أحوال المفردة القرآنية (1) :

إنضم
08/08/2004
المشاركات
48
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
العراق - الأنبار

[color=FF0000][align=center]أولاً : البناء للمعلوم والمجهول : [/align][/color][align=justify]
كان أسلوب البناء للمجهول من الظواهر البارزة في القرآن الكريم ويعد بحق واحداً من أهم الأساليب التي استخدمت في التعبير القرآني لا من حيث الكثرة التي برزت خاصةً في السور القصيرة التي تعلقت بالحديث عن يوم القيامة ، وإنما للفنية الرائعة التي استخدم بها هذا الأسلوب فإنا لو عرضنا النص القرآني على الأغراض التي ذكر البلاغيون والنحاة أن من أجلها يُستغنى عن الفاعل ويبنى للمجهول ، وهي إما للعلم به أو الجهل به أو الخوف منه نجده يرفض كما يقول أحد الباحثين - أن يكون حذف الفاعل ( سبحانه ) من أجل واحدٍ منها ، وإنما هو كما ذهبت إليه بنت الشاطئ بحق : ( من أجل تركيز الاهتمام على الحدث بصرف النظر عن محدثه )(1) ، يقول الطاهر بن عاشور في حديثه عن قوله تعالى : (( يومَ يُنْفَخُ في الصورِ ))( النبأ : 18 ) : ( وبُنِيَ ينفخ إلى المجهول لعدم تعلق الغرض بمعرفة النافخ ، وإنما الغرض معرفة هذا الحادث العظيم ... )(2) ، وعُلِّل مثل هذا الأسلوب بـ (عدم تعلق الغرض بمعرفة الفاعل)(3) ، وهو ما أفاد منه وأشار إليه محمود نحلة (4) ، ومن هذا قوله تعالى: (( يومَ ينفخ في الصورٍ … وفتحت السماء … وسيرت الجبال ))( النبأ : 18 – 20 ) ، و(( إذا الشمس كورت … وإذا الجبال سيرت … وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حُشرت وإذا البحار سُجَرت … ))( التكوير : 1 ـ 6 ) والعمدة في مثل هذا الأسلوب وفي مثل هذا الاستخدام علــى كلام بنت الشاطيء التي قالت إن استعمال الأفعال المبنية للمجهول يطرد في وصف اليوم الآخربحيث يمكن أن يُعدَّ ظاهرةً أسلوبيةً في هذا المقام ، وتضيف : ( ولا أعرف أنّ أحداً من اللغويين أو المفسرين ألتفت إلى اطراد هذه الظاهرة الأسلوبية ، وإنما عني أكثرهم بالصناعة النحوية في ذاتها وقالوا في ( زُلزلت ) حُذِفَ الفاعل للعلم به غير ناظرين إلى ما لهذه الظاهرة من أثرٍ في التعبير والذي نراهُ أنّ استعمال الفعل مبنياً للمجهول في مثل هذه الآيات فيه نصّ على الطواعية والانبعاث التلقائي وكأنما تزلزل الأرض وترج الجبال ... تلقائياً دون حاجةٍ إلى فاعل ... ) (5) وقد أشار كثيرُ من القدماء إلى البناء للمجهول لغرض صرف التركيز إلى المفعول به وتوجيه الانتباه إليه ، وهذا ما أشار إليه الإسكافي حين فرّق بين قوله تعالى :(( وَ يطاف عليهم بآنيةٍ من فضةٍ ))( الإنسان : 15 ) ، وقوله تعالى : (( ويطوف عليهم ولدانُ مخلدون ))( الإنسان : 19 ) فذكر بأنّ ( القصد ) في الأولى كان متوجهاً إلى وصف ما يطاف به دون وصف الطائفين فلما كان المعتمد بالإفادة ذاك ، بُني الفعل ( مقصوداً ) به ذكر المفعول لا الفاعل فقال تعالى واصفاً هذه الآنية (( بآنية من فضةٍ وأكوابٍ كانت قواريرا قوارير من فضةٍ ))( الإنسان : 15 - 16 ) ولهذا لم يُسمِ فاعله (ويطاف) ولأنه جاء بعد قوله تعالى:(( وذللت قطوفها تذليلاً ))( الإنسان : 14 )(6) وفي الآية الثانية قُصد إلى وصف الفاعلين الذين يطوفون بهذه الآنية فوجب ذكرهم لتعلق الصفة بهم (7) ، ولعل أفضل من أوضح هذا كان ابن جني الذي ذكر أن أصل وضع المفعول أن يكون فضلة وبعد الفاعل فإذا عنى المتحدث ذكره قدّمه على الفاعل ، فإذا ازدادت عنايتهم به قدموه على الفعل الناصب له فإن تظاهرت العناية به عقدوه على أنه رب الجملة وتجاوزوا به حدَّ كونه فضلة ... ثم زادوا على هذه الرتبة .. فحذفوا ضميره ونووه ولم ينصبوه على ظاهر أمره رغبةً به عن صورة الفضلة ولم يرضوا له هذا حتى صاغوا الفعل له وبنوه على أنه مخصوصٌ به وألفوا ذكر الفاعل مظهراً أو مضمراً واطرح ذكر الفاعل وهذا يدلَ على شدة عنايتهم بالفضلة وكذلك قولهم : ضُرِبَ زيد إنما الغرض منه أن يعلم أنه منضربٌ وليس الغرض أن يُعلم من الذي ضربه (8) ونفى في موضعٍ آخر أن يكـــون البناء للمجهول ملزماً للجهل بالفاعــل مستدلاً بقوله تعالى : (( وخُلِقَ الإنسانُ ضعيفاً )) ( النساء : 38 ) و(( خُلِقَ الإنسانُ من عجل ))( الأنبياء : 37 ) وهذا مع قوله تعالى : (( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه .. )) ( ق : 16 ) وقوله سبحانه : (( خَلَقَ الإنسان من عَلق )) ( العلق : 2 ) فالغرض الإخبار عن وقوع الفعل به حسب وليس الغرض فيه ذكر من أوقعه به(9) بل إن الأمر تجاوز مثل هذه الإشارات إلى إيجاب إعراب ( زيدٍ ) مبتدأ مثلاً في جواب من سأل : من قام وردّ كلام النحاة في كونه فاعلاً لأنَ ( اللبس لم يقع عند السائل إلا فيمن فعل الفعل فوجب أن يتقدم الفاعل في المعنى لأنه مُتعلق غرض السائل وأما الفعل فمعلوم عنده ولا حاجة به إلى السؤال عنه )(10) وبهذا يُعرف أن النص القرآني يريد أن يلفت انتباه المتلقي ويركزه على المتحدث عنه ( النفخ في الصور وحمل الأرض ودك الجبال ... ) وأن ينقل إليه هذه الصورة ويجسدها أمام ناظريه .. وليس لذكر الفاعل سبحانه أثرٌ هنا في حيوية النص ما دام سبحانه معلوماً متعيناً إذ إن ذكره سبحانه بالإضافة إلى أنه سيكون تطويلاً لا مسوغ له فأنه يضيّع في الوقت نفسه تركيز الانتباه على الحدث ومشاهد يوم القيامة (11) قال تعالى : (( أفلا ينظرون إلى الإبلِ كيفَ خُلقت )) ( الغاشية : 17 ) و (( فلينظر الإنسان مِمَّ خُلقَ خُلِقَ من ماءٍ دافق )) ( الطارق : 5 - 6 ) و (( أم خُلقوا من غيرِ شيءٍ أم هم الخالقون )) ( الطور : 35 ) ففّرق - سبحانه - في الآية الأخيرة في البناء ، مع أن الفعل واحد لأن الفعل كان دعوة للتفكر في مادة الخلق فلا يتناسب معه ذكر الفاعل وفي الثاني سؤال بعد معرفة مادة الخلق أو عدم معرفتها فناسب أن يذكر فاعله لأنهم إن عرفوا فسيتعين عليهم النفي إذ هذا ليس في مقدرتهم وإن لم يعرفوا تعين النفي أيضاً لأن من لا يعرف منشأ الخلق غير قادرٍ عليه .. والله أعلم .
وقد يحذف الفاعل لغايةٍ تعبيرية منها الأدب في الحديث وتنزيه الفاعل عما لا يليق أن ينسب إليه رغم أنه هو فاعله حقيقة قال تعالى على لسان الجنّ : (( إنا لا ندري أشرٌ أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا )) ( الجن : 10 ) فلا يخفى ما في قولهم هذا من الأدب حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إلى الله - تعالى - كما صرحوا في الخير وإن كان فاعل الكل هو الله - تعالى - فهم بهذا قد جمعوا بين الأدب وحسن الاعتقاد (12) وهــذا أكثر من أن يُحصــــى في القـــــرآن الكريــــم مثـــل (( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين )) ( الفاتحة : 7 ) فنسبوا الإنعام له تعالى وبنوا الغضب على اسم الفاعل والضلال على اسم الفعل من غير ذكر فاعلٍ له تنزيهاً له تعالى وأدباً من نسبة ما ظاهرة الغضب والضلال له تعالى .
وقد يُحذف الفاعل على الرغم من تعلق السياق به ، قال تعالى : (( وإن سعيه سوف يُرى )) ( النجم : 40 ) فعلى الرغم من أن الغرض متعلق بالفاعل إذ في ذكر ( الرائي ) زجراً للإنسان ، غير أن حذفه أعطى هذا التعبيرمن القوة والتهويل الشيء الكثير ، ذلك أن الآية في مقام تهديد الناس وإنذارهم فحذف الفاعل ( الرائي ) ليصحّ أن يكون الكل فاعلاً لهذه الرؤية . وقال تعالى : (( يُسقون من رحيق مختوم )) ( المطففين : 25 ) وذكر الفاعل كان ضرورياً هنا لبيان أثر النعيم الذي يعيش فيه أهل الجنة ذلك أنهم لا يكلفون عناء السُّقيا ولا مشقة اجتلاب الماء فهم لا يستقون وإنما يُسقون على أن فعل السقيا - كما يقول الدكتورنحلة - قد ورد مرّة أخرى مبنياً للمجهول في وضعٍ مناقض تماماً للوضع السابق ، ولكن البلاغة القرآنية المعجزة استخدمت البناء للمجهول استخداماً بارعاً وحذفت الفاعل مع تعلق الغرض به وإن اختلف الغرضان قال تعالى : (( ... تصلى ناراً حامية تًسقى من عينٍ آنية )) ( الغاشية : 4 - 5 ) فجاء فعل السقيا في موضع العذاب كما جاء من قبل في موضع النعيم والسقيا من ماء شديد الحرارة (( كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم ))( الدخان : 46 ) فلما كان الشراب هكذا ما كان معقولاً أن يشربوه بأنفسهم فلابد إذن من إرغامهم على ذلك ولا يكون إلا بفعل فاعل في حذفه وعدم ذكره بلاغة أكبر من ذكره ليترك للخيال فرصة تصور هؤلاء الجبابرة الذين يرغمون العاصين على تجرع هذا الشراب (13).[/align]
[color=FF0000]الحواشي :[/color]

1) ينظر : الأسس النفسية 137 ، وينظر : رأي بنت الشاطئ في الإعجاز البياني 222 – 224 .
2) المقدمات وتفسير الفاتحة 137 .
3) المصدر السابق 160 .
4) ينظر : دراسات قرآنية 133 – 134 .
5) الإعجاز البياني في كتاب العربية الأكبر 206 – 207 .
6) وفي هذا إشارة للمشاكلة والمناسبة وستأتي في كلام إبراهيم السامرائي .
7) ينظر : درّة التنزيل 51 .
8) ينظر : المحتسب 1 / 65 – 66 ويستدل على هذا في موضع أخر بقراءة ( يوم يُقال لجهنم ) ( ق 30 ) المحتسب 2 / 284 .
9) ينظر : المحتسب 1 / 135 .
10) الإتقان 1 / 338 وذكر السيوطي أنه قول ان الزملكاني في البرهان .
11) ينظر : الأسس النفسية 137 .
12) ينظر : التفسير الوسيط 16 / 192 ، وروح المعاني 29 / 88 ، وتفسير القاسمي 16 / 5949 .
13) ينظر : لغة القرآن 392 .

[align=center]د. عامر مهدي العلواني
مدرس البلاغة والنقد في قسم اللغة العربية
جامعة الأنبار[/align]
 
عودة
أعلى