د. أبو عائشة
New member
[align=justify]
[align=center][color=FF0000]ثانياً : التعريف والتنكير : [/color][/align]
ولهذه الظاهرة اللغوية أهمية كبيرة في تنوع التعريف على وفق مقتضيات الكلام وتوظيف كل منهما لدواعٍ معينة تثري التركيب بدلالاتٍ متنوعة مما يُعدُّ أحد وسائل إثراء الدلالة (1) ، ومرجع هذا التوظيف إلى حاجة السياق إذ للتعريف والتنكير دلالة عامة من حيث إرادة التعيين أو عدمه إلا أن لهما معانياً يخرجان إليها ، وهذه المعاني لا تفاد منهما إلا من خلال سياقهما ، فالسياق هو وحده المحدِّد لهذه المعاني التي تخرج إليها المعرفة والنكرة (2) ، فقد تكون النكرة أحياناً دالة على التحقير وأحياناً دالة على التعظيم ، أو تكون دالة على التقليل أحياناً وأحياناً على التكثير ، أما أن تتحقق المعاني كلها في توظيفٍ واحد داخل سياق واحد فهذا هو الإعجاز بحد ذاته قال تعالى : ( ألم يَكُ نطفةً من منيٍّ يمنى )( القيامة : 37 ) وقال تعالى : ( من أي شيءٍ خلقه من نطفةٍ خلقه فقدره )( عبس : 19 ) وقال تعالى : ( أكـفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة )( الكهف : 37 ) … يقول أحمد بدوي : إنّ التنكير في هذه الآيات يوحي بالتحقير إلى النفس (3) ، وهذا ما رفضه الشيخ ابن عاشور بقوله : ( ولا التفات في ذكرها إلى معنى التحقير أو المهانة لأن المقام للاستدلال على أمرٍ عظيم لا لإهانة المتكبرين )(4) وقد رفض الدكتور نحلة رأي الشيخ ابن عاشور وعَدَّ المقام مقام تعجب من كفران الإنسان نعمة خالقه … مع أنه أنشأه من نطفةٍ أي من شيءٍ صغير حقير لا يعزى …(5) ، فنحن هنا أمام قراءات مختلفة لنصٍ واحدٍ ، غير أن ما يبدو هنا للوهلة الأولى تعارضاً لا يشكل عند الشعراوي إلا أسلوباً مقصوداً لأن عظمة الصنعة كما يذكر تأتي من أمرين .. إما من أمرٍ لطيف جداً يدقّ عن الإدراك أو أمرٍ كبيرٍجداً لا يحيط به الإدراك وهذان الأمران موجودان لذلك عندما يقال بأن النكرة ضد المعرفة ، والمعرفة تحدد المعنى ، والنكرة تعطي شيوعاً ، يقال إن الشيء قد ينكر للتعظيم وقد ينكر للتحقير وكأن النكرة تسمح أن تكون مرّة للتعظيم ومرّة للتحقير ومرّة للتقليل ومرّة للتكثير (6) ، وهذه هي أهم سمة أسلوبية في التعبير القرآني إذ تكون نصوصه قابلة لأكثر من قراءةٍ مقصوداً إليها جميعاً لتحقيق اتساعٍ دلالي حيناً أو مراعاةٍ لاختلافاتٍ فكريةٍ بين العصور فليس الإعجاز الكامل في أن تخاطب العالم بما يعجزه ويبهره بل في أن تخاطبه بكلامٍ يفهمه ذلك دون تجاوزٍ لفهم الإنسان العادي ، وليس في جمع المعنيين ( التحقير والتعظيم أو التقليل والتكثير ) في مفردة واحدة للتنكير كما في الآيات السابقة شيء جديد فقد كان الزمخشري يشير إليه كما في كلامه عن تنكير لفظة ( نفس )(7) حيث قال : ( يجوز أن يكون المراد بها بعض الأنفس ... أو أن يراد التكثير )(8).
وقد يؤتى باللفظة منكرة كما في قوله تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم )( الجمعة : 2 ) ، وقوله تعالى : ( إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم ) ( المزمل : 15 ) فتنكير المسند إليه هنا كان لغايةٍ بلاغية نفسية ذلك أن احتمال تحقق الحكم ، كما يقول السكاكي ، يزداد بُعداً كلما ازداد تخصصاً ويزداد قُرباً كلما ازداد عموماً (9) ، فالمسند إليه كلما كان عامّاً مطلقاً غير مقيد كان احتمال ثبوت الحكم له في الخارج وفي نفس المتلقي أقرب ، وإذا كان استعداد المتلقي لتقبل الحكم في هذه الظاهرة الأسلوبية البلاغية حسناً فأن الحاجة إلى تعريف المسند إليه تقل حينما يُراد توكيد الحكم وتقريره في نفس المتلقي ، وسيكون احتمال تحقق الحكم وثبوته بعيداً إذا كان المسند إليه معرفةً أو نكرةً مخصصة وتقبل المتلقي له وتصديقه به يكون أقل احتمالاً . وذلك لأننا لو قلنا ( سافر رجلٌ ) فإن احتمال ثبوت السفر لرجلٍ من الرجال لا على التعيين سيكون قريباً ولن يجد المتلقي صعوبةً في تقبله والتصديق به ، وسيكون العكس لو قلنا ( سافر الرجل ) فأن احتمال ثبوت السفر بحق هذا الرجل المعين بالذات من بين باقي أفراد الجنس وإن كان ممكناً إلا أن تقبل النفس له وتصديقها به ، مما يحتاج إلى إثبات وتوكيد (10) فمراعاة القرآن للمخاطبين كانت السبب في عدم ذكر اسم الرسول ) صلى الله عليه وسلم ) صريحاً في هذه السور بل لم يذكر في القرآن غير أربع مراتٍ في مواقف خاصة اقتضت ذلك الذكر ؛ لأن من المشركين من أنكر الإسلام لأنه لا يريد الاعتراف بالرسول ) صلى الله عليه وسلم ) حسداً وأنفة أو أن الاعتراف به سيعني إعلاءً لكلمة بني هاشم ... الخ ، فكان الإتيان باسم الرسول ) صلى الله عليه وسلم ) سيعني إنكاراً ونفوراً من البداية دون استماع لهذه الآيات التي تذكره والله أعلم . غير أن غاية بلاغية أخرى قصدت من التنكير والتعريف في قوله تعالى : ( كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول ) ( المزمل : 15 - 16 ) فلم يكن فرعون يعرف موسى رسولاً صاحب عقيدة فُنكّرَ اسم الرسول لعدم معرفة فرعون به لبداية دعوته غير أن التعريف دلّ على أن فرعون لم يعصه إلا بعد أن عرفه وجادله وناقشه فأصبح يعرف يقيناً أنه رسول ومع ذلك عصاه فاستحق أن يؤخذ أخذاً وبيلاً ( ... فأخذناه أخذاً وبيلاً ) ( المزمل : 16 ) ، وقد جعل الزمخشري التعريف عهدياً إشارة إلى المذكور بعينه (11) ، وقيل هي للجنس لأن من عصى رسولاً فقد عصى سائر الرسل (12) ، أمّا الرازي فجعل التقدير : أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصاه فأخذناه أخذاً وبيلاً ، فأرسلنا إليكم أيضاً رسولاً فعصيتم ذلك الرسول ، فلا بد وأن نأخذكم أخذاً وبيلاً ، فأرسلنا إليكم أيضاً رسـولاً فعصيتم ذلك الرسول ، فلا بد وأن نأخذكم أخذاً وبيلاً (13) ، وقد يستخدم التعبير القرآني التعريف بالإضافة لتكريم المضاف إليه بالتخصيص مع أن المضاف غير خاصٍ للمضاف إليه كما في قوله تعالى : ( ما أنت بنعمة ربكَ بمجنون )( القلم : 3 ) وقوله تعالى : ( إنّ ربك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله ... )( القلم : 7 ) فكأن الخطاب هنا - كما يقول أحمد بدوي - لمحمد ) صلى الله عليه وسلم ) وحده وكأن الله في هذا الموقف ربّ محمدٍ قبل أن يكون ربّ سواه ولو ربطنا بين موقف محمد وقريش وهو الرجل الوحيد في المعركة أمام قوةٍ من الرجال كثيرة في عددها كبيرة في قوتها شديدة في أذاها .... لأدركنا يقيناً لِمَ أضيف الرب إلى كاف الخطاب ولِمَ لم تستعمل كلمة أخرى مكان كلمة ( ربك ) كـ ( الله ) مثلاً (14)، والأمر كذلك في قوله تعالى : ( سبّح اسم ربَّكَ الأعلى )( الأعلى : 1 ) فجاءت الإضافة إلى الرب دون ( الله ) لما يُشعر به وصف ( رب ) من أنه الخالق المدبر وأما إضافة ( رب ) إلى ضمير الرسول ) صلى الله عليه وسلم ) فلتشريفه بهذه الإضافة وأنّ له حظاً زائداً على التكليف بالتسبيح (15) ، ومن المفسرين من جعل الإضافة دليلاً على عدم التكرار في قوله تعالى : ( قل أعوذ برب الناس ملك الناس آله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس … ) فـ ( الناس ) الأول بمعنى الأطفال المحتاجين للتربية بدليل إضافة ( رب ) إليهم فهو الخالق المربي المدبر ، والثاني الشباب لما في لفظ ( الملك ) من القوة (16) والثالث الشيوخ لأن ( الإله ) هو المعبود (17) ، والشيوخ هم المتعبدون المتوجهون لله (18) ، وهذه الملاحظة على ما قد يقال في بعدها تشير إلى نظرة المفسرين إلى المفردة لا من خلال قيمتها الدلالية وحدها وإنما هي ضمن إطارها الدلالي العام تدخل في مجموعة من العلاقات مع بقية المفردات سواء كانت في الجملة الواحدة أو السورة ككل فبين المفردات علائق خفية تجعل الواحدة منها مؤثرة ومتأثرة بالأخرى مما يشكل المعنى السياقي العام وسيتضح هذا في مبحث التضمين .
أما الضمير فقد وظف في القرآن توظيفاً جعل السورة القرآنية تتسم بترابط آياتها مع الإيجاز وعدم التكرار إلا ذاك التكرار الموظف لغايات تعبيرية ... والقرآن في كل هذا يستفيد من أساليب العرب كما في ضمير الشأن أو القصة وهو الضمير الذي لا مرجع له كما في قوله تعالى : ( قل هو الله أحد )( الإخلاص : 1 ) والأسلوب العربي - كما يقول أحمد بدوي - لا يأتي بهذا الضمير إلا في المواطن التي يكون للأمر فيها أهمية تراد العناية بها فيكون هذا الضمير أدعى للتنبيه يدفع المرء إلى الإصغاء فإذا وردت الجملة بعده استقرت في النفس واطمأن إليها الفوآد (19) وقد تبنى الضمائر في آيات معينة على صحة أن تكون عائدة على أكثر من مرجع كما في قوله تعالى : ( قُتلَ أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )( البروج : 4 - 8 ) إذ نحن حيال تفسيرين لـ ( قُتِلَ أصحاب الأخدود ) هل هم من حفر الأخدود وألقى المؤمنين به فيكون ( قُتِلَ أصحاب الأخدود ) دُعاءً عليهم بالهلاك واللعن كما فهمه بعض المفسرين (20) ، أم المقصود هنا الإخبار عن المؤمنين ( أصحاب الأخدود ) الذين ألقوا فيه كما فَهِمَ مفسرون آخرون (21) ، إنّ بناء الجمل كان بطريقةٍ تسمح بعود الضمير صحيحاً على كلا التفسيرين ، ومن جعل ( قُتِلَ أصحاب الأخدود ) ( جوابَ القسم جعل الكلام خبراً وقدّره لقد قُتِلَ أصحاب الأخدود فيكون المراد من أصحاب الأخدود الذين ألقوا فيه وعذّبوا به )(22) أي يكون قتل خبراً لا دعاءً ولا شتماً ، ولا يتعين أن يكون الخبر مستعملاً في لازم معناه من الإنذار للذين يفتنون المؤمنين بأن يحل بهم ما حَلَّ بفاتني أصحاب الأخدود ليعتبره الشيخ ابن عاشور ردّاً على الرأي الآخر بحجة أنّ الخبر عن أصحاب الأخدود لا يحتاج إلى التوكيد بالقسم إذ لا ينكره أحد فهو قصة معلومة للعرب كما يقول الشيخ ، وهذه الحجة لا تلزِمُ إلا على رأي الفراء كما صرّح الشيخ بنفسه لأن الزجاج : يرى أن جواب القسم هو( إن بطش ربك لشديد ) ( البروج : 12 ) والكلام الذي بينهما اعتراض قُصدَ به التوطئة للمقسم عليه وتوكيد التحقيق الذي أفاده القسم بتحقيق ذكر النظير(23) ، وقد ( يكون الله قد ضرب قصة أصحاب الأخدود هنا مثلاً ودليلاً على جواب القسم المقدّر وهو ابتلاء المؤمنين )(24).
أما بالنسبة للموصول فقد استُخدم في القرآن لوظيفةٍ تصويرية - إن صحّ التعبير - فالموصول يقدّم انتقالاً وصفياً من السياق العام إلى تفريع يُقصد إليه لغاية تعبيرية يحتاجها السياق وكأنها أحياناً تعليلية كما في قوله تعالى : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق )( العلق : 1 ) فقد جيء في وصف الربّ بطريق الموصول ( الذي خلق ) لأن في ذلك استدلالاً على انفراد الله تعالى بالإلهية لأن هذا القرآن سيُتلى على المشركين ، لما تفيده الموصولية من الإيماء إلى علة الخبر وإذا كانت علة الإقبال على ذكر اسم الرب هي أنه خالقٌ دلَّ ذلك على بطلان الإقبال على ذكر غيره الذي ليس بخالق (25) ؛ لأنهم معترفون بأن الله هو الخالق وحده ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ) ( الزمر : 38 ) فهذه الظاهرة الأسلوبية تستخدم قصداً لما بعدها ( الصلة ) مما يخلق نوعاً من التفنن في الأداء ووضع وصف مناسب للاسم عند حاجة السياق إليه .
ومثلما وُظف الموصول وظفت الإشارة في الأسلوب القرآني حتى كأنها تعبير لوحدها له دلالته الخاصة التي تسبغ على السياق ومن خلاله المعنى الدلالي الذي يجرد المُتَحدَّثَ عنه وكأنه مُشاهدٌ مُبصر كما قال تعالى : ( ..... فذلك الذي يَدعُّ اليتيم ) ( الماعون : 2 ) فكأنه أصبح ظاهر الوصف بارزاً يُشار إليه ، ليس هذا فقط بل إنما تضع المخاطب على بعده عما تشير إليه قال تعالى : ( هذه جهنم التي يكذِّب بها المجرمون ) ( الرحمن : 43 ) و ( هذا ما توعدون لكل أوابٍ حفيظ ) ( ق : 32 ) لما كان الخطاب في يوم القيامة وأصبح كل شيءٍ مرئياً مُشاهداً ، في حين قال تعالى مُخبراً عن المؤمنين : ( لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ) ( البروج : 11 ) وهم في الدنيا وخاطبهم فيها باسم الإشارة الدال على البعد لأنهم حصلوا على شيءٍ بعيد ( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يُلقاها إلا ذو حظٍّ عظيم ) ( فصلت : 35 ) وقال تعالى :( إنّ ربك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) ( القلم : 7 ) فقد جاءت ( من ) الدالة على العاقل هنا وجيء بصلتها ( الفعل ضلّ ) مفرداً على الرغم من كثرة الضالين يومئذٍ لتحقير شأنهم فكأنهم فردٌ واحد لا غير في حين جاء لفظ الهداية جمعاً على قلة عددهم يومئذٍ وكأنهم جمع كبير يملأ الدنيا لذلك عُرّف اللفظ بلام العهد الذهني للتكثير والتعظيم (26) وقد يؤتى بالمعرفة والنكرة في تقابل دلالي كما سبق في قوله تعالى : ( إنا أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسولَ ) ، ومن هذا الباب إعادة المعرفة معرفة والنكرة نكرة لا كما في المثــال السابق وإنما كقوله تعالى : ( إنَّ مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسرا ) ( الانشراح : 4 - 5 ) والمفسرون يقولون إن المعرفة إذا كررت كان الثاني عين الأول وإذا كررت النكرة كان الثاني غير الأول ، فهم يقولون إن الآية تشير إلى يسرين مع العسر الواحد (27) ؛ ليكون ذلك أقوى للأمل وأبعث على الصبر (28) . وقد كثر الحديث عن نقض هذه القاعدة وذكر السبكي (29) أنها منتقضة بعدة آيات كقوله تعالى : ( وهو الذي في السماء آله وفي الأرض آله ) ( الزخرف : 84 ) وقوله تعالى : ( يسئلونك عن الشهر الحرام قتالٌ فيه قل قتالٌ فيه كبير )( المائدة : 45 ) وعدّها الزركشي منقوضة بعدة آيات منها( إن النفس بالنفس )( الرحمن : 60 ) و ( هل جزاء الإحسانِ إلا الإحسان )( الرحمن : 60 ) وقوله تعالى : ( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ) مع قوله ( قالت إحداهما ) ( القصص : 25، 26 ) .... الخ ، ولا يصح الاستشهاد بهذا الذي ذكروه فالآية الأولى النكرة فيها بمعنى معبود ، والاسم المشتق إنما يقصد به ما تضمنه من الصفة (30) ، وأجاب الطيبي بأن هذا من التكرار وإناطة أمرٍ زائدٍ وهذه القاعدة فيما إذا لم يقصد التكرير (31) ، أما قوله تعالى : ( ويسئلونك عن الشهر الحرام ... ) فقد أجيب عنه بأنّ أحدهما من كلام السائل والثاني من كلام النبي ) صلى الله عليه وسلم ) والقاعدة أن يكون الكلام من متكلمٍ واحد (32) ، كما أن الثاني ليس الأول لأن المراد بالأول المسؤول عنه القتال الذي وقع في إحدى السرايا سنة اثنين من الهجرة لأنه سبب نزول الآية والمراد بالثاني جيش القتال (33) أما ( إن النفس بالنفس ) و ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) فهذا من الكلام المتحد الذي يُعدُّ ثانيه مكمل لأوله جزاء عليه فلا يقاس على هذا ، والآية الأخيرة التي قال عنها الزركشي : ( وأما قوله تعالى : ( فجاءَتهُ إحداهما تمشي على استحياء ) بعد قوله ( قالت إحداهما ... ) فيحتمل أن تكون الأولى هي الثانية وألا تكون )(34) ، وهذا مما لا يصح إذا إن الآية ( فجاءته ) ليست بعد ( قالت إحداهما ) وإنما هي قبلها كما هو في الترتيب المصحفي غير أن كلام الزركشي ( بعد قوله ) يوهم أنها بعدها ، لذلك أجاز أن تكون الأولى هي الثانية وألا تكون ، وحين ترتب الآيات كما هي في المصحف سيتعين أن تكون الثانية هي الأولى ليصح إخبارها عنه ، وهذا ما فهمه الزمخشري حين قال ( هي التي ذهبت به وطلبت إلى أبيها أن يستأجره .. )(35) ، ويبدو أنّ خطأ الزركشي في ترتيب الآيات هو ما أوهمه بهذا الحكم ، والله أعلم .
ويبدو أن هذه الأقوال السابقة جعلت الطاهر بن عاشور يخطأ هذه القاعدة محتجاً بما يلي (36) : إن القاعدة في إعادة النكرة معرفة لا في إعادة المعرفة معرفة ، وهذا مخالف لكل من ذكر القاعدة (37) ، وأنّ القاعدة خاصة بلام العهد لا بلام الجنس وهذا غير صحيح ( فأن المعرّف إذا أعيد يكون الثاني عين الأول سواء كان معهوداً أو جنساً )(38) ، وحتى لو صحّ ما قاله الشيخ فأن السيدة بنت الشاطئ قد رجحت أن ( أل ) في الصدر للعهد لا للاستغراق .... (39) ، وذكر أن القاعدة في إعادة اللفظ في جملة أخرى وهذا تكرير للجملة الأولى وليست إعادة في كلامٍ ثانٍ كيف هذا ومن المفسرين من ذهب إلى أن الجملة الثانية استئنافية (40) ويكفي للتدليل على صحة هذه القاعدة قوله ) صلى الله عليه وسلم ) ( لن يغلب عسرٌ يسرين )(41) .
[color=FF0000]الحواشي :[/color]
1) ينظر: في البنية والدلالة 153 .
2) ينظر في هذه المعاني : الاتقان 1 / 324 – 325 .
3) ينظر : من بلاغة القرآن 130 .
4) التحرير والتنوير 30 / 174 .
5) ينظر : لغة القرآن 396 .
6) ينظر : المختار 1 / 103 – 104 .
7) الزمر 56 .
8) الكشاف 3 / 404 .
9) مفتاح العلوم 85 .
10) ينظر : الأسس النفسية 118 – 119 .
11) ينظر : الكشاف 4 / 178 ، وهو قول الزركشي البرهان 4 / 87 .
12) ينظر : البرهان 4 / 87 ، وهو قول ابن الخشاب .
13) ينظر : تفسير الرازي 30 / 182 .
14) ينظر : التعبير الفني 268 .
15) ينظر : التحرير والتنوير 30 / 274 .
16) ينظر : كلام ابن جني عن مادة ( ك ل م ) ودلالة مشتقاتها على القوة والشدة الخصائص 2 / 14 .
17) لسان العرب ( آله ) 13 / 469 .
18) ينظر : تفسير القاسمي 17 / 6313 ، ودّرة التنزيل 537 – 538 .
19) ينظر : من بلاغة القرآن 134 .
20) ينظر : التحرير 30 / 240 ، وتيسير الكريم الرحمن 7 / 600 .
21) فيما نقله الطاهر في التحرير 30 / 240 – 241 .
22) التحرير 30 / 241 .
23) ينظر : التحرير 30 / 241 .
24) التفسير الواضح 30 / 36 .
25) ينظر : التحرير والتنوير 30 / 437 .
26) ينظر : التعبير الفني 268 .
27) ينظر : تفسير الماوردي 4 / 477 ، وتفسير أبي السعود 1 / 882 ، والإتقان 4 / 477 ، والتحرير والتنوير 30 / 415 ، والبرهان 4 / 94 ، 98 ، وغرائب القرآن 30 / 116 .
28) ينظر : تفسير الماوردي ، قاله : ثعلب 4 / 477 .
29) ينظر : عروس الأفراح ، والإتقان 1 / 328 .
30) البرهان 4 / 99 .
31) ينظر : البرهان 4 / 98 – 99 ، والإتقان 1 / 328 – 329 .
32) ينظر : البرهان 4 / 99 ، والإتقان 1 / .
33) ينظر : الإتقان 1 / 328 .
34) البرهان 4 / 97 .
35) الكشاف 3 / 172 .
36) ينظر : التحرير والتنوير 30 / 415 – 416 .
37) ينظر : تفسير أبي السعود 5 / 882 …
38) تفسير أبي السعود 5 / 882 .
39) ينظر : التفسير البياني 1 / 71 .
40) ينظر : تفسير أبي السعود 5 / 882 ، والأعمال الكاملة لمحمد عبده 5 / 118 .
41) ينظر : غرائب القرآن 30 / 116 ، والإتقان 1 / 327 .[/align]
[align=center]د. عامر مهدي العلواني
مدرس البلاغة والنقد في قسم اللغة العربية
جامعة الأنبار[/align]
[align=center][color=FF0000]ثانياً : التعريف والتنكير : [/color][/align]
ولهذه الظاهرة اللغوية أهمية كبيرة في تنوع التعريف على وفق مقتضيات الكلام وتوظيف كل منهما لدواعٍ معينة تثري التركيب بدلالاتٍ متنوعة مما يُعدُّ أحد وسائل إثراء الدلالة (1) ، ومرجع هذا التوظيف إلى حاجة السياق إذ للتعريف والتنكير دلالة عامة من حيث إرادة التعيين أو عدمه إلا أن لهما معانياً يخرجان إليها ، وهذه المعاني لا تفاد منهما إلا من خلال سياقهما ، فالسياق هو وحده المحدِّد لهذه المعاني التي تخرج إليها المعرفة والنكرة (2) ، فقد تكون النكرة أحياناً دالة على التحقير وأحياناً دالة على التعظيم ، أو تكون دالة على التقليل أحياناً وأحياناً على التكثير ، أما أن تتحقق المعاني كلها في توظيفٍ واحد داخل سياق واحد فهذا هو الإعجاز بحد ذاته قال تعالى : ( ألم يَكُ نطفةً من منيٍّ يمنى )( القيامة : 37 ) وقال تعالى : ( من أي شيءٍ خلقه من نطفةٍ خلقه فقدره )( عبس : 19 ) وقال تعالى : ( أكـفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة )( الكهف : 37 ) … يقول أحمد بدوي : إنّ التنكير في هذه الآيات يوحي بالتحقير إلى النفس (3) ، وهذا ما رفضه الشيخ ابن عاشور بقوله : ( ولا التفات في ذكرها إلى معنى التحقير أو المهانة لأن المقام للاستدلال على أمرٍ عظيم لا لإهانة المتكبرين )(4) وقد رفض الدكتور نحلة رأي الشيخ ابن عاشور وعَدَّ المقام مقام تعجب من كفران الإنسان نعمة خالقه … مع أنه أنشأه من نطفةٍ أي من شيءٍ صغير حقير لا يعزى …(5) ، فنحن هنا أمام قراءات مختلفة لنصٍ واحدٍ ، غير أن ما يبدو هنا للوهلة الأولى تعارضاً لا يشكل عند الشعراوي إلا أسلوباً مقصوداً لأن عظمة الصنعة كما يذكر تأتي من أمرين .. إما من أمرٍ لطيف جداً يدقّ عن الإدراك أو أمرٍ كبيرٍجداً لا يحيط به الإدراك وهذان الأمران موجودان لذلك عندما يقال بأن النكرة ضد المعرفة ، والمعرفة تحدد المعنى ، والنكرة تعطي شيوعاً ، يقال إن الشيء قد ينكر للتعظيم وقد ينكر للتحقير وكأن النكرة تسمح أن تكون مرّة للتعظيم ومرّة للتحقير ومرّة للتقليل ومرّة للتكثير (6) ، وهذه هي أهم سمة أسلوبية في التعبير القرآني إذ تكون نصوصه قابلة لأكثر من قراءةٍ مقصوداً إليها جميعاً لتحقيق اتساعٍ دلالي حيناً أو مراعاةٍ لاختلافاتٍ فكريةٍ بين العصور فليس الإعجاز الكامل في أن تخاطب العالم بما يعجزه ويبهره بل في أن تخاطبه بكلامٍ يفهمه ذلك دون تجاوزٍ لفهم الإنسان العادي ، وليس في جمع المعنيين ( التحقير والتعظيم أو التقليل والتكثير ) في مفردة واحدة للتنكير كما في الآيات السابقة شيء جديد فقد كان الزمخشري يشير إليه كما في كلامه عن تنكير لفظة ( نفس )(7) حيث قال : ( يجوز أن يكون المراد بها بعض الأنفس ... أو أن يراد التكثير )(8).
وقد يؤتى باللفظة منكرة كما في قوله تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم )( الجمعة : 2 ) ، وقوله تعالى : ( إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم ) ( المزمل : 15 ) فتنكير المسند إليه هنا كان لغايةٍ بلاغية نفسية ذلك أن احتمال تحقق الحكم ، كما يقول السكاكي ، يزداد بُعداً كلما ازداد تخصصاً ويزداد قُرباً كلما ازداد عموماً (9) ، فالمسند إليه كلما كان عامّاً مطلقاً غير مقيد كان احتمال ثبوت الحكم له في الخارج وفي نفس المتلقي أقرب ، وإذا كان استعداد المتلقي لتقبل الحكم في هذه الظاهرة الأسلوبية البلاغية حسناً فأن الحاجة إلى تعريف المسند إليه تقل حينما يُراد توكيد الحكم وتقريره في نفس المتلقي ، وسيكون احتمال تحقق الحكم وثبوته بعيداً إذا كان المسند إليه معرفةً أو نكرةً مخصصة وتقبل المتلقي له وتصديقه به يكون أقل احتمالاً . وذلك لأننا لو قلنا ( سافر رجلٌ ) فإن احتمال ثبوت السفر لرجلٍ من الرجال لا على التعيين سيكون قريباً ولن يجد المتلقي صعوبةً في تقبله والتصديق به ، وسيكون العكس لو قلنا ( سافر الرجل ) فأن احتمال ثبوت السفر بحق هذا الرجل المعين بالذات من بين باقي أفراد الجنس وإن كان ممكناً إلا أن تقبل النفس له وتصديقها به ، مما يحتاج إلى إثبات وتوكيد (10) فمراعاة القرآن للمخاطبين كانت السبب في عدم ذكر اسم الرسول ) صلى الله عليه وسلم ) صريحاً في هذه السور بل لم يذكر في القرآن غير أربع مراتٍ في مواقف خاصة اقتضت ذلك الذكر ؛ لأن من المشركين من أنكر الإسلام لأنه لا يريد الاعتراف بالرسول ) صلى الله عليه وسلم ) حسداً وأنفة أو أن الاعتراف به سيعني إعلاءً لكلمة بني هاشم ... الخ ، فكان الإتيان باسم الرسول ) صلى الله عليه وسلم ) سيعني إنكاراً ونفوراً من البداية دون استماع لهذه الآيات التي تذكره والله أعلم . غير أن غاية بلاغية أخرى قصدت من التنكير والتعريف في قوله تعالى : ( كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول ) ( المزمل : 15 - 16 ) فلم يكن فرعون يعرف موسى رسولاً صاحب عقيدة فُنكّرَ اسم الرسول لعدم معرفة فرعون به لبداية دعوته غير أن التعريف دلّ على أن فرعون لم يعصه إلا بعد أن عرفه وجادله وناقشه فأصبح يعرف يقيناً أنه رسول ومع ذلك عصاه فاستحق أن يؤخذ أخذاً وبيلاً ( ... فأخذناه أخذاً وبيلاً ) ( المزمل : 16 ) ، وقد جعل الزمخشري التعريف عهدياً إشارة إلى المذكور بعينه (11) ، وقيل هي للجنس لأن من عصى رسولاً فقد عصى سائر الرسل (12) ، أمّا الرازي فجعل التقدير : أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصاه فأخذناه أخذاً وبيلاً ، فأرسلنا إليكم أيضاً رسولاً فعصيتم ذلك الرسول ، فلا بد وأن نأخذكم أخذاً وبيلاً ، فأرسلنا إليكم أيضاً رسـولاً فعصيتم ذلك الرسول ، فلا بد وأن نأخذكم أخذاً وبيلاً (13) ، وقد يستخدم التعبير القرآني التعريف بالإضافة لتكريم المضاف إليه بالتخصيص مع أن المضاف غير خاصٍ للمضاف إليه كما في قوله تعالى : ( ما أنت بنعمة ربكَ بمجنون )( القلم : 3 ) وقوله تعالى : ( إنّ ربك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله ... )( القلم : 7 ) فكأن الخطاب هنا - كما يقول أحمد بدوي - لمحمد ) صلى الله عليه وسلم ) وحده وكأن الله في هذا الموقف ربّ محمدٍ قبل أن يكون ربّ سواه ولو ربطنا بين موقف محمد وقريش وهو الرجل الوحيد في المعركة أمام قوةٍ من الرجال كثيرة في عددها كبيرة في قوتها شديدة في أذاها .... لأدركنا يقيناً لِمَ أضيف الرب إلى كاف الخطاب ولِمَ لم تستعمل كلمة أخرى مكان كلمة ( ربك ) كـ ( الله ) مثلاً (14)، والأمر كذلك في قوله تعالى : ( سبّح اسم ربَّكَ الأعلى )( الأعلى : 1 ) فجاءت الإضافة إلى الرب دون ( الله ) لما يُشعر به وصف ( رب ) من أنه الخالق المدبر وأما إضافة ( رب ) إلى ضمير الرسول ) صلى الله عليه وسلم ) فلتشريفه بهذه الإضافة وأنّ له حظاً زائداً على التكليف بالتسبيح (15) ، ومن المفسرين من جعل الإضافة دليلاً على عدم التكرار في قوله تعالى : ( قل أعوذ برب الناس ملك الناس آله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس … ) فـ ( الناس ) الأول بمعنى الأطفال المحتاجين للتربية بدليل إضافة ( رب ) إليهم فهو الخالق المربي المدبر ، والثاني الشباب لما في لفظ ( الملك ) من القوة (16) والثالث الشيوخ لأن ( الإله ) هو المعبود (17) ، والشيوخ هم المتعبدون المتوجهون لله (18) ، وهذه الملاحظة على ما قد يقال في بعدها تشير إلى نظرة المفسرين إلى المفردة لا من خلال قيمتها الدلالية وحدها وإنما هي ضمن إطارها الدلالي العام تدخل في مجموعة من العلاقات مع بقية المفردات سواء كانت في الجملة الواحدة أو السورة ككل فبين المفردات علائق خفية تجعل الواحدة منها مؤثرة ومتأثرة بالأخرى مما يشكل المعنى السياقي العام وسيتضح هذا في مبحث التضمين .
أما الضمير فقد وظف في القرآن توظيفاً جعل السورة القرآنية تتسم بترابط آياتها مع الإيجاز وعدم التكرار إلا ذاك التكرار الموظف لغايات تعبيرية ... والقرآن في كل هذا يستفيد من أساليب العرب كما في ضمير الشأن أو القصة وهو الضمير الذي لا مرجع له كما في قوله تعالى : ( قل هو الله أحد )( الإخلاص : 1 ) والأسلوب العربي - كما يقول أحمد بدوي - لا يأتي بهذا الضمير إلا في المواطن التي يكون للأمر فيها أهمية تراد العناية بها فيكون هذا الضمير أدعى للتنبيه يدفع المرء إلى الإصغاء فإذا وردت الجملة بعده استقرت في النفس واطمأن إليها الفوآد (19) وقد تبنى الضمائر في آيات معينة على صحة أن تكون عائدة على أكثر من مرجع كما في قوله تعالى : ( قُتلَ أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )( البروج : 4 - 8 ) إذ نحن حيال تفسيرين لـ ( قُتِلَ أصحاب الأخدود ) هل هم من حفر الأخدود وألقى المؤمنين به فيكون ( قُتِلَ أصحاب الأخدود ) دُعاءً عليهم بالهلاك واللعن كما فهمه بعض المفسرين (20) ، أم المقصود هنا الإخبار عن المؤمنين ( أصحاب الأخدود ) الذين ألقوا فيه كما فَهِمَ مفسرون آخرون (21) ، إنّ بناء الجمل كان بطريقةٍ تسمح بعود الضمير صحيحاً على كلا التفسيرين ، ومن جعل ( قُتِلَ أصحاب الأخدود ) ( جوابَ القسم جعل الكلام خبراً وقدّره لقد قُتِلَ أصحاب الأخدود فيكون المراد من أصحاب الأخدود الذين ألقوا فيه وعذّبوا به )(22) أي يكون قتل خبراً لا دعاءً ولا شتماً ، ولا يتعين أن يكون الخبر مستعملاً في لازم معناه من الإنذار للذين يفتنون المؤمنين بأن يحل بهم ما حَلَّ بفاتني أصحاب الأخدود ليعتبره الشيخ ابن عاشور ردّاً على الرأي الآخر بحجة أنّ الخبر عن أصحاب الأخدود لا يحتاج إلى التوكيد بالقسم إذ لا ينكره أحد فهو قصة معلومة للعرب كما يقول الشيخ ، وهذه الحجة لا تلزِمُ إلا على رأي الفراء كما صرّح الشيخ بنفسه لأن الزجاج : يرى أن جواب القسم هو( إن بطش ربك لشديد ) ( البروج : 12 ) والكلام الذي بينهما اعتراض قُصدَ به التوطئة للمقسم عليه وتوكيد التحقيق الذي أفاده القسم بتحقيق ذكر النظير(23) ، وقد ( يكون الله قد ضرب قصة أصحاب الأخدود هنا مثلاً ودليلاً على جواب القسم المقدّر وهو ابتلاء المؤمنين )(24).
أما بالنسبة للموصول فقد استُخدم في القرآن لوظيفةٍ تصويرية - إن صحّ التعبير - فالموصول يقدّم انتقالاً وصفياً من السياق العام إلى تفريع يُقصد إليه لغاية تعبيرية يحتاجها السياق وكأنها أحياناً تعليلية كما في قوله تعالى : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق )( العلق : 1 ) فقد جيء في وصف الربّ بطريق الموصول ( الذي خلق ) لأن في ذلك استدلالاً على انفراد الله تعالى بالإلهية لأن هذا القرآن سيُتلى على المشركين ، لما تفيده الموصولية من الإيماء إلى علة الخبر وإذا كانت علة الإقبال على ذكر اسم الرب هي أنه خالقٌ دلَّ ذلك على بطلان الإقبال على ذكر غيره الذي ليس بخالق (25) ؛ لأنهم معترفون بأن الله هو الخالق وحده ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ) ( الزمر : 38 ) فهذه الظاهرة الأسلوبية تستخدم قصداً لما بعدها ( الصلة ) مما يخلق نوعاً من التفنن في الأداء ووضع وصف مناسب للاسم عند حاجة السياق إليه .
ومثلما وُظف الموصول وظفت الإشارة في الأسلوب القرآني حتى كأنها تعبير لوحدها له دلالته الخاصة التي تسبغ على السياق ومن خلاله المعنى الدلالي الذي يجرد المُتَحدَّثَ عنه وكأنه مُشاهدٌ مُبصر كما قال تعالى : ( ..... فذلك الذي يَدعُّ اليتيم ) ( الماعون : 2 ) فكأنه أصبح ظاهر الوصف بارزاً يُشار إليه ، ليس هذا فقط بل إنما تضع المخاطب على بعده عما تشير إليه قال تعالى : ( هذه جهنم التي يكذِّب بها المجرمون ) ( الرحمن : 43 ) و ( هذا ما توعدون لكل أوابٍ حفيظ ) ( ق : 32 ) لما كان الخطاب في يوم القيامة وأصبح كل شيءٍ مرئياً مُشاهداً ، في حين قال تعالى مُخبراً عن المؤمنين : ( لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ) ( البروج : 11 ) وهم في الدنيا وخاطبهم فيها باسم الإشارة الدال على البعد لأنهم حصلوا على شيءٍ بعيد ( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يُلقاها إلا ذو حظٍّ عظيم ) ( فصلت : 35 ) وقال تعالى :( إنّ ربك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) ( القلم : 7 ) فقد جاءت ( من ) الدالة على العاقل هنا وجيء بصلتها ( الفعل ضلّ ) مفرداً على الرغم من كثرة الضالين يومئذٍ لتحقير شأنهم فكأنهم فردٌ واحد لا غير في حين جاء لفظ الهداية جمعاً على قلة عددهم يومئذٍ وكأنهم جمع كبير يملأ الدنيا لذلك عُرّف اللفظ بلام العهد الذهني للتكثير والتعظيم (26) وقد يؤتى بالمعرفة والنكرة في تقابل دلالي كما سبق في قوله تعالى : ( إنا أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسولَ ) ، ومن هذا الباب إعادة المعرفة معرفة والنكرة نكرة لا كما في المثــال السابق وإنما كقوله تعالى : ( إنَّ مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسرا ) ( الانشراح : 4 - 5 ) والمفسرون يقولون إن المعرفة إذا كررت كان الثاني عين الأول وإذا كررت النكرة كان الثاني غير الأول ، فهم يقولون إن الآية تشير إلى يسرين مع العسر الواحد (27) ؛ ليكون ذلك أقوى للأمل وأبعث على الصبر (28) . وقد كثر الحديث عن نقض هذه القاعدة وذكر السبكي (29) أنها منتقضة بعدة آيات كقوله تعالى : ( وهو الذي في السماء آله وفي الأرض آله ) ( الزخرف : 84 ) وقوله تعالى : ( يسئلونك عن الشهر الحرام قتالٌ فيه قل قتالٌ فيه كبير )( المائدة : 45 ) وعدّها الزركشي منقوضة بعدة آيات منها( إن النفس بالنفس )( الرحمن : 60 ) و ( هل جزاء الإحسانِ إلا الإحسان )( الرحمن : 60 ) وقوله تعالى : ( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ) مع قوله ( قالت إحداهما ) ( القصص : 25، 26 ) .... الخ ، ولا يصح الاستشهاد بهذا الذي ذكروه فالآية الأولى النكرة فيها بمعنى معبود ، والاسم المشتق إنما يقصد به ما تضمنه من الصفة (30) ، وأجاب الطيبي بأن هذا من التكرار وإناطة أمرٍ زائدٍ وهذه القاعدة فيما إذا لم يقصد التكرير (31) ، أما قوله تعالى : ( ويسئلونك عن الشهر الحرام ... ) فقد أجيب عنه بأنّ أحدهما من كلام السائل والثاني من كلام النبي ) صلى الله عليه وسلم ) والقاعدة أن يكون الكلام من متكلمٍ واحد (32) ، كما أن الثاني ليس الأول لأن المراد بالأول المسؤول عنه القتال الذي وقع في إحدى السرايا سنة اثنين من الهجرة لأنه سبب نزول الآية والمراد بالثاني جيش القتال (33) أما ( إن النفس بالنفس ) و ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) فهذا من الكلام المتحد الذي يُعدُّ ثانيه مكمل لأوله جزاء عليه فلا يقاس على هذا ، والآية الأخيرة التي قال عنها الزركشي : ( وأما قوله تعالى : ( فجاءَتهُ إحداهما تمشي على استحياء ) بعد قوله ( قالت إحداهما ... ) فيحتمل أن تكون الأولى هي الثانية وألا تكون )(34) ، وهذا مما لا يصح إذا إن الآية ( فجاءته ) ليست بعد ( قالت إحداهما ) وإنما هي قبلها كما هو في الترتيب المصحفي غير أن كلام الزركشي ( بعد قوله ) يوهم أنها بعدها ، لذلك أجاز أن تكون الأولى هي الثانية وألا تكون ، وحين ترتب الآيات كما هي في المصحف سيتعين أن تكون الثانية هي الأولى ليصح إخبارها عنه ، وهذا ما فهمه الزمخشري حين قال ( هي التي ذهبت به وطلبت إلى أبيها أن يستأجره .. )(35) ، ويبدو أنّ خطأ الزركشي في ترتيب الآيات هو ما أوهمه بهذا الحكم ، والله أعلم .
ويبدو أن هذه الأقوال السابقة جعلت الطاهر بن عاشور يخطأ هذه القاعدة محتجاً بما يلي (36) : إن القاعدة في إعادة النكرة معرفة لا في إعادة المعرفة معرفة ، وهذا مخالف لكل من ذكر القاعدة (37) ، وأنّ القاعدة خاصة بلام العهد لا بلام الجنس وهذا غير صحيح ( فأن المعرّف إذا أعيد يكون الثاني عين الأول سواء كان معهوداً أو جنساً )(38) ، وحتى لو صحّ ما قاله الشيخ فأن السيدة بنت الشاطئ قد رجحت أن ( أل ) في الصدر للعهد لا للاستغراق .... (39) ، وذكر أن القاعدة في إعادة اللفظ في جملة أخرى وهذا تكرير للجملة الأولى وليست إعادة في كلامٍ ثانٍ كيف هذا ومن المفسرين من ذهب إلى أن الجملة الثانية استئنافية (40) ويكفي للتدليل على صحة هذه القاعدة قوله ) صلى الله عليه وسلم ) ( لن يغلب عسرٌ يسرين )(41) .
[color=FF0000]الحواشي :[/color]
1) ينظر: في البنية والدلالة 153 .
2) ينظر في هذه المعاني : الاتقان 1 / 324 – 325 .
3) ينظر : من بلاغة القرآن 130 .
4) التحرير والتنوير 30 / 174 .
5) ينظر : لغة القرآن 396 .
6) ينظر : المختار 1 / 103 – 104 .
7) الزمر 56 .
8) الكشاف 3 / 404 .
9) مفتاح العلوم 85 .
10) ينظر : الأسس النفسية 118 – 119 .
11) ينظر : الكشاف 4 / 178 ، وهو قول الزركشي البرهان 4 / 87 .
12) ينظر : البرهان 4 / 87 ، وهو قول ابن الخشاب .
13) ينظر : تفسير الرازي 30 / 182 .
14) ينظر : التعبير الفني 268 .
15) ينظر : التحرير والتنوير 30 / 274 .
16) ينظر : كلام ابن جني عن مادة ( ك ل م ) ودلالة مشتقاتها على القوة والشدة الخصائص 2 / 14 .
17) لسان العرب ( آله ) 13 / 469 .
18) ينظر : تفسير القاسمي 17 / 6313 ، ودّرة التنزيل 537 – 538 .
19) ينظر : من بلاغة القرآن 134 .
20) ينظر : التحرير 30 / 240 ، وتيسير الكريم الرحمن 7 / 600 .
21) فيما نقله الطاهر في التحرير 30 / 240 – 241 .
22) التحرير 30 / 241 .
23) ينظر : التحرير 30 / 241 .
24) التفسير الواضح 30 / 36 .
25) ينظر : التحرير والتنوير 30 / 437 .
26) ينظر : التعبير الفني 268 .
27) ينظر : تفسير الماوردي 4 / 477 ، وتفسير أبي السعود 1 / 882 ، والإتقان 4 / 477 ، والتحرير والتنوير 30 / 415 ، والبرهان 4 / 94 ، 98 ، وغرائب القرآن 30 / 116 .
28) ينظر : تفسير الماوردي ، قاله : ثعلب 4 / 477 .
29) ينظر : عروس الأفراح ، والإتقان 1 / 328 .
30) البرهان 4 / 99 .
31) ينظر : البرهان 4 / 98 – 99 ، والإتقان 1 / 328 – 329 .
32) ينظر : البرهان 4 / 99 ، والإتقان 1 / .
33) ينظر : الإتقان 1 / 328 .
34) البرهان 4 / 97 .
35) الكشاف 3 / 172 .
36) ينظر : التحرير والتنوير 30 / 415 – 416 .
37) ينظر : تفسير أبي السعود 5 / 882 …
38) تفسير أبي السعود 5 / 882 .
39) ينظر : التفسير البياني 1 / 71 .
40) ينظر : تفسير أبي السعود 5 / 882 ، والأعمال الكاملة لمحمد عبده 5 / 118 .
41) ينظر : غرائب القرآن 30 / 116 ، والإتقان 1 / 327 .[/align]
[align=center]د. عامر مهدي العلواني
مدرس البلاغة والنقد في قسم اللغة العربية
جامعة الأنبار[/align]