أحكام تعدد المصليات في أماكن العمل

إنضم
15/04/2006
المشاركات
161
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
  • [h=2]أحكام تعدُّد المصلَّيَات في أماكن العمل[/h]
    أحكام تعدُّد المصلَّيَات في أماكن العمل
    هذه سطور مرقومة حول تأصيل مسألة تعدُّد المصليات في أماكن العمل . وليست مرقومة لبيان حكم صلاة الجماعة والخلاف حول أفضليتها في المسجد ، أو في جماعة غير جماعة المسجد ، ففرق بين المسألتين .
    وهذه المسألة مهمة لأنها تُعين على فهم مراتب الخير في العبادات ،
    وقد قال الإمام ابن تيمية ( ت: 728هـ) -رحمه الله تعالى – : ” من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدِّين ، لم يعرف أحكام الله في عباده ، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل ، ومن عَبد الله بغير علم كان ما يُفسد أكثر مما يُصلح ” .

    وهذا شرح لمفردات المسألة .
    أ-أحكام : جمع حُكم ، وهو الخِطاب الشرعي المتعلِّق بالمسلم من حيث الإقتضاء أو التخييِّر أو الوضع .
    ب – تعدُّد : اسم وهو مصدر ، والمقصود به وجود اثنين أو أكثر ، وهو مأخوذ من تنوع الشي وتكراره في نفسه . ولفظ التعدُّد في شرع الله لا يدلُّ مطلقاً على الجواز ولا على التحريم ، إنما بحسب القرائن الدالة على الحكم . وهذه قاعدة فقهية يجب حفظها .
    ج- المصلَّيات : اسم ، وهي جمع مُصلَّى ،ويقصد به اسم مكان من صلَّى. قال الله تعالى : ” واتخذوا من مقام إبراهيم مُصلَّى ” ( البقرة : 125) . ويطلق المصلَّى أيضاً على مكان الصلاة .

    فالمصلَّى ليس له حُكم المسجد في كثير من أحكامه . فلا يُقاس حكم المسجد على المصلَّى من حيث تعلُّق الكراهة والتحريم به .
    د – أماكن العمل : الدوائر الحكومية والشركات والمطارات ومحطَّات الوقود التي يعمل بها موظفون ، وبها مسجد أو أكثر لإقامة الصلاة جماعة ، ويلحق بها مُصلَّيات صغيرة تتسع لثلاثة أو أكثر لإقامة الصلاة دفعاً لمشقة الذهاب إلى الصلاة في المسجد ، أولتفويت مفسدة أو أكثر تُحتمل عند الصلاة في المسجد .

    محلُّ النِّزاع في المسألة :
    الصلاة في المسجد جماعة واجبة ، وهي عند بعض أهل العلم من آكد السُّنن . والصلاة في المصلَّى يحصل بها أجر الجماعة لكن يقع بها تفرق القلوب والأبدان عن جماعة المسجد ، وقد تكون المصلَّيات ذريعة لمن تلبَّس ببدعة للإنفراد عن جماعة المسجد ، وقد كان هذا واقعاً في المسجد الحرام في بعض الأزمنة ، وهو من البدع المُحَدثة .

    تحرير محل النِّزاع في المسألة :
    هذه المسألة لو بنُيت على قاعدة الاستصحاب ، لارتفع الخلاف حول التنازع في حكمها فوراً ، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان ، والقول بحجية مصلحة لإستدامة ما كان ثابتاً ، هو الأرجح في قواعد الشرع .
    ومسألة تعُّدد المصليات في أماكن العمل شبيهة في بعض الوجوه بمسألة تكرار الجماعة في المسجد الواحد ، لكنها تُخالفها في وجوه أخرى .

    فعلى سبيل التقريب قد أجمع أهل العلم على أن المسجد إذا لم يكن له أهل معروفون، بأن كان على شوارع الطرق، ويصلِّي الناس فيه أفواجاً فهذا لا يُكره فيه تكرار الجماعة، بل الأفضل أن يُصلِّي كل فريق بأذان وإقامة على حِدة، لأن هذا المسجد ليس له أهل معروفون، وأداء الجماعة فيه مرة بعد أخرى لا يؤدِّي إلى تقليل الجماعات.
    وأجمع أهل العلم أيضاً على عدم كراهة تكرار الجماعة في مسجد ليس له إمام ولا مؤذِّن .
    ولا يُكره أيضاً عند عامة الفقهاء تكرار الجماعة في مسجد صلَّى فيه أولا غيرُ أهله جماعة ، ثم جاء الإمام الراتب بعدهم في جماعة فيصلي بهم جماعة .

    وذكر الفقهاء أنه: إذا كان مسجد بمكانٍ، وقد صلَّى فيه أولاً غير أهله، بأذان وإقامة ، فلا يُكره لأهله أن يعيدوا الأذان والإقامة، وإن صلَّى فيه أهله بأذان وإقامة أو بعض أهله، فإنه يُكره لغير أهله وللباقين من أهله أن يعيدوا . لكن هذا القول ليس محلَّ إجماع .

    دوائر العمل تختلف في ضبط وقت الصلاة في مكان معين ووقت معين ، بسبب ظروف العمل المرهقة في بعض دول العالم الإسلامي . فبعضهم في وقت الصلاة الأول قد يكون مُشرفاً على مرضى في العناية الفائقة ، أو حارساً على حدود البلد المسلم ، أو في مهمة مراقبة على الحدود البحرية ، أو في مهمة عمل في الجو، أو يعمل عند شركة يُشرف عليها من لا يدين بالإسلام ، وفي داخل دائرة العمل مسجد أو أكثر ، فيصلِّي الأولون ثم يلحقهم التابعون ، كُّل على حسب حاله . فهذه الصفة معتبرة شرعاً للضرورة الملِحَّة ، ويجوز فيها اتخاذ المصلَّى تقريراً لقاعدة : لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة ، وقاعدة : المشقة تجلب التيسير .

    لكن إذا كان العمل في الدائرة نفسها يتوقَّف في وقت واحد للصلاة ، ولا وجود لمنشغلٍ بغير الصلاة ، فلا يسوغ تعدُّد المصليات مع وجود مسجد أو أكثر تُقام فيه الجماعة في هذا الوقت ، للأسباب الآتية :

    1- أن تفرُّق الأبدان وسيلة لتفرق القلوب ، والمأمول إجتماع المسلمين لا تفرقهم سواء في العبادات أو في شهود الخير وطلب رفيع الدرجات . وقد قال الله تعالى : ” فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً ” ( المائدة : 48 ) .

    2- أن فضيلة الصلاة في المسجد آكد من غيرها ، بدليل الحث على بنائها رجاء بركتها ،لما في الصحيحين عن عثمان رضي الله عنه مرفوعاً : ” من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله ، بنى الله له بيتاً في الجنة ” .

    3- عند تفاضل العبادات وتزاحمها يُقدَّم الأكثر أجراً ،لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : ” من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له نزُلا كلما غدا أو راح”.

    والمصلَّى ليس بمسجد وإن كان محلَّ عبادة عُرفا لا شرعاً .
    والواجب تقدِيم ما قدَّمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، حتى وإن خالف أهواء الناس .
    4- عمارة المساجد تحصل بتكثير سواد المسلمين فيها ، ودعوة الناس إلى بذل الخير فيها ، كالوقف فيها ، وتعليم الجاهل وتذكير الغافل ، ونحو ذلك من ضروب الأجر . بخلاف المصلَّى الذي يقصر الخير فيه في مثل هذا . وهذا معروف بالحِس والتجربة . والبرآءتان اللتان بشَّر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من يدرك التكبيرة الأولى ، لا يمكن تحصيلهما في المصلَّى ، لإنقطاع الصلاة فيه أحياناً ، فهي في المسجد أحرى وأقرب .

    5- يحصل في المساجد من الخير والبركة ما لا يحصل في غيرها ، وهذا في الغالب وهو مشاهد ومعروف ، فَتُلتمس بركة هذه الفضيلة بإقامة الصلاة في المساجد تقرباً الى الله تعالى .

    ومن مفردات الإمام مسلم رحمه الله تعالى حديث أبي موسى مرفوعاً : ” إن أعظم الناس في الصلاة أجراً أبعدهم إليها ممشى ” وهذا يدلُّ على أن التقرب إلى الله بالذهاب إلى المساجد – حتى مع وجود المصلَّيات – مما يزيد أجر قاصد الصلاة .

    * أما الصلاة في المُصلَّى فتتعلق به جملة من الأحكام :
    1- لا يوجد دليل من الكتاب والسنة يمنع المسلم من إقامة الصلاة في المُصلَّى ، لأن هذا من خصائص الأمة المحمدية كما في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً : ” وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ” ، وعند أصحاب السُّنن إلا النسائي مرفوعاً من حديث عثمان رضي الله عنه : ” الأرض كُّلها مسجد إلا المقبرة والحمام ” .وإسناده حسن .
    لكن هذا يُقصد به من أدركته الصلاة بعيداً عن المساجد . فالمسجد أفضل لأنه بُني لغرض عمارته بالسعي إليه وتكثير سواد المسلمين فيه ، وقد رتَّب الله الهداية على ذلك كما في آية التوبة المشهورة .
    أما المُصلَّى فلم يُشيَّد لمقصد العبادة ، فيكون حينئذٍ أدنى في الأفضلية .

    2- أحكام المسجد لا يُمكن تنزيلها على أحكام المُصلَّى، فمنطوق قول الله تعالى : ” في بيوت أذن الله أن تُرفع ويذكرَ فيها اسمه ” ( النور : 36) مُتوجِّه للمساجد لا للمصلَّى . وكذلك منطوق حديث أبي بن كعب مرفوعاً : ” صلاةُ الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى . أخرجه الترمذي وأبو داود بإسناد حسن . وهذا الحديث حجة في استصحاب حكم المساجد وتفضيلها على المصلَّيات .

    3- منع تعدُّد المصلَّيات في غير إقامة الفرائض قال به بعض السلف . فقد منع المالكية والشافعية والحنفية تعُّدد مصليات العيد خشية نفرة القلوب . لكن إن كانت المساجد قائمة ومتقاربة ، فَيُقاس منع المصليات عليه في الفرائض أيضاً ، لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفِّهم ، ولنيل أجر المشقة . وفي الحديث : ” أجركِ على قدر نَصبِك ” متفق عليه . فَيُفهم منه أن الأجر الحاصل بالمشقة أعلى من الأجر الذي يحصل بالراحة . وقد قرَّرت القاعدة الفقهية : أن ما كان أكثر فعلاً كان أكثر فضلاً .

    4- منع إقامة الصلاة في المصلَّى مطلقاً مع وجود المساجد ، مُقيَّد بانتفاء المشقة وانتفاء الضرورة التي تُوجب ذلك . فإن وجدت المشقة والضرورة المقدَّرة بشهادة أهل العلم والتقوى والمعرفة بواقع الحال ، فيجوز ولا حرج لحديث أُبَيّ بن كعب المتقدِّم .

    5- يجب التفريق بين الضرورة والحاجة عند تنزيل هذه المسألة على الواقع . فقد يكون وجود المصلَّيات حاجة لكنه لا يصل إلى حدِّ الضرورة ، فيكون الإحتساب في منعها أقرب للسنة وأكمل لإجتماع الكلمة ، ويكون إبقاؤها للصلاة منوطاً بالمصلحة الشرعية التي تُقدَّر بقدرها . وقد قال الله تعالى : ” وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تُحشرون ” ( الأنعام : 72 ) . فَيُفهم من الآية وجوب مراعاة التقوى عند إقامة الصلاة في المسجد أو خارجه .

    وقد تقرر عند الأصوليين أن عدم الإطلاع على عِلة الحكم لا يوجب رده ولا عدم العمل به . فقد قال الناظم :
    ونفي الإطَّلاعِ ليس قادحاً .. إن يقم الدليلُ فيه جانِحاً

    وختاماً فإذا كانت منيحة العنز من أعلى الصدقات لعموم نفعها وتعدِّي أثرها وخيرها ، فإن الصلاة في المساجد أولى وأحرى مِن سِواها ، لتعدِّي فضلها وعظيم ثوابها . وهذا منهج السلف والمحدِّثين .

    ومن تأمل طريقة مشاهير الُأصولييِّن في المسائل المتعارضة يجد أنهم يُرجِّحون بتغليب الفضل والخير وتفاضل الأعمال ، أو بملاحظة زيادة الوصف أو بتقديم المسائل القوية الغالبة على غيرها في الترجيح ، كما قرَّره الإمام الغزالي(ت: 505هـ) والإمام الآمدي (ت: 631هـ ) والإمام البيضاوي (ت: 691هـ )رحمهم الله وإيانا وجميع المسلمين .
    هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

    ا/ أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
    عضو هيئة التدريس بمعاهد القوات البرية

    ( منقول )
    مدونة المتوقِّد





  • مادة إعلانية
 
عودة
أعلى