عاشق البلاغة
New member
- إنضم
- 19/09/2008
- المشاركات
- 4
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين ؛
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على النبيّ محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فقد كان للعلماء سببان جامعان للتأليف والكتابة:
أولهما: الدخول في زمرة العلماء.
الثاني: القيام بمهمّة الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والأوّل يدخل فيه: شعور القدرة السابقة واستبانتها في النفس أنّه يستطيع أن يكتب في هذا الفنّ فيجمع ويحقّق ويرجّح ويعرض، ولهذا يجلس على كتبه بنفس هادئة صبورة مع الورق والحبر، ويطيل النَّفس في الكتابة بحسب مراده، لا يتعجّل أن يُخرج ما بيده للنّاس ليعلموه بمقدار أن يهتمّ بإتقانه وتحسين بنائه، وهذا السبب يدخل فيه الكثير من الإرادات الدافعة للكتابة، منها: رغبة خدمة العلم، ذلك ببسطه وتسهيله، وتنويع أنماط التأليف وما شابه ذلك.
أمّا الثاني فصاحبه مقهور للكلمة، العبارة تقوده ولا يقودها، تدفعه أن يخرجها من نفسه للنّاس، مِن غير كبير اهتمام بالصورة والشكل، فالحاجة شديدة فلا حاجة للانتظار، وليس هو في منطقة الاختيار في طريقة الكتابة ولا في تطويلها، وهو لا يمشي في طريق يرسمه لنفسه، بل ما يقع من أمور تحتاج إلى إصلاح هي الحاكمة والمؤثّرة. ومن نظر في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رأى أنّ هذا جليّاً في أغلب كتبه، ولذلك كانت هذه مزيّة له، وما من كتاب له إلاّ وله سبب واقعي دَفَعه لخطّه وكتابته، ولهذا استحقّ هذا العالم أن يكون مصلحاً بحقّ، وكان لزاماً أن يعاني ما يعانيه أصحاب هذا الطريق.
أن يكتب المرء في التفسير في هذا العصر لا يمكن أن ينفع الناس ولا يستطيع أن يقدّم شيءاً زائداً عمّا قاله الأوائل إن لم يكن مقهوراً للكلمة أسيراً لها، يريد بها إصلاح أمر وتقويم قضيّة، يعالج ما ألمّ فيكوي ويجرح ويؤلم ولكن إن بارك الله تعالى في عمله أشفى وأبرأ، وإلا كان جامعاً معيداً لما قاله المتقدّمون من روايات، وفي نهاية الأمر وبعد انتهائه من تأليف كتابه ينطبق عليه قول من قال في بعض المؤلّفات: «لو قيل لكلّ كلمة فيها إرجعي إلى مكانك لم يبق له منها كلمة». نعم هو لا يعدم الفضل ولكن هناك فرق بين من أراد هذا وبين من أحسّ بالأمر ضرورة فصرخ وأجلب بالخير ليمحو به الكثير من الشرور.
فما كتبه الأستاذ سيّد قطب في كتابه الطيّب -في ظلال القرآن- هو أقرب ما يكون من هذا اللون والنّمط، ذلك أنّه رأى هذه الوحدة الجامعة في كتاب الله لقضيّة الألوهيّة، وهي مدار القرآن الذي أُنزِل من أجلها، ورأى من واقعه ما يقابلها خلافاً ومعاندة، فبدأ ينسج من مقتضيات ولوازم هذه القضيّة من الأحكام ما يردّ على دعاوى الجاهلية المعاصرة، المتجدّدة على هيئة خبيثة من التزوير والتزيّن الذي يخفي حقيقتها المستورة، مع ما أعطاه الله تعالى من البيان الصارم الذي لا يهتمّ كثيراً بسجع المتأخّرين ولا تنميقاتهم اللفظيّة، بل جعل الجمال أكثر ما يكون حين يكون المعنى جيّداً وصحيحاً، فتطربك المعاني، وتهتزّ لها، وتغبطه عليها، على شرط واحد أن لا تكون متعصّباً لصيغ وأنماط التفسير التي يظنّ أنصارها أن القرآن لا يصلح إلاّ لها، ولا يمكن أن يُبسَط إلاّ من خلالها.
حيث يعترف المرء أن الفقيه من حقّه أن يأخذ من القرآن حظوظه، وأن البيانيّ والبلاغيّ له من الحقّ أن يأخذ بغيته، فمن الواجب علينا أن نقرّ للإنسان المسلم أن يأخذ من القرآن راحته واطمئنانه، فحينئذ يعبّر الفقيه عن حظوظه بلغته، ويشرح البلاغيّ والبيانيّ ما أخذ بعبارته، وكذا من حقّ المتذوّق لإنسانيّته في القرآن الكريم أن يشرح للناس عواطفه وأحاسيسه مع هذا الكتاب العظيم الجليل. فمن أعرض عن قراءته فله ذلك، فهو أدرى بنفسه ماذا يحبّ وماذا يشتهي وماذا يريد، لكن ليس له أن يحجر على الآخرين ويقيّد الكلّ في ذاته ومراده، وهذا النوع من الكتابة لم يكتب ليأخذ به شهادة العلم والتقدير، ولم يكتبه كذلك ليأخذه الناس فيستشهدوا به في أبحاثهم وعلومهم، فهو لم يرد هذا وليس هو في نيّته، لكنّه شعر بقهر الكلمة له وأسرها له، فكتب، فإن شئت قرأت، وإن شئت أعرضّت، ولن يضيره في ذلك شيء.
لا يعني كلامنا أبداً فتح الباب لكلّ من هبّ ودبّ، فالفهم الصحيح له قواعده وله أصوله، ولا يستطيع أحد معه مسكة من عقل أن يجعل الأمر نهباً لكلّ أحد، وهذا الأمر -أعني التفسير- هو ككلّ أمور الحياة العلمية لا يمكن للمرء أن يصيب مراده إلاّ بقواعد وأصول صارمة، ولكنّ الحديث هنا ليس عن الخطأ والصواب في مسألة علميّة وفهم مراد الربّ منها، ولكن حديثنا عن الحق ّالمطلق لكلّ عالم أن يأخذ حظّه من كتاب الله تعالى في أيّ مسألة من نواحي الحياة ودروبها سواء كانت علميّة أو عمليّة، وأن يكتبها على أيّ وجه كان ملتزماً بالقواعد الصحيحة، والأصول العلميّة الواضحة. فإنّ كتاب الله تعالى هو كتاب هداية لكل مناحي الحياة، وكتاب بصيرة لكلّ مشكلة، وكتاب علاج لكلّ طوارق الدروب، فالناس نوازعهم شتّى، وظروفهم مختلفة، وميولاتهم متعدّدة، وكتاب الله تعالى يقوم لذلك كلّه.
هذه وغيرها إن أقررنا بها علمنا خطأ من أغلق باب الفهم عن الله في كتابه، وانحراف زَعْم من زَعَم أنّه «ما ترك الأوّل للآخر شيءاً»، فإن كان القرآن قد توقّف نزوله بموت النبيّ صلى الله عليه وسلم ولحوقه بالرفيق الأعلى، ونحن نعلم أنّ ما عند الله خير لرسول الله ?، لكنّنا نجزم أن تنزلات الرحمة والفهم ستبقى ممدودة موصولة بين السماء والأرض ما دام القرآن بين أيدي المؤمنين به، يقرؤونه ويتذوّقونه، فتبكيهم آياته، وتزيدهم هدى فوق هداهم، وتفتح عليهم من المعارف والمعاني ما يحمدون الله تعالى عليها. ولهذا سيتجدّد في الناس من يصرخ صرخة سيّد قطب حين قال: «لقد وجدّت القرآن». أو يقول ما قاله والد شاه ولي الله الدهلوي لابنه: " يا بنيّ، اقرأ القرآن وكأنّه عليك ينزل ".
نعم هذا النوع من البيان ليس هو من النوع الواجب، بل قد يمنعه أقوام بحجّة ذاتيّته، والناس يريدون من المفسّر فهم الموضوع مجرّداً لا دخل للمفسّر ولا لمشاعره ولا لعواطفه، وأنا أظنّ أن هذا الفصل بين الذاتيّة والموضوعيّة ضرب من الخيال الذي لا وجود له، فإنّ انتقال القرآن من كونه نصّاً تكلّم الله به إلى تفسير مسلم موحّد له بلفظه وعبارته سيكون المزج تماماً بين الكلام والأثر، أي بين كلام الله تعالى وبين الهداية الحاصلة في القلب والعقل، فمن أراد قراءة النصّ والكلام وحده فلن يمنعه أحد، بل هو الأصل والمطلوب من كلّ مسلم، ولكن حين تطلب تفسيراً فإنّك تطلب أثر هذا النصّ على إنسان بعواطفه ومشاعره وعلومه ومعقولاته، فهاتان قراءتان لكلّ منهما ظروفها وأهدافها. ولعلّنا نحبّ كثيراً أن نقرأ ما في نفوسنا من كلام الآخرين، وحين يتمّ التطابق بين المقروء وبين ما في نفوسنا سنصرخ بكلّ جوارحنا: هذه والله هي البلاغة، وهذا هو تعليم الله لعباده أو كقول القدماء: «للّه درّك! لقد أتيت على ما في نفوسنا». فجلال المعنى الحاصل في النفس ووضوحه وتبيّنه هو الذي يعطي للكلمة جمالها، ويحبّب للنّاس سماعها، وهذا هو الذي يُطرب له ويُصغَى له ويعلم الناس أنّه ذوّاق رفيع النفس، أديب العقل والقلب، يفهم عن نفسه فيفهم الناس عنه.
قال عبدالقاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز: «خبّرنا عمّا اتّفق عليه المسلمون من اختصاص نبيّنا عليه السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر أتعرف له معنى: غير أنّه لا يزال البرهان منه لائحاً، معرضاً لكلّ من أراد العلم به، وطلب الوصول إليه، والحجّة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها، والعلم بها ممكناً لمن التمس؟ فإذا كنت لا تشكّ في أنّه لا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلاّ أنّ الوصل الذي له كان معجزاً قائماً فيه أبداً، وانّ الطريق إلى العلم به موجود، والوصول إليه ممكن، فانظر أي رجل تكون إذا أنت زهدّت في أن تعرف حجّة الله تعالى، وآثرت فيه الجهل على العلم، وعدم الاستبانة على عدم وجودها. وكان التقليد فيها أحبّ إليك، والتعويل على علم غيرك آثر لديك، ونحِّ الهوى عنك، وراجع عقلك، واصدق نفسك، تبين لك فحش الغلط فيما رأيت، وقبح الخطأ في الذي توهّمت، وهل رأيت رأياً أعجز، واختياراً أقبح: مِمَّن كره أن تعرف حجّة الله تعالى من الجهة التي إذا عرفت منها كانت أنور وأبهر، وأقوى وأقهر، وآثر أن لا يقوي سلطانها على الشرك كلّ القوّة، ولا تعلو على الكفر كل العلوّ ؟ والله المستعان». اهـ
فهذا هو والله المراد من كتاب الله ومن تلاوته وتدبّره؛ راحة نفسيّة، ومعاني شريفة، واطمئنان بال، وذهاب همّ، ومتعة تذوّق. قال تعالى {الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرُّ منه جلود الذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد} [الزمر: 23]. فجعل سبحانه آثار هذا القرآن على القلب والنفس و البدن هي الهداية ومن لم يجعل له شيء من ذلك أو بعضه فهو على طريق الضلالة، ولقوّة هذا السبب في تحصيل هذه الآثار فإنّ غيره إن كان فيه هذه الآثار وله القدرة على تحصيلها فهو من مشكاته صادر، وهو أضعف ولا شكّ من الأصل، فمن لم يهتدِ به فهو عن غيره أبعد، وهذه الآية قالها الربّ عقب قوله {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} [الزمر: 22].
فهداية الله لعبيده إلى الإسلام وشرح قلوبهم له إنّما طريقه هو هذا الشعور النفسي والقلبي لهذه الكلمات الربّانية الجليلة. فالحديث عن هذه المشاعر وهذه المعاني القلبيّة هو حديث عن مقصد القرآن وهدفه ومراده، وهو أجلّ أنواع التفسير بالرأي، وهو ليس بدعاً من القول، ولا بالطريقة المحدثة فيما يزعم من لا بصر له بأقوال السلف وعباراتهم، نعم لم يكونوا يطيلون التقرير لمثل هذه القضايا، إذ يرون أنّ الرواية أجلّ من الدراية (وهذا حقّ)، ولكن مع هذا كلّه فخذ ما يشفي غليلك ويروي ظمأك.
قال الباقلانيّ في إعجاز القرآن:
" فالقرآن أعلى منازل البيان،... وإذا علا الكلام في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكّن في النفوس ما يذهل ويبهج، ويقلق ويؤنس، ويطمع ويؤيس، ويضحك ويبكي، ويحزن ويفرح، ويسكن ويزعج، ويشجن ويطرب، ويهزّ الأعطاف، ويستميل نحوه الأسماع، ويورث الأريحيّة والعزّة، وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجوداً، ويرمي السامع من وراء رأيه مرمىً بعيداً، وله مسالك في النفوس لطيفة، ومداخل إلى القلوب دقيقة " . ا.هـ
فانظر إلى كلام هذا البيانيّ الفحل كيف فسَّر قيمة الكلام وأهمّيته، وكيف جعله عظيماً عالياً، فالكلام العالي هو الذي يحدث آثاره على إرادات الإنسان وقراراته وتصوّراته، فيأسر سامعه، فههنا تكمن قيمة الكلام وأهمّيته أوّلاً، نعم عظمة القرآن ليس في هذا الباب فقط، لكنّه الباب الأوّل الذي لا تقوم بقيّة الأبواب إلاّ به، من علومٍ ومواعظ وحقائق ونبؤات وترغيب وترهيب ووعد ووعيد، لكن كلّ هذه وغيرها من مقاصد القرآن مطويّة في داخل ما تقدّم، وبهذا تعلم أن الحديث عن هذا الجانب هو حديث عن القرآن، وتفسير له، حتّى لو رأيت إعراض الناس عنه، أو كثر لديك كثرة الشاتمين له: إذ همّهم أن يقفوا مع الحرف، أو يهيموا في الأطر القديمة، ومن هنا كان إعراض من أعرض عن تفسير سيّد قطب في كتابه «في ظلال القرآن» إذ لم يروا فيه الأبحاث التي اعتادوا أن يروها في الكتب القديمة، فأخطأوا ولم يصيبوا.
حين يقرأ المؤمن كتاب الله فيأسره، ويتخلّل قلبه وروحه ومشاعره، فيرتقي معه في درجات الصفاء والنور والحقّ، فما يخرج منه حينئذ من عبارات (إن كان صاحب عبارة) هو تفسير لكتاب الله تعالى، وكشف لبعض جوانب الحقّ والنور فيه، وحينئذ يكون ولا شكّ مع واقعه الذي غُيِّر وبُدِّل عن فطرة الله تعالى وأعرض عن شريعة الرحمن، آمراً وناهياً، مصلحاً ومقوّماً، فسيدخل ولا شكّ مع القسم الثاني في التأليف الذي ذكرناه في أوّل المقال.
فالمصلح الحقيقي هو من انطلق من كتاب الله تعالى، قرأه فارتقى به، وانفعل معه، فأسرته الكلمة؛ وقهرته وحكمت على مشاعره وعلى جوارحه، فتحوّلت هذه المشاعر والمعاني إلى قذائف حقّ ضدّ الباطل الذي تهوي به البشريّة في جاهليّتها. فهذا هو المصلح الذي بدأ مع القرآن ويسير معه ويموت من أجله. قال تعالى {أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون}.
هذا أوّلاً..
أمّا ثانياً .. فإنّ كتاب الله تعالى لا يمكن أن يعطي آثاره كاملة ويحدث هذه المشاعر والمعاني حتّى يكون قارؤه ذوّاقاً للكلمة، عالماً بها، يحسّ بجرسها على نفسه وعقله، فإنّ ما يميّز الإنسان على العجماوات هو البيان وهو سرّ الله في خلقه {الرحمن خلق الإنسان. علّمه البيان} فإنّ من رحمة الله تعالى على الإنسان أنّه خلقه على هذه الهيئة القويمة الحسنة، وإنّ أعظم منّة على إنسانيّة هذا الإنسان بعد حسن الخلقة هو البيان، هذا في أصل الخلقة، وأمّا حين كان الأمر متعلّقاً ببداية المنّة الإلهيّة بالهداية والإرشاد فإنّ الله تعالى ذكر منّة «القراءة» وأداتها القلم. {إقرأ وربّك الأكرم... الذي علّم بالقلم}. فالإحساس القويّ بالكلمة هو الذي يحفظ لهذا الإنسان إنسانيّته. قال الشيخ الإمام محمود محمّد شاكر: «كلّ حضارة بالغة تفقد دقّة التذوّق تفقد معها أسباب بقائها، والتذوّق ليس قواماً للآداب والفنون وحدها، بل هو أيضاً قوامٌ لكلّ علمٍ وصناعة -على اختلاف بابات ذلك كلّه وتباين أنواعه وضروبه- وكلّ حضارة نامية تريد أن تفرض وجودها وتبلغ تمام تكوينها، إن لم تستقلّ بتذوّق حسّاسٍ حادٍّ نافذٍ، تختصّ به وتنفرد لم يكن لإرادتها في فرض وجودها معنىً يُعقل، بل تكاد هذه الإرادة أن تكون ضرباً من التوهّم والأحلام لا خير فيه، فحسن التذوّق يعني سلامة العقل والنفس والقلب من الآفات» [أباطيل وأسمار، 134]. فتذوّق الكلمة الآسرة هو سرّ التفسير الأسير الصادق، والكلمة العربيّة لها ذوقٌ خاصّ بجرسها ودلالاتها، ففيها سحرٌ خاصّ قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ من البيان لسحراً». وهذا سرٌّ من أسرار العربية تتميّز عن غيرها به، والعربيّ الأوّل لمّا كان ذوّاقاً للكلمة، عالماً بها، ملكت عليه حياته كلّها، فعماد حياته: عطاء ومنح، حرب وسلم، حبّ وبغض، ولاء وبراء.. كان مبناه على الكلمة، والتي هي أداة الإبانة عن النفوس، والقرآن كلام الله تعالى أبان لنا به عن نفسه، وفضل كلامه على كلام غيره كفضل الله على خلقه، فهو كلام عالم حكيم رحيم متكبّر، وكلامه هو إبانة لمقتضيات هذه الصفات الحسنى الجليلة، فحينئذٍ سيكون في كلامه جلّ جلاله: جليل المعاني وعظيم الغايات وأشرف الهدى، وسيكون فيه الحقّ الذي يطمس كلّ باطل، والنور الذي يذهب كلّ ظلمة، ولا يمكن لأحد أن يعرف ذلك حقّ معرفته إلاّ إن كان الناظر فيها، التالي لها ذوّاقاً لهذه الكلمات، وكلّما ازداد المرء بصيرة بهذه الكلمات كلّما ارتقى في درجات العلم بهذا الكلام.
قال تعالى: {الله نزّل أحسن الحديث}.
وهذا التذوّق لا يصنع رذيلة كما يفعل ذائقو الرجس الحرام، إنّما هو ذوق يصنع ملكات الخير والفضيلة، ولذلك حُقَّ لمن تذوّق الكلمة أن يُسمّى في لغتنا «أديباً»، وعلى هذا فمن تذوّق هذا الكلام الحسن، وسرى في نفسه وقلبه وعقله، فإنّه ولا شكّ سيرتقي في أعمال الخير، وستسمو نفسه معه، وهذا فرقٌ بين أمّتنا وبين غيرنا، فأنت ترى ذواق الكلمة عندنا وفي تاريخنا هو الرجل الملتزم، فهو مثال لكلمته، وحقيقة لصورة عبارته. قال أستاذ العصر وجاحظ الوقت وأديب العربيّة؛ مصطفى صادق الرافعيّ: «والعجب الذي لم يتنبّه له أحد إلى اليوم من كلّ من درسوا الأدب العربي قديماً وحديثاً، أنّك لا تجد تقرير المعنى الفلسفيّ الاجتماعيّ للأدب في أسمى معانيه إلاّ في اللغة العربيّة وحدها، ولم يغفل عنه مع ذلك إلاّ أهل هذه اللغة وحدهم!» [وحي القلم]
ففقه المرء للقرآن يُعرف حين تظهر آثار هذا القرآن على نفس الإنسان وعلى خُلقه وعلى سلوكه كما هو شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كما وصفته عائشة رضي الله عنها: «كان خُلقه القرآن». وكلّما ازداد المرء تذوّقاً لهذا الكلام الحسن كلّما ازداد قرباً من عبوديّته لهذا المتكلّم الجليل.
وهناك فرق بين التذوّق الفطري وهو المقصود به في القسم الأوّل وبين هذا التذوّق، وهو القائم على الأصول والقواعد والفهم والفقه، فالأوّل في داخل كلّ إنسان وهو يقع عن طريق الفطرة وإحساس المرء بإنسانيّته، أمّا هذا فهو لا يقع إلاّ بالفقه والتبصّر والإدراك والنظر المتوالي مرّة بعد مرّة في داخل كلام الله تعالى حتّى تعلم ما يريد، وتفقه على الله تعالى خطابه فتخرج منه باللآلي والدرر ومعالي العلوم والمعارف، ولهذا التذوّق أدوات أعظمها هو فقه اللغة التي نزل بها كلام الله تعالى ومعرفة الأصول والإحاطة بالسنن الشارحة لهذا الكلام.
فهذان أمران أخي المسلم كُنْ على ذكرهما وأنت تقرأ كلام الربّ العظيم، أمّا الأمر الأوّل:
فهو الذي يكشف لك ربوبيّة المتكلّم، وهو أمر تحسّ به ضرورة شئت أم أبيت، أمّا الثاني: فهو الذي يجعلك متألّهاً لهذا الإله العظيم.
قال تعالى: {الله نزّل أحسن الحديث}.
قال النابغة الجعديّ:
أتينا رسول الله إذ جاءه بالهدى ويتلو كتاباً كالمجرّة نيراً
بلغنا السماء بجدّنا وجدودنا وإنّا لنرجوا فوق ذلك مظهراً
قلت: وقد أُلقِيت هذه القصيدة التي فيها هذين البيتين أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث لم يصحّ. [أنظر ترجمته في السير وتعليق مخرج الحديث عليه 3/177].
والحمد لله ربّ العالمين
[عن مجلة نداء الإسلام
مقال للشيخ عمر الفلسطيني المكنى بأبي قتادة - فكّ الله أسره -
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على النبيّ محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فقد كان للعلماء سببان جامعان للتأليف والكتابة:
أولهما: الدخول في زمرة العلماء.
الثاني: القيام بمهمّة الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والأوّل يدخل فيه: شعور القدرة السابقة واستبانتها في النفس أنّه يستطيع أن يكتب في هذا الفنّ فيجمع ويحقّق ويرجّح ويعرض، ولهذا يجلس على كتبه بنفس هادئة صبورة مع الورق والحبر، ويطيل النَّفس في الكتابة بحسب مراده، لا يتعجّل أن يُخرج ما بيده للنّاس ليعلموه بمقدار أن يهتمّ بإتقانه وتحسين بنائه، وهذا السبب يدخل فيه الكثير من الإرادات الدافعة للكتابة، منها: رغبة خدمة العلم، ذلك ببسطه وتسهيله، وتنويع أنماط التأليف وما شابه ذلك.
أمّا الثاني فصاحبه مقهور للكلمة، العبارة تقوده ولا يقودها، تدفعه أن يخرجها من نفسه للنّاس، مِن غير كبير اهتمام بالصورة والشكل، فالحاجة شديدة فلا حاجة للانتظار، وليس هو في منطقة الاختيار في طريقة الكتابة ولا في تطويلها، وهو لا يمشي في طريق يرسمه لنفسه، بل ما يقع من أمور تحتاج إلى إصلاح هي الحاكمة والمؤثّرة. ومن نظر في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رأى أنّ هذا جليّاً في أغلب كتبه، ولذلك كانت هذه مزيّة له، وما من كتاب له إلاّ وله سبب واقعي دَفَعه لخطّه وكتابته، ولهذا استحقّ هذا العالم أن يكون مصلحاً بحقّ، وكان لزاماً أن يعاني ما يعانيه أصحاب هذا الطريق.
أن يكتب المرء في التفسير في هذا العصر لا يمكن أن ينفع الناس ولا يستطيع أن يقدّم شيءاً زائداً عمّا قاله الأوائل إن لم يكن مقهوراً للكلمة أسيراً لها، يريد بها إصلاح أمر وتقويم قضيّة، يعالج ما ألمّ فيكوي ويجرح ويؤلم ولكن إن بارك الله تعالى في عمله أشفى وأبرأ، وإلا كان جامعاً معيداً لما قاله المتقدّمون من روايات، وفي نهاية الأمر وبعد انتهائه من تأليف كتابه ينطبق عليه قول من قال في بعض المؤلّفات: «لو قيل لكلّ كلمة فيها إرجعي إلى مكانك لم يبق له منها كلمة». نعم هو لا يعدم الفضل ولكن هناك فرق بين من أراد هذا وبين من أحسّ بالأمر ضرورة فصرخ وأجلب بالخير ليمحو به الكثير من الشرور.
فما كتبه الأستاذ سيّد قطب في كتابه الطيّب -في ظلال القرآن- هو أقرب ما يكون من هذا اللون والنّمط، ذلك أنّه رأى هذه الوحدة الجامعة في كتاب الله لقضيّة الألوهيّة، وهي مدار القرآن الذي أُنزِل من أجلها، ورأى من واقعه ما يقابلها خلافاً ومعاندة، فبدأ ينسج من مقتضيات ولوازم هذه القضيّة من الأحكام ما يردّ على دعاوى الجاهلية المعاصرة، المتجدّدة على هيئة خبيثة من التزوير والتزيّن الذي يخفي حقيقتها المستورة، مع ما أعطاه الله تعالى من البيان الصارم الذي لا يهتمّ كثيراً بسجع المتأخّرين ولا تنميقاتهم اللفظيّة، بل جعل الجمال أكثر ما يكون حين يكون المعنى جيّداً وصحيحاً، فتطربك المعاني، وتهتزّ لها، وتغبطه عليها، على شرط واحد أن لا تكون متعصّباً لصيغ وأنماط التفسير التي يظنّ أنصارها أن القرآن لا يصلح إلاّ لها، ولا يمكن أن يُبسَط إلاّ من خلالها.
حيث يعترف المرء أن الفقيه من حقّه أن يأخذ من القرآن حظوظه، وأن البيانيّ والبلاغيّ له من الحقّ أن يأخذ بغيته، فمن الواجب علينا أن نقرّ للإنسان المسلم أن يأخذ من القرآن راحته واطمئنانه، فحينئذ يعبّر الفقيه عن حظوظه بلغته، ويشرح البلاغيّ والبيانيّ ما أخذ بعبارته، وكذا من حقّ المتذوّق لإنسانيّته في القرآن الكريم أن يشرح للناس عواطفه وأحاسيسه مع هذا الكتاب العظيم الجليل. فمن أعرض عن قراءته فله ذلك، فهو أدرى بنفسه ماذا يحبّ وماذا يشتهي وماذا يريد، لكن ليس له أن يحجر على الآخرين ويقيّد الكلّ في ذاته ومراده، وهذا النوع من الكتابة لم يكتب ليأخذ به شهادة العلم والتقدير، ولم يكتبه كذلك ليأخذه الناس فيستشهدوا به في أبحاثهم وعلومهم، فهو لم يرد هذا وليس هو في نيّته، لكنّه شعر بقهر الكلمة له وأسرها له، فكتب، فإن شئت قرأت، وإن شئت أعرضّت، ولن يضيره في ذلك شيء.
لا يعني كلامنا أبداً فتح الباب لكلّ من هبّ ودبّ، فالفهم الصحيح له قواعده وله أصوله، ولا يستطيع أحد معه مسكة من عقل أن يجعل الأمر نهباً لكلّ أحد، وهذا الأمر -أعني التفسير- هو ككلّ أمور الحياة العلمية لا يمكن للمرء أن يصيب مراده إلاّ بقواعد وأصول صارمة، ولكنّ الحديث هنا ليس عن الخطأ والصواب في مسألة علميّة وفهم مراد الربّ منها، ولكن حديثنا عن الحق ّالمطلق لكلّ عالم أن يأخذ حظّه من كتاب الله تعالى في أيّ مسألة من نواحي الحياة ودروبها سواء كانت علميّة أو عمليّة، وأن يكتبها على أيّ وجه كان ملتزماً بالقواعد الصحيحة، والأصول العلميّة الواضحة. فإنّ كتاب الله تعالى هو كتاب هداية لكل مناحي الحياة، وكتاب بصيرة لكلّ مشكلة، وكتاب علاج لكلّ طوارق الدروب، فالناس نوازعهم شتّى، وظروفهم مختلفة، وميولاتهم متعدّدة، وكتاب الله تعالى يقوم لذلك كلّه.
هذه وغيرها إن أقررنا بها علمنا خطأ من أغلق باب الفهم عن الله في كتابه، وانحراف زَعْم من زَعَم أنّه «ما ترك الأوّل للآخر شيءاً»، فإن كان القرآن قد توقّف نزوله بموت النبيّ صلى الله عليه وسلم ولحوقه بالرفيق الأعلى، ونحن نعلم أنّ ما عند الله خير لرسول الله ?، لكنّنا نجزم أن تنزلات الرحمة والفهم ستبقى ممدودة موصولة بين السماء والأرض ما دام القرآن بين أيدي المؤمنين به، يقرؤونه ويتذوّقونه، فتبكيهم آياته، وتزيدهم هدى فوق هداهم، وتفتح عليهم من المعارف والمعاني ما يحمدون الله تعالى عليها. ولهذا سيتجدّد في الناس من يصرخ صرخة سيّد قطب حين قال: «لقد وجدّت القرآن». أو يقول ما قاله والد شاه ولي الله الدهلوي لابنه: " يا بنيّ، اقرأ القرآن وكأنّه عليك ينزل ".
نعم هذا النوع من البيان ليس هو من النوع الواجب، بل قد يمنعه أقوام بحجّة ذاتيّته، والناس يريدون من المفسّر فهم الموضوع مجرّداً لا دخل للمفسّر ولا لمشاعره ولا لعواطفه، وأنا أظنّ أن هذا الفصل بين الذاتيّة والموضوعيّة ضرب من الخيال الذي لا وجود له، فإنّ انتقال القرآن من كونه نصّاً تكلّم الله به إلى تفسير مسلم موحّد له بلفظه وعبارته سيكون المزج تماماً بين الكلام والأثر، أي بين كلام الله تعالى وبين الهداية الحاصلة في القلب والعقل، فمن أراد قراءة النصّ والكلام وحده فلن يمنعه أحد، بل هو الأصل والمطلوب من كلّ مسلم، ولكن حين تطلب تفسيراً فإنّك تطلب أثر هذا النصّ على إنسان بعواطفه ومشاعره وعلومه ومعقولاته، فهاتان قراءتان لكلّ منهما ظروفها وأهدافها. ولعلّنا نحبّ كثيراً أن نقرأ ما في نفوسنا من كلام الآخرين، وحين يتمّ التطابق بين المقروء وبين ما في نفوسنا سنصرخ بكلّ جوارحنا: هذه والله هي البلاغة، وهذا هو تعليم الله لعباده أو كقول القدماء: «للّه درّك! لقد أتيت على ما في نفوسنا». فجلال المعنى الحاصل في النفس ووضوحه وتبيّنه هو الذي يعطي للكلمة جمالها، ويحبّب للنّاس سماعها، وهذا هو الذي يُطرب له ويُصغَى له ويعلم الناس أنّه ذوّاق رفيع النفس، أديب العقل والقلب، يفهم عن نفسه فيفهم الناس عنه.
قال عبدالقاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز: «خبّرنا عمّا اتّفق عليه المسلمون من اختصاص نبيّنا عليه السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر أتعرف له معنى: غير أنّه لا يزال البرهان منه لائحاً، معرضاً لكلّ من أراد العلم به، وطلب الوصول إليه، والحجّة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها، والعلم بها ممكناً لمن التمس؟ فإذا كنت لا تشكّ في أنّه لا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلاّ أنّ الوصل الذي له كان معجزاً قائماً فيه أبداً، وانّ الطريق إلى العلم به موجود، والوصول إليه ممكن، فانظر أي رجل تكون إذا أنت زهدّت في أن تعرف حجّة الله تعالى، وآثرت فيه الجهل على العلم، وعدم الاستبانة على عدم وجودها. وكان التقليد فيها أحبّ إليك، والتعويل على علم غيرك آثر لديك، ونحِّ الهوى عنك، وراجع عقلك، واصدق نفسك، تبين لك فحش الغلط فيما رأيت، وقبح الخطأ في الذي توهّمت، وهل رأيت رأياً أعجز، واختياراً أقبح: مِمَّن كره أن تعرف حجّة الله تعالى من الجهة التي إذا عرفت منها كانت أنور وأبهر، وأقوى وأقهر، وآثر أن لا يقوي سلطانها على الشرك كلّ القوّة، ولا تعلو على الكفر كل العلوّ ؟ والله المستعان». اهـ
فهذا هو والله المراد من كتاب الله ومن تلاوته وتدبّره؛ راحة نفسيّة، ومعاني شريفة، واطمئنان بال، وذهاب همّ، ومتعة تذوّق. قال تعالى {الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرُّ منه جلود الذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد} [الزمر: 23]. فجعل سبحانه آثار هذا القرآن على القلب والنفس و البدن هي الهداية ومن لم يجعل له شيء من ذلك أو بعضه فهو على طريق الضلالة، ولقوّة هذا السبب في تحصيل هذه الآثار فإنّ غيره إن كان فيه هذه الآثار وله القدرة على تحصيلها فهو من مشكاته صادر، وهو أضعف ولا شكّ من الأصل، فمن لم يهتدِ به فهو عن غيره أبعد، وهذه الآية قالها الربّ عقب قوله {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} [الزمر: 22].
فهداية الله لعبيده إلى الإسلام وشرح قلوبهم له إنّما طريقه هو هذا الشعور النفسي والقلبي لهذه الكلمات الربّانية الجليلة. فالحديث عن هذه المشاعر وهذه المعاني القلبيّة هو حديث عن مقصد القرآن وهدفه ومراده، وهو أجلّ أنواع التفسير بالرأي، وهو ليس بدعاً من القول، ولا بالطريقة المحدثة فيما يزعم من لا بصر له بأقوال السلف وعباراتهم، نعم لم يكونوا يطيلون التقرير لمثل هذه القضايا، إذ يرون أنّ الرواية أجلّ من الدراية (وهذا حقّ)، ولكن مع هذا كلّه فخذ ما يشفي غليلك ويروي ظمأك.
قال الباقلانيّ في إعجاز القرآن:
" فالقرآن أعلى منازل البيان،... وإذا علا الكلام في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكّن في النفوس ما يذهل ويبهج، ويقلق ويؤنس، ويطمع ويؤيس، ويضحك ويبكي، ويحزن ويفرح، ويسكن ويزعج، ويشجن ويطرب، ويهزّ الأعطاف، ويستميل نحوه الأسماع، ويورث الأريحيّة والعزّة، وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجوداً، ويرمي السامع من وراء رأيه مرمىً بعيداً، وله مسالك في النفوس لطيفة، ومداخل إلى القلوب دقيقة " . ا.هـ
فانظر إلى كلام هذا البيانيّ الفحل كيف فسَّر قيمة الكلام وأهمّيته، وكيف جعله عظيماً عالياً، فالكلام العالي هو الذي يحدث آثاره على إرادات الإنسان وقراراته وتصوّراته، فيأسر سامعه، فههنا تكمن قيمة الكلام وأهمّيته أوّلاً، نعم عظمة القرآن ليس في هذا الباب فقط، لكنّه الباب الأوّل الذي لا تقوم بقيّة الأبواب إلاّ به، من علومٍ ومواعظ وحقائق ونبؤات وترغيب وترهيب ووعد ووعيد، لكن كلّ هذه وغيرها من مقاصد القرآن مطويّة في داخل ما تقدّم، وبهذا تعلم أن الحديث عن هذا الجانب هو حديث عن القرآن، وتفسير له، حتّى لو رأيت إعراض الناس عنه، أو كثر لديك كثرة الشاتمين له: إذ همّهم أن يقفوا مع الحرف، أو يهيموا في الأطر القديمة، ومن هنا كان إعراض من أعرض عن تفسير سيّد قطب في كتابه «في ظلال القرآن» إذ لم يروا فيه الأبحاث التي اعتادوا أن يروها في الكتب القديمة، فأخطأوا ولم يصيبوا.
حين يقرأ المؤمن كتاب الله فيأسره، ويتخلّل قلبه وروحه ومشاعره، فيرتقي معه في درجات الصفاء والنور والحقّ، فما يخرج منه حينئذ من عبارات (إن كان صاحب عبارة) هو تفسير لكتاب الله تعالى، وكشف لبعض جوانب الحقّ والنور فيه، وحينئذ يكون ولا شكّ مع واقعه الذي غُيِّر وبُدِّل عن فطرة الله تعالى وأعرض عن شريعة الرحمن، آمراً وناهياً، مصلحاً ومقوّماً، فسيدخل ولا شكّ مع القسم الثاني في التأليف الذي ذكرناه في أوّل المقال.
فالمصلح الحقيقي هو من انطلق من كتاب الله تعالى، قرأه فارتقى به، وانفعل معه، فأسرته الكلمة؛ وقهرته وحكمت على مشاعره وعلى جوارحه، فتحوّلت هذه المشاعر والمعاني إلى قذائف حقّ ضدّ الباطل الذي تهوي به البشريّة في جاهليّتها. فهذا هو المصلح الذي بدأ مع القرآن ويسير معه ويموت من أجله. قال تعالى {أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون}.
هذا أوّلاً..
أمّا ثانياً .. فإنّ كتاب الله تعالى لا يمكن أن يعطي آثاره كاملة ويحدث هذه المشاعر والمعاني حتّى يكون قارؤه ذوّاقاً للكلمة، عالماً بها، يحسّ بجرسها على نفسه وعقله، فإنّ ما يميّز الإنسان على العجماوات هو البيان وهو سرّ الله في خلقه {الرحمن خلق الإنسان. علّمه البيان} فإنّ من رحمة الله تعالى على الإنسان أنّه خلقه على هذه الهيئة القويمة الحسنة، وإنّ أعظم منّة على إنسانيّة هذا الإنسان بعد حسن الخلقة هو البيان، هذا في أصل الخلقة، وأمّا حين كان الأمر متعلّقاً ببداية المنّة الإلهيّة بالهداية والإرشاد فإنّ الله تعالى ذكر منّة «القراءة» وأداتها القلم. {إقرأ وربّك الأكرم... الذي علّم بالقلم}. فالإحساس القويّ بالكلمة هو الذي يحفظ لهذا الإنسان إنسانيّته. قال الشيخ الإمام محمود محمّد شاكر: «كلّ حضارة بالغة تفقد دقّة التذوّق تفقد معها أسباب بقائها، والتذوّق ليس قواماً للآداب والفنون وحدها، بل هو أيضاً قوامٌ لكلّ علمٍ وصناعة -على اختلاف بابات ذلك كلّه وتباين أنواعه وضروبه- وكلّ حضارة نامية تريد أن تفرض وجودها وتبلغ تمام تكوينها، إن لم تستقلّ بتذوّق حسّاسٍ حادٍّ نافذٍ، تختصّ به وتنفرد لم يكن لإرادتها في فرض وجودها معنىً يُعقل، بل تكاد هذه الإرادة أن تكون ضرباً من التوهّم والأحلام لا خير فيه، فحسن التذوّق يعني سلامة العقل والنفس والقلب من الآفات» [أباطيل وأسمار، 134]. فتذوّق الكلمة الآسرة هو سرّ التفسير الأسير الصادق، والكلمة العربيّة لها ذوقٌ خاصّ بجرسها ودلالاتها، ففيها سحرٌ خاصّ قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ من البيان لسحراً». وهذا سرٌّ من أسرار العربية تتميّز عن غيرها به، والعربيّ الأوّل لمّا كان ذوّاقاً للكلمة، عالماً بها، ملكت عليه حياته كلّها، فعماد حياته: عطاء ومنح، حرب وسلم، حبّ وبغض، ولاء وبراء.. كان مبناه على الكلمة، والتي هي أداة الإبانة عن النفوس، والقرآن كلام الله تعالى أبان لنا به عن نفسه، وفضل كلامه على كلام غيره كفضل الله على خلقه، فهو كلام عالم حكيم رحيم متكبّر، وكلامه هو إبانة لمقتضيات هذه الصفات الحسنى الجليلة، فحينئذٍ سيكون في كلامه جلّ جلاله: جليل المعاني وعظيم الغايات وأشرف الهدى، وسيكون فيه الحقّ الذي يطمس كلّ باطل، والنور الذي يذهب كلّ ظلمة، ولا يمكن لأحد أن يعرف ذلك حقّ معرفته إلاّ إن كان الناظر فيها، التالي لها ذوّاقاً لهذه الكلمات، وكلّما ازداد المرء بصيرة بهذه الكلمات كلّما ارتقى في درجات العلم بهذا الكلام.
قال تعالى: {الله نزّل أحسن الحديث}.
وهذا التذوّق لا يصنع رذيلة كما يفعل ذائقو الرجس الحرام، إنّما هو ذوق يصنع ملكات الخير والفضيلة، ولذلك حُقَّ لمن تذوّق الكلمة أن يُسمّى في لغتنا «أديباً»، وعلى هذا فمن تذوّق هذا الكلام الحسن، وسرى في نفسه وقلبه وعقله، فإنّه ولا شكّ سيرتقي في أعمال الخير، وستسمو نفسه معه، وهذا فرقٌ بين أمّتنا وبين غيرنا، فأنت ترى ذواق الكلمة عندنا وفي تاريخنا هو الرجل الملتزم، فهو مثال لكلمته، وحقيقة لصورة عبارته. قال أستاذ العصر وجاحظ الوقت وأديب العربيّة؛ مصطفى صادق الرافعيّ: «والعجب الذي لم يتنبّه له أحد إلى اليوم من كلّ من درسوا الأدب العربي قديماً وحديثاً، أنّك لا تجد تقرير المعنى الفلسفيّ الاجتماعيّ للأدب في أسمى معانيه إلاّ في اللغة العربيّة وحدها، ولم يغفل عنه مع ذلك إلاّ أهل هذه اللغة وحدهم!» [وحي القلم]
ففقه المرء للقرآن يُعرف حين تظهر آثار هذا القرآن على نفس الإنسان وعلى خُلقه وعلى سلوكه كما هو شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كما وصفته عائشة رضي الله عنها: «كان خُلقه القرآن». وكلّما ازداد المرء تذوّقاً لهذا الكلام الحسن كلّما ازداد قرباً من عبوديّته لهذا المتكلّم الجليل.
وهناك فرق بين التذوّق الفطري وهو المقصود به في القسم الأوّل وبين هذا التذوّق، وهو القائم على الأصول والقواعد والفهم والفقه، فالأوّل في داخل كلّ إنسان وهو يقع عن طريق الفطرة وإحساس المرء بإنسانيّته، أمّا هذا فهو لا يقع إلاّ بالفقه والتبصّر والإدراك والنظر المتوالي مرّة بعد مرّة في داخل كلام الله تعالى حتّى تعلم ما يريد، وتفقه على الله تعالى خطابه فتخرج منه باللآلي والدرر ومعالي العلوم والمعارف، ولهذا التذوّق أدوات أعظمها هو فقه اللغة التي نزل بها كلام الله تعالى ومعرفة الأصول والإحاطة بالسنن الشارحة لهذا الكلام.
فهذان أمران أخي المسلم كُنْ على ذكرهما وأنت تقرأ كلام الربّ العظيم، أمّا الأمر الأوّل:
فهو الذي يكشف لك ربوبيّة المتكلّم، وهو أمر تحسّ به ضرورة شئت أم أبيت، أمّا الثاني: فهو الذي يجعلك متألّهاً لهذا الإله العظيم.
قال تعالى: {الله نزّل أحسن الحديث}.
قال النابغة الجعديّ:
أتينا رسول الله إذ جاءه بالهدى ويتلو كتاباً كالمجرّة نيراً
بلغنا السماء بجدّنا وجدودنا وإنّا لنرجوا فوق ذلك مظهراً
قلت: وقد أُلقِيت هذه القصيدة التي فيها هذين البيتين أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث لم يصحّ. [أنظر ترجمته في السير وتعليق مخرج الحديث عليه 3/177].
والحمد لله ربّ العالمين
[عن مجلة نداء الإسلام
مقال للشيخ عمر الفلسطيني المكنى بأبي قتادة - فكّ الله أسره -