عن أسراره ويبلغ أوامره للبشر[SUP]([SUP][2][/SUP][/SUP])"، ثم يدعي أركون بأن المسلمين يتجهون لغربلة هذا الركام بتأثير العلم الأرسطوطاليسي، وبالتالي فإنه يصف" التفسير الإسلامي التقليدي بأنه تاريخوي علموي بل وحتى مادي[SUP]([SUP][3][/SUP][/SUP])".
1) حسنا أن أركون إذ لم يتمكن من البرهنة على تاريخية القرآن فإنه ذهب إلى كتب التفسير ليجد ضالته فيها، بل هو يصف النص القرآني بكونه تلميحياً إيجازياً مجازياً رمزياً، وهو على هذا (يتعالى) عن التاريخية كما حكم بذلك مراراً أركون ومترجمه، وسيأتي بإذن الله، لكن التفاسير كما كل عمل بشري لا يخفى فيها أثر الواقع، وإن كانت صلتها بكتاب الله ترفعها عن كل الأعمال الفكرية الأخرى.
2) إن" من أبرز خصائص النص القرآني وبخاصة فيما يتعلق بالقصص أنه لا يعرّف بالشخصيات التي يدور حولها الكلام، كما أن النص يتجرد من الزمان والمكان، بالإضافة إلى أسلوب الإيجاز التام الذي لا نجد له نظيراً في كتب وآثار الأمم الأخرى التي بين أيدينا، ويتوج ذلك كله وحدة الغاية في كل ما ورد في القرآن من أخبار وأنباء"[SUP][SUP][4][/SUP][/SUP]، لكن المفسرين حتى وهم يذكرون تلك التفصيلات، نقلاً عن أهل الكتاب، ومما اصطنعه القصاص والوضاعون، فإنهم لطالما لفتوا الانتباه إلى ضرورة اطّراح كل ما تجاهله القرآن مما لو علم الله تعالى في ذكره خيرا لنا لأورده في كتابه، وهذا يعني أن المفسرين لم ينظروا إلى هذه الروايات نظرتهم إلى آيات القرآن والحق الذي تمثله، كما يزعم أركون، ومن الأمثلة على ذلك:
أ- أنه في سورة هود وعند قوله تعالى:﴿ وما آمن معه إلا قليل﴾[ سورة هود: 40]، وبعد أن يورد الطبري أقوالاً في تحديد العدد، يعلق بالقول: " والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله:﴿ وما آمن معه إلا قليل﴾، يصفهم بأنهم كانوا قليلاً، ولم يحد عددهم بمقدار ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح، فلا ينبغي أن نتجاوز في ذلك حد الله، إذ لم يكن لمبلغ عدّ ذلك حد من كتاب الله، أو أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"[SUP][SUP][5][/SUP][/SUP]. وكذلك فعل الطبري في مواضع كثيرة منها: عدد الدراهم التي بيع بها يوسف عليه السلام[SUP][SUP][6][/SUP][/SUP]، وتحديد الشجرة التي نهى آدم وزوجه عنها[SUP][SUP][7][/SUP][/SUP].
ب-وقال الرازي كذلك:" اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف وفي مكانهم"، وبعد ذكره عدداً من تلك الأقوال، قال:" وأقول: العلم بذلك الزمان وبذلك المكان ليس للعقل فيه مجال، وإنما يستفاد ذلك من نص، وذلك مفقود فثبت أنه لا سبيل إليه[SUP][SUP][8][/SUP][/SUP]".
وقد أوردنا هذه الاقتباسات من تفسيري الطبري والرازي فقط، لأنهما الكتابان اللذان اختارهما أركون، عند قراءته سورة الكهف، ليؤكد من خلالهما عدم أهلية التفسير الموروث، وبالتالي تسويغ القطيعة معه، ليقفز بعدها إلى فرض رؤاه المسبقة على القرآن الكريم، ورداً على دعواه أن الأساطير والروايات الواهية التي يوردها المفسرون تأخذ عندهم وعند القراء حكم الآيات القرآنية.
ثانياً: دعوى أخذ القرآن قصصه من البيئة الثقافية المحيطة:
1) يتحدث أركون في سياق قراءته لسورة الكهف، عن القصص الثلاث – قصة الكهف وذي القرنين وموسى مع الخضر- زاعماً أن القرآن استقاها مما يسميه المخيال الثقافي المشترك والأقدم لمنطقة الشرق الأوسط القديم، ليس في هذه المقالة فحسب بل وفي غيرها أيضاً، حيث يقول في أحد كتبه:" إن أساطير غلغامش، والإسكندر الكبير، والسبعة النائمين في الكهف؛ تجد لها أصداء واضحة في القرآن[SUP][SUP][9][/SUP][/SUP]"، لكن هذه القصص جميعها"؛ ممزوجة أو متداخلة في سورة واحدة من سور القرآن ... لكي تدعم وتجسد نقل الشيء ذاته، وهو الرسالة الإلهية الخالدة؛ إن كل واحدة من هذه القصص مركبة على قاعدة البنية السيميائية المذكورة آنفاً[SUP][SUP][10][/SUP][/SUP] وفي كل واحدة منها نلاحظ انبثاق البطل الذي سيتلقى الرسالة ويستخدم المعرفة المتضمَنة فيها لكي يغير مجرى الوجود البشري ومعناه النهائي باعتباره مرتبطاً بالله وتعاليمه"[SUP][SUP][11][/SUP][/SUP].
وهنا يقر أركون بما نفاه عن علاقات وتناسب وتماسك بين قصص السورة الكريمة فهي " ممزوجة متداخلة في سورة واحدة كي تدعم وتجسد الشيء ذاته "بعبارة أركون نفسه، حيث نلاحظ كيف ينسى أركون ما يقوله في مكان ليقول عكسه في مكان آخر، لا بل إنه، كما أزعم، لا يجد غضاضة في تبني الشيء ونقيضه في آن.
2) إن سياق الآيات في قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين يشعر بأن القصتين كانتا معلومتين إجمالاً زمن النزول وذلك كما يظهر من قوله تعالى: ﴿ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم .. ﴾، وقوله عز وجل: ﴿ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم .. ﴾،وقوله سبحانه: ﴿ ويسألونك عن ذي القرنين﴾، لكن القرآن يؤكد أولاً أن روايته هي الحق، كما في قوله:﴿ نحن نقص عليك نبأهم بالحق﴾، أو قوله في غيرها: ﴿ نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق﴾ [ سورة القصص: 3]، ومن جهة ثانية فإن القرآن يلفت في روايته إلى الاهتمام بأمور وتجاوز أخرى، ففي قصة الكهف مثلاً ينكر القرآن الانشغال بعدد الفتية، وفي قصة ذي القرنين، لا ينشغل بالتفاصيل التي سألوا عنها بل يلفتهم إلى الدروس المطلوب تذكرها ومن هنا قال :﴿ قل سأتلو عليكم منه ذكراً﴾.
3) يعود أركون ليتراجع عن دعاوى أخذ القرآن قصصه عن ملحمة جلجامش ورواية الإسكندر الكبير، حيث يستدرك بالقول:" في الواقع إن القرآن لا يستمد قصصه أو حكاياته بشكل مباشر من ذلك المركب المعقد والعتيق لأساطير وادي الرافدين، والأساطير الحثية والأناضولية والأوغاريتية والكنعانية والمصرية كما هي الحال بالنسبة للعهد القديم"، ثم يستعين بالسيدة فرانسواز سميث – فلورنتان، التي تكتب له مقترحة صيغة أخرى تمثل (تزاوجاً) بين تراثين يهودي مدراشي ومسيحي مما ساد في أديرة الرهبان، لكن يظل أركون غير واثق من هذا الاقتراح، حيث يقول:" ينبغي أن نضيف إلى كل ذلك ما يلي: حتى لو توصلنا بشكل دقيق إلى الكشف عن جميع التراثات الثقافية القديمة التي أثرت في القرآن، فإننا لن نستطيع أن نفسر آلية الاشتغال الدلالية أو السيميائية للخطاب القرآني الذي يستخدم أسماء الأعلام والقصص والكلمات النادرة من أجل تدشين انطلاقة جديدة للشيفرة المنطقية- المعنوية في اللغة العربية"[SUP][SUP][12][/SUP][/SUP].
إن أركون كما هو واضح قد استبق النتائج قبل المقدمات ولا يهمه أن تؤدي المقدمات إلى نتائج مغايرة فهو مصر على مراده، فبالرغم من أن القرآن باعترافه لم يستمد حكاياته مباشرة كالعهد القديم من ذلك المركب من الأساطير، وبالرغم من أن الاقتراحات المطروحة سابقاً ولاحقاً غير مقنعة، وبالرغم من استحالة تفسير آلية الاشتغال الدلالية أو السيميائية للخطاب القرآني، حتى على فرض التوصل إلى التراثات التي أثرت في القرآن بزعمه، فإن أركون غير مستعد للتعاطي مع الاحتمال الذي رفضه منذ البداية وهو ربانية هذا الكتاب العزيز.
والملاحظ أن أركون مسكون بالتجربة الغربية في جميع نواحيها، وبالذات فيما سلكت من طرق ومناهج وفي تعاطيها مع كتبها المقدسة، فبعد اطلاعه على كتب دانيال روس، مثلاً، التي طبق فيها اللسانيات على الأناجيل تساءل قائلاً:" ألا يمكن أن نفعل شيئاً مشابهاً فيما يخص القرآن؟ وما هي النتيجة التي سنتوصل إليها إذا ما قارنّا بين الإنجيل والقرآن بهذه الطريقة"[SUP] ([SUP][13][/SUP][/SUP]) . ومن الواضح أنه لم يرد الحقيقة حين طبق اللسانيات وغيرها على القرآن الكريم، لا بل إنه أعاد مقولات الغربيين عن كتبهم الدينية ملصقاً إياها بالقرآن زوراً وبهتاناً، وها هو ينقل لنا كلام المثقفين الفرنسيين له، وهم يستهينون بكتاباته:" يقولون لي بشكل انتقادي ومعاكس: ما الذي تفعله أنت؟ أنت تردد بشكل ناقص الأفكار والمواقع والانتقادات نفسها التي كنا نحن الغربيين قد بلورناها تجاه تراثنا الديني منذ زمن طويل، أنت لم تأت بشئ جديد، كل ما تفعله شئ تافه، مللنا منه، عفا عليه الزمن".[SUP][SUP][14][/SUP][/SUP]
لقد صدقوه القول لكنه مصمم أنه سيجد في القرآن ما وجدوه في كتبهم المقدسة، ولو وجدوا ذلك ما تركوه يسبقهم إلى ذلك الفضل.
ولذلك فليس عجيباً أن يشعر أركون بالإخفاق من تجاوب المحيط مع طروحاته، فالمسلمون لا يخفون ارتيابهم واشتباههم بتحليلاته وتأويلاته الفكرية التي يطرحها هو وأضرابه من المحدثين[SUP][SUP][15][/SUP][/SUP]، والمستشرقون يتجاهلون أبحاثه[SUP][SUP][16][/SUP][/SUP] وينظرون إليه نظرة احتقارية[SUP][SUP][17][/SUP][/SUP]، وطلابه الذين لا يفهمون عليه، والمثقفون الفرنسيون يستهينون بما يكتب ويقولون له هذه بضاعتنا ردت إلينا.
([1])
([2]) أركون، القرآن من التفسير الموروث، ص 162.
([3])أركون، القرآن من التفسير الموروث، ص 161- 163.
[4] رضوان، فتحي ، القصة القرآنية، ص 80، كتاب الهلال، العدد 332، آب، 1978م.
[5] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 15/ 326-327، ت محمود شاكر، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 2008م.
[6] الطبري، جامع البيان، السابق، 16/ 13- 16.
[7] الطبري، جامع البيان، السابق، 1/ 516- 521.
[8] الرازي، التفسير الكبير،7/ 454.
[9]أركون، الفكر الاسلامي قراءة علمية، 84.
[10]يقصد:( التداخلية النصية) والتي تعني أن نصاً كالقرآن مثلاً، قد يتأثر بزعمه بالعديد من النصوص كالتوراة والإنجيل، وتتداخل معه حتى تصبح جزءاً لا يتجزأ منه.( هامش ص 40).
[11] أركون، القرآن من التفسير الموروث، ص 40-41.
[12] ) أركون، القرآن من التفسير الموروث، هامش ص 167.
([13]) أركون، محمد، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، ص 266، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ت هاشم صالح، دت، دط.
[14] ) أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ص 23.
[15] ) أركون، القرآن من التفسير الموروث، ص 161.
[16] ) أركون، القرآن من التفسير الموروث، ص42.
[17] ) أركون، القرآن من التفسير الموروث، ص43.
طارق حميدة/ مركز نون للدراسات القرآنية
القصص القرآني في سورة الكهف
يمكن تقسيم قراءة أركون لقصص السورة من عدة جوانب، على النحو الآتي:
أولاً: مزاعم أركون بأن المفسرين يجعلون الإسرائيليات والروايات الواهية عن القصص القرآني في المنزلة ذاتها التي للنص القرآني،
حيث يتحدث عن كتب التفسير القديم بأنها حولت " النص التلميحي الإيحائي المجازي الرمزي، إلى شيء عادي جداً .. عن طريق تفسيره بشكل واقعي صرف أو تحويله إلى خطاب عادي حيث تتراكم أسماء الأعلام والأشخاص والأماكن، وحيث تكثر روايات الأحداث المهووسة بالتفاصيل الصغيرة[SUP]([SUP][1][/SUP][/SUP])"، حتى إنها تحدد هويات أصحاب الكهف بأسمائهم الإغريقية، وتحدد كهفهم وكلبهم وقريتهم وملكهم.
ثم يدعي بأن مقتضى قوله تعالى: ﴿ نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى﴾[ الكهف: 13]، هو التصديق بأن" شخصيات القصة، وتصرفاتهم، والأماكن الوارد ذكرها، والأقوال المتبادلة، كلها أشياء صحيحة بحرفيتها؛ فالله لا يمكنه أن يستخدم الخرافات أو القصص الخيالية لكي يكشف عن أسراره ويبلغ أوامره للبشر[SUP]([SUP][2][/SUP][/SUP])"، ثم يدعي أركون بأن المسلمين يتجهون لغربلة هذا الركام بتأثير العلم الأرسطوطاليسي، وبالتالي فإنه يصف" التفسير الإسلامي التقليدي بأنه تاريخوي علموي بل وحتى مادي[SUP]([SUP][3][/SUP][/SUP])".
1) حسنا أن أركون إذ لم يتمكن من البرهنة على تاريخية القرآن فإنه ذهب إلى كتب التفسير ليجد ضالته فيها، بل هو يصف النص القرآني بكونه تلميحياً إيجازياً مجازياً رمزياً، وهو على هذا (يتعالى) عن التاريخية كما حكم بذلك مراراً أركون ومترجمه، وسيأتي بإذن الله، لكن التفاسير كما كل عمل بشري لا يخفى فيها أثر الواقع، وإن كانت صلتها بكتاب الله ترفعها عن كل الأعمال الفكرية الأخرى.
2) إن" من أبرز خصائص النص القرآني وبخاصة فيما يتعلق بالقصص أنه لا يعرّف بالشخصيات التي يدور حولها الكلام، كما أن النص يتجرد من الزمان والمكان، بالإضافة إلى أسلوب الإيجاز التام الذي لا نجد له نظيراً في كتب وآثار الأمم الأخرى التي بين أيدينا، ويتوج ذلك كله وحدة الغاية في كل ما ورد في القرآن من أخبار وأنباء"[SUP][SUP][4][/SUP][/SUP]، لكن المفسرين حتى وهم يذكرون تلك التفصيلات، نقلاً عن أهل الكتاب، ومما اصطنعه القصاص والوضاعون، فإنهم لطالما لفتوا الانتباه إلى ضرورة اطّراح كل ما تجاهله القرآن مما لو علم الله تعالى في ذكره خيرا لنا لأورده في كتابه، وهذا يعني أن المفسرين لم ينظروا إلى هذه الروايات نظرتهم إلى آيات القرآن والحق الذي تمثله، كما يزعم أركون، ومن الأمثلة على ذلك:
أ- أنه في سورة هود وعند قوله تعالى:﴿ وما آمن معه إلا قليل﴾[ سورة هود: 40]، وبعد أن يورد الطبري أقوالاً في تحديد العدد، يعلق بالقول: " والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله:﴿ وما آمن معه إلا قليل﴾، يصفهم بأنهم كانوا قليلاً، ولم يحد عددهم بمقدار ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح، فلا ينبغي أن نتجاوز في ذلك حد الله، إذ لم يكن لمبلغ عدّ ذلك حد من كتاب الله، أو أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"[SUP][SUP][5][/SUP][/SUP]. وكذلك فعل الطبري في مواضع كثيرة منها: عدد الدراهم التي بيع بها يوسف عليه السلام[SUP][SUP][6][/SUP][/SUP]، وتحديد الشجرة التي نهى آدم وزوجه عنها[SUP][SUP][7][/SUP][/SUP].
ب-وقال الرازي كذلك:" اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف وفي مكانهم"، وبعد ذكره عدداً من تلك الأقوال، قال:" وأقول: العلم بذلك الزمان وبذلك المكان ليس للعقل فيه مجال، وإنما يستفاد ذلك من نص، وذلك مفقود فثبت أنه لا سبيل إليه[SUP][SUP][8][/SUP][/SUP]".
وقد أوردنا هذه الاقتباسات من تفسيري الطبري والرازي فقط، لأنهما الكتابان اللذان اختارهما أركون، عند قراءته سورة الكهف، ليؤكد من خلالهما عدم أهلية التفسير الموروث، وبالتالي تسويغ القطيعة معه، ليقفز بعدها إلى فرض رؤاه المسبقة على القرآن الكريم، ورداً على دعواه أن الأساطير والروايات الواهية التي يوردها المفسرون تأخذ عندهم وعند القراء حكم الآيات القرآنية.
ثانياً: دعوى أخذ القرآن قصصه من البيئة الثقافية المحيطة:
1) يتحدث أركون في سياق قراءته لسورة الكهف، عن القصص الثلاث – قصة الكهف وذي القرنين وموسى مع الخضر- زاعماً أن القرآن استقاها مما يسميه المخيال الثقافي المشترك والأقدم لمنطقة الشرق الأوسط القديم، ليس في هذه المقالة فحسب بل وفي غيرها أيضاً، حيث يقول في أحد كتبه:" إن أساطير غلغامش، والإسكندر الكبير، والسبعة النائمين في الكهف؛ تجد لها أصداء واضحة في القرآن[SUP][SUP][9][/SUP][/SUP]"، لكن هذه القصص جميعها"؛ ممزوجة أو متداخلة في سورة واحدة من سور القرآن ... لكي تدعم وتجسد نقل الشيء ذاته، وهو الرسالة الإلهية الخالدة؛ إن كل واحدة من هذه القصص مركبة على قاعدة البنية السيميائية المذكورة آنفاً[SUP][SUP][10][/SUP][/SUP] وفي كل واحدة منها نلاحظ انبثاق البطل الذي سيتلقى الرسالة ويستخدم المعرفة المتضمَنة فيها لكي يغير مجرى الوجود البشري ومعناه النهائي باعتباره مرتبطاً بالله وتعاليمه"[SUP][SUP][11][/SUP][/SUP].
وهنا يقر أركون بما نفاه عن علاقات وتناسب وتماسك بين قصص السورة الكريمة فهي " ممزوجة متداخلة في سورة واحدة كي تدعم وتجسد الشيء ذاته "بعبارة أركون نفسه، حيث نلاحظ كيف ينسى أركون ما يقوله في مكان ليقول عكسه في مكان آخر، لا بل إنه، كما أزعم، لا يجد غضاضة في تبني الشيء ونقيضه في آن.
2) إن سياق الآيات في قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين يشعر بأن القصتين كانتا معلومتين إجمالاً زمن النزول وذلك كما يظهر من قوله تعالى: ﴿ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم .. ﴾، وقوله عز وجل: ﴿ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم .. ﴾،وقوله سبحانه: ﴿ ويسألونك عن ذي القرنين﴾، لكن القرآن يؤكد أولاً أن روايته هي الحق، كما في قوله:﴿ نحن نقص عليك نبأهم بالحق﴾، أو قوله في غيرها: ﴿ نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق﴾ [ سورة القصص: 3]، ومن جهة ثانية فإن القرآن يلفت في روايته إلى الاهتمام بأمور وتجاوز أخرى، ففي قصة الكهف مثلاً ينكر القرآن الانشغال بعدد الفتية، وفي قصة ذي القرنين، لا ينشغل بالتفاصيل التي سألوا عنها بل يلفتهم إلى الدروس المطلوب تذكرها ومن هنا قال :﴿ قل سأتلو عليكم منه ذكراً﴾.
3) يعود أركون ليتراجع عن دعاوى أخذ القرآن قصصه عن ملحمة جلجامش ورواية الإسكندر الكبير، حيث يستدرك بالقول:" في الواقع إن القرآن لا يستمد قصصه أو حكاياته بشكل مباشر من ذلك المركب المعقد والعتيق لأساطير وادي الرافدين، والأساطير الحثية والأناضولية والأوغاريتية والكنعانية والمصرية كما هي الحال بالنسبة للعهد القديم"، ثم يستعين بالسيدة فرانسواز سميث – فلورنتان، التي تكتب له مقترحة صيغة أخرى تمثل (تزاوجاً) بين تراثين يهودي مدراشي ومسيحي مما ساد في أديرة الرهبان، لكن يظل أركون غير واثق من هذا الاقتراح، حيث يقول:" ينبغي أن نضيف إلى كل ذلك ما يلي: حتى لو توصلنا بشكل دقيق إلى الكشف عن جميع التراثات الثقافية القديمة التي أثرت في القرآن، فإننا لن نستطيع أن نفسر آلية الاشتغال الدلالية أو السيميائية للخطاب القرآني الذي يستخدم أسماء الأعلام والقصص والكلمات النادرة من أجل تدشين انطلاقة جديدة للشيفرة المنطقية- المعنوية في اللغة العربية"[SUP][SUP][12][/SUP][/SUP].
إن أركون كما هو واضح قد استبق النتائج قبل المقدمات ولا يهمه أن تؤدي المقدمات إلى نتائج مغايرة فهو مصر على مراده، فبالرغم من أن القرآن باعترافه لم يستمد حكاياته مباشرة كالعهد القديم من ذلك المركب من الأساطير، وبالرغم من أن الاقتراحات المطروحة سابقاً ولاحقاً غير مقنعة، وبالرغم من استحالة تفسير آلية الاشتغال الدلالية أو السيميائية للخطاب القرآني، حتى على فرض التوصل إلى التراثات التي أثرت في القرآن بزعمه، فإن أركون غير مستعد للتعاطي مع الاحتمال الذي رفضه منذ البداية وهو ربانية هذا الكتاب العزيز.
والملاحظ أن أركون مسكون بالتجربة الغربية في جميع نواحيها، وبالذات فيما سلكت من طرق ومناهج وفي تعاطيها مع كتبها المقدسة، فبعد اطلاعه على كتب دانيال روس، مثلاً، التي طبق فيها اللسانيات على الأناجيل تساءل قائلاً:" ألا يمكن أن نفعل شيئاً مشابهاً فيما يخص القرآن؟ وما هي النتيجة التي سنتوصل إليها إذا ما قارنّا بين الإنجيل والقرآن بهذه الطريقة"[SUP] ([SUP][13][/SUP][/SUP]) . ومن الواضح أنه لم يرد الحقيقة حين طبق اللسانيات وغيرها على القرآن الكريم، لا بل إنه أعاد مقولات الغربيين عن كتبهم الدينية ملصقاً إياها بالقرآن زوراً وبهتاناً، وها هو ينقل لنا كلام المثقفين الفرنسيين له، وهم يستهينون بكتاباته:" يقولون لي بشكل انتقادي ومعاكس: ما الذي تفعله أنت؟ أنت تردد بشكل ناقص الأفكار والمواقع والانتقادات نفسها التي كنا نحن الغربيين قد بلورناها تجاه تراثنا الديني منذ زمن طويل، أنت لم تأت بشئ جديد، كل ما تفعله شئ تافه، مللنا منه، عفا عليه الزمن".[SUP][SUP][14][/SUP][/SUP]
لقد صدقوه القول لكنه مصمم أنه سيجد في القرآن ما وجدوه في كتبهم المقدسة، ولو وجدوا ذلك ما تركوه يسبقهم إلى ذلك الفضل.
ولذلك فليس عجيباً أن يشعر أركون بالإخفاق من تجاوب المحيط مع طروحاته، فالمسلمون لا يخفون ارتيابهم واشتباههم بتحليلاته وتأويلاته الفكرية التي يطرحها هو وأضرابه من المحدثين[SUP][SUP][15][/SUP][/SUP]، والمستشرقون يتجاهلون أبحاثه[SUP][SUP][16][/SUP][/SUP] وينظرون إليه نظرة احتقارية[SUP][SUP][17][/SUP][/SUP]، وطلابه الذين لا يفهمون عليه، والمثقفون الفرنسيون يستهينون بما يكتب ويقولون له هذه بضاعتنا ردت إلينا.
([1])
([2]) أركون، القرآن من التفسير الموروث، ص 162.
([3])أركون، القرآن من التفسير الموروث، ص 161- 163.
[4] رضوان، فتحي ، القصة القرآنية، ص 80، كتاب الهلال، العدد 332، آب، 1978م.
[5] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 15/ 326-327، ت محمود شاكر، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 2008م.
[6] الطبري، جامع البيان، السابق، 16/ 13- 16.
[7] الطبري، جامع البيان، السابق، 1/ 516- 521.
[8] الرازي، التفسير الكبير،7/ 454.
[9]أركون، الفكر الاسلامي قراءة علمية، 84.
[10]يقصد:( التداخلية النصية) والتي تعني أن نصاً كالقرآن مثلاً، قد يتأثر بزعمه بالعديد من النصوص كالتوراة والإنجيل، وتتداخل معه حتى تصبح جزءاً لا يتجزأ منه.( هامش ص 40).
[11] أركون، القرآن من التفسير الموروث، ص 40-41.
[12] ) أركون، القرآن من التفسير الموروث، هامش ص 167.
([13]) أركون، محمد، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، ص 266، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ت هاشم صالح، دت، دط.
[14] ) أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ص 23.
[15] ) أركون، القرآن من التفسير الموروث، ص 161.
[16] ) أركون، القرآن من التفسير الموروث، ص42.
[17] ) أركون، القرآن من التفسير الموروث، ص43.