خالد بن عمر
New member
- إنضم
- 04/04/2003
- المشاركات
- 13
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
- الإقامة
- بلاد غامد
- الموقع الالكتروني
- www.ahlalhdeeth.com
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه إجابات لبعض الأسئلة التي طرحت في ملتقى أهل الحديث (( للشيخ مساعد الطيار وفقه الله ))
وقد وعد بإكمال البقية إن تيسر له ذلك ، نسأل الله أن ييسر له وقتا كافيا للإجابة عليها
=============
قال الشيخ وفقه الله :
إجابات ملتقى أهل الحديث
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام المرسلين محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ومن تبعه ووالاه إلى يوم الدين ، أما بعد :
فأشكر الله ما أنعم به علي من نعمه الوافرة ، وأشكره على ما فتح علي به من العلم بكتابه ، وأسأله في ذلك المزيد ، كما أسأله الإخلاص في القول والعمل ، وان يجعل ما انعم به حجة لي لا عليَّ إنه وسميع مجيب .
ثم أشكر الإخوة القائمين على ملتقى أهل الحديث الذي يتميز بما فيه من الطرح العلمي الجادِّ ، وأسأل الله لهم التوفيق والسداد ، أشكرهم على حسن ظنهم بي ، وعلى حرصهم على هذا اللقاء الذي أتمنى أن يكون كما أحبوه .
ثم أتوجه بالشكر لكل من سأل ، وانتظر أن أجيب عليه ، مع اعتذاري عن إجابة بعض الأسئلة ، ولعله يكون لها زمن مناسب بعد حين .
وإني أتوجه إليهم وإلى كل أصحاب الطرح العلمي الجادِّ ممن يطرح رأيه في هذا الملتقى أو غيره أن يكون المراد من طرحه الوصول إلى الحقيقة العلمية ، وليس الانتصار للأشخاص أو المشايخ ، إذ كم تُحجبُ الأقوال الصحيحة بهذا السبب ، وكم يمتنع قوم من طرح ما لديهم لأجل ألا يجابهوا بمثل هذا الردِّ الذي لا يعتمد الأسلوب العلمي ، بل ينحى منحى التعصب للرأي ، حتى ترى أنه يخرج في كثير من الأحيان إلى الأسلوب الخطابي المتهيج للرد على المخالفين ، ويضمحلُّ الأسلوب العلمي بين الباحثين .
كما أن بعض الباحثين قد يرتجل في ردِّ مسألة ، ثمّ يتبين له في قرارة نفسه خطؤها ، وتراه بعد ذلك يُصرُّ على قوله المرتجل ، ويصعب عليه النزوع عنه ، وذلك مسلك غير حميد ، وكما قيل : الرجوع إلى الحق فضيلة ، ولا أشكُّ أن كثيرًا ممن في هذه الملتقيات الجادِّة قد اطَّلع على قصص رائعة من قصص السلف في التنازل عن الرأي الخطأ إذ نُبِّه عليه ، إذ الإصرار غير المبرر على مسألة ظاهرٍ خطؤها مذمة للشخص من حيث لا يدري .
وأدعو الإخوة ونفسي إلى التثبت من نقل المعلومة ، فكم ترى نسبة قولٍ إلى عالم من العلماء ، ولا تكاد تراه قال به ، لكن الباحث نقل ما فهم من كلامه ، ونسبه إليه ظنًّا منه أنه قول له ، فالحرص على نقل قول العالم بحذافيره أولى من تقويله القول بما فهمه الباحث .
وإنني أدعو إلى أن يكون بين أهل العلم اختلاف التغاير والتنوع ، لا اختلاف التناقض والتضاد ، وليعلم أنه لا يوجد أحد يستطيع أن يتسلط على فهم العباد ، ويلزمهم بما لم يقتنعوا به ، فإذا لم تقبل قولي أو لم أقبل قولك فليبق بيني وبينك الودُّ والصفاء ، وإخاء الإيمان والولاء .
وأسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن اختارهم من بين خلقه ، وجعلهم خيرته ، وأن يرفعني وإياكم بالعلم والعمل ، إنه سميع مجيب .
تنبيه :
لقد سلكت في بعض الأسئلة سبيل التوسع ، أو الزيادة على ما أراده السائل من باب تتميم المنفعة والفائدة ، وأرجو أن أكون قد وفقت في هذا ، والله الموفق
التفسير الكبير للفخر الرازي من أوسع كتب التفسير ، وقد حشاه مؤلفه بمباحث كثيرة جدًا تخرج به عن التفسير ، حتى قيل فيه : فيه كل شيء إلا التفسير ، وهذا من باب المبالغة لكثرة ما فيه من المباحث التي هي خارجة عن صلب التفسير ، بل قد تكون ليست من علوم الشريعة .
والكتاب يُعدُّ من مراجع التفسير الكبيرة ، وفيه فوائد كثيرة ، ومسائل علمية نادرة ، لكن لا يصلح أن يقرأ فيه إلا من كان عارفًا بعلم الاعتقاد ، وضابطًا لعلم التفسير ليعرف كيف يستفيد منه .
وقد استفاد الرازي من كتب التفسير التي قبله ، خصوصًا كتب المعتزلة ، وقد يذكرها لينقدها ، لكنه كما قيل : يورد الشبهة نقدًا ، ويردها نسيئة . فهو قويٌّ في عرض الشبه ، ضعيف في ردِّها .
ومن أعلام المعتزلة الذين نقل عنهم : قطرب ( ت : 206 ) ، وأبو بكر الأصم ، والجبائي ( ت : 303 ) ، والكعبي ( ت : 319 ) ، وأبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني ( ت : 322 ) ، والزمخشري ( ت : 538 ) .
وقد جعل العقل حجة عنده ، فتراه يقدمه على النقل بدعوى التعارض بينهما ، بل تراه يستخدمه في مجالات لا يُقبلُ فيها نقد العقل ، كبعض الأحاديث الصحيحة الواردة في حق بعض الأنبياء ، فهو يفندها من جهة العقل فحسب .
وقد استفاد في الوجوه البلاغية من تفسير الزمخشري على وجه الخصوص ، لذا تراه يشقِّق سطرًا مضغوطًا بالمعلومات عند الزمخشري فيجعله في مسائل يبسط فيها البحث .
ومما ظهر في كتابه غير الأمور العقلية والفلسفية وبحوث العلوم التجريبية ما يأتي :
1 ـ الاعتناء بعلم المناسبات .
2 ـ الاستنباط في جميع المجالات .
3 ـ ذكر الملح واللطائف التفسيرية .
4 ـ العناية بجانب البلاغة القرآنية .
وهذا الكتاب من الكتب التي تحتاج إلى الاختصار الذي يقرِّبها للقارئ ، ويبعد ما فيها من الاستطرادات العلمية التي لا تفيد جمهور القراء ، والتي قد تكون مخالفة للاعتقاد . والله الموفق .
قال السائل : تناقش الإخوة في الملتقى حول صحة نسبة الكثير من تفسيرات ابن عباس (رضي الله عنهما) إليه، وخصوصاً تلك التي من طريق علي بن أبي طلحة عنه. فما قول فضيلتكم في ثبوت التفسير عنه؟
إن السؤال عن تفسير علي بن أبي طلحة يدخل في منظومة موضوع عامٍّ ، وهو أسانيد روايات التفسير .
ومما قد لا يخفى أن التفسير قد نُقِلَ بروايات يحكم علماء الحديث عليها بالضعف أو ما هو أشد منه ، لكن الذي قد يخفى هو كيفية تعامل هؤلاء العلماء مع هذه الروايات في علم التفسير .
ولتصوير الحال الكائنة في هذه الروايات ، فإنك ستجد الأمر ينقسم بين المعاصرين وبين السابقين .
فالفريق الأول : بعض المعاصرين يدعو إلى التشدد في التعامل مع مرويات السلف في التفسير .
والفريق الثاني : جمهور علماء الأمة من المحدثين والمفسرين وغيرهم ممن تلقَّى التفسير واستفاد من تلك الروايات ، بل قد اعتمدها في فهم كلام الله .
هذه صورة المسألة عندي ، والظاهر أن الاستفادة من هذه المرويات ، وعدم التشدد في نقدها إسناديًا هو الصواب ، وإليك الدليل على ذلك :
1 ـ أنك لا تكاد تجد مفسرًا من المفسرين اطرح جملة من هذه الروايات بالكلية ، بل قد يطرح أحدها لرأيه بعدم صحة الاعتماد عليها ، ومن أشهر الروايات التي يُمثَّل بها هنا رواية محمد بن مروان السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس .
2 ـ أن المفسرين اعتمدوا اعتمادًا واضحًا على هذه المرويات ، سواءً أكانوا من المحررين فيه كالإمام الطبري وابن كثير ، أم كانوا من نَقَلَةِ التفسير كعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم .
وهؤلاء قد أطبقوا على روايتها بلا نكير ، مع علمهم التام بما فيها من الضعف.
ولا يقال كما قد قال من قال : إن منهج الإمام الطبري في هذه الروايات الإسناد ، وإن ليس من منهجه الصحة اعتمادً على قاعدة من أسند فقد أحالك .
ففي هذه المقولة غفلة واضحة عن منهج الإمام الطبري الذي لم ينصَّ أبدًا على هذا المنهج في تفسيره ، والذي اعتمد على هذه المرويات في بيان معاني كلام الله ، وفي الترجيح بين أقوال المفسرين ، ولم يتأخر عن ذلك إلا في مواضع قليلة جدًّا لا تمثِّل منهجًا له في نقد أسانيد التفسير ، أعني أنَّ الصبغة العامة رواية هذه الآثار والاعتماد عليها في بيان كلام الله .
وقس على الإمام الطبري غيره من المفسرين الذين اعتمدوا هذه المرويات في التفسير .
3 ـ أنَّ أئمة المحدثين لهم كلام واضح بين في قبول هذه الروايات واحتمالها والاعتماد عليها ؛ لأنهم يفرقون بين أسانيد الحلال والحرام وأسانيد غيرها من حيث التشديد والتساهل ، ونصوصهم في ذلك واضحة ، ومن ذلك :
قال عبد الرحمن بن مهدي : » إذا روينا في الثواب والعقاب وفضائل الأعمال = تساهلنا في الأسانيد ، وتسامحنا في الرجال . وإذا روينا في الحلال والحرام والأحكام = تشدَّدنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال « ( ).
وقد انجرَّ هذا التَّساهل على روايات التفسير ، فاحتملوا قومًا معروفين بضعفهم في نقل الحديث ، فقبلوا عنهم ـ من حيث الجملة ـ رواياتهم ، قال يحيى بن سعيد القطان : » تساهلوا في التفسير عن قومٍ لا يوثِّقونهم في الحديث ، ثمَّ ذكر ليث بن أبي سليم ، وجويبر بن سعيد ، والضحاك ، ومحمد بن السائب ؛ يعني : الكلبي .
وقال : هؤلاء يُحمد حديثهم ( كذا ، ولعل الصواب : لا يحمد ) ، ويُكتب التفسير عنهم « ( ) .
وقال البيهقيُّ ( ت : 458 ) : » … وأما النوع الثاني من الأخبار ، فهي أحاديث اتفق أهل العلم بالحديث على ضعف مخرجها ، وهذا النوع على ضربين :
ضرب رواه من كان معروفًا بوضع الحديث والكذب فيه ، فهذا الضرب لا يكون مستعملاً في شيء من أمور الدين إلا على وجه التليين … .
وضرب لا يكون راويهِ متَّهمًا بالوضع ، غير أنه عُرفَ بسوء الحفظِ وكثرة الغلطِ في روايته ، أو يكون مجهولاً لم يثبت من عدالته وشرائط قبول خبره ما يوجب القبول .
فهذا الضرب من الأحاديث لا يكون مستعملاً في الأحكام ، كما لا تكون شهادة من هذه صفته مقبولةً عند الحكَّام . وقد يُستعمل في الدعوات ، والترغيب والترهيب ، والتفسير ، والمغازي ؛ فيما لا يتعلق به حكمٌ « ( ) .
4 ـ ومما يُعلمُ من نقد الأسانيد أنَّ المحدِّثينَ قد فرَّقوا في نقدِهم لبعض الأعلامِ ، فجعلوه في نقل الحديث من المجروحين المتكلَّمِ فيهم ، وأثنوا عليه في علمٍ برعَ هو فيه ، بل قد يكون فيه إمامًا يُؤخذُ قوله في ذلك العلم ، وهذا يعني أنَّ تضعيفه في روايةِ الحديث لم ينجرَّ إلى تضعيفه في ذلك العلمِ الآخرِ ، ومن الأمثلة التي يمكنُ أن تُضربَ في هذا ما يأتي :
1 ـ عاصم بن أبي النَّجود الكوفي ( ت : 128 ) ، قال عنه ابن حجر العسقلاني ( ت : 852 ) :» صدوق له أوهام ، حجة في القراءة ، وحديثه في الصحيحين مقرون «( ) .
2 ـ حفص بن سليمان الأسدي ( ت : 180 ) الراوي عن عاصم بن أبي النَّجود ( ت : 128 ) ، قال عنه الذَّهبي ( ت : 748 ) ـ بعد أن ذكر جرح علماء الحديث فيه ـ : » قلت : أما في القراءةِ ، فثقة ثبت ضابط ، بخلاف حاله في الحديث « ( ).
وقال ابن حجر العسقلاني ( ت : 852 ) : » متروك الحديث مع إمامته في القراءة « ( ).
3 ـ نافع بن أبي نعيم المدني ( ت : 169 ) : » صدوق ثبت في القراءة « ( ).
4 ـ عيسى بن ميناء المدني ، المعروف بقالون ( ت : 220 ) ، أحد راويَي نافع المدني ( ت : 169 ) ، قال عنه الذهبي : » أما في القراءةِ فثبتٌ ، وأما في الحديث فيكتب حديثه في الجملة . سئل أحمد بن صالح المصري عن حديثه فضحك ، وقال : تكتبون عن كلِّ أحدٍ ! « ( ).
5 ـ حفص بن عمر الدُّوري ( ت : 246 ) ، قال ابن حجر ( ت : 852 ) : » لا بأس به « ( ).
وقال ابن الجزري ( ت : 833 ) : » إمام القراءة ، وشيخ الناس في زمانه ، ثقة ثبت كبير ضابط « ( ).
ولا يبعد أن يكونَ بعضُ المتميِّزينَ في علمٍ من العلومِ لا يكاد يُعرفُ لهم روايةٌ للحديثِ ؛ كعثمان بن سعيد الملقب بورش ( ت : 197 ) أحد راويَي قراءة نافع المدني ( ت : 169 ) .
فإذا كان ذلك واضحًا في علمِ القراءةِ ، فإن علم التفسير لم يوجد له كتبٌ تخصُّ طبقات المفسرين وتنقدُ روايتهم على وجه الخصوصِ ، بخلاف ما وُجِدَ من علم القراءة الذي تميَّزَ تميُّزًا واضحًا عند الترجمة لأحد القراء كما تلاحظُ في الأمثلة السابقةِ .
ولذا لا تجد في الكلام عن المفسرين سوى الإشارة إلى أنهم مفسرون دون التنبيه على إمامتهم فيه وضعفهم في غيره كما هو الحال في نقد القراء ، وإذا قرأت في تراجم المحدثين ستجد مثل هذه العبارات :» المفسر ، صاحب التفسير « ، ومن ذلك :
قال الذهبي ( ت : 748 ) :» مجاهد بن جبر ، الإمام ، أبو الحجاج ، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي ، المكي ، المقرئ ، المفسر ، أحد الأعلام « ( ).
قال الخليلي : » … ورواه شيخ ضعيف ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري ، وهو إسماعيل ابن أبي زياد الشامي صاحب التفسير « ( ).
وقال : » مقاتل بن سليمان صاحب التفسير خراساني محله عند أهل التفسير والعلماء محل كبير واسع العلم لكن الحفاظ ضعفوه في الرواة « ( ).
قال ابن سعد :» أبو مالك الغفاري صاحب التفسير ، وكان قليل الحديث « ( ).
قال ابن سعد :» أبو صالح واسمه باذام ، ويقال باذان ، مولى أم هانئ بنت أبي طالب ، وهو صاحب التفسير الذي رواه عن ابن عباس ، ورواه عن أبي صالح الكلبيُّ محمد بن السائب « ( ).
قال ابن سعد : » إسماعيل بن عبد الرحمن السدي صاحب التفسير ، مات سنة سبع وعشرين ومائة « ( ).
قال ابن سعد : » أبو روق واسمه عطية بن الحارث الهمداني من بطن منهم يقال لهم بنو وثن من أنفسهم ، وهو صاحب التفسير ، وروى عن الضحاك بن مزاحم وغيره « ( ).
قال ابن سعد : » مقاتل بن سليمان البلخي صاحب التفسير ، روى عن الضحاك بن مزاحم وعطاء وأصحاب الحديث يتقون حديثه وينكرونه « ( ).
قال الخطيب البغدادي : » قال يحيى بن معين السدى الصغير صاحب التفسير محمد بن مروان مولى الخطابيين ليس بثقة « ( ).
قال الخطيب البغدادي : » يزيد بن حيان الخراساني أخو مقاتل بن حيان صاحب التفسير « ( ).
ويظهر أنَّ سبب عدم تمييز نقد المفسرين على وجه الخصوص أمران مشتركان لا ينفكان عن بعضهما :
الأول : أن رواية التفسير كانت مختلطةً برواية الحديث في كثير من الأحيان .
الثاني : أن كثيرًا من رجال الإسناد في التفسير هم من نقلة السنة النبوية ، فكان الحديث في نقدهم والحكم عليهم من جهة التفسير والحديث واحدًا .
لكن المحدثين لم يجعلوا مقاييس قبولهم لروايات الحديث كمقاييس قبولهم لروايات التفسير ، وإن كانوا حكموا على بعض روايات التفسير بالضعف كما سبقت الإشارة إلى كلام بعضهم في هذا التفريق .
لكن قد يقع أنَّ بعض روايات التفسير تكون متمحِّضةً فيه ، ولا تكادُ تجدُ أسانيدها إلا في علم التفسيرِ ، وقد لا ترى بواسطتها روايةً لحديث نبويٍّ ، وإن وُجِدَ فهو قليلٌ ، ومن أمثلةِ ذلك رواية العوفييِّن التي تنتهي بعطيَّة العوفي ( ت : 111 ) عن شيخه ابن عباسٍ ( ت : 68 ) ، وهي روايةٌ مسلسلةٌ بالضُّعفاءِ ( ) ، وأمرها مشهورٌ معروفٌ في التفسيرِ ، لكن لاتجدُ روايةَ أحاديث بهذه السلسلةِ العوفيَّةِ .
5 ـ ولعلَّ مما يبيح تساهل التعامل مع أسانيد المفسرين من جهة الإسناد أن كثيرًا من روايات التفسير روايات كتبٍ ، وليست روايات تلقين وحفظٍ ؛ لأنك لا تكاد تجد اختلافًا بين ما رواه نقلة هذه المرويات بهذه الأسانيد .
ولذا تجدهم ينسبون التفسير إلى من رواه مدوَّنًا كتفسير عطية العوفي ( ت : 111 ) عن ابن عباس ( ت : 68 ) ، وتفسير السدي ( ت : 128 ) عن بعض أشياخه ، وتفسير قتادة ( ت : 117 ) الذي يرويه سعيد ابن أبي عروبة ومعمر بن راشد ، وتفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ( ت : 68 ) ، وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ( ت : 182 ) ، وغيرها من صحف التفسير .
وإذا كان كثير من هذه الروايات رواية الكتاب فإن هذا يجعلها صالحة للاعتمادُ ، أو الاستئناسُ بها من حيث الجملةِ .
ومن باب المناسبة أذكر أن صحف التفسير من البحوث التي لم تطرح حتى الآن ، فياحبذا لو تولاَّها أصحاب هذا الشأن .
6 ـ أنه مما يتبع هذه المسألة أنه قد اشتهر بعض هؤلاء الأعلام في التفسير إما رواية وإما دراية ، ويجب أن لا ينجرَّ الحكم عليه في مجال الرواية إلى مجال الدراية ، بل التفريق بين الحالين هو الصواب ، فتضعيف مفسر من جهة الرواية لا يعني تضعيفه من جهة الرأي والدراية ، لذا يبقى لهم حكم المفسرين المعتبرين ، ويحاكم قولهم من جهة المعنى ، فإن كان فيه خطأ رُدَّ ، وإن كان صوابًا قُبِلَ .
إذا تأمَّلت هذه المسألة تأمُّلاً عقليًّا ، فإنَّه سيظهر لك أنَّ الرأي لا يوصف بالكذب إنما يوصف بالخطأ ، فأنت تناقش قول فلان من جهة صحته وخطئه في المعنى ، لا من جهة كونه كاذبًا أو صادقًا ؛ لأن ذلك ليس مقامه ، وهذا يعني أنَّك لا ترفضُ هذه الآراء من جهة كون قائلها كذابًا في الرواية ، إنما من جهة خطئها في التأويلِ .
وهذا يعني أنَّ الحكم على الكلبيِّ ( ت : 146 ) ، ومقاتل بن سليمان ( ت : 150 ) بالكذب من جهة الرواية ، لا يعني أنَّك لا تأخذ بقولِهما الذي هو من اجتهادهما في التفسيرِ ، بل إذا ظهرت عليه أمارات الصِّحةِ من جهة المعنى يُقبلُ ، ولا يردُّ لكون صاحبه كذَّابًا . وكذا الحال في من وُصِفَ بالضَّعف في روايته ؛ كعطيَّةَ العوفي ( ت : 111 ) ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ( ت : 182 ) ، وغيرهما .
وغياب هذه القضيةِ يوقعُ في أمرين :
الأول : طرحُ أراء هؤلاء المفسرين ، وهم من أعلام مفسري السلف .
الثاني : الخطأ في الحكم على السندِ الذي يروى عنهم ، فيُحكم عليه من خلال الحكم عليهم ، وهم هنا ليسوا رواةً فيجرى عليهم الحكم ، بل القول ينتهي إليهم ، فأنت تبحث في توثيق من نقل عنهم ، ومن الأمثلة التي وقع فيها بعض الباحثين الفضلاء :
قال ابن أبي حاتم :» حدثنا أبي ، قال : حدثنا الحسن بن الربيع ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، ثنا محمد بن إسحاق ، قوله : ]الحي القيوم[ ] آل عمران : 2 [ : القائم على مكانته الذي لا يزول ، وعيسى لحم ودم ، وقد قضى عليه بالموت ، زال عنة مكانه الذي يحدث به « ( ).
ولما درس المحقق رجال الإسناد خرج بما يأتي :
الحسن بن الربيع ثقة ، وعبد الله بن إدريس ثقة ، ومحمد بن إسحاق صدوق ، ثمَّ قال في نتيجة الحكم : » درجة الأثر : رجاله ثقات ، إلا ابن إسحاق صدوق ، فالإسناد حسنٌ « ( ) .
فجعل الإسناد حسنًا بسبب ابن إسحاق ، وهذا الحكم فيه نظر ، إذ الصحيح أن يُحكم على الإسناد بأنه صحيح ؛ لأنَّ الذين نقلوه عن ابن إسحاق هم الذين يتعرَّضون للتعديل والتجريح ، أما قائل القول ، فلا يدخل في الحكم .
7 ـ إن من تشدد في نقد أسانيد التفسير ، فإن النتيجة التي سيصل إليها أنَّ كثيرًا من روايات التفسير ضعيفة ، فإذا اعتمد الصحيح واطَّرح الضعيف فإن الحصيلة أننا لا نجد للسلف إلا تفسيرًا قليلاً ، وهم العمدة الذين يعتمدون في هذا الباب ، فإذا كان ذلك كذلك فمن أين يؤخذ التفسير بعدهم ؟!
لقد طرحت هذه المسألة على بعض من يرى أنه يجب التشدد أسانيد التفسير ، وتنقية كتب التفسير من الضعيف والإسرائيليات ، والخروج بتفسير صحيح الإسناد عن السلف يُحتكم إليه ، فقلت له : أنت تعلم أنَّ اتباع هذا المنهج سيخرج كثيرًا من روايات التفسير ، وأنه قد لا نجد في بعض الآيات تفسيرًا محكيًا عن السلف سوى ما طرحته ، فمن أين ستأخذ التفسير ؟
قال : نرجع للغة ، لأن القرآن نزل بلغة العرب .
قلت له : فممن ستأخذ اللغة ؟
قال من كتبها وأعلامها ؛ من الخليل بن أحمد والفراء وأبي عبيدة وغيرهم .
فقلت له : أنت طالبت بصحة الإسناد في روايات التفسير ، فلم لم تعمل بها في نقل هؤلاء وحكايتهم عن العرب ، فأنا أطالبك بأن تصحح الإسناد في نقل هؤلاء أن معنى هذه اللفظة هو كذا عند العرب نقلاً صحيحًا متصلاً من الفراء وغيره إلى ذلك العربي الذي علَّمه ذلك .
فهل يا تُرى أن هذا المنهج صحيح ؟
إنَّ طبيعة العلوم تختلف ، فإثبات السنة النبوية ، وإلزام الناس بها ليس كإثبات اللغة ، فاللغة تثبت بما لا يثبت به الحديث ، وكذا الحال في التفسير ، فإنه يثبت بما لا يثبت به الحديث ، والاعتماد على هذه الروايات جزءٌ أصيل من منهجه لا ينفكُّ عنه ، ومن اطَّرحها فقد مسخ علم التفسير .
8 ـ إن التفسير له مقاييس يعرف بها عدا مقاييس الجرح والتعديل ، إذ التفسير يرتبط ببيان المعنى ، وإدراك المعنى يحصل من غير جهة الحكم على الإسناد ، لذا فإن عرض التفسير على مجموعة من الأصول تبين صحيحه من ضعيفة ، كالنظر في السياق والنظر في اللغة ، والنظر في عادات القرآن والنظر في السنة ... الخ
وقد أشار البيهقي إلى هذا الملحظ فقال : » وإنما تساهلوا في أخذ التفسير عنهم لأن ما فسروا به ؛ ألفاظه تشهد لهم به لغات العرب ، وإنما عملهم في ذلك الجمع والتقريب فقط « ( ).
ومن قرأ في كتب التفسير ومارس تدريسه أدرك هذا المعنى ، وإلا لرأيته يقف كثيرًا حتى يتبين له صحة هذه المرويات ليعتمد عليها ، وفي هذه الحال أنَّى له أن يفسِّر .
9 ـ ومما يحسن ملاحظته هنا أنَّ التفسير المنقول بطرق فيها ضعف له فوائد ، منها أن يكون المعنى الذي يحمله التفسير مما قد اشتهر بين السلف فيستفاد منه في حال الجدل مع المعارضين ، خصوصًا إذا كان في مجال الاعتقاد ؛ لذا ترى بعض العلماء ينص على أنَّ بعض المعاني الباطلة في التفسير المرتبطة بالمعتقد = لم تثبت لا بالطرق الصحيحة ولا الضعيفة .
10 ـ وأخيرًا ، فإني أرى في هذه المسألة التي يطول فيها الجدل أن يُفرَّق بين الاعتماد التام على منهج أهل الحديث في نقد الروايات وبين الاستفادة منه ، فالصحيح أن يُستفاد منه ، ويأتي وجه الاستفادة منه في حالات معينة ؛ كأن يكون في التفسير المروي غرابة أو نكارة وشذوذًا ظاهرًا .
ومن أمثلة ذلك ما تراه من فعل الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى : ]إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ[ ] المائدة : 55 [ حيث تتبع أسانيد المرويات ونقدها ، لكنك تجده في مواطن أخرى يرويها ولا ينقدها ، وما ذاك إلا لما في الخبر المنقول في هذه الآية من النكارة التي جعلته يتتبع الإسناد ، أما في غيرها فالأمر محتمل من جهة المعنى وليس فيها ما ينكر فقبله ، والله أعلم .
وهذا الموضوع له جوانب أخرى ، وهو يحتاج إلى تأصيل وتمثيل ، ولعل فيما طرحته غنية ، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والصواب في القول والعمل .
وقوف المصاحف
قال السائل : ما رأيكم بالعلامات الموجودة في المصاحف الآن ,وهل يجب أن يلتزم بها القارئ للقرآن؟
الجواب : إن الأصل في وقوف القرآن أنَّها مبنية على الاجتهاد ، وليس هناك وقف يحرم أو يجب إلا بسببٍ .
ومبنى الوقوف على المعنى ، لذا يعاب على من لم يحرر المعاني في الوقوف ، لكنه لا يصل بعمله هذه إلى الحرمة .
والحرمة والوجوب تحتاج إلى دليل شرعي ؛ إذ أنها تدل على فعل شيء يخالف الشريعة ، وليس ذلك في الوقوف القبيحة التي حكم العلماء عليها بالقبح .
وتعمد الوقف على ما لا يحسن الوقف عليه فعل قبيح بلا إشكال ، لكنه لا يصل إلى حدِّ الحرمة إلا إذا كان يعتقد ذلك المعنى القبيح ، وإذا كان يعتقد ذلك المعنى القبيح فإنه آثم سواءً أكان في حال قراءة أم كان في غيرها .
فمن وقف على قوله : ]يد الله مغلولة[ ، وهو يعتقد هذا المعنى ويريده ، فهو آثم باعتقاده قبل وقفه ، والله أعلم .
أما التزام القارئ بها من أجل تحسين الأداء وتبيين المعاني ، فإنها إنما جُعلت لهذا الغرض ، وإذا كان هذا هو الغرض منها فالتزامها أولى من تركها ، مع مراعاة أن تركها ليس فيه إثمٌ .
وهذه العلامات الموجودة في المصاحف مأخوذة من وقوف السِّجاوندي ( ت : 560 ) من كتابه الكبير ( علل الوقوف ) ، ووقوفه هي : الوقف اللازم ، وعلامته (م) ، والوقف المطلق ، وعلامته (ط) ، والوقف الجائز ، وعلامته (ج) ، والوقف المجوز لوجه ، وعلامته (ز) ، والمرخص ضرورةً ، وعلامته (ص) ، وما لا يوقف عليه ، وعلامته (لا) .
وقد بقيت هذه الوقوف إلى هذا العصر ، وهي المعمول بها في مصاحف الأتراك والقارة الهندية .
أما المصحف المصري وما انبثق عنه كمصحف المدينة النبوية المطبوع بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ، فإنه استفاد من وقوف السجاوندي وإن كان خالفه في بعض مواطن الوقف أو في الزيادة عليه في المصطلحات التي هي في الحقيقة نابعة منه ، ووقوف هذه المصاحف هي : الوقف اللازم ، وعلامته (م) ، والوقف الجائز ، وعلامته (ج) ، والوقف الأولى ، وعلامته (قلى) ، والوصل الأولى ، وعلامته (صلى) ، ووقف المعانقة ، وعلامته (.. ..) ثلاث نقاط على جملة المعانقة أو كلمتها ، والوقف الممنوع ، وعلامته (لا) .
ولعلك تلاحظ أنه لا يوجد فيها الوقف المطلق والوقف المرخص ضرورة والوقف المجوز لوجه التي هي من وقوف السجاوندي . كما تجد في المصحف المصري ومن تبعه وقف المعانقة والوقف الأولى والوصل الأولى ، وهذه لم ينص عليها السجاوندي ، لكن بالنظر إلى أنواع الوقف الجائز عنده وباستقراء علله تجد أنها موجودة عنده ، وإن لم ينصَّ عليها .
وباستقراء تطبيقات الوقف الجائز عند السجـاوندي ( ت : 560 ) ظهر أنه على مراتب ثلاثٍ :
1 ـ ما يستوي فيه موجب الوقف وموجب الوصل ، وهو الذي اصطلح عليه بأنه ( الجائزُ ) .
2 ـ ما يكون الوصل فيه أولى من الوقف ، وهو الذي اصطلح عليه بأنه ( المجوز لوجه ) .
والوقف المجوز لوجه عنده : ما تكون علة الوصل فيه أقوى من علة الوقف ، لكن يجوز الوقف لأجل هذه العلة المرجوحة .
3 ـ ما يكون الوقف فيه أَولى من الوصل ، وهذا القسم لم يذكر له مصطلحاً كالسابقين ، غير أنه ظهر عنده في تطبيقاته ، حيث ينصُّ في بعض مواطن الوقوف على جواز الوصل والوقف ، ويرجح الوقف على الوصل .
ومن أمثلة ذلك الوقف على لفظ " أزواجًا " الثاني من قوله تعالى : ]فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجا يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[ حيث حكم عليه بالجواز ، وقال في عِلَّةِ ذلك الوقف الجائز : » لأن الضمير : ]فيه[ قد يعود إلى الأزواج الذي هو مدلول قوله : ]أزواجًا[ ، والأصح أنه ضمير الرَّحِم ، وإن لم يسبق ذكره ، فكان الوقف أوجه « .
% وأما وقف التعانق أو المعانقة المرموز له بالنقاط الثلاث ، فقد كان يسمى عند المتقدمين وقف المراقبة ، وأول من نبه عليه أبو الفضل الرازي ( ت : 454 ) ( ).
وعرَّفه أبو العلاء الهمذاني ( ت : 569 ) ، فقال : » المراقبة بين الوقفين : أن لا يثبتا معًا ، ولا يسقطا معًا ، بل يُوقف على أحدهما « ( ).
وقد أشار إلى هذا الوقف السجاوندي ( ت : 560 ) في قوله تعالى : ]فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ % مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ... [ ] المائدة : 31 ـ 32 [ .
قال : » ... ]النادمين[ ج . ]من أجل ذلك[ ج ، كذلك ؛ أي هما جائزان على سبيل البدل ، لا على سبيل الاجتماع ؛ لأن تعلُّق ]من أجل[ يصلح بقوله : ]فأصبح[ ، ويصلح بقوله : ]كتبنا[ ، وعلى]أجل ذلك[ أجوز ؛ لأن ندمه ـ من أجل أنه لم يوارِ ـ أظهر « .
وهذه الوقوف لا ينبغي التهييج عليها لانتشارها بين المسلمين في مصاحفهم ، وليس فيها ما يوجب الخطأ المحض ، إذ هي اجتهادات اجتهد فيها علماء أفذاذ ، واتباعها أولى من تركها .
كما أنَّ من كان له اجتهاد وخالفهم في أماكن الوقف أو في مصطلحاته فإنه لا يشنَّع عليه أيضًا .
لكن لا تُجعل اجتهادات الآخرين في الوقوف سبيلاً إلى التشنيع على وقوف المصحف ، ولو ظهرت صحتها ؛ لأنَّ في ذلك استطالة على جلالة المصحف ، وجعل العمل فيه عرضة للتغير ، وذلك ما لا ينبغي .
لكن لو عمل الإنسان لنفسه وقوفًا خاصة به لرأي رآه ، واجتهاد اجتهده ، فإنه لا يثرَّب عليه أيضًا ؛ لأن أصل المسألة كله مبناه الاجتهاد .
قال السائل : ما رأيكم بما يسمى الآن بالإعجاز العلمي للقرآن , وهل يدخل تحت علوم القرآن ؟
الجواب : إن هذه المسألة تعتبر من المسائل العلمية التي حدثت في هذا العصر ، والموضوع أكبر من أن يجاب عنه في مثل هذا الموضع ، لكن أستعين بالله ، وأذكر من ما يفتح الله به عليَّ .
1 ـ إنَّ هذا الموضوع يدخل تحت التفسير بالرأي ، فإن كان المفسر به ممن تأهل وعَلِمَ ، كان تفسيره محمودًا ، وإن لم يكن من أهل العلم فإن تفسيره مذموم ، وإن كان قد يصل إلى بعض الحقِّ .
2 ـ إنَّ الإعجاز العلمي يدخل في ما يسمى بالإعجاز الغيـبـيي ، وهو فرع منه ، إذ مآله الإخبار بما غاب عن الناس فترة من الزمن ، ثمَّ علمه المعاصرون .
وإذا تحقَّق ذلك ، فليعلم أنَّ هذا النوع من الإعجاز ليس مما يختص به القرآن وحده ، بل هو موجود في كل كتب الله السابقة ؛ لأنَّ الإخبار في هذه الكتب عن الحقائق الكونية لا يمكن أن يختلف البتة .
وعدم وجود ما يطابق علم القرآن في كتبهم التي بين يديهم إنما هو لتحريفهم لها ، فلينتبه لذلك .
ومن باب إيضاح هذه المسألة بالذات ؛ يقال : إنَّ كتب الله السابقة توافق القرآن في جميع ما يتعلق بوجوه الإعجاز المذكورة عدا ما وقع به التحدِّي ، إذ لم يرد نصُّ صريح يدل على أنه قد تُحدِّي الأقوام الذين نزل عليهم كتب ، كما هو الحال بالنسبة للقرآن .
3 ـ إن قصارى الأمر في مسألة الإعجاز العلمي أنَّ الحقيقة الكونية التي خلقها الله ، وافقت الحقيقة القرآنية التي تكلم بها الله ، وهذا هو الأصل ؛ لأنَّ المتكلم عن الحقيقية الكونية المخبر بها هو خالقها ، فلا يمكن أن يختلفا البتة .
وكل ما في الأمر أنَّ هذه الحقيقة الكونية كانت غائبة من جهة تفاصيلها عن السابقين ، فمنَّ الله على اللاحقين بمعرفة هذه التفاصيل ، فكشفوا عنها ، وأثبتوا حقيقة ما جاء في القرآن من صدق ، فكان اكتشاف ذلك من دلائل صدق القرآن الذي أخبر عنها بدقة بالغة ، لم تظهر تفاصيلها إلا في هذا العصر الذي نبغ فيه سوق البحث التجريبي الذي صارت دولته إلى الكفار دون المسلمين ، فصاروا إذا ما اكتشفوا أمرًا جديدًا عليهم سارع المعتنون بالإعجاز العلمي لإثبات وجوده في نصوص القرآن .
4 ـ إن كثيرًا ممن كتب في الإعجاز العلمي ليس ممن له قدم في العلم الشرعي فضلاً عن علم التفسير ، وكان من أخطار ذلك أن جُعلت الأبحاث في العلوم التجريبية أصلاً يُحكم به القرآن ، وتأوَّل آياته لتتناسب مع هذه النظريات والفرضيات .
وكل من دخل إلى التفسير وله أصل ، فإن أصله هذا سيؤثر عليه ، وسيقع في التحريف ، كما وقع التحريف عند المعتزلة الذين جعلوا العقل المجرد أصلاً يحتكمون إليه ، وكما وقع لغيرهم من الطوائف المنحرفة .
والذي يدل على وقوع الانحراف في هذا الاتجاه الحرص الزائد على إثبات حديث القرآن عن كثير من القضايا التي ناقشها الباحثون التجريبيون .
5 ـ إن كتاب الله أعلى وأجل من أن يجعل عرضة لهذه العقول التي لم تتأصل في علم التفسير ، فأين هم من قول مسروق : » اتقوا التفسير ، فإنما هو الرواية عن الله « .
6 ـ إنَّ في نسب الإعجاز ، أو التفسير إلى » العلمي « فيها خلل كبير ، وأثر من آثار التغريب الفكري ، فهذه التسمية منطلقة من تقسيم العلوم إلى أدبية وعلمية ، كما هو الحال في المدارس الثانوية سابقًا ، وفي الجامعات حتى اليوم ، وفي ذلك رفع من شأن العلوم التجريبية على غيرها من العلوم النظرية التي تدخل فيها علوم الشريعة .
وإذا كان هذا يسمى بالإعجاز العلمي ، فما ذا يسمى الإعجاز اللغوي ، أليس إعجازًا علميًا ، أليست اللغة علمًا ، وقل غيرها في وجوه الإعجاز المحكية .
لا شكَّ أنها علوم ، لكنها غير العلم الذي يريده الدنيويون الغربيون الذين أثروا في حياة الناس اليوم ، وصارت السيادة لهم .
ومما يؤسف له أن يتبعهم فضلاء من المسلمين في هذا المصطلح دون التنبه لما تحته من الخطر والخطأ .
7 ـ ومما يلاحظ في أصحاب الإعجاز العلمي عدم مراعاة مصطلحات اللغة والشريعة ، ومحاولة تركيب ما ورد في البحوث التجريبية على ما ورد في القرآن ، ومن الأمثلة على ذلك أن القرآن يذكر عرشًا وكرسيِّا وقمرًا وشمسًا وكواكب ونجومًا وسموات سبع ، من الأرض مثلهن ... الخ
ومصطلحات العلم التجريبي المعاصر زادت على هذه ، وذكرت لها تحديدات وتعريفات لا تُعرفُ في لغة القرآن ولا العرب ، فحملوا ما جاء في القرآن عليها ، وشطَّ بعضهم فتأوَّل ما في القرآن إلى ما لم يوافق ما عند الباحثين التجريبين المعاصرين .
فبعضهم جعل السموات السبع هي الكواكب السبع السيارة ، وجعل الكرسي المجرات التي بعد هذه المنظومة الشمسية ، والعرش هو كل الكون .
وآخر يجعل ما تراه من نجوم السماء التي أقسم الله بها وأخبر عن عبوديتها ، وجعلها علامات ؛ يجعل ما تراه مواقع النجوم ، وإلا فالنجوم قد ماتت منذ فترة . إلى غير ذلك من التفسيرات الغريبة التي تجيء مرة باسم الإعجاز العلمي ، ومرة باسم التفسير العلمي ... الخ من المسميات .
وكل هذا الجهد إنما هو لأجل التوفيق بين ما يسمونه علمًا ، وبين ما جاء في القرآن .
ولقد كان لهذه القضية سلفٌ كالفلاسفة الذين عاشوا في ظلِّ الإسلام حين أرادوا أن يوفِّقوا بين ما في القرآن وبين ما في الفلسفة مما يسمونه حقيقة .
8 ـ إنَّ بعض من نظَّر للإعجاز العلمي ، وضع قاعدة ، وهي أن لا يفسَّر القرآن إلا بما ثبت حقيقة علمية لا تقبل الشكَّ ، لئلا يتطرق الشك إلى القرآن إذا ثبت بطلان فرضية فسِّرت بها آية .
وهذا القيد خارجٌ عن العمل التفسيري ، ولا يتوافق مع أصول التفسير ، وهو قيد يلتزم به مقيِّده ـ وإن لم يكن في الواقع قد التزمه كثيرون ممن بحث في هذا الموضوع ـ ولا يُلزِمُ به المفسِّرَ ؛ لأنَّ التفسير أوسع من الإعجاز .
ومن عجيب الأمر أن بعضهم يؤكد على هذه القاعدة ، ويجعل المقام في الإعجاز مقام تحدٍ للكفار ، ويقول : ... أن القرآن الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على النبي الأمي r في أمة غالبيتها الساحقة من الأميين ـ يحوي من حقائق هذا الكون ما لم يستطع العلماء إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين
هذا السبق يستلزم توظيف الحقائق ، ولا يجوز أن توظف فيه الفروض والنظريات إلا في قضية واحدة وهي قضية الخلق والإفناء ... لأن هذه القضايا لا تخضع للإدراك المباشر للإنسان ، ومن هنا فإن العلم التجريبي لا يتجاوز فيها مرحلة التنظير ، ويبقى المسلم نور من كتاب ربه أو من سنة رسوله r يعينه على أن يرتقي بإحدى تلك النظريات إلى مقام الحقيقة ، ونكون بذلك قد انتصرنا للعلم بالقرآن الكريم أو بالحديث النبوي الشريف ، وليس العكس . انتهى كلامه .
ولعلك ترى كيف أن هذا القائل ينقض قاعدته في نفس كلامه عنها ، إذ يمكن أن يستخدم غيره هذا الضابط الذي خرم به القاعدة في الحديث عن الخلق والإفناء كما استخدمه هو ، وبهذا فإنه لا يوجد قاعدة تخصُّ الإعجاز العلمي على هذا السبيل ؛ إذ يمكن أن تكون كثير من فرضيات البحوث التجريبية مما لا تخضع للإدراك البشري ، ثم نصححها لورود ما يدل عليها من القرآن اجتهادًا أن هذه الآية تشهد لتلك النظرية .
وهنا مسألة مهمة ، وهي من الذي يُثبتُ أنَّ هذه القضية صارت حقيقةً لا فرضية ؟
أي : من هو المرجع في ذلك ؟ أيكفي أن يُحدِّثَ بها مختصٌّ ، أتكفي فيها دراسةٌ بحثيةٌ ، أتحتاج إلى إجماعٍ من المختصين ؟
هذه المسألة من أولى ما يجب أن يعتني به من يريدون تفسير القرآن بالحقائق التي أثبتها البحث التجريبي المعاصر .
وفي نظري أنَّ هذا هو أول ما يجب على الباحث تأصيله وتأكيد ثبوته من جهة البحث التجريبي ، فإذا ثبت ذلك له ، انتقل من يريد الحديث عن ما يسمى بالإعجاز العلمي إلى المرحلة الثانية ، وهي تعلُّم التفسير وأصوله لئلا يشتطوا في تفسيراتهم ، أو يلووا أعناق النصوص إلى ما يريدون .
9 ـ أما بالنسبة للمفسر ، فإنه لا يمكنه أن ينكر ما يُحكمُ بثبوته من حقائق العلم التجريبي ؛ لأنه لا يملك الأدوات التي يصل بها إلى أن يثبت أو ينكر ، وهذه الأدوات متكاملة عند الباحثين التجريبيين ، وإن أخذها منهم ، فإنما يأخذها ثقة به فيهم لا غير .
وعمل المفسِّر هنا أن يرى صحة انطباق تلك القضية على ما جاء في القرآن من جهة دلالة اللغة والسياق وغيرها ، أي أن عمله عمل تفسيري بحت ، وهو يمتلك أدواته بخلاف كثير ممن كتب في ما يسمى بالإعجاز العلمي الذين لا يملكون تلك الأدوات ، فتراهم يخبطون خبط عشواء .
فكما لا يرضى أصحاب ما يسمى بالإعجاز العلمي بما عند المفسرين من تفسير كل ظواهر الكون التي أثبت البحث التجريبي المعاصر خطأها ، فإن المفسرين لا يرضون لك واحد من الباحثين التجريبين أن يوافق بين البحث التجريبي وما ورد في القرآن .
وإن كنت أرى أن المفسر أقدر في الربط من الباحث التجريبي .
10 ـ إن الربط بين ما يظهر في البحث التجريبي المعاصر وبين ما يرد في القرآن إنما هو من عمل المفسِّر به ، كائنًا من كان هذا المفسر ، وعمليته في هذا بيان معاني القرآن ، وإذا كانت هذه مهمته هنا فإنَّ المفسِّر يبين معانيه بجملة من المعلومات التي قد يكون فيها الضعيف من جهة أفراده ، كبعض الآثار الضعيفة مثلاً . فلو أن مفسِّرًا اعتمد في تفسيره على نظريةٍ من النظريات التي ثبت بطلانها لاحقًا فإنَّ الأمر أن هذا تفسير ضعيف لا يصحُّ ، ولا علاقة للقرآن به ، فالخطأ خطأ المفسر ، وليس الخطأ في القرآن قطعًا .
وهذا يشبه ما لو فسّر مفسِّر بمعنى شاذٍّ ، فهل ينال القرآن خطأ منه ، وهل يقال : إن الخطأ من القرآن ؟
لا شكَّ أن الأمر ليس كذلك .
لكن الأمر اختلف هنا لأنَّ الباحثين فيما يسمى بالإعجاز العلمي يريدون أن يلزموا الناس بما توصَّلوا إليه على أنَّ القرآن حقٌّ لا مرية فيه ؛ لأنه أثبت هذه القضايا قبل أن يعرف الناس تفاصيلها ، فألزموا أنفسهم من جهة التفسير بما لا يلزم ، فأوقعوا أنفسهم في الضيق والحرج ، وظهر عندهم الإلزام بتفسير القرآن بالحقائق ، وذلك ما لم يطبقوه في تفسيراتهم ، كما قلت .
11 ـ إن موضوع ما يسمى بالتفسير العلمي طويل جدًّا ، ولست ممن يردُّه جملة وتفصيلاً ، لكنني أدعو إلى تصحيح مساره ، ووضعه في مكانه الطبيعي دون تزيُّدٍ وتضخيم كما هو الحاصل اليوم ، حتى لقد جعله بعضهم الطريق الوحيد لدعوة الكفار ، وأنَّى له ذلك ؟
لقد أسلم كثير منهم في هذا العصر ـ ولا زالوا يسلمون بما يعرفه كثير ممن خبر إسلامهم ـ ولم يكن إسلامهم بسبب ما ورد في القرآن من حقائق وافقها البحث التجريبي .
نعم لقد كان له أثر في إسلام بعض الكفار ، لكنهم أقل بكثير ممن يسلم عن سبيل الاقتناع بالإسلام ، وبما فيه مما يلائم فطرة البشر ، وهذا الموضوع بذاته بحث يصلح للمتخصصين في قسم الدعوة ، وهو يحتاج إلى عناية .
12 ـ إنَّ أي تفسير جاء بعد تفسير السلف ، فإنه لا يقبل إلا بضوابط ، وهذه الضوابط :
1 ـ أن لا يناقض ( أي : يبطل ) ما جاء عن السلف ( أعني : الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ) .
ملاحظة : السلف عند أصحاب الإعجاز العلمي كل المفسرين السابقين ، وليس مقصورًا على هذه الطبقات الثلاث .
وذلك لأنَّ فهم السلف حجة يُحتكم إليه ، ولا تجوز مناقضته البتة ، فمن جاء بتفسير بعدهم ، سواءً أكان مصدره لغة ، أو بحثًا تجريبيًا ، فإنه لا يقبل إن كان يناقض قولهم .
فإن قلت : إنه يرد عن السلف في تفسير الآية اختلاف ، فكيف العمل ؟
فالجواب : أنَّ الاختلاف الوارد عنهم أغلبه اختلاف تنوع ، وليس بينه تضادٌّ إلا في القليل منه .
والقاعدة في اختلاف التنوع :
% أن تقبل الأقوال الواردة عنهم على سبيل التنوع ما دام ليس في قبولها جميعًا ما يمنع ذلك .
% أن يُرجَّح أحد أقوالهم على سبيل القول الأَولى والأرجح دون اطِّراح غيره وتركه بالكلية ؛ لأنه قد يستفاد منه في موضع آخر .
والقاعدة في اختلاف التضاد الوارد بينهم أن يرجَّح أحدها على سبيل التعيين لا التنوع ؛ لأنه لا يمكن القول بها معًا ، فلزم الترجيح ، وهو هنا تصحيح لقول ، وترك للآخر .
واطراح ما جاء عنهم بالكلية في هذين النوعين من الاختلاف معناه مناقضة قولهم ، وعدم الاعتبار به ، وهذا واقع كثير ممن تعرض للتفسير وجعل مصدره البحث التجريبي المعاصر .
2 ـ أن يكون المعنى المفسَّر به صحيحًا .
وهو على قسمين :
الأول : أن يكون المعنى من جهة اللغة ، وهذا لابدَّ أن يثبت لغةً ، وأي تفسير بمعنى لم يثبت من جهة اللغة ، فإنه مردود ، كمن يفسِّر الذرة الواردة في القرآن بالذرة الفيزيائية ، وهذا مصطلح حادث لا يثبت في اللغة .
الثاني : أن يكون المعنى جمليًا لا من جهة اللغة ، كمن يفسِّر خلق الأطوار بأنها الأطوار الداروينية .
وهذا مخالف لما جاء في الشريعة ، وهو غير صحيح في نفسه ؛ لذا لا يصحُّ التفسير به ، ولا بما هو على منهجه البتة .
3 ـ أن يتناسب مع سياق الآية ، وتحتمله الآية .
وهذا قيد مهمٌّ ، وفيه مجال للاختلاف ، لكن لا يجب إلزام الآخر به ، وكثيرٌ من التفسيرات بما وصل إليه البحث التجريبي تدخل في هذا الضابط ؛ إذ قد يكون المعنى غير مناقض لما ورد عن السلف ، وهو معنى صحيح ، لكن يكون وجه ردِّه عدم احتمال الآية له ، والحكم باحتمال الآية له من عدمه محلُّ اجتهادٍ ، وإذا كان الاجتهاد في احتماله أو عدمه عن علم فلا تثريب على الفريقين ، بل في الأمر سعة ، كما هو الحال في الاجتهاد الكائن في علماء أمة محمد r .
وسأضرب مثلاً أرجو أن يوضح هذا الأمر ، وهو ما ورد في تفسير قوله تعالى : ]فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ[ ] الأنعام : 125 [ .
تأمل السياق الذي وردت فيه هذه الآية ، وانظر ـ تكرمًا ـ إلى ما قبلها ، يقول تعالى : ]أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون َ % وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ % وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ % فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ % وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ[ ] الأنعام : 122 ـ 126 [ .
إن الحديث عن حال الكافر وحال المؤمن ، ثم ضرب مثالاً بحال الأكابر من المجرمين الذين لا يمكن أن يدخل الإيمان قلوبهم لما فيهم من الكفر والإجرام ، ثمَّ بين سبحانه مشيئته في الهداية والإضلال ، وذكر أن من أراد هدايته ، فإنه يشرح صدره للإيمان به وييسره له ، ومن أراد له الضلال ، فإنه يجعل صدره في حال ضيق وحرج شديد ، ولو أراد الإيمان فإنه لا يستطيعه ، كما لا يستطيع الإنسان أن يصعد في السماء .
قال الطبري : » القول في تأويل قوله تعالى : ]كأنما يصعد في السماء[ : وهذا مَثَلٌ من الله ـ تعالى ذكره ـ ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه ؛ مثل امتناعه من الصعود إلى السماء ، وعجزه عنه ؛ لأن ذلك ليس في وسعه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ... « .
ثم ذكر الرواية عطاء الخراساني ، قال : مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء .
وعن ابن جريج : يجعل صدره ضيقا حرجا بلا إله إلا الله حتى لا يستطيع أن تدخله ، كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه .
وعن السدي : كأنما يصعد في السماء من ضيق صدره .
وتقدير المعنى عندهم : إن عدم قدرة الكافر على الإيمان كعدم قدرة الإنسان على الصعود إلى السماء ، ويكون الضيق والحرج بسبب عدم قدرته على الإيمان لا بسبب التصعد في السماء .
وتفسيرهم لا يعيد التشبيه إلى الضيق والحرج ، وإنما إلى الامتناع من الإيمان وعدم القدرة عليه .
وانشراح النفس للإيمان سابقة له ، فمن يشاء الله له الهداية يشرح نفسه له ، كما أن من أراد الله له الكفر فإنه يجعل صدره ضيقًا حرجًا ، فلا يستطيع أن يؤمن بالله ، وهو ممتنع عليه الإيمان كامتناع الصعود إلى السماء على الإنسان .
وهذا التفسير من دقائق فهم السلف ، وتفسيرهم يرجع إلى لازم معنى الجملة الثانية ، وهي جعل الضيق والحرج في صدر الكافر ، إذ من لازمه أنه لو أراد الإيمان فإنه لا يستطيعه ، كما لا يستطيع الإنسان الصعود للسماء ، فنبهوا على هذا اللازم الذي قد يخفى على كثير ممن يقرأ الآية .
وفي تفسيرهم إثبات القدر ، وأن الله يفعل ما يشاء ، فمن أراد الله هدايته شرح صدره ، ومن أراد ضلاله ضيَّق صدره وجعله حرجًا لا يدخله خير ، وفي هذا ردٌّ على القدرية الذين يزعمون أن العبد يخلق فعله .
أما البحث التجريبي المعاصر فقد كشف عن قضية تتعلق بالصعود إلى الأجواء العليا ، حيث وجد أن الإنسان تتناقص قدرته على التنفس الطبيعي درجة بعد درجة كلما تصاعد إلى السماء ، وسبب ذلك انخفاض الضغط الجزئي للأكسجين في طبقات الجو العليا ، وقد جعل أصحاب الإعجاز العلمي هذه الظاهرة الكونية تفسيرًا للحرج الذي يصيب الكافر بسبب عدم قدرته على الإيمان .
وقد جعلوا التشبيه يعود إلى الضيق والحرج ، والمعنى عندهم : إن حال ضيق صدر الكافر المعرض عن الحق وعن قبول الإيمان بحال الذي يتصعد في السماء .
وذكر وجه الشبه ، وهو الصفة المشتركة بينهما : ضيقًا وحرجًا ، وجاء بأداة التشبيه (كأن) ليقع بعدها المشبه في صورة حسية واضحة ...
وإذا تأملت هذين التفسيرين وعرضتهما على سياق القرآن ومقاصده ، فأي القولين أولى وأقوى ؟
لا شكَّ أن ما ذكره السلف أولى وأقوى ، والثاني ـ وإن كان محتملاً ـ لا يرقى إلى قوته ، وإن قٌبِلَ هذا القول المعاصر على سبيل التنوع فالأول هو المقدَّم بلا ريب .
ووجه قوته كائن في أمور :
الأول : أن ما قاله السلف مُدركٌ في كل حين ، منذ أن نزل الوحي بها إلى اليوم ، أما ما ذكره المعاصرون ، فكان خفيًّا على الناس حتى ظهر لهم أمر هذا المعنى هذا اليوم .
الثاني : أن التنبيه عن امتناع الإيمان عنهم بامتناع صعود الإنسان إلى السماء أقوى وأولى من التنبيه عن تشبيه الحرج والضيق الذي يجده الكافر في نفسه بما يجده من صعِدَ طبقات السماء .
فالحرج والضيق مدرك منه بخلاف امتناع الإيمان الذي يخفى سبيله ، وهو الذي جاء التنبيه عليه في الآية ، وذلك من دقيق مسلك قدر الله سبحانه .
4 ـ أن لا يُقصَر معنى الآيةِ على هذا المعنى المأخوذ من البحوث التجريبية .
وهذا الضابط كثيرًا ما ينتقضُ عند أصحاب الإعجاز العلمي ، وقد وجدت حال بعضهم مع تفسير السلف على مراتب :
ـ فمنهم من لا يعرف تفسير السلف ( الصحابة والتابعين وأتباعهم ) أصلاً ولا يرجع إليه ، وكأنه لا يعتد به ولا يراه شيئًا . وهؤلاء صنفٌ يكثر فيهم الشطط ، ولا يرتضيهم جمهورٌ ممن يتعاطى الإعجاز العلمي .
ـ ومنهم من يقرأ تفسير السلف ، لكنه لا يفهمه ، وإذا عرضه فإنه يعرضه عرضًا باهتًا ، لا يدل على مقصودهم ، ولا يُعرف به غور علمهم ، ودقيق فهمهم .
ـ ومنهم من يخطئ في فهم كلام السلف ، ويحمل كلامهم على غير مرادهم ، وقد يعترض عليه وينتقده ، وهو في الحقيقة إنما ينتقد ما فَهِمَه هو ، وليس ينتقد تفسيرهم ؛ لأنه أخطأ في فهمه .
ومما يظهر من طريقة عرض أصحاب هذا الاتجاه لما توصلوا إليه من معانٍ جديدة أنهم يقصرون معنى الآية على ما فهموه ، دون أن ينصوا على ذلك صراحة ، وهذا مزلق خطير لا ينتبه إليه كثير من الفضلاء الذين دخلوا في هذا الميدان .
بل إنهم يتفوهون بكلام يلزم منه تجهيل الصحابة وتصغير عقولهم ، وأني لأجزم أن هؤلاء الفضلاء لو تنبهوا لهذا اللازم لعدَّلوا عباراتهم ، لكن طريقة البحث التي سلكوها جعلتهم لا ينتبهون إلى هذا المزلق الخطير .
ومن ذلك أن بعضهم يقول : » ... وهناك آيات وألفاظ قرآنية لم تكن لتفهم حقيقتها حتى جاء التقدم العلمي يكشف عن دقة تلك المعاني والألفاظ القرآنية ، مما يوحي إلى كل عاقل بأن كلام الكتاب الكريم كلام الله المحيط علمًا بكل شيء ، وإن كان قد حدث جهلٌ بفهم بعض ألفاظه ومعانيه ، فإن زيادة علوم الإنسان قد جاءت لتُعرِّف الإنسان بما جهل من كلام ربه « .
ألا يلزم من هذا الكلام أن الصحابة قد خفي عليهم شيء من معانيه ، وكذا خفي على التابعين وأتباعهم ، وبقي بعض القرآن غامضًا لا يُعرف حتى جاء ( التقدم العلمي ! ) فكشف عن هذه المعاني .
ولو كان يعتقد هذا اللازم ، فالأمر خطير جدَّا . لكني لا أشكُّ ـ محسنًا الظن بقائله ـ أنه لم يتنبه لهذا اللازم الخطير ، وأُراه لو انتبه له لعدَّل عبارته .
ولقد كان من نتيجة هذا التقعيد أن لا تُذكر أقوال السلف بل يذكر ما وصل إليه البحث التجريبي المعاصر ، وتفسير الآية به ، وهذا فيه قصر لمعنى الآية على ذلك التفسير الحادث ، وهذا خطأ محضٌ .
وقد سئل آخر : لماذا لم يبين الرسول هذه الوجوه للصحابة ؟
فكانت إجابته أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لو أخبرهم بهذه الحقائق العلمية لما أدركوها ، وقد يقع منهم شك أو تكذيب .
وهذا الجواب من أعجب العجب ، فكيف يقال هذا في قوم آمنوا بما هو أعظم من هذه الحقائق الكونية ، وأرى أن خطأ هذا أوضح من أن يوضَّح ، وإني أخشى أن يكون هؤلاء ممن فرح بما أوتي من العلم ، فنسب الجهل للصحابة الذين آمنوا بما هو أعظم من هذه الأمور .
ألم يؤمنوا بأن الرسول r أسري به ، ثم عرج به في جزء من الليل ، ورأى ما رأى من آيات ربه الكبرى ؟ أليس هذا أعجب مما يذكره الباحثون التجريبيون ؟
وقل مثله في غير ذلك مما آمنوا به وصدَّقوا ولم يعترضوا .
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ، فإني قد رأيت لأحد الفضلاء كتابًا في مناهج المفسرين ، وأجاب عن سبب عدم تفسير النبي r القرآن كاملاً ، وكان مما أجاب به ، فقال :
» لضعف المستوى العلمي عند الصحابة ، ولو فسره لهم رسول الله r بما حوت آياته من علوم ومعارف فقد لا يستوعبونها ، وقد تكون محل استغراب بعضهم ، والعلماء الذين جاؤوا بعد الصحابة قدموا بعض المضامين العلمية للآيات ، ولذلك قيل : خير مفسر للقرآن هو الزمن « .
وهذا القول من ذلك الفاضل من أعجب العجب ، إذ كيف يكون خيرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ضعيفي المستوى العلمي ، ومالمراد بالعلم الذي ضعفوا فيه ؟!
أليسوا أعلم الأمة ، والأمة عالة عليهم في هذا ؟!
ألم يخبرهم الرسول r بما هو كائن إلى يوم القيامة ؟! حفظه منهم من حفظه ، ونسيه من نسيه .
إن مثل هذا القول خطير ، وإني لأحسن الظن بأن قائله لم يتنبه لما يتبطنه هذا الكلام من خطأ محضٍ ، وأن الأمر يحتاج إلى تعديل أسلوب وعبارات ، والله المستعان .
وبعد ، فإن هذين النقلين اللذين نقلتهما فيما يتعلق بالإعجاز العلمي إنما هما عن أفاضل ممن تكلموا في الإعجاز العلمي دون غيرهم ممن تخبط في هذا المجال .
وهنا يجب أن يُفرَّق بين فضلهم ، وما لهم من قدم في الدعوة إلى الله ، والحرص على هداية الناس ، وبين ما وقعوا فيه من الخطأ ، فالأول يشكر لهم ويُذكر ولا يُنكر ، ولكن هذا الفضل ليس حجابًا حاجزًا عن التنبيه على ما وقعوا فيه من الخطأ .
كما أن التنبيه على خطئهم لا يعني نبذهم وعدم الاعتداد بهم ، وإنما المقصود هنا تصحيح المسار في هذه القضية التي رُبِطت بكتاب الله ، وجُعلت من أهم ما توصل إليه المعاصرون ، بل جعله بعضهم هو طريق الدعوة للكفار .
وأختم هذا البحث بمسائل متفرقة في هذا الموضوع ، وهي كالآتي :
أولاً : قضايا العلم التجريبي بين القرآن والعلم الحديث :
% العلم بالسنة الكونية لا يرتبط بالمعتقد ، ولا بالأفكار ؛ لأنها نتيجة البحث والتأمل ، وهي من العلوم التي وكلها الله لعباده ، فعلى قدر ما يكون الجهد في البحث يصل البشر بإذن الله إلى نتائجه المرجوة ، ولما كان الوصول إلى هذه العلوم التجريبية مرتبطًا بالقدرة على البحث ووجود المناخ المناسب له ، وكان الغرب الكافر قد حرص عليه ، فإنهم قد سبقوا المسلمين في ذلك .
% أن إشارة القرآن لبعض هذه المسائل المرتبطة بالعلوم التجريبية لم يكن هو المقصد الأول ، ولم ينْزل القرآن من أجلها ، وإذا وازنتها بين المعلومات العقدية والشرعية ، ظهر لك أنَّ المعلومات العقدية والشرعية ـ أي : كيف يعرفون ربهم ، وكيف يعبدونه ـ هي الأصل المراد بإنزال القرآن ، وهي التي تكفلَّ الله ببيانها للناس ، أما المعلومات الدنيوية بما فيها العلوم التجريبية فهي موكولة للناس كما سبق ، وإن جاءت فإنها تجيء مرتبطة بالدلالة على حكم عقدي أو شرعي ، فهي جاءت تبعًا وليس أصالةً ؛ أي أن القرآن لم يقصد أن يذكرها على أنها حقيقة علمية مجردة ، بل ليستدل بها مثلا : على توحيد الله وأحقيته بالعبادة ، أو على حكم تشريعي ، أو على إثبات اليوم الآخر .
% القضايا العلمية التي يفسر بها من يبحث في الإعجاز أو التفسير العلمي لا يدركها إلا الخواص من الناس ، ولا يوصل إليها إلا بالمراس .
% الفرق بين القرآن والعلم التجريبي في تقرير القضية العلمية :
1 ـ أن القرآن يقررها حقيقة حيث كانت وانتهت ، والعلم التجريبي يبدأ في البحث عنها من الصفر حتى يصل إلى الحقيقة العلمية .
2 ـ القرآن يذكر القضية العلمية مجملة غير مفصلة ، أما العلم التجريبي فينحو إلى تفصيل المسألة العلمية .
% علم البشر قاصر غير شمولي ، ونظره من زاوية معينة ، لذا قد يغفل عن جوانب في القضية ، فيختلَّ بذلك الحكم ونتيجة البحث .
وقد يكتشف ما لم يحتسب له عن طريق الصدفة لا الممارسة العملية .
% القرآن طرح القضايا العلمية بعيدًا عن الخيالات التي كانت إبان نزوله ، سواءً أكانت هذه العلوم عند العرب أم عند غيرهم ، وهذه الخيالات بان خطئوها في القرون المتأخرةِ ، ولا يزال هناك غيرها مما سيكشفه العلمُ التجريبي ، وكل ذلك مما لا يمكن أن يخالف حقائق القرآن إن صحَّة تلك العلوم .
% قد تكون بعض القضايا العلمية صحيحة في ذاتها ، لكن الخطأ يقع في كون الآية تدلُّ عليها ، وتفسَّر بها .
ثانيًا : موقف المسلم من قضايا العلوم التجريبة المذكورة في القرآن :
% الإيمان بالقضية الكونية التي ذكرها القرآن لا تحتاج إلى إدراك الحسِّ ، بل يكفي ورودها في القرآن ، بخلاف القضايا العلمية التي تحتاج إلى الإيمان بها إلى الحسِّ ، سواءً أكانت هذه القضايا مذكورة في القرآن أم لم تكن مذكورة .
% المسلم مطالب بالأخذ بظواهر القرآن ، وأخذه بها يجعله يسلم من التحريف أو التكذيب بها ، ولو كانت مخالفة لقضايا العلم التجريبي المعاصر .
فإذا عارضت النظريات العلمية ، ولو سُميت حقائق علمية فإنه لا يلزم الإيمان بها ، بل يقف المسلم عند ظواهر القرآن ؛ لأن المؤمن مطالب بالإيمان بنصوص القرآن لا غير .
% يجب الحذر من حمل مصطلحات العلوم المعاصرة على ألفاظ القرآن وتفسيره بها .
% البحوث العلمية الناتجة عن الدراسات لا يلزم مصداقيتها ، وهي درجات من حيث المصداقية ، لذا ترى دراسة علمية تذكر فوائد شيء ، وتأتي دراسة تناقضها في هذه الفوائد .
ثالثًا : هل نحن بحاجة إلى التفسير العلمي ، أو الإعجاز العلمي ؟
إن نتيجة ما يتوصل إليه الباحث في الإعجاز العلمي هي إثبات أن الحقيقة أو النظرية الكونية أو التجريبية قد ورد ذكرها في القرآن صراحة أو إشارة ، وهذا فيه دليل على صدق القرآن وأنه من عند الله .
وهذه النتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد البحث المجرد في الحقائق الكونية والمواد التجريبية ، ولا شكَّ أن الباحث إذا كان ممن يؤمن بالله ورسوله r فإنه لن يأتي بشيء مخالف لما في القرآن والسنة ، أما إذا كان الباحث كافرًا فقد يقع منه مخالفات للشرع ، ويكون ذلك دليلا على خطئه في مسار بحثه .
ومن ثمَّ فإنَّ عندنا أمران :
الأول : العناية بالبحث التجريبي والنظر في هذا الكون والتدبر فيه للننافس بذلك أعداء الله الذين تقدموا علينا في هذا المجال .
الثاني : العناية بما يسمى بالإعجاز العلمي لإثبات صحة هذا الدين لأولئك الذين لا يؤمنون إلا بالحقائق المادية ، ودعوتهم إلى الإسلام ، وذلك أنه لما كان هذا العصر عصر الثورة العلوم التجريبية الدنيوية ، فإنَّ تقديم هذه التفسيرات الموافقة لما ثبت في هذه العلوم للناس دعوة لهم لهذا الدين الحقِّ .
وهذا القول حقٌّ لكن الأمر يحتاج إلى توازن في طرح مدى الدعوة بهذه التفسيرات العلمية للقرآن ، وهل أثبتت نجاحها وتميُّزها ؟
إنَّ الذي يُخشى منه أن تكون الدعوة بهذه التفسيرات الموافقة للعلوم التجريبية قد أخذت أكبر من حجمها ، وأنَّ عدد المتأثرين بها قليلٌ لا يكادون أن يوازوا بعددهم ما يقوم به داعية أو مركز إسلامي يبيَّن للناس هذا الدين الحقَّ .
ومن المعلوم أن الأفواج الكثيرة التي دخلت في الإسلام أسلمت بأبسط من هذا الطرح العلمي ، فأغلبهم أسلم لما يجد في الإسلام من موافقته لفطرته التي فطره الله عليها دون أن يصل إلى الإيمان بالله بهذا العلم الذي لا يدركه إلا القليل من الناس .
ثمَّ إنَّ من سيسلم من الباحثين في العلوم التجريبية من الكفار بسبب هذا الإعجاز العلمي يلاحظ فيه ما يلي :
ـ أنه لا وقت عنده لدعوة غيره ، بل لتفهم الدين الجديد الذي دان به ، بسبب كبر السنِّ ـ في الغالب ـ والانشغال بالأبحاث والتجارب التي تجعله بعيدًا عن تفهُّم هذا الدين وطبيعته .
ـ أنَّ بعض من يسلم منهم يكون إسلامه صوريًا ، ولم يتحقق فيه الاستسلام الحقُّ .
ـ أنَّ تأثير هؤلاء يكاد يكون معدومًا ، بل لو ثبت إسلامهم قد يُحاربون ، ويسفَّهون ، ولا يُحترمون في مجتمعاتهم العلمية .
وأخيرًا ، فإن بعض من يستسلم لهذه الحقائق المذكورة في القرآن أو السنة ، يأخذها بنظره العلمي التجريبي ، ولا يدرك حقيقة الوحي ، وأنَّ هذا القرآن من عند الله ، فبينه وبين ذلك حجاب مستور ، والله أعلم .
ومن ثمَّ ، فإن العناية بالأمر الأول ـ وهو البحث التجريبي والنظر في هذا الكون والتدبر فيه ـ يجب أن تكون أكبر وأكثر من العناية بالأمر الثاني ـ وهو ما يسمى بالإعجاز العلمي ـ لوجهين :
الوجه الأول : أنه هو المجال الوحيد الذي سبقنا فيه أعداؤنا ، ولابد لنا من منافستهم في ذلك ، والسعي للتقدم عليهم فيه .
الوجه الثاني : أنه عندما يقوم الباحثون المسلمون بتلك البحوث نضمن أنهم لن يصلوا إلى نتائج خاطئة مخالفة للكتاب والسنة ، بل إنهم سوف يعيدون النظر في بعض النتائج المخالفة للكتاب والسنة التي وصل إليها البحث الغربي الكفار .
وإذا بقي همُّنا منصبًّا على العناية بما يسمى بالإعجاز العلمي لإثبات صحة هذا الدين لأولئك الذين لا يؤمنون إلا بالحقائق المادية ، فإننا سنبقى عالة على الغرب ننتظر منه كل جديد في العلوم ، ثمَّ نبحث ما يوافقه في شرعنا ، ولا يخفاك ما دخل علينا من هذه العلوم مما هو مخالف لشرعنا ، وما ذاك إلا بسبب أنَّ موقفنا نحن المسلمين موقف التلميذ الضعيف المتلقي الذي يشعر أنه لا شيء عنده يمكن أن يقدمه .
والبحث العلمي بلا قوة تحميه لا يمكن أن ينفعل في الواقع ، لذا لابدَّ من أن يواكب العلم قوةٌ تكون في الأمة كي تدعم هذا العلم وتحافظ عليه ، وإلا صار ما تراه من هجرة العلماءِ عن ديار المسلمين إلى ديار الغرب الكافرة .
وأسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه ، وأرجو أن يبعد عني وعنكم الشطط والتحامل في هذه القضية وفي غيرها ، وإن هذه القضية بالذات حسَّاسة ، وتدخلها العواطف ، ويبرز في الردَّ على من يعترض عليها الكتابة الخطابية ، فتخرج عن كونها قضية علمية تحتاج إلى تجلية وإيضاح إلى قضية دفاع عن مواقف وشخصيات .
وأقول أخيرًا : إنَّ في الموضوع قضايا كثيرة تحتاج إلى تجلية وإيضاح ، ولولا ضيق المقام لأشرت إليها ، وإني أسأل الله أن يوفقني ويعينني على الكتابة فيه على منهجٍ عدل وسط لا شطط فيه .
قال السائل : تفسير الصحابي للآية ، هل يعتبر حجة يجب الأخذ بها ؟ خصوصاً إذا لم يتابعه عليه أحد .
الجواب : إن هذا افتراض عقلي ، فهل يوجد له مثال كي يُتكلَّم عنه ، وإلا فلو أُجيب عن كل افتراض لكثر الكلام ، وطال المقام ، والنتيجة المحصَّلة ليست بشيء ، فأرجو منك أيها الأخ الكريم أن تذكر مثالاً لذلك ليناقش عبر المثال .
وقولك : » ولم يتابعه عليه أحد « ماذا يعني ؟
هل يعني أنه عُرِفَ التفسير عنه ، ولم يؤخذ به ، فإن كان ذلك كذلك ، فأين مثاله .
أو أنه لم يُعرف ، وهو قول غير مشهورٍ ، وهو قول مطمور وُجِدَ بعد زمن من الأقوال المنقولة .
وكل هذا مما يحتاج إلى مثال ، لكن مما يجب أن يُعلم أن قول الصحابي ـ من حيث الجملة ـ معتبر في التفسير ، والله الموفق .
إذا اختلف في التفسير اثنان من الصحابة ، أحدهما ابن عباس ؛ هل يجب الأخذ بقول الحبر ؟ أم ينظر في ذلك إلى القرائن ، كمطابقة ظاهر اللغة ، والمعلوم من خطاب الشارع ، ونحو هذا ؟
الجواب : لا يلزم الأخذ بقول الحبر مطلقًا ، لأنَّ في ذلك إدعاءٌ العصمة له من الخطأ ، وذلك ما لا يقال به ، لكن إذا وقع الاختلاف في التفسير بينهم ، عُمِدَ إلى المرجِّحات عن كان الاختلاف يحتاج إلى ترجيح ، لكن إذا كان الاختلاف من باب التنوع ، والآية تحتمل هذه الأقوال ، فليس أحدها متروكًا ، بل كلها معتبرة ، والله أعلم .
قال السائل : هل بالإمكان أن يأتي متأخِّر بتفسير معتبر لآية غفل عنه المتقدّمون؟
الجواب : هذه المسألة مهمة جدًّا ، وهي تحتاج إلى معرفة ما يترتب على القول بأن المتأخرين لا يمكن أن يأتوا بتفسير معتبر لم يقل به المتقدمون ، إذ نتيجة القول بأنَّ المتأخرين لا يمكن أن يأتوا بتفسيرٍ معتبر لم يقل به السلف ما يأتي :
1 ـ أن التفسير توقَّف على ما قال به السلف فقط .
2 ـ أنه لا يجوز القول في التفسير بغير ما قال به السلف .
3 ـ أن كل قول بعد قولهم ، فهو باطل على الإطلاق .
والمسألة ترجع إلى أصل من أصول التفسير ، وهي مسألة ( وجوه التفسير ) ، فهل يوجد للآية أكثر من وجه تفسيري معتبر أم لا ؟ ، وإنما قلت : معتبرًا ؛ لئلا يُفهم أن الوجوه الباطلة والباطنة تدخل في مرادي .
وهذه المسألة قد فهمها السلف ومن جاء بعدهم من العلماء ، وقد وجدت في تطبيقاتهم التفسيرية ، ومن أمثلة أقوالهم :
عندَ تفسيرِه قولَ اللهِ تعالى : ]وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيطَانٍ رَجِيمٍ[ ] الحجر : 17 [ قالَ الشَّنقيطيُّ ( ت : 1393 ) : » … فقوله رضيَ اللهُ عنه : إلاَّ فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابِ اللهِ ، يدلُّ على أنَّ فَهْمَ كتابِ اللهِ تتجدَّدُ به العلومُ والمعارفُ التي لم تكنْ عند عامَّةِ الناسِ ، ولا مانعَ من حمل الآيةِ على ما حملها المفسِّرونَ ، وما ذكرْناه أيضاً أنَّه يُفْهَمُ منها ، لِمَّا تَقَرَّرَ عندَ العلماءِ مِنْ أنَّ الآيةَ إنْ كانت تحتملُ معانيَ كلُّها صحيحٌ ، تَعَيَّنَ حَمْلُهَا على الجميعِ ، كما حَقَّقَه بأدلتِهِ الشيخُ تَقِيُّ الدِّينِ أبو العباسِ بنُ تَيمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ في رسالتِهِ في علومِ القرآنِ« ( ) .
وأما تطبيقاتهم ، فأكثر من أن تُحصى ، وإلا فما عمل المفسرون الذين جاؤا بعدهم ؟!
ولقد بُحثت هذه المسألة ففي أصول الفقه ، وصورة المسألة عندهم :
إذا ورد عن السلف تفسيران ، فهل يجوز إحداث قول ثالث ؟
وفي نظري أن إيراد هذه المسألة بهذه الصورة في كتب أصول الفقه فيه نظر ؛ لنه لا يفرق بين علم التفسير وعلم الفقه .
فعلم الفقه يرتبط بالعمل ، إذ يتضمن افعل أو لا تفعل ، وهذا إما أن يكون كذا وإما أن يكون كذا ، فلا يصلح القول الثالث في كثير من الحيان في مجال الفقه .
أما في مجال التفسير ، فالتفسير مرتبط بالمعنى ، والمعنى يمكن أن يتعدد ، ولم يكن من شرط التفسير أنَّ السابقين قد أتوا على جميع محتملاته ، بل هناك بعض المحتملات الصحيحة التي لم يذكرها السلف ، وهذه المحتملات تقبل إذا توفرت فيها الضوابط الآتية :
1 ـ أن يكون المعنى المذكور صحيحًا في ذاته .
2 ـ أن لا يبطل قول السلف .
3 ـ أن تحتمله الآية .
4 ـ أن لا يُقصر معنى الآية على هذا المحتمل الجديد ، ويترك ما ورد عن السلف .
وإن قال قائل : هل يعني هذا جهل السلف بهذا المعنى الذي ذكره المتأخرون ؟
فالجواب : إنه لا يلزم أن يوصف السلف بجهل المعنى الجديد ، ولكن للمسألة وجه آخر ، وهو أنه لو ظهرت لهم أمارات تدعو للقول به ، وتركوه ، أو قيل لهم فاعترضوا عليه ، فإنه يمكن في هذه الحال أن يقال : لا يصلح القول به .
ومما يدل على ذلك تعدد اجتهاد السلف في طبقاتهم الثلاث ( الصحابة والتابعين وأتباع التابعي ) ، ولو كان لا يجوز القول في التفسير إلا بما سمعوا ، لما ورد تفسير للصحابة ، ولو اكتفى التابعون بما سمعوه من الصحابة لما ورد تفسير للتابعين ... الخ .
ولو كان التفسير لا يجوز فيه الاجتهاد والإتيان بمعنى جديد ، لكان مما بينه الرسول r ، ولم يتركه لمن بعده .
ومما يستأنس به في هذا المقام أن بعض السلف قد نزَّلوا آيات على بعض أهل البدع الذين عاصروهم ، وهذا من باب الرأي ، ولو كان لا يجوز مثله لما قالوا به ، والله أعلم .
وإنما ترك الرسول r تفسير جميع القرآن ، وفسَّر بعضه مما احتاج التنبيه عليه أو مما وقع في إشكال على الصحابة ، فسألوه ، فأجابهم .
أما ما بقي مما لم يفسر الرسول r فإنه ـ مع وجود اختلاف بين السلف ـ معلوم لا يحتاج إلى بيان نبوي في كل آية .
وأخيرًا ، لا تكاد تجدُ قائلاً بهذه المسألة إلا أن يكون قولاً فلسفيًا ؛ لأنه يخالف تطبيقات العلماء في التفسير ، والله أعلم .
قال السائل : هل ترون تبايناً منهجياً بين المتقدِّمين والمتأخرين والمعاصرين في تفسير القرآن الكريم؟
الجواب : لست أعرف المراد بالمتقدمين والمتأخرين ، لكن إن كان المراد بالمتقدمين السلف ، وبالمتأخرين من جاء بعدهم ، فلا شكَّ أن من اطلع على تفاسيرهم ، فإنه سيجد فرقًا واضحًا بين معلومات التفسير بين الفريقين ، كما سيجد فرقًا بينهم في طريقة كتابة التفسير ، ومنهجهم فيه ، وقد أشرتُ إلى شيء من ذلك في مبحث مفهوم التفسير من كتاب ( مفهوم التفسير والتأويل ... ) .
أما المعاصرون فلا يمكن أن ينفكوا عن ما كتبه من كان قبلهم ، وإن كانت قد حدثت طرائق جديدة في التفسير ، كالذي يسمى بالتفسير الموضوعي ، والله أعلم .
قال السائل : ما رأيكم (وفقكم الله) فيما انتشر هذه الأيام من قيام بعض الباحثين بجمع شروح بعض الأئمِّة لآيات متعدِّدة في رسالة وتسميتها بـ "تفسير الإمام الفلاني"؟ حيث إنَّ أغلب كلام ذلك الإمام لا يكون تفسيراً مستقصياً للآيات، ولكن كلاماً مجملاً فيها.
الجواب : ما ذكره السائل صحيح بلا إشكال ، ويمكن تلخيص الملحوظات على مثل هذا العمل فيما يأتي :
1 ـ أنَّ كثيرًا ممن جُمِع تفسيرهم لا يُعرفون بهذا العلم .
2 ـ أن فصل التفسير من وسط كلامٍ لا علاقة له بالتفسير فيه صعوبة بالغة ، ولا يتأتى فصله في كل حين للباحث .
3 ـ أنَّ الباحث يُدخِل منقول العالم مع مَقُولِهِ ، وينسب له التفسير ، وذلك غير سديدٍ ، إذ نقله لا يعني أنه يعتدُّ بذلك القول ؛ إلا إذا قال بهذه القاعدة .
4 ـ أن بعض الباحثين يدخلون في جمعهم جملة من علوم القرآن التي لا علاقة لها بالتفسير .
5 ـ أن هذا الجمع لا يؤخذ منه منهج البتة .
لكن يبقى أن يُذكر هنا أنه قد يرد في سياق كلام بعض العلماء نص تفسيري صريح ، فإذا كان كذلك فإن جمعه والاستفادة منه مفيدة ، لكن لا يؤخذ من هذه المنقولات منهج للعالم في التفسير .
قال السائل : هل القراءات السبعة هي الأحرف السبعة ؟ وما القول الراجح فيها ؟
الجواب : إن موضوع الأحرف السبعة من الموضوعات التي لا زالت تشغل الكثيرين ، ولا يرون فيها جوابًا شافيًا ، لما في هذا الموضوع من الغموض .
ولقد تصدَّى للكتابة فيه أعلام كثيرون ، وأنفس ما كتب فيه كتاب الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري حفظه الله ، وهو بعنوان ( حديث الأحرف السبعة / دراسة لإسناده ومتنه واختلاف العلماء في معناه وصلته بالقراءات القرآنية ) .
ولقد قرأت هذا الكتاب كثيرًا واستفد منه ومن غيره ممن كتب في هذا الموضوع ، ورأيت بعد فترة من قراءة هذا الموضوع أن أفصله على مباحث متتالية يتجلى فيها صلة الأحرف السبع بالرسم والقراءات والعرضة الأخيرة ... الخ ، وإليك ملخص ما كتبته في هذا .
أولاً : معنى الحرف في الحديث : الوجه من وجوه القراءة .
أنواع الوجوه الواردة في اختلاف القراءات :
1 ـ اختلاف الحركات ؛ أي : الإعراب : فتلقى آدم من ربه كلمات .
2 ـ اختلاف الكلمة باعد باعَدَ ، وننشرهانُنشزها بظنين بضنين .
3 ـ اختلاف نطق الكلمة : جِبريل جَبريل جَبرئيل جبرئل .
4 ـ اختلاف راجع إلى الزيادة والنقص : تجري تحتها تجري من تحتها . سارعوا وسارعوا.
5 ـ اختلاف عائد إلى اللهجة الصوتية ، وهذا مما يعود إليه جملة من الاختلاف المتعلق بالأداء ، كالفتح والإمالة والتقليل في الضحى.
نزل القرآن على رسول الله r ، وكان على حرف واحدٍ مدة بقائه في الفترة المكية ، وزمنًا كثيرًا من الفترة المدنية ، ثمَّ أذن الله بالتخفيف على هذه الأمة ، فأنزل الأحرف التي يجوز القراءة بها ، وكان عددها سبعة أحرف في الكلمة القرآنية .
روى البخاري ( ت : 256 ) وغيره عن ابن عباس ( ت : 68 ) ، عن رسول الله r ، قال : » أقرأني جبريل u على حرف ، فراجعته ، فلم أزل أستزيده ويزيدني ، حتى انتهى إلى سبعة أحرف « .
وقد ورد في روايات أخرى : » كلها كاف شاف ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب ، وآية عذاب بآية رحمة « .
وورد كذلك سبب استزادة الرسول ( ، فقال : » لقيت جبريل عند أحجار المرا ، فقلت : يا جبريل . إني أرسلت إلى أمة أمية : الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ العاني الذي لم يقرأ كتابًا قط ، فقال : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف « .
وقد وقع اختلاف كبير في المراد بهذه الأحرف السبعة ، وسأعرض لك ما يتعلق بهذا الموضوع في نقاط :
1 ـ أنَّ التخفيف في نزول الأحرف السبعة كان متأخرًا عن نزوله الأول ، فلم يرد التخفيف إلا بعد نزول جملة كبيرة منه .
2 ـ أنَّ هذه الأحرف نزلت من عند الله ، وهذا يعني أنه لا يجوز القراءة بغير ما نزل به القرآن .
3 ـ أنَّ هذه الأحرف السبعة كلام الله ، وهي قرآن يقرأ به المسلمون ، ومعلوم أنه لا يجوز لأحد من المسلمين أن يحذف حرفًا واحدًا من القرآن ، ولا أن ينسخ شيئًا منها فلا يُقرأ به .
4 ـ أن القارئ إذا قرأ بأي منها فهو مصيب .
5 ـ أن القراءة بأي منها كاف شاف .
6 ـ أنَّ الذي يعرف هذه الأحرف المنْزلة هو الرسول r ، لذا لا تؤخذ إلا عنه ، ويدل على ذلك حيث عمر وأبي في قراءة سورة الفرقان ، حيث قال كل منهما : أقرأني رسول الله r .
7 ـ أنَّها نزلت تخفيفًا للأمة ، وقد نزل هذا التخفيف متدرجًا ، حتى صار إلى سبعة أحرف .
8 ـ أنَّ الرسول r بين سبب استزادته للأحرف ، وهو اختلاف قدرات أمته الأمية التي فيها الرجل والمرأة والغلام والشيخ الكبير .
هذا ما يعطيه حديث الأحرف السبعة من الفوائد المباشرة ، لكنه لا يحدِّدُ تحديدًا دقيقًا المراد بالأحرف السبعة ، وهذا ما أوقع الخلاف في تفسير المراد بها .
أولاً : علاقة هذه الأحرف بالعرضة الأخيرة :
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت :» أسرَّ إليَّ رسول الله r : إنَّ حبريل كان يعارضني بالقرآن كلَّ سنة ، وإنه عارضني هذا العام مرتين ، ولا أُراه إلا قد حضر أجلي « .
وفي هذه العرضة نُسِخَ ما نُسخَ من وجوه القراءت التي هي من الأحرف السبعة ، وثبت ما بقيَ منها ، وكان أعلم الناس بها زيد بن ثابت ، قال البغوي في شرح السنة : » يقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بين فيها ما نسخ وما بقي ، وكتبها لرسول الله r ، وقرأها عليه ، وكان يقرئ الناس بها حتى مات ، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه وولاه عثمان كتب المصاحف « .
والدليل على وجود أحرف قد نُسخت ما تراه من القراءات التي توصف بأنها شاذة ، وقد ثبتت بسند صحيح عن النبي r ، وإلا فأين تضع هذه القراءات الصحيحة الشاذة من هذه الأحرف ؟!.
ثانيًا : علاقة هذه الأحرف بالقراءات المتواترة :
القراءات المتواترة : السبع التي جمعها ابن مجاهد ، وما أضيف إليها من القراءات الثلاث المتممة للعشر .
والأحرف السبعة مبثوثة في هذه القراءات المتواترة ، ولا يوجد شيءٌ من هذه القراءات لا علاقة له بالأحرف السبعة ، غير أنَّ الأمر كما وصفت لك من أنها مبثوثةٌ فيها ، وبعضها أوفر حظًا بحرف من غيرها من القراءات .
وإن لم تقل بهذا ، فما ماهية الأحرف الستة الباقية التي يُدَّعى أنَّ عثمان ومن معه من الصحابة اتفقوا على حَذْفِها ، أو قل : نَسْخِها .
وكم أنواع القراءات التي ستكون بين يديك ـ لو كنت تقول بأنَّ هذه القراءات على حرف واحد ـ لو وُجِدَت هذه الأحرف الستة التي يُزعم عدم وجودها الآن ؟!
لقد سبق أن بينت لك بموجز من العبارة ، وأراك تتفق معي فيه : أنَّ هذه الأحرف قرآن منَزَّلٌ ، والله سبحان يقول : ]إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون[ ، أفترى أنَّ القول بحذف ستة أحرف قرآنية يتفق مع منطوق هذه الآية ؟!
ومن قال بأن الأمة مخيَّرةٌ بين هذه الأحرف فلا دليل عنده ، ولا يوافق قولُه منطوق هذه الآية ، ولو كان ما يقوله صحيحًا لوُكِلَ إلى المسلمين حفظ القرآن ، كما وُكِلَ إلى من قبلَهم حفظُ كتب الله ، وأنت على خُبْرٍ بالفرق بين الحِفْظَين ، فما تركه الله من كتبه لحفظ الناس غُيِّرَ وبدِّل ونسي ، وما تعهَّد الله بحفظه فإنه باقٍ ، ولا يمكن أن يُنقص منه حرف بحال من الأحوال .
ولعلك على خبر كذلك بأن من كفر بحرف من القرآن ، فقد كفر به كلِّه ، فكيف بمن ترك أكثره مما هو منَزَّلٌ واقتصر على واحدٍ . هذا ما لا يمكن أن يقع فيه صحابة رسول الله r ، فتأمَّل ذلك جيِّدًا ، يظهر لك جليًا أنَّ القول بأنَّ القراءات التي يُقرأ بها اليوم على حرفٍ واحدٍ لا يصحُّ البتة .
إنَّ القول بأنَّ هذه القراءات على حرفٍ واحدٍ لا دليل عليه البتة ، بل هو اجتهاد عالم قال به وتبعه عليه آخرون ، والاجتهاد يخطئ ويصيب . ويظهر هنا أنَّ الصواب لم يكن حليف من رأى أنَّ هذه القراءات على حرفٍ واحدٍ .
ثالثًا : علاقة الأحرف السبعة بمصحف أبي بكر ومصاحف عثمان:
اعلم أنَّه لا يوجد نصٌّ صريحٌ في ما كتبه أبو بكر ولا عثمان رضي الله عنهما ، لذا ظهر القول بأنَّ أبا بكر كتب مصحفه على الأحرف السبعة ، وكتبه عثمان على حرف واحدٍ . وهذا القول لا دليل عليه البتةَ ، وهو اجتهاد مدخولٌ .
والذي يدل عليه النظر أنه لا فرق بين ما كُتب بين يدي رسول الله r ، وهو مفرق في أدوات الكتابة آنذاك من رقاع ولخف وأكتاف وغيرها ، وبين ما جمعه أبو بكر في مصحف واحد ، ثمَّ بين ما فرَّقه عثمان ونسخه في المصاحف المتعددة في الأمصار ، هذا هو الأصل ، وهو أن القرآن الذي توفي رسول الله r وقد تمَّ أنه هو الذي بين يدي الأمة جيلاً بعد جيل ، ولست أرى فرقًا بين هذه الكتبات الثلاث من حيث النص القرآني ، وإنما الاختلاف بينها في السبب والطريقة فحسب .
ولو تتبعت المسألة عقليًا ، ونظرت في اختيار زيد بن ثابت دون غيره من الصحابة ، وبدأت من هذه النقطة = لانكشف لك الأمر ، فلأبد معك مفقِّرًا هذه الأفكار كما يأتي :
1 ـ لا يجوز البتة ترك شيء من القرآن ثبت أنَّه نازل من عند الله ، وأنَّ الرسول ( قرأ به ، وأقرأ به الصحابة ، وقد مضى الإشارة إلى ذلك .
2 ـ أنَّ القرآن قد كُتِبَ في عهد الرسول r مفرَّقًا في الرقاع واللخف والعسب ، ولم يكن مجموعًا في كتاب .
3 ـ أنَّ القرآن كان متفرقًا في صدور الرجال ، وهم على درجات في مقدار حفظه ، قال زيد بن ثابت :» فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال « .
4 ـ أنَّ من أسباب اختيار زيد بن ثابت ما ذكره أبو بكر الصديق t ، قال زيد :» وقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ، لا أتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله rفتتبع القرآن واجمعه « .
فكان في هذا ما يميِّزه على متقدمي قراء الصحابةِ ، أمثال أبيِّ بن كعب ، وأبي موسى الأشعري ، وسالم مولى حذيفة وغيرهم .
كما كان هذا ما ميَّزه على ابن مسعود خصوصًا ، الذي جاء في الآثار أنه حضر العرضة الأخيرة ، وقد كان اعترض على عدم إشراكه في جمع القرآن في عهد عثمان .
5 ـ أنَّ زيدًا الذي هو من أعلم الصحابة بالعرضة الأخيرة = سيكتب في المصحف الذي أمره أبو بكر بكتابته ما ثبت في هذه العرضة ، ولن يترك حرفًا ثبت فيها من عند نفسه أو بأمر غيره .
ومن هنا يكون مصحف أبي بكر قد حوى ما بقي من الأحرف السبعة التي ثبتت في العرضة الأخيرة .
ولما جاء عثمان ، وأراد جمع الناس على المصحف ، جعل مصحف أبي بكر أصلاً يعتمده ، وقام بتوزيع الأحرفِ التي تختلفُ القراءة بها في هذه المصاحف ، فكان عمله نسخَ المصاحفِ ، وتوزيع الاختلاف الثابت في القراءةِ عليها ، ولم يترك منها شيئًا ، أو يحذف حرفًا .
وما لم يُرسم في المصاحف ، وقرئ به فإنه مأخوذٌ عن المقرئ الذي أرسله عثمان مع المصحف ، وقراءة المقرئ قاضية على الرسم ؛ لأنَّ القراءة توقيفية يأخذها الأول عن الآخر لا مجال فيها للزيادة ولا النقص ، والرسم عمل اصطلاحيٌّ قد يتخلَّف عن استيعاب وجوه القراءات فلا يصطلح عليه .
فإن اعترض معترض بما روى البخاري عن أنس : » أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق « . .
ووجه الاعتراض من جهتين :
الأول : أنَّ الاختلاف قائمٌ في القراءات المشهورة التي يقرأ بها الناس إلى اليوم ، فما وجه عمل عثمان ، وهو إنما كان يخشى اختلاف القراءة ؟
فالجواب : إنَّ القراءة قبل هذا الجمع لم تكن صادرة عن إجماع الصحابة وإلزام الناس بما ثبت في العرضة الأخيرة مما كتبه زيد في مصحف أبي بكر ، والذي يدل على ذلك أنَّ قراء الصحابة كانوا يقرئون الناس بما صحَّ عندهم عن نبيهم r ، وليس كلهم بَلَغَهُ ما نُسِخَ في العرضة الأخيرة .
فلما وزع عثمان المصاحف = أرسل مع كل مصحف قارئًا يُقرئُ الناس ، بما في هذا المصحف الذي أثبت فيه وجه مما ورد في العرضة الأخيرة ، وكان في ذلك حسمٌ لمادة الخلاف ، وذلك أنه لو التقى قارئٌ من البصرة وقارئ من الكوفة ، فقرأ كل منهما على اختلاف ما بينهما ، فإنهما يعلمان علمًا يقينيًا بأن ذلك عائدٌ إلى وجه صحيح مروي عن النبي r ، وبهذا يكون الاختلاف قد تحدَّد بهذه المصاحف ومن معها من القراء ، وأنَّ ما سواها فهو منسوخ لا يُقرأ به .
وهذا يعني أنَّ عمل عثمان هو تقرير الأوجه التي ثبتت في العرضة الأخيرة التي كُتِبَت في مصحف أبي بكر ، وإلزام الناس بها ، وترك ما عداها مما قد نُسخ ، وليس أنه حذف ستة أحرف .
الثاني : أن يقول المعترض : إنَّ في الرواية السابقة : » وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا « أوكد الدليل على أنهم كتبوا المصحف العثماني على حرف واحدٍ ، وهو ما يوافق لغة قريش .
والجواب عن ذلك أن يقال : إنَّ هذه المسألة ترتبط بالرسم ، وهي مسألة تحتاج إلى توضيح أمور تتعلق بالرسم ، وليس هذا محلها ، لكن سآتي على ذكر ما يلزم من حلِّ هذا الاعتراض ، وبالله التوفيق .
أولاً : إنه قد ثبت أنَّ بعض وجوه القراءات التي يقرأ به في المتواتر الآن بغير لغة قريش ، كالهمز وتسهيله ، فقريش لا تهمز ، والهمز قراءة جمهور القراء ، فكيف تخرج هذه القراءات التي ليست على لغة قريش .
ثانيًا : إنه يمكن أن يُحمل الأمر على رسم المصحف لا على قراءته ؛ وهذا هو الظاهر من ذلك الأثر ، فقوله : » فاكتبوه على لغة قريش « إشارة إلى الرسم لا إلى القراءةِ ، أمَّا القراءة فإنه يُقرأ بها بغير لغة قريش وإن كان برسم لغتها ما دام ثابتًا .
ويدلُّ لذلك أنَّه قد وردت بعض الألفاظ التي كُتبت في جميع المصاحف على وجه واحد من الرسم ، وقد ثبتت قراءتها بغير هذا الرسم .
ومن ذلك ما حكاه أبو عمرو الداني ( ت : 444 ) من أنَّ مصاحف أهل الأمصار اجتمعت على رسم الصراط وصراط بالصاد ، وأنت على خُبرٍ بأنها تُقرأ في المتواتر بالصاد وبالسين وبإشمامها زايًا .
وإنما قرئت هي وغيرها مما رسم على وجه ، وقرئت أيضًا على وجه آخر بالأخذ عن القارئ الذي أقرأ بهذه المصاحف ، وهذا يعني أنَّه لا يلزم أخذ القراءة من الرسم حتى توافق قراءة القارئ ، وأنه يجوز أن يقرأ القارئ بما يخالف المرسوم ، لكنه يكون من الثابت عن النبي r ، وهو مضبوط معروف ، لذا لم يكن في مصحف عثمان مثل قراءة أبي الدرداء وابن مسعود :» والذكر والأنثى « مع صحة سندها إلى الرسول r .
ويقال : إنما رُدَّت مع صحة سندها لأنه لم يقرأ بها في العرضة الأخيرة ، ولم توافق المصحف ، وليس ردها لمخالفة رسم المصحف فقط ، والله أعلم .
وبعد هذا يكون الفرق بين عمل أبي بكر وعمل عثمان كما يأتي :
1 ـ أنَّ أبا بكر أراد حفظ القرآن مكتوبًا ، خشية أن يموت قراء الصحابة ، فيذهب بذهابهم .
أما عثمان بن عفان ، فكان الاختلاف الذي نشأ بين التابعين سببًا في نسخه للمصاحف .
2 ـ أنَّ أبا بكر كتب مصحفًا واحدًا بما يوافق رسم ما بقي من الأحرف السبعة ، أما عثمان بن عفان ، فنسخ من هذا المصحف عدة مصاحف ، ولم يحذف منه شيئًا .
3 ـ أنَّ أبا بكر لم يلزم المسلمين باتباع المصحف الذي كتبه ، ولم يكن هذا من مقاصده لما أمر بكتابة المصحف ، لذا بقي الصحابة يُقرئون بما سمعوه من الرسول r ، وكان في ذلك المقروء كثير من المنسوخ بالعرضة الأخيرة .
أما عثمان ، فألزم المسلمين باتباع المصحف الذي أرسله ، ووافقه على ذلك الصحابة ، لذا انحسرت القراءة بما نسخ من الأحرف السبعة ، وبدأ بذلك معرفة الشاذ من القراءات ، ولو صح سندها ، وثبت قراءة النبي r بها .
وبهذا يكون أكبر ضابط في تشذيذ القراءة التي صح سندها ، ولم يقرأ بها الأئمة = كونها نسخت في العرضة الأخيرة .
علاقة الأحرف السبعة بلغات العرب :
لا يخفى على من يقرأ في موضوع الأحرف السبعة ارتباطها بلغات العرب ، بل إنَّ بعض العلماء جعل سبع لغات من لغاتها هي المقصودة بالأحرف السبعة ، وفي ذلك إهمال لوجوه اختلافات لا تنتج عن كونها من لغة دون لغة .
ولعل من أكبر ما يشير إلى أنَّ اللغات تدخل في الأحرف السبعة كون القرآن بقي فترة من الزمن يقرأ بلسان قريش ، حتى نزلت الرخصة بالأحرف السبعة ، فظهرت الأحرف التي هي من لغات غير قريش .
ومما يشير إلى ذلك ما ورد من نهي عمر ابن الخطاب لابن مسعود من أن يقرئ بلغة هذيل ، ولا يتصور أن يقرئ ابن مسعود بما لم ينْزل ويأذن به النبي r .
وفي تحديد اللغات التي هي أسعد حظًّا بنُزول القرآن خلاف بين العلماء ، ويظهر أنَّ في ذلك صعوبة في بعض مواطن الاختلاف في تحديد القبيلة التي تقرأ بهذا الوجه دون غيرها ، كما قد تشترك أكثر من لغة في وجه من الوجوه ، فيكون نسبه إلى لغة أحدها دون غيرها قصور في ذلك .
وتظهر الصعوبة أيضًا في أنه لا يوجد تدوين تامٌّ للهجة قبيلة دون غيرها ، وإن كان في الكتب إشارة إلى بعض الظواهر اللهجية لهذه القبائل .
وإذا تأمَّلت ما يتعلق باللغات العربية ، وجدته أكثر ما يتعلق به الخلاف في القراءات ، خصوصًا ما يتعلق بالنطق ، فقبيلة تعمد إلى الإدغام في كلامها ، وقبيلة تعمد إلى الإمالة ، وقبيلة تعمد إلى تسهيل الهمز ، وقبيلة تعمد إلى تحقيق الهمز ، وقبيلة تعمد إلى ترقيق بعض الأحرف ، وقبيلة تعمد إلى تفخيمها ، وهكذا غيرها من الظواهر المرتبطة بالصوتيات التي تتميَّز بها قبيلة عن قبيلة .
ويظهر أنَّ هذه الصوتيات هي أكبر ما يراد بنُزول الأحرف السبعة ، وهي التي يدل عليها قوله r :» أسأل الله مغفرته ومعافاته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك « ، وقوله r :» يا جبريل . إني أرسلت إلى أمة أمية : الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ العاني الذي لم يقرأ كتابًا قط « .
إذ الذي يستعصي على هؤلاء هو تغيير ما اعتادوا عليه من اللهجات إلى غيرها ، دون ما يكون من إبدال حرف بحرف ، أو زيادة حرف ، أو إعراب ، فإن هذه لا تستعصي على العربي . لكن أن يكون عاش جملة دهره وهو يميل ، فتريد أن تعوده على الفتح ، أو كان ممن يدغم ، فتريد أن تعوِّده على الإظهار = فذلك ما يعسر ، والله أعلم .
ولا يفهم من هذه الجملة في هذا الحديث أنَّ الاختلاف في الأحرف يرتبط بهذه اللهجات دون غيرها من وجوه الاختلاف ، بل يُحملُ هذا على أن هذا النوع المتعلق باللهجات هو أعظم فائدة مقصودة في نزول الأحرف السبعة ، وليس هذا الفهم بدعًا ، ففي الشريعة أمثلة من هذا النوع ، ومن ذلك :
قوله r :» الحج عرفة « ، والحج يشتمل على أعمال غير الوقوف بعرفة ، فقوله r يدل على أنَّ هذه العمل أعظم أعمال الحج .
وقوله r في الحديث القدسي :» قال الله عز وجل : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل : فإذا قال : ]الحمد لله رب العالمين[ ، قال الله : حمدني عبدي . وإذا قال : ]الرحمن الرحيم[ ، قال الله : أثنى علي عبدي . فإذا قال : ]مالك يوم الدين[ ، قال : مجدني عبدي . فإذا قال : ]إياك نعبد وإياك نستعين[ ، قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل … «
وإنما سُمِّيت الفاتحة: الصلاة، وهي جزء منها ؛ لأنها أعظم شروط الصلاة .
وكذلك قوله r :» الدين النصيحة « ، وقوله r:» الدعاء هو العبادة « ، وغيرها من الأمثلة التي يسمى فيها الجزء باسم الكلِّ ؛ للتنبيه على أهميته ، وللدلالة على الاعتناء به .
وإذا صحَّ لك هذا ، فإنَّ جميع وجوه الاختلاف في القراءة تدخل في الأحرف السبعة ، وأنَّ أعظم هذه الوجوه ما يتعلق باللهجات ، والله أعلم .
علاقة الأحرف برسم القرآن :
يرتبط هذا الموضوع بلغات العرب ، وقد سبق الحديث عنها ، والمراد هنا التنبيه على كون ما يتعلق برسم القرآن من الأحرف السبعة هو ما يمكن رسمه من الألفاظ ، أمَّا وجوه القراءة التي ترجع إلى اللهجات ؛ كالإمالة والتقليل ، والمد والإظهار والإدغام والسكت والتسهيل والإبدال ، وغيرها = فلا يمكن أخذها من الصحف ولا كتابتها في المصاحف إلا بما يصطلح عليه أنه يشير إليها ، ومعلوم أن علم ضبط المصحف كان متأخرًا ، ولم يكن في عصر الصحابة إطلاقًا .
وهذا يعني أنك إذا قلت : كُتِبَ المصحف على الأحرف السبعة ، فالمراد كتابة الألفاظ ووجوه قراءتها اللفظية لا الصوتية .
وهذه الصوتيات إنما تؤخذ عن السابق بطريق المشافهة والرواية ، فينقلها كما سمعها ، وهكذا من أو السند إلى منتهاه .
وبهذا تعلم أن رسم المصحف لا يمكن أن يحوي جميع وجوه الأحرف السبعة ، وإنما يمكن أن يحوي منها ما يتعلق برسم الألفاظ ، أمَّا غيرها فيؤخذ من طريق الأئمة القراء .
ولهذا السبب ـ لما أراد عثمان أن يلزم الناس بالقراءة التي أجمع الصحابة على أنها ما ثبت في العرضة الأخيرة ـ أرسل مقرئًا مع كل مصحف ،فقد ورد أنه أمر زيد بن ثابت أن يقرئ في المدينة ، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي ، والمغيرة بن أبي شهاب مع الشامي ، وأبو عبد الرحمن السلمي مع الكوفي ، وعامر بن عبد القيس مع البصري .
ومن ثَمَّ فالرواية قاضية على الرسم لا العكس .
تلخيص المراد بالأحرف السَّبعة
الأحرف السبعة : أوجه من الاختلاف في القراءة ، وما لم ينسخ منها في العرضة الأخيرة ، فهو محفوظ ومبثوث في القراءات المتواترة الباقية إلى اليوم .
ومن ثَمَّ ، فإنه لا يلزم الوصول إلى سبعة أوجه في هذه القراءات المتواترة الباقية ؛ لأنَّ بعض هذه الأحرف قد نُسِخَ .
كما أنه لا يلزم أن يوجد في كل كلمة سبعة أوجه من أوجه الاختلاف ، وإن وُجِدَ ، فإنه لا يتعدَّى السبعة ، فإن حُكيَ في لفظ أكثر من سبعة ، عُلِمَ أنَّ بعضها ليس بقرآن ؛ كبعض الأوجه الواردة في قوله تعالى : ]وَعَبَدَ الطَّاغُوت[ .
والمراد بعدد الأوجه من أوجه الاختلاف التي لا تزيد على سبع : الاختلاف في الكلمة الواحدة في النوع الواحد من أنواع الاختلاف ؛ كالمد والقصر ، والإمالة والفتح .
ومن ثَمَّ ، فلا إشكال في أن تكون أنواع الاختلاف أكثر من سبعٍ في العدد ، كما اختلف في ذلك من جعل الأحرف السبعة أنواع من الاختلاف في القراءات عموماً، والصحيح أنها كلها أوجه اختلاف مندرجة ، لكن لا يجتمع أكثر من سبعة منها في اختلاف أداء الكلمة القرآنية .
ويلاحظ أنَّ هذه الأوجه على قسمين :
الأول : ما يتعلق بالنطق واللهجة ، كالإمالة والتقليل والفتح ، وكالإدغام والإظهار ، وغيرها ، وهذا ما جاء تأكيد النبي e عليه في طلب التيسير ، حيث أن أكبر فائدة في هذه الحرف هو التيسير على الشيخ الكبير وغيره ، ولا يتصور هذا إلاَّ في النطق .
الثاني : ما يتعلق بالرسم والكتابة ؛ كالاختلاف في زيادة الواو وعدمها في لفظ ]وسارعوا[ ، والاختلاف في حركات الكلمة في لفظ ]تَرجِعون[ ، و]تُرجَعون[ ، وغيرها ، وهو ما ركَّز عليه من جعلها أنواعاً من الاختلاف في القراءة ( ابن قتيبة ، وأبو الفضل الرازي ، وابن الجزري وغيرهم ) ، وإنما دخل هذا في الأحرف ، مع أنه قد لا يعسر على الناطقين ؛ لأنك تجد هذا القسم من الاختلاف في القراءة ، فلا بدَّ أن تحمله على الأحرف السبعة ، وإلاَّ كان هناك شيء من الاختلاف غير اختلاف هذه الأحرف السبعة .
هذا ما يسر الله تقييده ، ولازال البحث يحتاج إلى إعادة صياغة وتحرير ، والله الموفق .
قال السائل : هل من كتاب في أحكام الوقف والابتداء ميسر وسهل حيث
إن كتاب الأشموني فيه شيء من الصعوبة .
الجواب : إن معرفة هذه الكتب تحتاج إلى معرفة المصطلحات التي اعتمدتها ، وغالب هذه الكتب اعتمدت مصطلح التام والكافي والحسن والقبيح ، فمعرفة هذه المصطلحات ، والاجتهاد في دراسة تطبيقاتها تجعل هذا العلم سهلاً شيئًا فشيئًا .
ومما يحسن علمه في هذا العلم أنه يقوم على ثلاثة علوم ، هي : التفسير ، والقراءات ، والنحو .
والجامع بين هذه العلوم هو معرفة المعنى ( أي : التفسير ) ، فالإعراب فرع المعنى ، والقراءة إما أن تكون مرتبطة بالإعراب ، فهي تعود في النهاية إلى المعنى ، وإما أن تعود إلى دلالة المفردة ، والحاجة إلى هذا النوع من القراءات في هذا العلم قليل .
لكن كثيرًا من المواقف لا يمكن أن تُفهم بدون معرفة النحو ، وإن كان كما قيل إنه فرع المعنى .
علة هذه المصطلحات :
جعل علماء الوقف الذين قسَّموا الوقف إلى تامٍّ وكافٍ وحسنٍ وقبيحٍ ، جعلوا اللفظ والمعنى عمدةً في التفريق بين هذه المصطلحات ، وذكر بعضهم علة هذا التقسيم ، ومنهم ابن الجزري ، حيث قال : » وأقرب ما قلته في ضبطه : أن الوقف ينقسم إلى اختياري واضطراري ؛ لأنَّ الكلام ، إمَّا أن يتمَّ ، أو لا ؛ فإن تمَّ كان اختيارياً .وكونه تامَّا لا يخلو : إمَّا أن لا يكون له تعلق بما بعده البتة ـ أي : لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ـ فهو الوقف الذي اصطلح عليه الأئمة بالتامِّ ، لتمامه المطلق ، يوقف عليه ويبتدأ بما بعده .
وإن كان له تعلق ، فلا يخلو هذا التعلق ، إما أن يكون من جهة المعنى فقط ، وهو الوقف المصطلح عليه بالكافي ، للاكتفاء به عما بعده ، واستغناء ما بعده عنه ، وهو كالتام في جواز الوقف عليه والابتداء بما بعده .
وإن كان التعلق من جهة اللفظ ، فهو الوقف المصطلح عليه بالحسن ؛ لأنه في نفسه حسن مفيد ، يجوز الوقف عليه دون الابتداء بما بعده ، للتعلق اللفظي . . وإن لم يتمَّ الكلام كان الوقف عليه اضطرارياً ، وهو المصطلح عليه بالقبيح ، لا يجوز تعمد الوقف عليه إلا لضرورة : من انقطاع نفس ونحوه ، لعدم الفائدة ، أو لفساد المعنى « . ( )
وهذا السبر والتقسيم الذي ذكره ابن الجزري واضح الدلالة على صحة هذا التقسيم وعلله . غير أنمه يبقى أن ابن الجزري وغيره ممن تقدمه لم يوضحوا المراد باللفظ والمعنى توضيحاً جلياً .
ويحتاج القارئ في كتب الوقف والابتداء التي تعتمد هذه المصطلحات أن يعرف مرادهم باللفظ والمعنى عنده .
وقد بين بعضُ العلماء المتأخرين المراد بالتعلق اللفظي ، وقالوا بأنه ما يكون ما بعده متعلقاً بما قبله من جهة الإعراب ، كأن يكون صفة ، أو معطوفاً ، أو غيرها من التوابع النحوية ( ).
وما نصَّ عليه هؤلاء ظاهر من استقراء كتب الوقف ، خاصة عند ذكر _ما لا يوقف عليه ) ، حيث يعتمدون على الإعراب ، ومن ذلك ما ذكره ابن الأنباري تحت باب (ما لا يتم الوقف عليه) ، حيث قال : » واعلم أنه لا يتمُّ الوقف على المضاف دون ما أضيف إليه ، ولا على المنعوت دون النعت ، ولا على الرافع دون المرفوع ، ولا على المرفوع دون الرافع ، ولا على الناصب دون المنصوب ، وعلى المنصوب دون الناصب ، ولا على المؤكد دون التأكيد . . . « ( ).
ومن أمثلة اعتماد الرابط النحوي في الحكم ، ما ذكره النحاس عند قوله تعالى :]قالـوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إله واحداً ونحن له مسلمون[ ] البقرة : 133 [، قال : » ]إبراهيم وإسماعيل وإسحاق[ ، حيث قال : ليس بتام ولا كاف ؛ لأن ]إله واحداً[ ] البقرة : 133 [ منصوب على الحال ، أو على البدل من الأول ، فلا يجوز الوقف على ما دونه ، والتمام : ]ونحن له مسلمــون[ « ( ).
ومن ذلك ما ذكره الداني في أسباب قبح الوقف ، ومثل له بالرابط اللفظي ؛ كالوقف على ]بسم[ من ]بسم الله[ ] الفاتحة : 1 [ ، والوقف على ]لقد كفر الذين قالوا[ ] آل عمران : 181 [ ، والابتداء بقوله تعالى : ]إن الله فقير[ ، وغيرها ( ).
وبهذا يظهر أن المراد بالتعلق اللفظي التأثير الإعرابي . ولهذا قد يقع اختلاف في تحديد الوقف ونوعه بسبب الاختلاف في الحكم الإعرابي ؛ كأن يختلف في (الواو) بين أن تكون استئنافية أو حالية . فعلى الأولى ينعدم التأثير ، وعلى الثانية يكون التأثير الإعرابي موجوداً .
أما المعنى ، فيظهر أنه نوعان :
الأول : المعنى المرتبط بالجملة القصيرة ، فإذا رأوا أنه قد تم كلامٌ وانتقل بعده إلى غيره ، فإنه تام ، وإن كان السياق والحديث لا زال في موضوعٍ معين .
الثاني : المعنى المرتبط بالقصة أو جملة الآيات التي تتحدث في موضوع واحدٍ ، وهذه يقع فيها التمام .
وبسبب النوع الأول يصعب تحديد المراد بالمعنى عند علماء الوقف والابتداء ؛ لأنهم لم يبينوا مرادهم به ، ولذا تجدهم يختلفون في الحكم على الموضع : تماماً وكفايةً ، نظراً لاختلافهم في المعنى ، قال محمود علي بسة : » ثم إن الفرق بين الوقف التام والكافي غير محدد تحديداً منضبطاً عند جميع القراء ، كالفرق بين الحسن والقبيح ؛ لأن وجه الاختلاف بين التامِّ والكافي تعلقه بما بعده بالمعنى ، أو لا ، وهو أمر نسبي يرجع في إلى الأذواق في فهم المعاني واعتبار ما وقف عليه متعلقاً بما بعده في المعنى ،أو مستغنياً عنه . ولذا تجد منهم من يعدُّ بعض الوقوف الكافية في نظر غيره تامة ، والعكس … « ( ).
ومع هذا الوضوح الفرق بين التعلق اللفظي والتعلق المعنوي ، تجد من يجعل شيئاً مما به تعلق لفظي من قسم الكافي الذي يكون التعلق فيه بالمعنى ، وهذا يدلُّك على عدم وضوح المراد بالمعنى .
ومن الأمثلة التي وقع فيها الحكم بالتعلق بالمعنى ، وفيه تعلق لفظي ، ما ذكره الداني في تمثيله للوقف الكافي ، قال : » وذلك نحو الوقف على قوله : ]حرمت عليكم أمهاتكم[ ] النساء : 23 [ ، والابتداء بما بعد ذلك في الآيةِ كلها … « ( ).
وقد انتُقد الداني في تمثيله للوقف الكافي ، ومن ذلك ما قاله السخاوي في جمال القراء : » وهذا ليس بالوقف الكافي ؛ لأن هذه المواقف يتعلق ما بعدها بما قبلها في اللفظ والمعنى ، وإنما هي من الأوقاف الحسان « ( ).
وقال ملا علي قاري في تعليقه على تمثيل ابنِ ابنِ الجزري بهذا المثالِ : » وفيه أن الظاهر أن ما بين المعطوف والمعطوف عليه تعلق لفظي ، فهو من قبيل الوقف الحسن « ( ).
وما ذكره السخاوي وملاَّ علي قاري هو الصواب ؛ لأن العطف رابط لفظي إعرابي ، ثم إن البدء يقوله تعالى : ]وبناتكم وأخواتكم … [ ] النساء : 23 [ لا يفيد معنى مستقلاًّ ؛ لأنه متعلق بقوله : ]حرمت عليكم أمهاتكم[ ] النساء : 23 [ .
وإنما يجوز البدء بأحد هذه المعطوفات للضرورة ، وهي كثرة المعطوفات مع طول الآية ، وعدم بلوغ النفَسِ نهايتها إلاَّ بتقطيعها . وقد نبَّه ابن الجزري أن مثل هذا الطول مما يتسامح الوقف فيه وإن كان من الوقف الحسن ، قال : » يغتفر في طول الفواصل والقصص والجمل المعترضة ونحو ذلك ، وفي حالة جمع القراءات ، وقراءة التحقيق والترتيل ، مالا يُغتفر في غير ذلك ، فربما أُجيز الوقف والابتداء لبعض ما ذكر ، ولو كان لغير ذلك لم يُبَحْ ، وهذا الذي يسميه السجاوندي : المرخص ضرورة « ( ).
ولما كان (المعنى) في النوع الأول غير محدد تحديدا دقيقًا ، فإنك تجد كثيرًا مما حُكِيَ فيه التمام بينه وبين ما بعده علاقة في المعنى تمنع أن يكون من قسم التامِّ .
ومن أمثلة ذلك : حكمهم بالتمام على قوله تعالى : ]وجعلوا أعزة أهلها أذلة[ ] النمل : 27 [ ، قال ملاَّ علي قاري : » وقد يوجد قبل انقضاء الفاصلة ؛ كقوله تعالى : ]وجعلوا أعزة أهلها أذلة[ ] النمل : 27 [ ، قال ابن المصنف : هذا الوقف تامٌّ ؛ لأنه انقضاء كلام بلقيس ، وهو رأس آيةٍ أ.هـ . يعني قوله تعالى : ]وكذلك يفعلون[ ] النمل : 27 [ ابتداء كلام من الله شهادة على ما ذَكَرَتْهُ .
وفيه أنَّ له تعلقاً معنوياً ، فلا يكون وقفه تاماً ، بل كافياً .
وقال بعض المفسرين : ]وكذلك يفعلون[ أيضاً من كلامها تأكيدًا لما قبلها ، فالوقف على ]أذلة[ كافٍ ، وعلى ]يفعلون[ تامٌّ .
وقد يقال : لأنه كافٍ أيضاً ؛ لأن ما بعده من جملة مقولها ، فله تعلق معنوي بما قبله .
ثمَّ قال ـ أي : ابن المصنف ـ : وقد يوجد بعد انقضاء الفاصلة بكلمة ؛ كقوله تعالى : ]وإنكم لتمرون عليهم مصبحين . وبالليل [ ] الصافات : 137 ـ 138 [ ؛ لأنه معطوف على المعنى ؛ أي : في الصبح والليل ؛ يعني : فيهما .
وفيه البحث السابق ؛ إذ من جملة التعلق المعنوي قوله : ]أفلا تعقلون[ ] الصافات : 138 [ ، فهو وقف تامٌّ ، وما قبله كافٍ « ( ).
ومن هذه النقول السابقة يتضح أن المراد بالمعنى غير واضح المعالم ، وليس له تعريف محدد ، مما يجعله عائماً غير منضبط ، وبسبب ذلك يقع الخلاف في الحكم على بعض المواطن بالتمام أو الكفاية .
ولو تأملت كثيراً من أمثلة التامِّ لوجدت فيها رابطاً لفظياً غير إعرابيٍّ ، وهي كثيرةٌ ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : ]فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون[ ] العنكبوت : 17 [ ، حكم ابن الأنباري والداني بالوقف التامِّ على قوله : ]واشكروا له[ ( ) ، ولو نظرت في قوله تعالى : ]وإليه ترجعون[ لوجدت فيه رابطاً لفظياً غير إعرابي ، وهو الضمير في قوله : ]وإليه ترجعون[ ، وهو يربط بين الجملتين في المعنى ، ويدل على عدم تمام الكلام ِ ، ولذا فالحكم على مثل هذا يكون بالكفاية ، واللهُ أعلمُ .
وإذا عرف طالب علم الوقف والابتداء وأتقنه فإنه سيفهم كثيرًا مما في كتب الوقف والابتداء ، ولا يوجد كتاب في الوقف يقال عنه : إنه سهل ما لم يُدرك ما ذكرته لك ، والله الموفق .
قال السائل : ما أفضل كتاب في إعراب القرءان ؟
الجواب : لا يوجد كتاب يمكن أن يقال : إنه أفضل كتاب ، لكن هناك مجموعة من الكتب يمكن الاستفادة منها في إعراب القرآن ، منها :
1 ـ إعراب القرآن ، لأبي جعفر النحاس ( ت : 338 ) . ومن باب الفائدة ، فإن كل كتب النحاس مفيدة جدًّا .
2 ـ الفريد في إعراب القرآن المجيد ، للمنتجب الحسين بن أبي العز الهمداني ( ت : 643 ) .
3 ـ البحر المحيط ن لأبي حيان الأندلسي ( ت : 745 ) .
4 ـ الدر المصون في علوم الكتاب المكنون ، للسمين الحلبي ( ت : 756 ) ، وهو كتاب منظَّمٌ .
وقد كتبت في كتابي ( أنواع التصنيف المتعلقة بالقرآن الكريم ) بعض الفوائد المتعلقة بإعراب القرآن ، والله الموفق . أ.هـ
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?s=&threadid=8238
هذه إجابات لبعض الأسئلة التي طرحت في ملتقى أهل الحديث (( للشيخ مساعد الطيار وفقه الله ))
وقد وعد بإكمال البقية إن تيسر له ذلك ، نسأل الله أن ييسر له وقتا كافيا للإجابة عليها
=============
قال الشيخ وفقه الله :
إجابات ملتقى أهل الحديث
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام المرسلين محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ومن تبعه ووالاه إلى يوم الدين ، أما بعد :
فأشكر الله ما أنعم به علي من نعمه الوافرة ، وأشكره على ما فتح علي به من العلم بكتابه ، وأسأله في ذلك المزيد ، كما أسأله الإخلاص في القول والعمل ، وان يجعل ما انعم به حجة لي لا عليَّ إنه وسميع مجيب .
ثم أشكر الإخوة القائمين على ملتقى أهل الحديث الذي يتميز بما فيه من الطرح العلمي الجادِّ ، وأسأل الله لهم التوفيق والسداد ، أشكرهم على حسن ظنهم بي ، وعلى حرصهم على هذا اللقاء الذي أتمنى أن يكون كما أحبوه .
ثم أتوجه بالشكر لكل من سأل ، وانتظر أن أجيب عليه ، مع اعتذاري عن إجابة بعض الأسئلة ، ولعله يكون لها زمن مناسب بعد حين .
وإني أتوجه إليهم وإلى كل أصحاب الطرح العلمي الجادِّ ممن يطرح رأيه في هذا الملتقى أو غيره أن يكون المراد من طرحه الوصول إلى الحقيقة العلمية ، وليس الانتصار للأشخاص أو المشايخ ، إذ كم تُحجبُ الأقوال الصحيحة بهذا السبب ، وكم يمتنع قوم من طرح ما لديهم لأجل ألا يجابهوا بمثل هذا الردِّ الذي لا يعتمد الأسلوب العلمي ، بل ينحى منحى التعصب للرأي ، حتى ترى أنه يخرج في كثير من الأحيان إلى الأسلوب الخطابي المتهيج للرد على المخالفين ، ويضمحلُّ الأسلوب العلمي بين الباحثين .
كما أن بعض الباحثين قد يرتجل في ردِّ مسألة ، ثمّ يتبين له في قرارة نفسه خطؤها ، وتراه بعد ذلك يُصرُّ على قوله المرتجل ، ويصعب عليه النزوع عنه ، وذلك مسلك غير حميد ، وكما قيل : الرجوع إلى الحق فضيلة ، ولا أشكُّ أن كثيرًا ممن في هذه الملتقيات الجادِّة قد اطَّلع على قصص رائعة من قصص السلف في التنازل عن الرأي الخطأ إذ نُبِّه عليه ، إذ الإصرار غير المبرر على مسألة ظاهرٍ خطؤها مذمة للشخص من حيث لا يدري .
وأدعو الإخوة ونفسي إلى التثبت من نقل المعلومة ، فكم ترى نسبة قولٍ إلى عالم من العلماء ، ولا تكاد تراه قال به ، لكن الباحث نقل ما فهم من كلامه ، ونسبه إليه ظنًّا منه أنه قول له ، فالحرص على نقل قول العالم بحذافيره أولى من تقويله القول بما فهمه الباحث .
وإنني أدعو إلى أن يكون بين أهل العلم اختلاف التغاير والتنوع ، لا اختلاف التناقض والتضاد ، وليعلم أنه لا يوجد أحد يستطيع أن يتسلط على فهم العباد ، ويلزمهم بما لم يقتنعوا به ، فإذا لم تقبل قولي أو لم أقبل قولك فليبق بيني وبينك الودُّ والصفاء ، وإخاء الإيمان والولاء .
وأسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن اختارهم من بين خلقه ، وجعلهم خيرته ، وأن يرفعني وإياكم بالعلم والعمل ، إنه سميع مجيب .
تنبيه :
لقد سلكت في بعض الأسئلة سبيل التوسع ، أو الزيادة على ما أراده السائل من باب تتميم المنفعة والفائدة ، وأرجو أن أكون قد وفقت في هذا ، والله الموفق
التفسير الكبير للفخر الرازي من أوسع كتب التفسير ، وقد حشاه مؤلفه بمباحث كثيرة جدًا تخرج به عن التفسير ، حتى قيل فيه : فيه كل شيء إلا التفسير ، وهذا من باب المبالغة لكثرة ما فيه من المباحث التي هي خارجة عن صلب التفسير ، بل قد تكون ليست من علوم الشريعة .
والكتاب يُعدُّ من مراجع التفسير الكبيرة ، وفيه فوائد كثيرة ، ومسائل علمية نادرة ، لكن لا يصلح أن يقرأ فيه إلا من كان عارفًا بعلم الاعتقاد ، وضابطًا لعلم التفسير ليعرف كيف يستفيد منه .
وقد استفاد الرازي من كتب التفسير التي قبله ، خصوصًا كتب المعتزلة ، وقد يذكرها لينقدها ، لكنه كما قيل : يورد الشبهة نقدًا ، ويردها نسيئة . فهو قويٌّ في عرض الشبه ، ضعيف في ردِّها .
ومن أعلام المعتزلة الذين نقل عنهم : قطرب ( ت : 206 ) ، وأبو بكر الأصم ، والجبائي ( ت : 303 ) ، والكعبي ( ت : 319 ) ، وأبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني ( ت : 322 ) ، والزمخشري ( ت : 538 ) .
وقد جعل العقل حجة عنده ، فتراه يقدمه على النقل بدعوى التعارض بينهما ، بل تراه يستخدمه في مجالات لا يُقبلُ فيها نقد العقل ، كبعض الأحاديث الصحيحة الواردة في حق بعض الأنبياء ، فهو يفندها من جهة العقل فحسب .
وقد استفاد في الوجوه البلاغية من تفسير الزمخشري على وجه الخصوص ، لذا تراه يشقِّق سطرًا مضغوطًا بالمعلومات عند الزمخشري فيجعله في مسائل يبسط فيها البحث .
ومما ظهر في كتابه غير الأمور العقلية والفلسفية وبحوث العلوم التجريبية ما يأتي :
1 ـ الاعتناء بعلم المناسبات .
2 ـ الاستنباط في جميع المجالات .
3 ـ ذكر الملح واللطائف التفسيرية .
4 ـ العناية بجانب البلاغة القرآنية .
وهذا الكتاب من الكتب التي تحتاج إلى الاختصار الذي يقرِّبها للقارئ ، ويبعد ما فيها من الاستطرادات العلمية التي لا تفيد جمهور القراء ، والتي قد تكون مخالفة للاعتقاد . والله الموفق .
قال السائل : تناقش الإخوة في الملتقى حول صحة نسبة الكثير من تفسيرات ابن عباس (رضي الله عنهما) إليه، وخصوصاً تلك التي من طريق علي بن أبي طلحة عنه. فما قول فضيلتكم في ثبوت التفسير عنه؟
إن السؤال عن تفسير علي بن أبي طلحة يدخل في منظومة موضوع عامٍّ ، وهو أسانيد روايات التفسير .
ومما قد لا يخفى أن التفسير قد نُقِلَ بروايات يحكم علماء الحديث عليها بالضعف أو ما هو أشد منه ، لكن الذي قد يخفى هو كيفية تعامل هؤلاء العلماء مع هذه الروايات في علم التفسير .
ولتصوير الحال الكائنة في هذه الروايات ، فإنك ستجد الأمر ينقسم بين المعاصرين وبين السابقين .
فالفريق الأول : بعض المعاصرين يدعو إلى التشدد في التعامل مع مرويات السلف في التفسير .
والفريق الثاني : جمهور علماء الأمة من المحدثين والمفسرين وغيرهم ممن تلقَّى التفسير واستفاد من تلك الروايات ، بل قد اعتمدها في فهم كلام الله .
هذه صورة المسألة عندي ، والظاهر أن الاستفادة من هذه المرويات ، وعدم التشدد في نقدها إسناديًا هو الصواب ، وإليك الدليل على ذلك :
1 ـ أنك لا تكاد تجد مفسرًا من المفسرين اطرح جملة من هذه الروايات بالكلية ، بل قد يطرح أحدها لرأيه بعدم صحة الاعتماد عليها ، ومن أشهر الروايات التي يُمثَّل بها هنا رواية محمد بن مروان السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس .
2 ـ أن المفسرين اعتمدوا اعتمادًا واضحًا على هذه المرويات ، سواءً أكانوا من المحررين فيه كالإمام الطبري وابن كثير ، أم كانوا من نَقَلَةِ التفسير كعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم .
وهؤلاء قد أطبقوا على روايتها بلا نكير ، مع علمهم التام بما فيها من الضعف.
ولا يقال كما قد قال من قال : إن منهج الإمام الطبري في هذه الروايات الإسناد ، وإن ليس من منهجه الصحة اعتمادً على قاعدة من أسند فقد أحالك .
ففي هذه المقولة غفلة واضحة عن منهج الإمام الطبري الذي لم ينصَّ أبدًا على هذا المنهج في تفسيره ، والذي اعتمد على هذه المرويات في بيان معاني كلام الله ، وفي الترجيح بين أقوال المفسرين ، ولم يتأخر عن ذلك إلا في مواضع قليلة جدًّا لا تمثِّل منهجًا له في نقد أسانيد التفسير ، أعني أنَّ الصبغة العامة رواية هذه الآثار والاعتماد عليها في بيان كلام الله .
وقس على الإمام الطبري غيره من المفسرين الذين اعتمدوا هذه المرويات في التفسير .
3 ـ أنَّ أئمة المحدثين لهم كلام واضح بين في قبول هذه الروايات واحتمالها والاعتماد عليها ؛ لأنهم يفرقون بين أسانيد الحلال والحرام وأسانيد غيرها من حيث التشديد والتساهل ، ونصوصهم في ذلك واضحة ، ومن ذلك :
قال عبد الرحمن بن مهدي : » إذا روينا في الثواب والعقاب وفضائل الأعمال = تساهلنا في الأسانيد ، وتسامحنا في الرجال . وإذا روينا في الحلال والحرام والأحكام = تشدَّدنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال « ( ).
وقد انجرَّ هذا التَّساهل على روايات التفسير ، فاحتملوا قومًا معروفين بضعفهم في نقل الحديث ، فقبلوا عنهم ـ من حيث الجملة ـ رواياتهم ، قال يحيى بن سعيد القطان : » تساهلوا في التفسير عن قومٍ لا يوثِّقونهم في الحديث ، ثمَّ ذكر ليث بن أبي سليم ، وجويبر بن سعيد ، والضحاك ، ومحمد بن السائب ؛ يعني : الكلبي .
وقال : هؤلاء يُحمد حديثهم ( كذا ، ولعل الصواب : لا يحمد ) ، ويُكتب التفسير عنهم « ( ) .
وقال البيهقيُّ ( ت : 458 ) : » … وأما النوع الثاني من الأخبار ، فهي أحاديث اتفق أهل العلم بالحديث على ضعف مخرجها ، وهذا النوع على ضربين :
ضرب رواه من كان معروفًا بوضع الحديث والكذب فيه ، فهذا الضرب لا يكون مستعملاً في شيء من أمور الدين إلا على وجه التليين … .
وضرب لا يكون راويهِ متَّهمًا بالوضع ، غير أنه عُرفَ بسوء الحفظِ وكثرة الغلطِ في روايته ، أو يكون مجهولاً لم يثبت من عدالته وشرائط قبول خبره ما يوجب القبول .
فهذا الضرب من الأحاديث لا يكون مستعملاً في الأحكام ، كما لا تكون شهادة من هذه صفته مقبولةً عند الحكَّام . وقد يُستعمل في الدعوات ، والترغيب والترهيب ، والتفسير ، والمغازي ؛ فيما لا يتعلق به حكمٌ « ( ) .
4 ـ ومما يُعلمُ من نقد الأسانيد أنَّ المحدِّثينَ قد فرَّقوا في نقدِهم لبعض الأعلامِ ، فجعلوه في نقل الحديث من المجروحين المتكلَّمِ فيهم ، وأثنوا عليه في علمٍ برعَ هو فيه ، بل قد يكون فيه إمامًا يُؤخذُ قوله في ذلك العلم ، وهذا يعني أنَّ تضعيفه في روايةِ الحديث لم ينجرَّ إلى تضعيفه في ذلك العلمِ الآخرِ ، ومن الأمثلة التي يمكنُ أن تُضربَ في هذا ما يأتي :
1 ـ عاصم بن أبي النَّجود الكوفي ( ت : 128 ) ، قال عنه ابن حجر العسقلاني ( ت : 852 ) :» صدوق له أوهام ، حجة في القراءة ، وحديثه في الصحيحين مقرون «( ) .
2 ـ حفص بن سليمان الأسدي ( ت : 180 ) الراوي عن عاصم بن أبي النَّجود ( ت : 128 ) ، قال عنه الذَّهبي ( ت : 748 ) ـ بعد أن ذكر جرح علماء الحديث فيه ـ : » قلت : أما في القراءةِ ، فثقة ثبت ضابط ، بخلاف حاله في الحديث « ( ).
وقال ابن حجر العسقلاني ( ت : 852 ) : » متروك الحديث مع إمامته في القراءة « ( ).
3 ـ نافع بن أبي نعيم المدني ( ت : 169 ) : » صدوق ثبت في القراءة « ( ).
4 ـ عيسى بن ميناء المدني ، المعروف بقالون ( ت : 220 ) ، أحد راويَي نافع المدني ( ت : 169 ) ، قال عنه الذهبي : » أما في القراءةِ فثبتٌ ، وأما في الحديث فيكتب حديثه في الجملة . سئل أحمد بن صالح المصري عن حديثه فضحك ، وقال : تكتبون عن كلِّ أحدٍ ! « ( ).
5 ـ حفص بن عمر الدُّوري ( ت : 246 ) ، قال ابن حجر ( ت : 852 ) : » لا بأس به « ( ).
وقال ابن الجزري ( ت : 833 ) : » إمام القراءة ، وشيخ الناس في زمانه ، ثقة ثبت كبير ضابط « ( ).
ولا يبعد أن يكونَ بعضُ المتميِّزينَ في علمٍ من العلومِ لا يكاد يُعرفُ لهم روايةٌ للحديثِ ؛ كعثمان بن سعيد الملقب بورش ( ت : 197 ) أحد راويَي قراءة نافع المدني ( ت : 169 ) .
فإذا كان ذلك واضحًا في علمِ القراءةِ ، فإن علم التفسير لم يوجد له كتبٌ تخصُّ طبقات المفسرين وتنقدُ روايتهم على وجه الخصوصِ ، بخلاف ما وُجِدَ من علم القراءة الذي تميَّزَ تميُّزًا واضحًا عند الترجمة لأحد القراء كما تلاحظُ في الأمثلة السابقةِ .
ولذا لا تجد في الكلام عن المفسرين سوى الإشارة إلى أنهم مفسرون دون التنبيه على إمامتهم فيه وضعفهم في غيره كما هو الحال في نقد القراء ، وإذا قرأت في تراجم المحدثين ستجد مثل هذه العبارات :» المفسر ، صاحب التفسير « ، ومن ذلك :
قال الذهبي ( ت : 748 ) :» مجاهد بن جبر ، الإمام ، أبو الحجاج ، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي ، المكي ، المقرئ ، المفسر ، أحد الأعلام « ( ).
قال الخليلي : » … ورواه شيخ ضعيف ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري ، وهو إسماعيل ابن أبي زياد الشامي صاحب التفسير « ( ).
وقال : » مقاتل بن سليمان صاحب التفسير خراساني محله عند أهل التفسير والعلماء محل كبير واسع العلم لكن الحفاظ ضعفوه في الرواة « ( ).
قال ابن سعد :» أبو مالك الغفاري صاحب التفسير ، وكان قليل الحديث « ( ).
قال ابن سعد :» أبو صالح واسمه باذام ، ويقال باذان ، مولى أم هانئ بنت أبي طالب ، وهو صاحب التفسير الذي رواه عن ابن عباس ، ورواه عن أبي صالح الكلبيُّ محمد بن السائب « ( ).
قال ابن سعد : » إسماعيل بن عبد الرحمن السدي صاحب التفسير ، مات سنة سبع وعشرين ومائة « ( ).
قال ابن سعد : » أبو روق واسمه عطية بن الحارث الهمداني من بطن منهم يقال لهم بنو وثن من أنفسهم ، وهو صاحب التفسير ، وروى عن الضحاك بن مزاحم وغيره « ( ).
قال ابن سعد : » مقاتل بن سليمان البلخي صاحب التفسير ، روى عن الضحاك بن مزاحم وعطاء وأصحاب الحديث يتقون حديثه وينكرونه « ( ).
قال الخطيب البغدادي : » قال يحيى بن معين السدى الصغير صاحب التفسير محمد بن مروان مولى الخطابيين ليس بثقة « ( ).
قال الخطيب البغدادي : » يزيد بن حيان الخراساني أخو مقاتل بن حيان صاحب التفسير « ( ).
ويظهر أنَّ سبب عدم تمييز نقد المفسرين على وجه الخصوص أمران مشتركان لا ينفكان عن بعضهما :
الأول : أن رواية التفسير كانت مختلطةً برواية الحديث في كثير من الأحيان .
الثاني : أن كثيرًا من رجال الإسناد في التفسير هم من نقلة السنة النبوية ، فكان الحديث في نقدهم والحكم عليهم من جهة التفسير والحديث واحدًا .
لكن المحدثين لم يجعلوا مقاييس قبولهم لروايات الحديث كمقاييس قبولهم لروايات التفسير ، وإن كانوا حكموا على بعض روايات التفسير بالضعف كما سبقت الإشارة إلى كلام بعضهم في هذا التفريق .
لكن قد يقع أنَّ بعض روايات التفسير تكون متمحِّضةً فيه ، ولا تكادُ تجدُ أسانيدها إلا في علم التفسيرِ ، وقد لا ترى بواسطتها روايةً لحديث نبويٍّ ، وإن وُجِدَ فهو قليلٌ ، ومن أمثلةِ ذلك رواية العوفييِّن التي تنتهي بعطيَّة العوفي ( ت : 111 ) عن شيخه ابن عباسٍ ( ت : 68 ) ، وهي روايةٌ مسلسلةٌ بالضُّعفاءِ ( ) ، وأمرها مشهورٌ معروفٌ في التفسيرِ ، لكن لاتجدُ روايةَ أحاديث بهذه السلسلةِ العوفيَّةِ .
5 ـ ولعلَّ مما يبيح تساهل التعامل مع أسانيد المفسرين من جهة الإسناد أن كثيرًا من روايات التفسير روايات كتبٍ ، وليست روايات تلقين وحفظٍ ؛ لأنك لا تكاد تجد اختلافًا بين ما رواه نقلة هذه المرويات بهذه الأسانيد .
ولذا تجدهم ينسبون التفسير إلى من رواه مدوَّنًا كتفسير عطية العوفي ( ت : 111 ) عن ابن عباس ( ت : 68 ) ، وتفسير السدي ( ت : 128 ) عن بعض أشياخه ، وتفسير قتادة ( ت : 117 ) الذي يرويه سعيد ابن أبي عروبة ومعمر بن راشد ، وتفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ( ت : 68 ) ، وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ( ت : 182 ) ، وغيرها من صحف التفسير .
وإذا كان كثير من هذه الروايات رواية الكتاب فإن هذا يجعلها صالحة للاعتمادُ ، أو الاستئناسُ بها من حيث الجملةِ .
ومن باب المناسبة أذكر أن صحف التفسير من البحوث التي لم تطرح حتى الآن ، فياحبذا لو تولاَّها أصحاب هذا الشأن .
6 ـ أنه مما يتبع هذه المسألة أنه قد اشتهر بعض هؤلاء الأعلام في التفسير إما رواية وإما دراية ، ويجب أن لا ينجرَّ الحكم عليه في مجال الرواية إلى مجال الدراية ، بل التفريق بين الحالين هو الصواب ، فتضعيف مفسر من جهة الرواية لا يعني تضعيفه من جهة الرأي والدراية ، لذا يبقى لهم حكم المفسرين المعتبرين ، ويحاكم قولهم من جهة المعنى ، فإن كان فيه خطأ رُدَّ ، وإن كان صوابًا قُبِلَ .
إذا تأمَّلت هذه المسألة تأمُّلاً عقليًّا ، فإنَّه سيظهر لك أنَّ الرأي لا يوصف بالكذب إنما يوصف بالخطأ ، فأنت تناقش قول فلان من جهة صحته وخطئه في المعنى ، لا من جهة كونه كاذبًا أو صادقًا ؛ لأن ذلك ليس مقامه ، وهذا يعني أنَّك لا ترفضُ هذه الآراء من جهة كون قائلها كذابًا في الرواية ، إنما من جهة خطئها في التأويلِ .
وهذا يعني أنَّ الحكم على الكلبيِّ ( ت : 146 ) ، ومقاتل بن سليمان ( ت : 150 ) بالكذب من جهة الرواية ، لا يعني أنَّك لا تأخذ بقولِهما الذي هو من اجتهادهما في التفسيرِ ، بل إذا ظهرت عليه أمارات الصِّحةِ من جهة المعنى يُقبلُ ، ولا يردُّ لكون صاحبه كذَّابًا . وكذا الحال في من وُصِفَ بالضَّعف في روايته ؛ كعطيَّةَ العوفي ( ت : 111 ) ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ( ت : 182 ) ، وغيرهما .
وغياب هذه القضيةِ يوقعُ في أمرين :
الأول : طرحُ أراء هؤلاء المفسرين ، وهم من أعلام مفسري السلف .
الثاني : الخطأ في الحكم على السندِ الذي يروى عنهم ، فيُحكم عليه من خلال الحكم عليهم ، وهم هنا ليسوا رواةً فيجرى عليهم الحكم ، بل القول ينتهي إليهم ، فأنت تبحث في توثيق من نقل عنهم ، ومن الأمثلة التي وقع فيها بعض الباحثين الفضلاء :
قال ابن أبي حاتم :» حدثنا أبي ، قال : حدثنا الحسن بن الربيع ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، ثنا محمد بن إسحاق ، قوله : ]الحي القيوم[ ] آل عمران : 2 [ : القائم على مكانته الذي لا يزول ، وعيسى لحم ودم ، وقد قضى عليه بالموت ، زال عنة مكانه الذي يحدث به « ( ).
ولما درس المحقق رجال الإسناد خرج بما يأتي :
الحسن بن الربيع ثقة ، وعبد الله بن إدريس ثقة ، ومحمد بن إسحاق صدوق ، ثمَّ قال في نتيجة الحكم : » درجة الأثر : رجاله ثقات ، إلا ابن إسحاق صدوق ، فالإسناد حسنٌ « ( ) .
فجعل الإسناد حسنًا بسبب ابن إسحاق ، وهذا الحكم فيه نظر ، إذ الصحيح أن يُحكم على الإسناد بأنه صحيح ؛ لأنَّ الذين نقلوه عن ابن إسحاق هم الذين يتعرَّضون للتعديل والتجريح ، أما قائل القول ، فلا يدخل في الحكم .
7 ـ إن من تشدد في نقد أسانيد التفسير ، فإن النتيجة التي سيصل إليها أنَّ كثيرًا من روايات التفسير ضعيفة ، فإذا اعتمد الصحيح واطَّرح الضعيف فإن الحصيلة أننا لا نجد للسلف إلا تفسيرًا قليلاً ، وهم العمدة الذين يعتمدون في هذا الباب ، فإذا كان ذلك كذلك فمن أين يؤخذ التفسير بعدهم ؟!
لقد طرحت هذه المسألة على بعض من يرى أنه يجب التشدد أسانيد التفسير ، وتنقية كتب التفسير من الضعيف والإسرائيليات ، والخروج بتفسير صحيح الإسناد عن السلف يُحتكم إليه ، فقلت له : أنت تعلم أنَّ اتباع هذا المنهج سيخرج كثيرًا من روايات التفسير ، وأنه قد لا نجد في بعض الآيات تفسيرًا محكيًا عن السلف سوى ما طرحته ، فمن أين ستأخذ التفسير ؟
قال : نرجع للغة ، لأن القرآن نزل بلغة العرب .
قلت له : فممن ستأخذ اللغة ؟
قال من كتبها وأعلامها ؛ من الخليل بن أحمد والفراء وأبي عبيدة وغيرهم .
فقلت له : أنت طالبت بصحة الإسناد في روايات التفسير ، فلم لم تعمل بها في نقل هؤلاء وحكايتهم عن العرب ، فأنا أطالبك بأن تصحح الإسناد في نقل هؤلاء أن معنى هذه اللفظة هو كذا عند العرب نقلاً صحيحًا متصلاً من الفراء وغيره إلى ذلك العربي الذي علَّمه ذلك .
فهل يا تُرى أن هذا المنهج صحيح ؟
إنَّ طبيعة العلوم تختلف ، فإثبات السنة النبوية ، وإلزام الناس بها ليس كإثبات اللغة ، فاللغة تثبت بما لا يثبت به الحديث ، وكذا الحال في التفسير ، فإنه يثبت بما لا يثبت به الحديث ، والاعتماد على هذه الروايات جزءٌ أصيل من منهجه لا ينفكُّ عنه ، ومن اطَّرحها فقد مسخ علم التفسير .
8 ـ إن التفسير له مقاييس يعرف بها عدا مقاييس الجرح والتعديل ، إذ التفسير يرتبط ببيان المعنى ، وإدراك المعنى يحصل من غير جهة الحكم على الإسناد ، لذا فإن عرض التفسير على مجموعة من الأصول تبين صحيحه من ضعيفة ، كالنظر في السياق والنظر في اللغة ، والنظر في عادات القرآن والنظر في السنة ... الخ
وقد أشار البيهقي إلى هذا الملحظ فقال : » وإنما تساهلوا في أخذ التفسير عنهم لأن ما فسروا به ؛ ألفاظه تشهد لهم به لغات العرب ، وإنما عملهم في ذلك الجمع والتقريب فقط « ( ).
ومن قرأ في كتب التفسير ومارس تدريسه أدرك هذا المعنى ، وإلا لرأيته يقف كثيرًا حتى يتبين له صحة هذه المرويات ليعتمد عليها ، وفي هذه الحال أنَّى له أن يفسِّر .
9 ـ ومما يحسن ملاحظته هنا أنَّ التفسير المنقول بطرق فيها ضعف له فوائد ، منها أن يكون المعنى الذي يحمله التفسير مما قد اشتهر بين السلف فيستفاد منه في حال الجدل مع المعارضين ، خصوصًا إذا كان في مجال الاعتقاد ؛ لذا ترى بعض العلماء ينص على أنَّ بعض المعاني الباطلة في التفسير المرتبطة بالمعتقد = لم تثبت لا بالطرق الصحيحة ولا الضعيفة .
10 ـ وأخيرًا ، فإني أرى في هذه المسألة التي يطول فيها الجدل أن يُفرَّق بين الاعتماد التام على منهج أهل الحديث في نقد الروايات وبين الاستفادة منه ، فالصحيح أن يُستفاد منه ، ويأتي وجه الاستفادة منه في حالات معينة ؛ كأن يكون في التفسير المروي غرابة أو نكارة وشذوذًا ظاهرًا .
ومن أمثلة ذلك ما تراه من فعل الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى : ]إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ[ ] المائدة : 55 [ حيث تتبع أسانيد المرويات ونقدها ، لكنك تجده في مواطن أخرى يرويها ولا ينقدها ، وما ذاك إلا لما في الخبر المنقول في هذه الآية من النكارة التي جعلته يتتبع الإسناد ، أما في غيرها فالأمر محتمل من جهة المعنى وليس فيها ما ينكر فقبله ، والله أعلم .
وهذا الموضوع له جوانب أخرى ، وهو يحتاج إلى تأصيل وتمثيل ، ولعل فيما طرحته غنية ، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والصواب في القول والعمل .
وقوف المصاحف
قال السائل : ما رأيكم بالعلامات الموجودة في المصاحف الآن ,وهل يجب أن يلتزم بها القارئ للقرآن؟
الجواب : إن الأصل في وقوف القرآن أنَّها مبنية على الاجتهاد ، وليس هناك وقف يحرم أو يجب إلا بسببٍ .
ومبنى الوقوف على المعنى ، لذا يعاب على من لم يحرر المعاني في الوقوف ، لكنه لا يصل بعمله هذه إلى الحرمة .
والحرمة والوجوب تحتاج إلى دليل شرعي ؛ إذ أنها تدل على فعل شيء يخالف الشريعة ، وليس ذلك في الوقوف القبيحة التي حكم العلماء عليها بالقبح .
وتعمد الوقف على ما لا يحسن الوقف عليه فعل قبيح بلا إشكال ، لكنه لا يصل إلى حدِّ الحرمة إلا إذا كان يعتقد ذلك المعنى القبيح ، وإذا كان يعتقد ذلك المعنى القبيح فإنه آثم سواءً أكان في حال قراءة أم كان في غيرها .
فمن وقف على قوله : ]يد الله مغلولة[ ، وهو يعتقد هذا المعنى ويريده ، فهو آثم باعتقاده قبل وقفه ، والله أعلم .
أما التزام القارئ بها من أجل تحسين الأداء وتبيين المعاني ، فإنها إنما جُعلت لهذا الغرض ، وإذا كان هذا هو الغرض منها فالتزامها أولى من تركها ، مع مراعاة أن تركها ليس فيه إثمٌ .
وهذه العلامات الموجودة في المصاحف مأخوذة من وقوف السِّجاوندي ( ت : 560 ) من كتابه الكبير ( علل الوقوف ) ، ووقوفه هي : الوقف اللازم ، وعلامته (م) ، والوقف المطلق ، وعلامته (ط) ، والوقف الجائز ، وعلامته (ج) ، والوقف المجوز لوجه ، وعلامته (ز) ، والمرخص ضرورةً ، وعلامته (ص) ، وما لا يوقف عليه ، وعلامته (لا) .
وقد بقيت هذه الوقوف إلى هذا العصر ، وهي المعمول بها في مصاحف الأتراك والقارة الهندية .
أما المصحف المصري وما انبثق عنه كمصحف المدينة النبوية المطبوع بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ، فإنه استفاد من وقوف السجاوندي وإن كان خالفه في بعض مواطن الوقف أو في الزيادة عليه في المصطلحات التي هي في الحقيقة نابعة منه ، ووقوف هذه المصاحف هي : الوقف اللازم ، وعلامته (م) ، والوقف الجائز ، وعلامته (ج) ، والوقف الأولى ، وعلامته (قلى) ، والوصل الأولى ، وعلامته (صلى) ، ووقف المعانقة ، وعلامته (.. ..) ثلاث نقاط على جملة المعانقة أو كلمتها ، والوقف الممنوع ، وعلامته (لا) .
ولعلك تلاحظ أنه لا يوجد فيها الوقف المطلق والوقف المرخص ضرورة والوقف المجوز لوجه التي هي من وقوف السجاوندي . كما تجد في المصحف المصري ومن تبعه وقف المعانقة والوقف الأولى والوصل الأولى ، وهذه لم ينص عليها السجاوندي ، لكن بالنظر إلى أنواع الوقف الجائز عنده وباستقراء علله تجد أنها موجودة عنده ، وإن لم ينصَّ عليها .
وباستقراء تطبيقات الوقف الجائز عند السجـاوندي ( ت : 560 ) ظهر أنه على مراتب ثلاثٍ :
1 ـ ما يستوي فيه موجب الوقف وموجب الوصل ، وهو الذي اصطلح عليه بأنه ( الجائزُ ) .
2 ـ ما يكون الوصل فيه أولى من الوقف ، وهو الذي اصطلح عليه بأنه ( المجوز لوجه ) .
والوقف المجوز لوجه عنده : ما تكون علة الوصل فيه أقوى من علة الوقف ، لكن يجوز الوقف لأجل هذه العلة المرجوحة .
3 ـ ما يكون الوقف فيه أَولى من الوصل ، وهذا القسم لم يذكر له مصطلحاً كالسابقين ، غير أنه ظهر عنده في تطبيقاته ، حيث ينصُّ في بعض مواطن الوقوف على جواز الوصل والوقف ، ويرجح الوقف على الوصل .
ومن أمثلة ذلك الوقف على لفظ " أزواجًا " الثاني من قوله تعالى : ]فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجا يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[ حيث حكم عليه بالجواز ، وقال في عِلَّةِ ذلك الوقف الجائز : » لأن الضمير : ]فيه[ قد يعود إلى الأزواج الذي هو مدلول قوله : ]أزواجًا[ ، والأصح أنه ضمير الرَّحِم ، وإن لم يسبق ذكره ، فكان الوقف أوجه « .
% وأما وقف التعانق أو المعانقة المرموز له بالنقاط الثلاث ، فقد كان يسمى عند المتقدمين وقف المراقبة ، وأول من نبه عليه أبو الفضل الرازي ( ت : 454 ) ( ).
وعرَّفه أبو العلاء الهمذاني ( ت : 569 ) ، فقال : » المراقبة بين الوقفين : أن لا يثبتا معًا ، ولا يسقطا معًا ، بل يُوقف على أحدهما « ( ).
وقد أشار إلى هذا الوقف السجاوندي ( ت : 560 ) في قوله تعالى : ]فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ % مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ... [ ] المائدة : 31 ـ 32 [ .
قال : » ... ]النادمين[ ج . ]من أجل ذلك[ ج ، كذلك ؛ أي هما جائزان على سبيل البدل ، لا على سبيل الاجتماع ؛ لأن تعلُّق ]من أجل[ يصلح بقوله : ]فأصبح[ ، ويصلح بقوله : ]كتبنا[ ، وعلى]أجل ذلك[ أجوز ؛ لأن ندمه ـ من أجل أنه لم يوارِ ـ أظهر « .
وهذه الوقوف لا ينبغي التهييج عليها لانتشارها بين المسلمين في مصاحفهم ، وليس فيها ما يوجب الخطأ المحض ، إذ هي اجتهادات اجتهد فيها علماء أفذاذ ، واتباعها أولى من تركها .
كما أنَّ من كان له اجتهاد وخالفهم في أماكن الوقف أو في مصطلحاته فإنه لا يشنَّع عليه أيضًا .
لكن لا تُجعل اجتهادات الآخرين في الوقوف سبيلاً إلى التشنيع على وقوف المصحف ، ولو ظهرت صحتها ؛ لأنَّ في ذلك استطالة على جلالة المصحف ، وجعل العمل فيه عرضة للتغير ، وذلك ما لا ينبغي .
لكن لو عمل الإنسان لنفسه وقوفًا خاصة به لرأي رآه ، واجتهاد اجتهده ، فإنه لا يثرَّب عليه أيضًا ؛ لأن أصل المسألة كله مبناه الاجتهاد .
قال السائل : ما رأيكم بما يسمى الآن بالإعجاز العلمي للقرآن , وهل يدخل تحت علوم القرآن ؟
الجواب : إن هذه المسألة تعتبر من المسائل العلمية التي حدثت في هذا العصر ، والموضوع أكبر من أن يجاب عنه في مثل هذا الموضع ، لكن أستعين بالله ، وأذكر من ما يفتح الله به عليَّ .
1 ـ إنَّ هذا الموضوع يدخل تحت التفسير بالرأي ، فإن كان المفسر به ممن تأهل وعَلِمَ ، كان تفسيره محمودًا ، وإن لم يكن من أهل العلم فإن تفسيره مذموم ، وإن كان قد يصل إلى بعض الحقِّ .
2 ـ إنَّ الإعجاز العلمي يدخل في ما يسمى بالإعجاز الغيـبـيي ، وهو فرع منه ، إذ مآله الإخبار بما غاب عن الناس فترة من الزمن ، ثمَّ علمه المعاصرون .
وإذا تحقَّق ذلك ، فليعلم أنَّ هذا النوع من الإعجاز ليس مما يختص به القرآن وحده ، بل هو موجود في كل كتب الله السابقة ؛ لأنَّ الإخبار في هذه الكتب عن الحقائق الكونية لا يمكن أن يختلف البتة .
وعدم وجود ما يطابق علم القرآن في كتبهم التي بين يديهم إنما هو لتحريفهم لها ، فلينتبه لذلك .
ومن باب إيضاح هذه المسألة بالذات ؛ يقال : إنَّ كتب الله السابقة توافق القرآن في جميع ما يتعلق بوجوه الإعجاز المذكورة عدا ما وقع به التحدِّي ، إذ لم يرد نصُّ صريح يدل على أنه قد تُحدِّي الأقوام الذين نزل عليهم كتب ، كما هو الحال بالنسبة للقرآن .
3 ـ إن قصارى الأمر في مسألة الإعجاز العلمي أنَّ الحقيقة الكونية التي خلقها الله ، وافقت الحقيقة القرآنية التي تكلم بها الله ، وهذا هو الأصل ؛ لأنَّ المتكلم عن الحقيقية الكونية المخبر بها هو خالقها ، فلا يمكن أن يختلفا البتة .
وكل ما في الأمر أنَّ هذه الحقيقة الكونية كانت غائبة من جهة تفاصيلها عن السابقين ، فمنَّ الله على اللاحقين بمعرفة هذه التفاصيل ، فكشفوا عنها ، وأثبتوا حقيقة ما جاء في القرآن من صدق ، فكان اكتشاف ذلك من دلائل صدق القرآن الذي أخبر عنها بدقة بالغة ، لم تظهر تفاصيلها إلا في هذا العصر الذي نبغ فيه سوق البحث التجريبي الذي صارت دولته إلى الكفار دون المسلمين ، فصاروا إذا ما اكتشفوا أمرًا جديدًا عليهم سارع المعتنون بالإعجاز العلمي لإثبات وجوده في نصوص القرآن .
4 ـ إن كثيرًا ممن كتب في الإعجاز العلمي ليس ممن له قدم في العلم الشرعي فضلاً عن علم التفسير ، وكان من أخطار ذلك أن جُعلت الأبحاث في العلوم التجريبية أصلاً يُحكم به القرآن ، وتأوَّل آياته لتتناسب مع هذه النظريات والفرضيات .
وكل من دخل إلى التفسير وله أصل ، فإن أصله هذا سيؤثر عليه ، وسيقع في التحريف ، كما وقع التحريف عند المعتزلة الذين جعلوا العقل المجرد أصلاً يحتكمون إليه ، وكما وقع لغيرهم من الطوائف المنحرفة .
والذي يدل على وقوع الانحراف في هذا الاتجاه الحرص الزائد على إثبات حديث القرآن عن كثير من القضايا التي ناقشها الباحثون التجريبيون .
5 ـ إن كتاب الله أعلى وأجل من أن يجعل عرضة لهذه العقول التي لم تتأصل في علم التفسير ، فأين هم من قول مسروق : » اتقوا التفسير ، فإنما هو الرواية عن الله « .
6 ـ إنَّ في نسب الإعجاز ، أو التفسير إلى » العلمي « فيها خلل كبير ، وأثر من آثار التغريب الفكري ، فهذه التسمية منطلقة من تقسيم العلوم إلى أدبية وعلمية ، كما هو الحال في المدارس الثانوية سابقًا ، وفي الجامعات حتى اليوم ، وفي ذلك رفع من شأن العلوم التجريبية على غيرها من العلوم النظرية التي تدخل فيها علوم الشريعة .
وإذا كان هذا يسمى بالإعجاز العلمي ، فما ذا يسمى الإعجاز اللغوي ، أليس إعجازًا علميًا ، أليست اللغة علمًا ، وقل غيرها في وجوه الإعجاز المحكية .
لا شكَّ أنها علوم ، لكنها غير العلم الذي يريده الدنيويون الغربيون الذين أثروا في حياة الناس اليوم ، وصارت السيادة لهم .
ومما يؤسف له أن يتبعهم فضلاء من المسلمين في هذا المصطلح دون التنبه لما تحته من الخطر والخطأ .
7 ـ ومما يلاحظ في أصحاب الإعجاز العلمي عدم مراعاة مصطلحات اللغة والشريعة ، ومحاولة تركيب ما ورد في البحوث التجريبية على ما ورد في القرآن ، ومن الأمثلة على ذلك أن القرآن يذكر عرشًا وكرسيِّا وقمرًا وشمسًا وكواكب ونجومًا وسموات سبع ، من الأرض مثلهن ... الخ
ومصطلحات العلم التجريبي المعاصر زادت على هذه ، وذكرت لها تحديدات وتعريفات لا تُعرفُ في لغة القرآن ولا العرب ، فحملوا ما جاء في القرآن عليها ، وشطَّ بعضهم فتأوَّل ما في القرآن إلى ما لم يوافق ما عند الباحثين التجريبين المعاصرين .
فبعضهم جعل السموات السبع هي الكواكب السبع السيارة ، وجعل الكرسي المجرات التي بعد هذه المنظومة الشمسية ، والعرش هو كل الكون .
وآخر يجعل ما تراه من نجوم السماء التي أقسم الله بها وأخبر عن عبوديتها ، وجعلها علامات ؛ يجعل ما تراه مواقع النجوم ، وإلا فالنجوم قد ماتت منذ فترة . إلى غير ذلك من التفسيرات الغريبة التي تجيء مرة باسم الإعجاز العلمي ، ومرة باسم التفسير العلمي ... الخ من المسميات .
وكل هذا الجهد إنما هو لأجل التوفيق بين ما يسمونه علمًا ، وبين ما جاء في القرآن .
ولقد كان لهذه القضية سلفٌ كالفلاسفة الذين عاشوا في ظلِّ الإسلام حين أرادوا أن يوفِّقوا بين ما في القرآن وبين ما في الفلسفة مما يسمونه حقيقة .
8 ـ إنَّ بعض من نظَّر للإعجاز العلمي ، وضع قاعدة ، وهي أن لا يفسَّر القرآن إلا بما ثبت حقيقة علمية لا تقبل الشكَّ ، لئلا يتطرق الشك إلى القرآن إذا ثبت بطلان فرضية فسِّرت بها آية .
وهذا القيد خارجٌ عن العمل التفسيري ، ولا يتوافق مع أصول التفسير ، وهو قيد يلتزم به مقيِّده ـ وإن لم يكن في الواقع قد التزمه كثيرون ممن بحث في هذا الموضوع ـ ولا يُلزِمُ به المفسِّرَ ؛ لأنَّ التفسير أوسع من الإعجاز .
ومن عجيب الأمر أن بعضهم يؤكد على هذه القاعدة ، ويجعل المقام في الإعجاز مقام تحدٍ للكفار ، ويقول : ... أن القرآن الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على النبي الأمي r في أمة غالبيتها الساحقة من الأميين ـ يحوي من حقائق هذا الكون ما لم يستطع العلماء إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين
هذا السبق يستلزم توظيف الحقائق ، ولا يجوز أن توظف فيه الفروض والنظريات إلا في قضية واحدة وهي قضية الخلق والإفناء ... لأن هذه القضايا لا تخضع للإدراك المباشر للإنسان ، ومن هنا فإن العلم التجريبي لا يتجاوز فيها مرحلة التنظير ، ويبقى المسلم نور من كتاب ربه أو من سنة رسوله r يعينه على أن يرتقي بإحدى تلك النظريات إلى مقام الحقيقة ، ونكون بذلك قد انتصرنا للعلم بالقرآن الكريم أو بالحديث النبوي الشريف ، وليس العكس . انتهى كلامه .
ولعلك ترى كيف أن هذا القائل ينقض قاعدته في نفس كلامه عنها ، إذ يمكن أن يستخدم غيره هذا الضابط الذي خرم به القاعدة في الحديث عن الخلق والإفناء كما استخدمه هو ، وبهذا فإنه لا يوجد قاعدة تخصُّ الإعجاز العلمي على هذا السبيل ؛ إذ يمكن أن تكون كثير من فرضيات البحوث التجريبية مما لا تخضع للإدراك البشري ، ثم نصححها لورود ما يدل عليها من القرآن اجتهادًا أن هذه الآية تشهد لتلك النظرية .
وهنا مسألة مهمة ، وهي من الذي يُثبتُ أنَّ هذه القضية صارت حقيقةً لا فرضية ؟
أي : من هو المرجع في ذلك ؟ أيكفي أن يُحدِّثَ بها مختصٌّ ، أتكفي فيها دراسةٌ بحثيةٌ ، أتحتاج إلى إجماعٍ من المختصين ؟
هذه المسألة من أولى ما يجب أن يعتني به من يريدون تفسير القرآن بالحقائق التي أثبتها البحث التجريبي المعاصر .
وفي نظري أنَّ هذا هو أول ما يجب على الباحث تأصيله وتأكيد ثبوته من جهة البحث التجريبي ، فإذا ثبت ذلك له ، انتقل من يريد الحديث عن ما يسمى بالإعجاز العلمي إلى المرحلة الثانية ، وهي تعلُّم التفسير وأصوله لئلا يشتطوا في تفسيراتهم ، أو يلووا أعناق النصوص إلى ما يريدون .
9 ـ أما بالنسبة للمفسر ، فإنه لا يمكنه أن ينكر ما يُحكمُ بثبوته من حقائق العلم التجريبي ؛ لأنه لا يملك الأدوات التي يصل بها إلى أن يثبت أو ينكر ، وهذه الأدوات متكاملة عند الباحثين التجريبيين ، وإن أخذها منهم ، فإنما يأخذها ثقة به فيهم لا غير .
وعمل المفسِّر هنا أن يرى صحة انطباق تلك القضية على ما جاء في القرآن من جهة دلالة اللغة والسياق وغيرها ، أي أن عمله عمل تفسيري بحت ، وهو يمتلك أدواته بخلاف كثير ممن كتب في ما يسمى بالإعجاز العلمي الذين لا يملكون تلك الأدوات ، فتراهم يخبطون خبط عشواء .
فكما لا يرضى أصحاب ما يسمى بالإعجاز العلمي بما عند المفسرين من تفسير كل ظواهر الكون التي أثبت البحث التجريبي المعاصر خطأها ، فإن المفسرين لا يرضون لك واحد من الباحثين التجريبين أن يوافق بين البحث التجريبي وما ورد في القرآن .
وإن كنت أرى أن المفسر أقدر في الربط من الباحث التجريبي .
10 ـ إن الربط بين ما يظهر في البحث التجريبي المعاصر وبين ما يرد في القرآن إنما هو من عمل المفسِّر به ، كائنًا من كان هذا المفسر ، وعمليته في هذا بيان معاني القرآن ، وإذا كانت هذه مهمته هنا فإنَّ المفسِّر يبين معانيه بجملة من المعلومات التي قد يكون فيها الضعيف من جهة أفراده ، كبعض الآثار الضعيفة مثلاً . فلو أن مفسِّرًا اعتمد في تفسيره على نظريةٍ من النظريات التي ثبت بطلانها لاحقًا فإنَّ الأمر أن هذا تفسير ضعيف لا يصحُّ ، ولا علاقة للقرآن به ، فالخطأ خطأ المفسر ، وليس الخطأ في القرآن قطعًا .
وهذا يشبه ما لو فسّر مفسِّر بمعنى شاذٍّ ، فهل ينال القرآن خطأ منه ، وهل يقال : إن الخطأ من القرآن ؟
لا شكَّ أن الأمر ليس كذلك .
لكن الأمر اختلف هنا لأنَّ الباحثين فيما يسمى بالإعجاز العلمي يريدون أن يلزموا الناس بما توصَّلوا إليه على أنَّ القرآن حقٌّ لا مرية فيه ؛ لأنه أثبت هذه القضايا قبل أن يعرف الناس تفاصيلها ، فألزموا أنفسهم من جهة التفسير بما لا يلزم ، فأوقعوا أنفسهم في الضيق والحرج ، وظهر عندهم الإلزام بتفسير القرآن بالحقائق ، وذلك ما لم يطبقوه في تفسيراتهم ، كما قلت .
11 ـ إن موضوع ما يسمى بالتفسير العلمي طويل جدًّا ، ولست ممن يردُّه جملة وتفصيلاً ، لكنني أدعو إلى تصحيح مساره ، ووضعه في مكانه الطبيعي دون تزيُّدٍ وتضخيم كما هو الحاصل اليوم ، حتى لقد جعله بعضهم الطريق الوحيد لدعوة الكفار ، وأنَّى له ذلك ؟
لقد أسلم كثير منهم في هذا العصر ـ ولا زالوا يسلمون بما يعرفه كثير ممن خبر إسلامهم ـ ولم يكن إسلامهم بسبب ما ورد في القرآن من حقائق وافقها البحث التجريبي .
نعم لقد كان له أثر في إسلام بعض الكفار ، لكنهم أقل بكثير ممن يسلم عن سبيل الاقتناع بالإسلام ، وبما فيه مما يلائم فطرة البشر ، وهذا الموضوع بذاته بحث يصلح للمتخصصين في قسم الدعوة ، وهو يحتاج إلى عناية .
12 ـ إنَّ أي تفسير جاء بعد تفسير السلف ، فإنه لا يقبل إلا بضوابط ، وهذه الضوابط :
1 ـ أن لا يناقض ( أي : يبطل ) ما جاء عن السلف ( أعني : الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ) .
ملاحظة : السلف عند أصحاب الإعجاز العلمي كل المفسرين السابقين ، وليس مقصورًا على هذه الطبقات الثلاث .
وذلك لأنَّ فهم السلف حجة يُحتكم إليه ، ولا تجوز مناقضته البتة ، فمن جاء بتفسير بعدهم ، سواءً أكان مصدره لغة ، أو بحثًا تجريبيًا ، فإنه لا يقبل إن كان يناقض قولهم .
فإن قلت : إنه يرد عن السلف في تفسير الآية اختلاف ، فكيف العمل ؟
فالجواب : أنَّ الاختلاف الوارد عنهم أغلبه اختلاف تنوع ، وليس بينه تضادٌّ إلا في القليل منه .
والقاعدة في اختلاف التنوع :
% أن تقبل الأقوال الواردة عنهم على سبيل التنوع ما دام ليس في قبولها جميعًا ما يمنع ذلك .
% أن يُرجَّح أحد أقوالهم على سبيل القول الأَولى والأرجح دون اطِّراح غيره وتركه بالكلية ؛ لأنه قد يستفاد منه في موضع آخر .
والقاعدة في اختلاف التضاد الوارد بينهم أن يرجَّح أحدها على سبيل التعيين لا التنوع ؛ لأنه لا يمكن القول بها معًا ، فلزم الترجيح ، وهو هنا تصحيح لقول ، وترك للآخر .
واطراح ما جاء عنهم بالكلية في هذين النوعين من الاختلاف معناه مناقضة قولهم ، وعدم الاعتبار به ، وهذا واقع كثير ممن تعرض للتفسير وجعل مصدره البحث التجريبي المعاصر .
2 ـ أن يكون المعنى المفسَّر به صحيحًا .
وهو على قسمين :
الأول : أن يكون المعنى من جهة اللغة ، وهذا لابدَّ أن يثبت لغةً ، وأي تفسير بمعنى لم يثبت من جهة اللغة ، فإنه مردود ، كمن يفسِّر الذرة الواردة في القرآن بالذرة الفيزيائية ، وهذا مصطلح حادث لا يثبت في اللغة .
الثاني : أن يكون المعنى جمليًا لا من جهة اللغة ، كمن يفسِّر خلق الأطوار بأنها الأطوار الداروينية .
وهذا مخالف لما جاء في الشريعة ، وهو غير صحيح في نفسه ؛ لذا لا يصحُّ التفسير به ، ولا بما هو على منهجه البتة .
3 ـ أن يتناسب مع سياق الآية ، وتحتمله الآية .
وهذا قيد مهمٌّ ، وفيه مجال للاختلاف ، لكن لا يجب إلزام الآخر به ، وكثيرٌ من التفسيرات بما وصل إليه البحث التجريبي تدخل في هذا الضابط ؛ إذ قد يكون المعنى غير مناقض لما ورد عن السلف ، وهو معنى صحيح ، لكن يكون وجه ردِّه عدم احتمال الآية له ، والحكم باحتمال الآية له من عدمه محلُّ اجتهادٍ ، وإذا كان الاجتهاد في احتماله أو عدمه عن علم فلا تثريب على الفريقين ، بل في الأمر سعة ، كما هو الحال في الاجتهاد الكائن في علماء أمة محمد r .
وسأضرب مثلاً أرجو أن يوضح هذا الأمر ، وهو ما ورد في تفسير قوله تعالى : ]فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ[ ] الأنعام : 125 [ .
تأمل السياق الذي وردت فيه هذه الآية ، وانظر ـ تكرمًا ـ إلى ما قبلها ، يقول تعالى : ]أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون َ % وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ % وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ % فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ % وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ[ ] الأنعام : 122 ـ 126 [ .
إن الحديث عن حال الكافر وحال المؤمن ، ثم ضرب مثالاً بحال الأكابر من المجرمين الذين لا يمكن أن يدخل الإيمان قلوبهم لما فيهم من الكفر والإجرام ، ثمَّ بين سبحانه مشيئته في الهداية والإضلال ، وذكر أن من أراد هدايته ، فإنه يشرح صدره للإيمان به وييسره له ، ومن أراد له الضلال ، فإنه يجعل صدره في حال ضيق وحرج شديد ، ولو أراد الإيمان فإنه لا يستطيعه ، كما لا يستطيع الإنسان أن يصعد في السماء .
قال الطبري : » القول في تأويل قوله تعالى : ]كأنما يصعد في السماء[ : وهذا مَثَلٌ من الله ـ تعالى ذكره ـ ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه ؛ مثل امتناعه من الصعود إلى السماء ، وعجزه عنه ؛ لأن ذلك ليس في وسعه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ... « .
ثم ذكر الرواية عطاء الخراساني ، قال : مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء .
وعن ابن جريج : يجعل صدره ضيقا حرجا بلا إله إلا الله حتى لا يستطيع أن تدخله ، كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه .
وعن السدي : كأنما يصعد في السماء من ضيق صدره .
وتقدير المعنى عندهم : إن عدم قدرة الكافر على الإيمان كعدم قدرة الإنسان على الصعود إلى السماء ، ويكون الضيق والحرج بسبب عدم قدرته على الإيمان لا بسبب التصعد في السماء .
وتفسيرهم لا يعيد التشبيه إلى الضيق والحرج ، وإنما إلى الامتناع من الإيمان وعدم القدرة عليه .
وانشراح النفس للإيمان سابقة له ، فمن يشاء الله له الهداية يشرح نفسه له ، كما أن من أراد الله له الكفر فإنه يجعل صدره ضيقًا حرجًا ، فلا يستطيع أن يؤمن بالله ، وهو ممتنع عليه الإيمان كامتناع الصعود إلى السماء على الإنسان .
وهذا التفسير من دقائق فهم السلف ، وتفسيرهم يرجع إلى لازم معنى الجملة الثانية ، وهي جعل الضيق والحرج في صدر الكافر ، إذ من لازمه أنه لو أراد الإيمان فإنه لا يستطيعه ، كما لا يستطيع الإنسان الصعود للسماء ، فنبهوا على هذا اللازم الذي قد يخفى على كثير ممن يقرأ الآية .
وفي تفسيرهم إثبات القدر ، وأن الله يفعل ما يشاء ، فمن أراد الله هدايته شرح صدره ، ومن أراد ضلاله ضيَّق صدره وجعله حرجًا لا يدخله خير ، وفي هذا ردٌّ على القدرية الذين يزعمون أن العبد يخلق فعله .
أما البحث التجريبي المعاصر فقد كشف عن قضية تتعلق بالصعود إلى الأجواء العليا ، حيث وجد أن الإنسان تتناقص قدرته على التنفس الطبيعي درجة بعد درجة كلما تصاعد إلى السماء ، وسبب ذلك انخفاض الضغط الجزئي للأكسجين في طبقات الجو العليا ، وقد جعل أصحاب الإعجاز العلمي هذه الظاهرة الكونية تفسيرًا للحرج الذي يصيب الكافر بسبب عدم قدرته على الإيمان .
وقد جعلوا التشبيه يعود إلى الضيق والحرج ، والمعنى عندهم : إن حال ضيق صدر الكافر المعرض عن الحق وعن قبول الإيمان بحال الذي يتصعد في السماء .
وذكر وجه الشبه ، وهو الصفة المشتركة بينهما : ضيقًا وحرجًا ، وجاء بأداة التشبيه (كأن) ليقع بعدها المشبه في صورة حسية واضحة ...
وإذا تأملت هذين التفسيرين وعرضتهما على سياق القرآن ومقاصده ، فأي القولين أولى وأقوى ؟
لا شكَّ أن ما ذكره السلف أولى وأقوى ، والثاني ـ وإن كان محتملاً ـ لا يرقى إلى قوته ، وإن قٌبِلَ هذا القول المعاصر على سبيل التنوع فالأول هو المقدَّم بلا ريب .
ووجه قوته كائن في أمور :
الأول : أن ما قاله السلف مُدركٌ في كل حين ، منذ أن نزل الوحي بها إلى اليوم ، أما ما ذكره المعاصرون ، فكان خفيًّا على الناس حتى ظهر لهم أمر هذا المعنى هذا اليوم .
الثاني : أن التنبيه عن امتناع الإيمان عنهم بامتناع صعود الإنسان إلى السماء أقوى وأولى من التنبيه عن تشبيه الحرج والضيق الذي يجده الكافر في نفسه بما يجده من صعِدَ طبقات السماء .
فالحرج والضيق مدرك منه بخلاف امتناع الإيمان الذي يخفى سبيله ، وهو الذي جاء التنبيه عليه في الآية ، وذلك من دقيق مسلك قدر الله سبحانه .
4 ـ أن لا يُقصَر معنى الآيةِ على هذا المعنى المأخوذ من البحوث التجريبية .
وهذا الضابط كثيرًا ما ينتقضُ عند أصحاب الإعجاز العلمي ، وقد وجدت حال بعضهم مع تفسير السلف على مراتب :
ـ فمنهم من لا يعرف تفسير السلف ( الصحابة والتابعين وأتباعهم ) أصلاً ولا يرجع إليه ، وكأنه لا يعتد به ولا يراه شيئًا . وهؤلاء صنفٌ يكثر فيهم الشطط ، ولا يرتضيهم جمهورٌ ممن يتعاطى الإعجاز العلمي .
ـ ومنهم من يقرأ تفسير السلف ، لكنه لا يفهمه ، وإذا عرضه فإنه يعرضه عرضًا باهتًا ، لا يدل على مقصودهم ، ولا يُعرف به غور علمهم ، ودقيق فهمهم .
ـ ومنهم من يخطئ في فهم كلام السلف ، ويحمل كلامهم على غير مرادهم ، وقد يعترض عليه وينتقده ، وهو في الحقيقة إنما ينتقد ما فَهِمَه هو ، وليس ينتقد تفسيرهم ؛ لأنه أخطأ في فهمه .
ومما يظهر من طريقة عرض أصحاب هذا الاتجاه لما توصلوا إليه من معانٍ جديدة أنهم يقصرون معنى الآية على ما فهموه ، دون أن ينصوا على ذلك صراحة ، وهذا مزلق خطير لا ينتبه إليه كثير من الفضلاء الذين دخلوا في هذا الميدان .
بل إنهم يتفوهون بكلام يلزم منه تجهيل الصحابة وتصغير عقولهم ، وأني لأجزم أن هؤلاء الفضلاء لو تنبهوا لهذا اللازم لعدَّلوا عباراتهم ، لكن طريقة البحث التي سلكوها جعلتهم لا ينتبهون إلى هذا المزلق الخطير .
ومن ذلك أن بعضهم يقول : » ... وهناك آيات وألفاظ قرآنية لم تكن لتفهم حقيقتها حتى جاء التقدم العلمي يكشف عن دقة تلك المعاني والألفاظ القرآنية ، مما يوحي إلى كل عاقل بأن كلام الكتاب الكريم كلام الله المحيط علمًا بكل شيء ، وإن كان قد حدث جهلٌ بفهم بعض ألفاظه ومعانيه ، فإن زيادة علوم الإنسان قد جاءت لتُعرِّف الإنسان بما جهل من كلام ربه « .
ألا يلزم من هذا الكلام أن الصحابة قد خفي عليهم شيء من معانيه ، وكذا خفي على التابعين وأتباعهم ، وبقي بعض القرآن غامضًا لا يُعرف حتى جاء ( التقدم العلمي ! ) فكشف عن هذه المعاني .
ولو كان يعتقد هذا اللازم ، فالأمر خطير جدَّا . لكني لا أشكُّ ـ محسنًا الظن بقائله ـ أنه لم يتنبه لهذا اللازم الخطير ، وأُراه لو انتبه له لعدَّل عبارته .
ولقد كان من نتيجة هذا التقعيد أن لا تُذكر أقوال السلف بل يذكر ما وصل إليه البحث التجريبي المعاصر ، وتفسير الآية به ، وهذا فيه قصر لمعنى الآية على ذلك التفسير الحادث ، وهذا خطأ محضٌ .
وقد سئل آخر : لماذا لم يبين الرسول هذه الوجوه للصحابة ؟
فكانت إجابته أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لو أخبرهم بهذه الحقائق العلمية لما أدركوها ، وقد يقع منهم شك أو تكذيب .
وهذا الجواب من أعجب العجب ، فكيف يقال هذا في قوم آمنوا بما هو أعظم من هذه الحقائق الكونية ، وأرى أن خطأ هذا أوضح من أن يوضَّح ، وإني أخشى أن يكون هؤلاء ممن فرح بما أوتي من العلم ، فنسب الجهل للصحابة الذين آمنوا بما هو أعظم من هذه الأمور .
ألم يؤمنوا بأن الرسول r أسري به ، ثم عرج به في جزء من الليل ، ورأى ما رأى من آيات ربه الكبرى ؟ أليس هذا أعجب مما يذكره الباحثون التجريبيون ؟
وقل مثله في غير ذلك مما آمنوا به وصدَّقوا ولم يعترضوا .
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ، فإني قد رأيت لأحد الفضلاء كتابًا في مناهج المفسرين ، وأجاب عن سبب عدم تفسير النبي r القرآن كاملاً ، وكان مما أجاب به ، فقال :
» لضعف المستوى العلمي عند الصحابة ، ولو فسره لهم رسول الله r بما حوت آياته من علوم ومعارف فقد لا يستوعبونها ، وقد تكون محل استغراب بعضهم ، والعلماء الذين جاؤوا بعد الصحابة قدموا بعض المضامين العلمية للآيات ، ولذلك قيل : خير مفسر للقرآن هو الزمن « .
وهذا القول من ذلك الفاضل من أعجب العجب ، إذ كيف يكون خيرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ضعيفي المستوى العلمي ، ومالمراد بالعلم الذي ضعفوا فيه ؟!
أليسوا أعلم الأمة ، والأمة عالة عليهم في هذا ؟!
ألم يخبرهم الرسول r بما هو كائن إلى يوم القيامة ؟! حفظه منهم من حفظه ، ونسيه من نسيه .
إن مثل هذا القول خطير ، وإني لأحسن الظن بأن قائله لم يتنبه لما يتبطنه هذا الكلام من خطأ محضٍ ، وأن الأمر يحتاج إلى تعديل أسلوب وعبارات ، والله المستعان .
وبعد ، فإن هذين النقلين اللذين نقلتهما فيما يتعلق بالإعجاز العلمي إنما هما عن أفاضل ممن تكلموا في الإعجاز العلمي دون غيرهم ممن تخبط في هذا المجال .
وهنا يجب أن يُفرَّق بين فضلهم ، وما لهم من قدم في الدعوة إلى الله ، والحرص على هداية الناس ، وبين ما وقعوا فيه من الخطأ ، فالأول يشكر لهم ويُذكر ولا يُنكر ، ولكن هذا الفضل ليس حجابًا حاجزًا عن التنبيه على ما وقعوا فيه من الخطأ .
كما أن التنبيه على خطئهم لا يعني نبذهم وعدم الاعتداد بهم ، وإنما المقصود هنا تصحيح المسار في هذه القضية التي رُبِطت بكتاب الله ، وجُعلت من أهم ما توصل إليه المعاصرون ، بل جعله بعضهم هو طريق الدعوة للكفار .
وأختم هذا البحث بمسائل متفرقة في هذا الموضوع ، وهي كالآتي :
أولاً : قضايا العلم التجريبي بين القرآن والعلم الحديث :
% العلم بالسنة الكونية لا يرتبط بالمعتقد ، ولا بالأفكار ؛ لأنها نتيجة البحث والتأمل ، وهي من العلوم التي وكلها الله لعباده ، فعلى قدر ما يكون الجهد في البحث يصل البشر بإذن الله إلى نتائجه المرجوة ، ولما كان الوصول إلى هذه العلوم التجريبية مرتبطًا بالقدرة على البحث ووجود المناخ المناسب له ، وكان الغرب الكافر قد حرص عليه ، فإنهم قد سبقوا المسلمين في ذلك .
% أن إشارة القرآن لبعض هذه المسائل المرتبطة بالعلوم التجريبية لم يكن هو المقصد الأول ، ولم ينْزل القرآن من أجلها ، وإذا وازنتها بين المعلومات العقدية والشرعية ، ظهر لك أنَّ المعلومات العقدية والشرعية ـ أي : كيف يعرفون ربهم ، وكيف يعبدونه ـ هي الأصل المراد بإنزال القرآن ، وهي التي تكفلَّ الله ببيانها للناس ، أما المعلومات الدنيوية بما فيها العلوم التجريبية فهي موكولة للناس كما سبق ، وإن جاءت فإنها تجيء مرتبطة بالدلالة على حكم عقدي أو شرعي ، فهي جاءت تبعًا وليس أصالةً ؛ أي أن القرآن لم يقصد أن يذكرها على أنها حقيقة علمية مجردة ، بل ليستدل بها مثلا : على توحيد الله وأحقيته بالعبادة ، أو على حكم تشريعي ، أو على إثبات اليوم الآخر .
% القضايا العلمية التي يفسر بها من يبحث في الإعجاز أو التفسير العلمي لا يدركها إلا الخواص من الناس ، ولا يوصل إليها إلا بالمراس .
% الفرق بين القرآن والعلم التجريبي في تقرير القضية العلمية :
1 ـ أن القرآن يقررها حقيقة حيث كانت وانتهت ، والعلم التجريبي يبدأ في البحث عنها من الصفر حتى يصل إلى الحقيقة العلمية .
2 ـ القرآن يذكر القضية العلمية مجملة غير مفصلة ، أما العلم التجريبي فينحو إلى تفصيل المسألة العلمية .
% علم البشر قاصر غير شمولي ، ونظره من زاوية معينة ، لذا قد يغفل عن جوانب في القضية ، فيختلَّ بذلك الحكم ونتيجة البحث .
وقد يكتشف ما لم يحتسب له عن طريق الصدفة لا الممارسة العملية .
% القرآن طرح القضايا العلمية بعيدًا عن الخيالات التي كانت إبان نزوله ، سواءً أكانت هذه العلوم عند العرب أم عند غيرهم ، وهذه الخيالات بان خطئوها في القرون المتأخرةِ ، ولا يزال هناك غيرها مما سيكشفه العلمُ التجريبي ، وكل ذلك مما لا يمكن أن يخالف حقائق القرآن إن صحَّة تلك العلوم .
% قد تكون بعض القضايا العلمية صحيحة في ذاتها ، لكن الخطأ يقع في كون الآية تدلُّ عليها ، وتفسَّر بها .
ثانيًا : موقف المسلم من قضايا العلوم التجريبة المذكورة في القرآن :
% الإيمان بالقضية الكونية التي ذكرها القرآن لا تحتاج إلى إدراك الحسِّ ، بل يكفي ورودها في القرآن ، بخلاف القضايا العلمية التي تحتاج إلى الإيمان بها إلى الحسِّ ، سواءً أكانت هذه القضايا مذكورة في القرآن أم لم تكن مذكورة .
% المسلم مطالب بالأخذ بظواهر القرآن ، وأخذه بها يجعله يسلم من التحريف أو التكذيب بها ، ولو كانت مخالفة لقضايا العلم التجريبي المعاصر .
فإذا عارضت النظريات العلمية ، ولو سُميت حقائق علمية فإنه لا يلزم الإيمان بها ، بل يقف المسلم عند ظواهر القرآن ؛ لأن المؤمن مطالب بالإيمان بنصوص القرآن لا غير .
% يجب الحذر من حمل مصطلحات العلوم المعاصرة على ألفاظ القرآن وتفسيره بها .
% البحوث العلمية الناتجة عن الدراسات لا يلزم مصداقيتها ، وهي درجات من حيث المصداقية ، لذا ترى دراسة علمية تذكر فوائد شيء ، وتأتي دراسة تناقضها في هذه الفوائد .
ثالثًا : هل نحن بحاجة إلى التفسير العلمي ، أو الإعجاز العلمي ؟
إن نتيجة ما يتوصل إليه الباحث في الإعجاز العلمي هي إثبات أن الحقيقة أو النظرية الكونية أو التجريبية قد ورد ذكرها في القرآن صراحة أو إشارة ، وهذا فيه دليل على صدق القرآن وأنه من عند الله .
وهذه النتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد البحث المجرد في الحقائق الكونية والمواد التجريبية ، ولا شكَّ أن الباحث إذا كان ممن يؤمن بالله ورسوله r فإنه لن يأتي بشيء مخالف لما في القرآن والسنة ، أما إذا كان الباحث كافرًا فقد يقع منه مخالفات للشرع ، ويكون ذلك دليلا على خطئه في مسار بحثه .
ومن ثمَّ فإنَّ عندنا أمران :
الأول : العناية بالبحث التجريبي والنظر في هذا الكون والتدبر فيه للننافس بذلك أعداء الله الذين تقدموا علينا في هذا المجال .
الثاني : العناية بما يسمى بالإعجاز العلمي لإثبات صحة هذا الدين لأولئك الذين لا يؤمنون إلا بالحقائق المادية ، ودعوتهم إلى الإسلام ، وذلك أنه لما كان هذا العصر عصر الثورة العلوم التجريبية الدنيوية ، فإنَّ تقديم هذه التفسيرات الموافقة لما ثبت في هذه العلوم للناس دعوة لهم لهذا الدين الحقِّ .
وهذا القول حقٌّ لكن الأمر يحتاج إلى توازن في طرح مدى الدعوة بهذه التفسيرات العلمية للقرآن ، وهل أثبتت نجاحها وتميُّزها ؟
إنَّ الذي يُخشى منه أن تكون الدعوة بهذه التفسيرات الموافقة للعلوم التجريبية قد أخذت أكبر من حجمها ، وأنَّ عدد المتأثرين بها قليلٌ لا يكادون أن يوازوا بعددهم ما يقوم به داعية أو مركز إسلامي يبيَّن للناس هذا الدين الحقَّ .
ومن المعلوم أن الأفواج الكثيرة التي دخلت في الإسلام أسلمت بأبسط من هذا الطرح العلمي ، فأغلبهم أسلم لما يجد في الإسلام من موافقته لفطرته التي فطره الله عليها دون أن يصل إلى الإيمان بالله بهذا العلم الذي لا يدركه إلا القليل من الناس .
ثمَّ إنَّ من سيسلم من الباحثين في العلوم التجريبية من الكفار بسبب هذا الإعجاز العلمي يلاحظ فيه ما يلي :
ـ أنه لا وقت عنده لدعوة غيره ، بل لتفهم الدين الجديد الذي دان به ، بسبب كبر السنِّ ـ في الغالب ـ والانشغال بالأبحاث والتجارب التي تجعله بعيدًا عن تفهُّم هذا الدين وطبيعته .
ـ أنَّ بعض من يسلم منهم يكون إسلامه صوريًا ، ولم يتحقق فيه الاستسلام الحقُّ .
ـ أنَّ تأثير هؤلاء يكاد يكون معدومًا ، بل لو ثبت إسلامهم قد يُحاربون ، ويسفَّهون ، ولا يُحترمون في مجتمعاتهم العلمية .
وأخيرًا ، فإن بعض من يستسلم لهذه الحقائق المذكورة في القرآن أو السنة ، يأخذها بنظره العلمي التجريبي ، ولا يدرك حقيقة الوحي ، وأنَّ هذا القرآن من عند الله ، فبينه وبين ذلك حجاب مستور ، والله أعلم .
ومن ثمَّ ، فإن العناية بالأمر الأول ـ وهو البحث التجريبي والنظر في هذا الكون والتدبر فيه ـ يجب أن تكون أكبر وأكثر من العناية بالأمر الثاني ـ وهو ما يسمى بالإعجاز العلمي ـ لوجهين :
الوجه الأول : أنه هو المجال الوحيد الذي سبقنا فيه أعداؤنا ، ولابد لنا من منافستهم في ذلك ، والسعي للتقدم عليهم فيه .
الوجه الثاني : أنه عندما يقوم الباحثون المسلمون بتلك البحوث نضمن أنهم لن يصلوا إلى نتائج خاطئة مخالفة للكتاب والسنة ، بل إنهم سوف يعيدون النظر في بعض النتائج المخالفة للكتاب والسنة التي وصل إليها البحث الغربي الكفار .
وإذا بقي همُّنا منصبًّا على العناية بما يسمى بالإعجاز العلمي لإثبات صحة هذا الدين لأولئك الذين لا يؤمنون إلا بالحقائق المادية ، فإننا سنبقى عالة على الغرب ننتظر منه كل جديد في العلوم ، ثمَّ نبحث ما يوافقه في شرعنا ، ولا يخفاك ما دخل علينا من هذه العلوم مما هو مخالف لشرعنا ، وما ذاك إلا بسبب أنَّ موقفنا نحن المسلمين موقف التلميذ الضعيف المتلقي الذي يشعر أنه لا شيء عنده يمكن أن يقدمه .
والبحث العلمي بلا قوة تحميه لا يمكن أن ينفعل في الواقع ، لذا لابدَّ من أن يواكب العلم قوةٌ تكون في الأمة كي تدعم هذا العلم وتحافظ عليه ، وإلا صار ما تراه من هجرة العلماءِ عن ديار المسلمين إلى ديار الغرب الكافرة .
وأسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه ، وأرجو أن يبعد عني وعنكم الشطط والتحامل في هذه القضية وفي غيرها ، وإن هذه القضية بالذات حسَّاسة ، وتدخلها العواطف ، ويبرز في الردَّ على من يعترض عليها الكتابة الخطابية ، فتخرج عن كونها قضية علمية تحتاج إلى تجلية وإيضاح إلى قضية دفاع عن مواقف وشخصيات .
وأقول أخيرًا : إنَّ في الموضوع قضايا كثيرة تحتاج إلى تجلية وإيضاح ، ولولا ضيق المقام لأشرت إليها ، وإني أسأل الله أن يوفقني ويعينني على الكتابة فيه على منهجٍ عدل وسط لا شطط فيه .
قال السائل : تفسير الصحابي للآية ، هل يعتبر حجة يجب الأخذ بها ؟ خصوصاً إذا لم يتابعه عليه أحد .
الجواب : إن هذا افتراض عقلي ، فهل يوجد له مثال كي يُتكلَّم عنه ، وإلا فلو أُجيب عن كل افتراض لكثر الكلام ، وطال المقام ، والنتيجة المحصَّلة ليست بشيء ، فأرجو منك أيها الأخ الكريم أن تذكر مثالاً لذلك ليناقش عبر المثال .
وقولك : » ولم يتابعه عليه أحد « ماذا يعني ؟
هل يعني أنه عُرِفَ التفسير عنه ، ولم يؤخذ به ، فإن كان ذلك كذلك ، فأين مثاله .
أو أنه لم يُعرف ، وهو قول غير مشهورٍ ، وهو قول مطمور وُجِدَ بعد زمن من الأقوال المنقولة .
وكل هذا مما يحتاج إلى مثال ، لكن مما يجب أن يُعلم أن قول الصحابي ـ من حيث الجملة ـ معتبر في التفسير ، والله الموفق .
إذا اختلف في التفسير اثنان من الصحابة ، أحدهما ابن عباس ؛ هل يجب الأخذ بقول الحبر ؟ أم ينظر في ذلك إلى القرائن ، كمطابقة ظاهر اللغة ، والمعلوم من خطاب الشارع ، ونحو هذا ؟
الجواب : لا يلزم الأخذ بقول الحبر مطلقًا ، لأنَّ في ذلك إدعاءٌ العصمة له من الخطأ ، وذلك ما لا يقال به ، لكن إذا وقع الاختلاف في التفسير بينهم ، عُمِدَ إلى المرجِّحات عن كان الاختلاف يحتاج إلى ترجيح ، لكن إذا كان الاختلاف من باب التنوع ، والآية تحتمل هذه الأقوال ، فليس أحدها متروكًا ، بل كلها معتبرة ، والله أعلم .
قال السائل : هل بالإمكان أن يأتي متأخِّر بتفسير معتبر لآية غفل عنه المتقدّمون؟
الجواب : هذه المسألة مهمة جدًّا ، وهي تحتاج إلى معرفة ما يترتب على القول بأن المتأخرين لا يمكن أن يأتوا بتفسير معتبر لم يقل به المتقدمون ، إذ نتيجة القول بأنَّ المتأخرين لا يمكن أن يأتوا بتفسيرٍ معتبر لم يقل به السلف ما يأتي :
1 ـ أن التفسير توقَّف على ما قال به السلف فقط .
2 ـ أنه لا يجوز القول في التفسير بغير ما قال به السلف .
3 ـ أن كل قول بعد قولهم ، فهو باطل على الإطلاق .
والمسألة ترجع إلى أصل من أصول التفسير ، وهي مسألة ( وجوه التفسير ) ، فهل يوجد للآية أكثر من وجه تفسيري معتبر أم لا ؟ ، وإنما قلت : معتبرًا ؛ لئلا يُفهم أن الوجوه الباطلة والباطنة تدخل في مرادي .
وهذه المسألة قد فهمها السلف ومن جاء بعدهم من العلماء ، وقد وجدت في تطبيقاتهم التفسيرية ، ومن أمثلة أقوالهم :
عندَ تفسيرِه قولَ اللهِ تعالى : ]وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيطَانٍ رَجِيمٍ[ ] الحجر : 17 [ قالَ الشَّنقيطيُّ ( ت : 1393 ) : » … فقوله رضيَ اللهُ عنه : إلاَّ فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابِ اللهِ ، يدلُّ على أنَّ فَهْمَ كتابِ اللهِ تتجدَّدُ به العلومُ والمعارفُ التي لم تكنْ عند عامَّةِ الناسِ ، ولا مانعَ من حمل الآيةِ على ما حملها المفسِّرونَ ، وما ذكرْناه أيضاً أنَّه يُفْهَمُ منها ، لِمَّا تَقَرَّرَ عندَ العلماءِ مِنْ أنَّ الآيةَ إنْ كانت تحتملُ معانيَ كلُّها صحيحٌ ، تَعَيَّنَ حَمْلُهَا على الجميعِ ، كما حَقَّقَه بأدلتِهِ الشيخُ تَقِيُّ الدِّينِ أبو العباسِ بنُ تَيمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ في رسالتِهِ في علومِ القرآنِ« ( ) .
وأما تطبيقاتهم ، فأكثر من أن تُحصى ، وإلا فما عمل المفسرون الذين جاؤا بعدهم ؟!
ولقد بُحثت هذه المسألة ففي أصول الفقه ، وصورة المسألة عندهم :
إذا ورد عن السلف تفسيران ، فهل يجوز إحداث قول ثالث ؟
وفي نظري أن إيراد هذه المسألة بهذه الصورة في كتب أصول الفقه فيه نظر ؛ لنه لا يفرق بين علم التفسير وعلم الفقه .
فعلم الفقه يرتبط بالعمل ، إذ يتضمن افعل أو لا تفعل ، وهذا إما أن يكون كذا وإما أن يكون كذا ، فلا يصلح القول الثالث في كثير من الحيان في مجال الفقه .
أما في مجال التفسير ، فالتفسير مرتبط بالمعنى ، والمعنى يمكن أن يتعدد ، ولم يكن من شرط التفسير أنَّ السابقين قد أتوا على جميع محتملاته ، بل هناك بعض المحتملات الصحيحة التي لم يذكرها السلف ، وهذه المحتملات تقبل إذا توفرت فيها الضوابط الآتية :
1 ـ أن يكون المعنى المذكور صحيحًا في ذاته .
2 ـ أن لا يبطل قول السلف .
3 ـ أن تحتمله الآية .
4 ـ أن لا يُقصر معنى الآية على هذا المحتمل الجديد ، ويترك ما ورد عن السلف .
وإن قال قائل : هل يعني هذا جهل السلف بهذا المعنى الذي ذكره المتأخرون ؟
فالجواب : إنه لا يلزم أن يوصف السلف بجهل المعنى الجديد ، ولكن للمسألة وجه آخر ، وهو أنه لو ظهرت لهم أمارات تدعو للقول به ، وتركوه ، أو قيل لهم فاعترضوا عليه ، فإنه يمكن في هذه الحال أن يقال : لا يصلح القول به .
ومما يدل على ذلك تعدد اجتهاد السلف في طبقاتهم الثلاث ( الصحابة والتابعين وأتباع التابعي ) ، ولو كان لا يجوز القول في التفسير إلا بما سمعوا ، لما ورد تفسير للصحابة ، ولو اكتفى التابعون بما سمعوه من الصحابة لما ورد تفسير للتابعين ... الخ .
ولو كان التفسير لا يجوز فيه الاجتهاد والإتيان بمعنى جديد ، لكان مما بينه الرسول r ، ولم يتركه لمن بعده .
ومما يستأنس به في هذا المقام أن بعض السلف قد نزَّلوا آيات على بعض أهل البدع الذين عاصروهم ، وهذا من باب الرأي ، ولو كان لا يجوز مثله لما قالوا به ، والله أعلم .
وإنما ترك الرسول r تفسير جميع القرآن ، وفسَّر بعضه مما احتاج التنبيه عليه أو مما وقع في إشكال على الصحابة ، فسألوه ، فأجابهم .
أما ما بقي مما لم يفسر الرسول r فإنه ـ مع وجود اختلاف بين السلف ـ معلوم لا يحتاج إلى بيان نبوي في كل آية .
وأخيرًا ، لا تكاد تجدُ قائلاً بهذه المسألة إلا أن يكون قولاً فلسفيًا ؛ لأنه يخالف تطبيقات العلماء في التفسير ، والله أعلم .
قال السائل : هل ترون تبايناً منهجياً بين المتقدِّمين والمتأخرين والمعاصرين في تفسير القرآن الكريم؟
الجواب : لست أعرف المراد بالمتقدمين والمتأخرين ، لكن إن كان المراد بالمتقدمين السلف ، وبالمتأخرين من جاء بعدهم ، فلا شكَّ أن من اطلع على تفاسيرهم ، فإنه سيجد فرقًا واضحًا بين معلومات التفسير بين الفريقين ، كما سيجد فرقًا بينهم في طريقة كتابة التفسير ، ومنهجهم فيه ، وقد أشرتُ إلى شيء من ذلك في مبحث مفهوم التفسير من كتاب ( مفهوم التفسير والتأويل ... ) .
أما المعاصرون فلا يمكن أن ينفكوا عن ما كتبه من كان قبلهم ، وإن كانت قد حدثت طرائق جديدة في التفسير ، كالذي يسمى بالتفسير الموضوعي ، والله أعلم .
قال السائل : ما رأيكم (وفقكم الله) فيما انتشر هذه الأيام من قيام بعض الباحثين بجمع شروح بعض الأئمِّة لآيات متعدِّدة في رسالة وتسميتها بـ "تفسير الإمام الفلاني"؟ حيث إنَّ أغلب كلام ذلك الإمام لا يكون تفسيراً مستقصياً للآيات، ولكن كلاماً مجملاً فيها.
الجواب : ما ذكره السائل صحيح بلا إشكال ، ويمكن تلخيص الملحوظات على مثل هذا العمل فيما يأتي :
1 ـ أنَّ كثيرًا ممن جُمِع تفسيرهم لا يُعرفون بهذا العلم .
2 ـ أن فصل التفسير من وسط كلامٍ لا علاقة له بالتفسير فيه صعوبة بالغة ، ولا يتأتى فصله في كل حين للباحث .
3 ـ أنَّ الباحث يُدخِل منقول العالم مع مَقُولِهِ ، وينسب له التفسير ، وذلك غير سديدٍ ، إذ نقله لا يعني أنه يعتدُّ بذلك القول ؛ إلا إذا قال بهذه القاعدة .
4 ـ أن بعض الباحثين يدخلون في جمعهم جملة من علوم القرآن التي لا علاقة لها بالتفسير .
5 ـ أن هذا الجمع لا يؤخذ منه منهج البتة .
لكن يبقى أن يُذكر هنا أنه قد يرد في سياق كلام بعض العلماء نص تفسيري صريح ، فإذا كان كذلك فإن جمعه والاستفادة منه مفيدة ، لكن لا يؤخذ من هذه المنقولات منهج للعالم في التفسير .
قال السائل : هل القراءات السبعة هي الأحرف السبعة ؟ وما القول الراجح فيها ؟
الجواب : إن موضوع الأحرف السبعة من الموضوعات التي لا زالت تشغل الكثيرين ، ولا يرون فيها جوابًا شافيًا ، لما في هذا الموضوع من الغموض .
ولقد تصدَّى للكتابة فيه أعلام كثيرون ، وأنفس ما كتب فيه كتاب الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري حفظه الله ، وهو بعنوان ( حديث الأحرف السبعة / دراسة لإسناده ومتنه واختلاف العلماء في معناه وصلته بالقراءات القرآنية ) .
ولقد قرأت هذا الكتاب كثيرًا واستفد منه ومن غيره ممن كتب في هذا الموضوع ، ورأيت بعد فترة من قراءة هذا الموضوع أن أفصله على مباحث متتالية يتجلى فيها صلة الأحرف السبع بالرسم والقراءات والعرضة الأخيرة ... الخ ، وإليك ملخص ما كتبته في هذا .
أولاً : معنى الحرف في الحديث : الوجه من وجوه القراءة .
أنواع الوجوه الواردة في اختلاف القراءات :
1 ـ اختلاف الحركات ؛ أي : الإعراب : فتلقى آدم من ربه كلمات .
2 ـ اختلاف الكلمة باعد باعَدَ ، وننشرهانُنشزها بظنين بضنين .
3 ـ اختلاف نطق الكلمة : جِبريل جَبريل جَبرئيل جبرئل .
4 ـ اختلاف راجع إلى الزيادة والنقص : تجري تحتها تجري من تحتها . سارعوا وسارعوا.
5 ـ اختلاف عائد إلى اللهجة الصوتية ، وهذا مما يعود إليه جملة من الاختلاف المتعلق بالأداء ، كالفتح والإمالة والتقليل في الضحى.
نزل القرآن على رسول الله r ، وكان على حرف واحدٍ مدة بقائه في الفترة المكية ، وزمنًا كثيرًا من الفترة المدنية ، ثمَّ أذن الله بالتخفيف على هذه الأمة ، فأنزل الأحرف التي يجوز القراءة بها ، وكان عددها سبعة أحرف في الكلمة القرآنية .
روى البخاري ( ت : 256 ) وغيره عن ابن عباس ( ت : 68 ) ، عن رسول الله r ، قال : » أقرأني جبريل u على حرف ، فراجعته ، فلم أزل أستزيده ويزيدني ، حتى انتهى إلى سبعة أحرف « .
وقد ورد في روايات أخرى : » كلها كاف شاف ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب ، وآية عذاب بآية رحمة « .
وورد كذلك سبب استزادة الرسول ( ، فقال : » لقيت جبريل عند أحجار المرا ، فقلت : يا جبريل . إني أرسلت إلى أمة أمية : الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ العاني الذي لم يقرأ كتابًا قط ، فقال : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف « .
وقد وقع اختلاف كبير في المراد بهذه الأحرف السبعة ، وسأعرض لك ما يتعلق بهذا الموضوع في نقاط :
1 ـ أنَّ التخفيف في نزول الأحرف السبعة كان متأخرًا عن نزوله الأول ، فلم يرد التخفيف إلا بعد نزول جملة كبيرة منه .
2 ـ أنَّ هذه الأحرف نزلت من عند الله ، وهذا يعني أنه لا يجوز القراءة بغير ما نزل به القرآن .
3 ـ أنَّ هذه الأحرف السبعة كلام الله ، وهي قرآن يقرأ به المسلمون ، ومعلوم أنه لا يجوز لأحد من المسلمين أن يحذف حرفًا واحدًا من القرآن ، ولا أن ينسخ شيئًا منها فلا يُقرأ به .
4 ـ أن القارئ إذا قرأ بأي منها فهو مصيب .
5 ـ أن القراءة بأي منها كاف شاف .
6 ـ أنَّ الذي يعرف هذه الأحرف المنْزلة هو الرسول r ، لذا لا تؤخذ إلا عنه ، ويدل على ذلك حيث عمر وأبي في قراءة سورة الفرقان ، حيث قال كل منهما : أقرأني رسول الله r .
7 ـ أنَّها نزلت تخفيفًا للأمة ، وقد نزل هذا التخفيف متدرجًا ، حتى صار إلى سبعة أحرف .
8 ـ أنَّ الرسول r بين سبب استزادته للأحرف ، وهو اختلاف قدرات أمته الأمية التي فيها الرجل والمرأة والغلام والشيخ الكبير .
هذا ما يعطيه حديث الأحرف السبعة من الفوائد المباشرة ، لكنه لا يحدِّدُ تحديدًا دقيقًا المراد بالأحرف السبعة ، وهذا ما أوقع الخلاف في تفسير المراد بها .
أولاً : علاقة هذه الأحرف بالعرضة الأخيرة :
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت :» أسرَّ إليَّ رسول الله r : إنَّ حبريل كان يعارضني بالقرآن كلَّ سنة ، وإنه عارضني هذا العام مرتين ، ولا أُراه إلا قد حضر أجلي « .
وفي هذه العرضة نُسِخَ ما نُسخَ من وجوه القراءت التي هي من الأحرف السبعة ، وثبت ما بقيَ منها ، وكان أعلم الناس بها زيد بن ثابت ، قال البغوي في شرح السنة : » يقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بين فيها ما نسخ وما بقي ، وكتبها لرسول الله r ، وقرأها عليه ، وكان يقرئ الناس بها حتى مات ، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه وولاه عثمان كتب المصاحف « .
والدليل على وجود أحرف قد نُسخت ما تراه من القراءات التي توصف بأنها شاذة ، وقد ثبتت بسند صحيح عن النبي r ، وإلا فأين تضع هذه القراءات الصحيحة الشاذة من هذه الأحرف ؟!.
ثانيًا : علاقة هذه الأحرف بالقراءات المتواترة :
القراءات المتواترة : السبع التي جمعها ابن مجاهد ، وما أضيف إليها من القراءات الثلاث المتممة للعشر .
والأحرف السبعة مبثوثة في هذه القراءات المتواترة ، ولا يوجد شيءٌ من هذه القراءات لا علاقة له بالأحرف السبعة ، غير أنَّ الأمر كما وصفت لك من أنها مبثوثةٌ فيها ، وبعضها أوفر حظًا بحرف من غيرها من القراءات .
وإن لم تقل بهذا ، فما ماهية الأحرف الستة الباقية التي يُدَّعى أنَّ عثمان ومن معه من الصحابة اتفقوا على حَذْفِها ، أو قل : نَسْخِها .
وكم أنواع القراءات التي ستكون بين يديك ـ لو كنت تقول بأنَّ هذه القراءات على حرف واحد ـ لو وُجِدَت هذه الأحرف الستة التي يُزعم عدم وجودها الآن ؟!
لقد سبق أن بينت لك بموجز من العبارة ، وأراك تتفق معي فيه : أنَّ هذه الأحرف قرآن منَزَّلٌ ، والله سبحان يقول : ]إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون[ ، أفترى أنَّ القول بحذف ستة أحرف قرآنية يتفق مع منطوق هذه الآية ؟!
ومن قال بأن الأمة مخيَّرةٌ بين هذه الأحرف فلا دليل عنده ، ولا يوافق قولُه منطوق هذه الآية ، ولو كان ما يقوله صحيحًا لوُكِلَ إلى المسلمين حفظ القرآن ، كما وُكِلَ إلى من قبلَهم حفظُ كتب الله ، وأنت على خُبْرٍ بالفرق بين الحِفْظَين ، فما تركه الله من كتبه لحفظ الناس غُيِّرَ وبدِّل ونسي ، وما تعهَّد الله بحفظه فإنه باقٍ ، ولا يمكن أن يُنقص منه حرف بحال من الأحوال .
ولعلك على خبر كذلك بأن من كفر بحرف من القرآن ، فقد كفر به كلِّه ، فكيف بمن ترك أكثره مما هو منَزَّلٌ واقتصر على واحدٍ . هذا ما لا يمكن أن يقع فيه صحابة رسول الله r ، فتأمَّل ذلك جيِّدًا ، يظهر لك جليًا أنَّ القول بأنَّ القراءات التي يُقرأ بها اليوم على حرفٍ واحدٍ لا يصحُّ البتة .
إنَّ القول بأنَّ هذه القراءات على حرفٍ واحدٍ لا دليل عليه البتة ، بل هو اجتهاد عالم قال به وتبعه عليه آخرون ، والاجتهاد يخطئ ويصيب . ويظهر هنا أنَّ الصواب لم يكن حليف من رأى أنَّ هذه القراءات على حرفٍ واحدٍ .
ثالثًا : علاقة الأحرف السبعة بمصحف أبي بكر ومصاحف عثمان:
اعلم أنَّه لا يوجد نصٌّ صريحٌ في ما كتبه أبو بكر ولا عثمان رضي الله عنهما ، لذا ظهر القول بأنَّ أبا بكر كتب مصحفه على الأحرف السبعة ، وكتبه عثمان على حرف واحدٍ . وهذا القول لا دليل عليه البتةَ ، وهو اجتهاد مدخولٌ .
والذي يدل عليه النظر أنه لا فرق بين ما كُتب بين يدي رسول الله r ، وهو مفرق في أدوات الكتابة آنذاك من رقاع ولخف وأكتاف وغيرها ، وبين ما جمعه أبو بكر في مصحف واحد ، ثمَّ بين ما فرَّقه عثمان ونسخه في المصاحف المتعددة في الأمصار ، هذا هو الأصل ، وهو أن القرآن الذي توفي رسول الله r وقد تمَّ أنه هو الذي بين يدي الأمة جيلاً بعد جيل ، ولست أرى فرقًا بين هذه الكتبات الثلاث من حيث النص القرآني ، وإنما الاختلاف بينها في السبب والطريقة فحسب .
ولو تتبعت المسألة عقليًا ، ونظرت في اختيار زيد بن ثابت دون غيره من الصحابة ، وبدأت من هذه النقطة = لانكشف لك الأمر ، فلأبد معك مفقِّرًا هذه الأفكار كما يأتي :
1 ـ لا يجوز البتة ترك شيء من القرآن ثبت أنَّه نازل من عند الله ، وأنَّ الرسول ( قرأ به ، وأقرأ به الصحابة ، وقد مضى الإشارة إلى ذلك .
2 ـ أنَّ القرآن قد كُتِبَ في عهد الرسول r مفرَّقًا في الرقاع واللخف والعسب ، ولم يكن مجموعًا في كتاب .
3 ـ أنَّ القرآن كان متفرقًا في صدور الرجال ، وهم على درجات في مقدار حفظه ، قال زيد بن ثابت :» فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال « .
4 ـ أنَّ من أسباب اختيار زيد بن ثابت ما ذكره أبو بكر الصديق t ، قال زيد :» وقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ، لا أتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله rفتتبع القرآن واجمعه « .
فكان في هذا ما يميِّزه على متقدمي قراء الصحابةِ ، أمثال أبيِّ بن كعب ، وأبي موسى الأشعري ، وسالم مولى حذيفة وغيرهم .
كما كان هذا ما ميَّزه على ابن مسعود خصوصًا ، الذي جاء في الآثار أنه حضر العرضة الأخيرة ، وقد كان اعترض على عدم إشراكه في جمع القرآن في عهد عثمان .
5 ـ أنَّ زيدًا الذي هو من أعلم الصحابة بالعرضة الأخيرة = سيكتب في المصحف الذي أمره أبو بكر بكتابته ما ثبت في هذه العرضة ، ولن يترك حرفًا ثبت فيها من عند نفسه أو بأمر غيره .
ومن هنا يكون مصحف أبي بكر قد حوى ما بقي من الأحرف السبعة التي ثبتت في العرضة الأخيرة .
ولما جاء عثمان ، وأراد جمع الناس على المصحف ، جعل مصحف أبي بكر أصلاً يعتمده ، وقام بتوزيع الأحرفِ التي تختلفُ القراءة بها في هذه المصاحف ، فكان عمله نسخَ المصاحفِ ، وتوزيع الاختلاف الثابت في القراءةِ عليها ، ولم يترك منها شيئًا ، أو يحذف حرفًا .
وما لم يُرسم في المصاحف ، وقرئ به فإنه مأخوذٌ عن المقرئ الذي أرسله عثمان مع المصحف ، وقراءة المقرئ قاضية على الرسم ؛ لأنَّ القراءة توقيفية يأخذها الأول عن الآخر لا مجال فيها للزيادة ولا النقص ، والرسم عمل اصطلاحيٌّ قد يتخلَّف عن استيعاب وجوه القراءات فلا يصطلح عليه .
فإن اعترض معترض بما روى البخاري عن أنس : » أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق « . .
ووجه الاعتراض من جهتين :
الأول : أنَّ الاختلاف قائمٌ في القراءات المشهورة التي يقرأ بها الناس إلى اليوم ، فما وجه عمل عثمان ، وهو إنما كان يخشى اختلاف القراءة ؟
فالجواب : إنَّ القراءة قبل هذا الجمع لم تكن صادرة عن إجماع الصحابة وإلزام الناس بما ثبت في العرضة الأخيرة مما كتبه زيد في مصحف أبي بكر ، والذي يدل على ذلك أنَّ قراء الصحابة كانوا يقرئون الناس بما صحَّ عندهم عن نبيهم r ، وليس كلهم بَلَغَهُ ما نُسِخَ في العرضة الأخيرة .
فلما وزع عثمان المصاحف = أرسل مع كل مصحف قارئًا يُقرئُ الناس ، بما في هذا المصحف الذي أثبت فيه وجه مما ورد في العرضة الأخيرة ، وكان في ذلك حسمٌ لمادة الخلاف ، وذلك أنه لو التقى قارئٌ من البصرة وقارئ من الكوفة ، فقرأ كل منهما على اختلاف ما بينهما ، فإنهما يعلمان علمًا يقينيًا بأن ذلك عائدٌ إلى وجه صحيح مروي عن النبي r ، وبهذا يكون الاختلاف قد تحدَّد بهذه المصاحف ومن معها من القراء ، وأنَّ ما سواها فهو منسوخ لا يُقرأ به .
وهذا يعني أنَّ عمل عثمان هو تقرير الأوجه التي ثبتت في العرضة الأخيرة التي كُتِبَت في مصحف أبي بكر ، وإلزام الناس بها ، وترك ما عداها مما قد نُسخ ، وليس أنه حذف ستة أحرف .
الثاني : أن يقول المعترض : إنَّ في الرواية السابقة : » وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا « أوكد الدليل على أنهم كتبوا المصحف العثماني على حرف واحدٍ ، وهو ما يوافق لغة قريش .
والجواب عن ذلك أن يقال : إنَّ هذه المسألة ترتبط بالرسم ، وهي مسألة تحتاج إلى توضيح أمور تتعلق بالرسم ، وليس هذا محلها ، لكن سآتي على ذكر ما يلزم من حلِّ هذا الاعتراض ، وبالله التوفيق .
أولاً : إنه قد ثبت أنَّ بعض وجوه القراءات التي يقرأ به في المتواتر الآن بغير لغة قريش ، كالهمز وتسهيله ، فقريش لا تهمز ، والهمز قراءة جمهور القراء ، فكيف تخرج هذه القراءات التي ليست على لغة قريش .
ثانيًا : إنه يمكن أن يُحمل الأمر على رسم المصحف لا على قراءته ؛ وهذا هو الظاهر من ذلك الأثر ، فقوله : » فاكتبوه على لغة قريش « إشارة إلى الرسم لا إلى القراءةِ ، أمَّا القراءة فإنه يُقرأ بها بغير لغة قريش وإن كان برسم لغتها ما دام ثابتًا .
ويدلُّ لذلك أنَّه قد وردت بعض الألفاظ التي كُتبت في جميع المصاحف على وجه واحد من الرسم ، وقد ثبتت قراءتها بغير هذا الرسم .
ومن ذلك ما حكاه أبو عمرو الداني ( ت : 444 ) من أنَّ مصاحف أهل الأمصار اجتمعت على رسم الصراط وصراط بالصاد ، وأنت على خُبرٍ بأنها تُقرأ في المتواتر بالصاد وبالسين وبإشمامها زايًا .
وإنما قرئت هي وغيرها مما رسم على وجه ، وقرئت أيضًا على وجه آخر بالأخذ عن القارئ الذي أقرأ بهذه المصاحف ، وهذا يعني أنَّه لا يلزم أخذ القراءة من الرسم حتى توافق قراءة القارئ ، وأنه يجوز أن يقرأ القارئ بما يخالف المرسوم ، لكنه يكون من الثابت عن النبي r ، وهو مضبوط معروف ، لذا لم يكن في مصحف عثمان مثل قراءة أبي الدرداء وابن مسعود :» والذكر والأنثى « مع صحة سندها إلى الرسول r .
ويقال : إنما رُدَّت مع صحة سندها لأنه لم يقرأ بها في العرضة الأخيرة ، ولم توافق المصحف ، وليس ردها لمخالفة رسم المصحف فقط ، والله أعلم .
وبعد هذا يكون الفرق بين عمل أبي بكر وعمل عثمان كما يأتي :
1 ـ أنَّ أبا بكر أراد حفظ القرآن مكتوبًا ، خشية أن يموت قراء الصحابة ، فيذهب بذهابهم .
أما عثمان بن عفان ، فكان الاختلاف الذي نشأ بين التابعين سببًا في نسخه للمصاحف .
2 ـ أنَّ أبا بكر كتب مصحفًا واحدًا بما يوافق رسم ما بقي من الأحرف السبعة ، أما عثمان بن عفان ، فنسخ من هذا المصحف عدة مصاحف ، ولم يحذف منه شيئًا .
3 ـ أنَّ أبا بكر لم يلزم المسلمين باتباع المصحف الذي كتبه ، ولم يكن هذا من مقاصده لما أمر بكتابة المصحف ، لذا بقي الصحابة يُقرئون بما سمعوه من الرسول r ، وكان في ذلك المقروء كثير من المنسوخ بالعرضة الأخيرة .
أما عثمان ، فألزم المسلمين باتباع المصحف الذي أرسله ، ووافقه على ذلك الصحابة ، لذا انحسرت القراءة بما نسخ من الأحرف السبعة ، وبدأ بذلك معرفة الشاذ من القراءات ، ولو صح سندها ، وثبت قراءة النبي r بها .
وبهذا يكون أكبر ضابط في تشذيذ القراءة التي صح سندها ، ولم يقرأ بها الأئمة = كونها نسخت في العرضة الأخيرة .
علاقة الأحرف السبعة بلغات العرب :
لا يخفى على من يقرأ في موضوع الأحرف السبعة ارتباطها بلغات العرب ، بل إنَّ بعض العلماء جعل سبع لغات من لغاتها هي المقصودة بالأحرف السبعة ، وفي ذلك إهمال لوجوه اختلافات لا تنتج عن كونها من لغة دون لغة .
ولعل من أكبر ما يشير إلى أنَّ اللغات تدخل في الأحرف السبعة كون القرآن بقي فترة من الزمن يقرأ بلسان قريش ، حتى نزلت الرخصة بالأحرف السبعة ، فظهرت الأحرف التي هي من لغات غير قريش .
ومما يشير إلى ذلك ما ورد من نهي عمر ابن الخطاب لابن مسعود من أن يقرئ بلغة هذيل ، ولا يتصور أن يقرئ ابن مسعود بما لم ينْزل ويأذن به النبي r .
وفي تحديد اللغات التي هي أسعد حظًّا بنُزول القرآن خلاف بين العلماء ، ويظهر أنَّ في ذلك صعوبة في بعض مواطن الاختلاف في تحديد القبيلة التي تقرأ بهذا الوجه دون غيرها ، كما قد تشترك أكثر من لغة في وجه من الوجوه ، فيكون نسبه إلى لغة أحدها دون غيرها قصور في ذلك .
وتظهر الصعوبة أيضًا في أنه لا يوجد تدوين تامٌّ للهجة قبيلة دون غيرها ، وإن كان في الكتب إشارة إلى بعض الظواهر اللهجية لهذه القبائل .
وإذا تأمَّلت ما يتعلق باللغات العربية ، وجدته أكثر ما يتعلق به الخلاف في القراءات ، خصوصًا ما يتعلق بالنطق ، فقبيلة تعمد إلى الإدغام في كلامها ، وقبيلة تعمد إلى الإمالة ، وقبيلة تعمد إلى تسهيل الهمز ، وقبيلة تعمد إلى تحقيق الهمز ، وقبيلة تعمد إلى ترقيق بعض الأحرف ، وقبيلة تعمد إلى تفخيمها ، وهكذا غيرها من الظواهر المرتبطة بالصوتيات التي تتميَّز بها قبيلة عن قبيلة .
ويظهر أنَّ هذه الصوتيات هي أكبر ما يراد بنُزول الأحرف السبعة ، وهي التي يدل عليها قوله r :» أسأل الله مغفرته ومعافاته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك « ، وقوله r :» يا جبريل . إني أرسلت إلى أمة أمية : الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ العاني الذي لم يقرأ كتابًا قط « .
إذ الذي يستعصي على هؤلاء هو تغيير ما اعتادوا عليه من اللهجات إلى غيرها ، دون ما يكون من إبدال حرف بحرف ، أو زيادة حرف ، أو إعراب ، فإن هذه لا تستعصي على العربي . لكن أن يكون عاش جملة دهره وهو يميل ، فتريد أن تعوده على الفتح ، أو كان ممن يدغم ، فتريد أن تعوِّده على الإظهار = فذلك ما يعسر ، والله أعلم .
ولا يفهم من هذه الجملة في هذا الحديث أنَّ الاختلاف في الأحرف يرتبط بهذه اللهجات دون غيرها من وجوه الاختلاف ، بل يُحملُ هذا على أن هذا النوع المتعلق باللهجات هو أعظم فائدة مقصودة في نزول الأحرف السبعة ، وليس هذا الفهم بدعًا ، ففي الشريعة أمثلة من هذا النوع ، ومن ذلك :
قوله r :» الحج عرفة « ، والحج يشتمل على أعمال غير الوقوف بعرفة ، فقوله r يدل على أنَّ هذه العمل أعظم أعمال الحج .
وقوله r في الحديث القدسي :» قال الله عز وجل : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل : فإذا قال : ]الحمد لله رب العالمين[ ، قال الله : حمدني عبدي . وإذا قال : ]الرحمن الرحيم[ ، قال الله : أثنى علي عبدي . فإذا قال : ]مالك يوم الدين[ ، قال : مجدني عبدي . فإذا قال : ]إياك نعبد وإياك نستعين[ ، قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل … «
وإنما سُمِّيت الفاتحة: الصلاة، وهي جزء منها ؛ لأنها أعظم شروط الصلاة .
وكذلك قوله r :» الدين النصيحة « ، وقوله r:» الدعاء هو العبادة « ، وغيرها من الأمثلة التي يسمى فيها الجزء باسم الكلِّ ؛ للتنبيه على أهميته ، وللدلالة على الاعتناء به .
وإذا صحَّ لك هذا ، فإنَّ جميع وجوه الاختلاف في القراءة تدخل في الأحرف السبعة ، وأنَّ أعظم هذه الوجوه ما يتعلق باللهجات ، والله أعلم .
علاقة الأحرف برسم القرآن :
يرتبط هذا الموضوع بلغات العرب ، وقد سبق الحديث عنها ، والمراد هنا التنبيه على كون ما يتعلق برسم القرآن من الأحرف السبعة هو ما يمكن رسمه من الألفاظ ، أمَّا وجوه القراءة التي ترجع إلى اللهجات ؛ كالإمالة والتقليل ، والمد والإظهار والإدغام والسكت والتسهيل والإبدال ، وغيرها = فلا يمكن أخذها من الصحف ولا كتابتها في المصاحف إلا بما يصطلح عليه أنه يشير إليها ، ومعلوم أن علم ضبط المصحف كان متأخرًا ، ولم يكن في عصر الصحابة إطلاقًا .
وهذا يعني أنك إذا قلت : كُتِبَ المصحف على الأحرف السبعة ، فالمراد كتابة الألفاظ ووجوه قراءتها اللفظية لا الصوتية .
وهذه الصوتيات إنما تؤخذ عن السابق بطريق المشافهة والرواية ، فينقلها كما سمعها ، وهكذا من أو السند إلى منتهاه .
وبهذا تعلم أن رسم المصحف لا يمكن أن يحوي جميع وجوه الأحرف السبعة ، وإنما يمكن أن يحوي منها ما يتعلق برسم الألفاظ ، أمَّا غيرها فيؤخذ من طريق الأئمة القراء .
ولهذا السبب ـ لما أراد عثمان أن يلزم الناس بالقراءة التي أجمع الصحابة على أنها ما ثبت في العرضة الأخيرة ـ أرسل مقرئًا مع كل مصحف ،فقد ورد أنه أمر زيد بن ثابت أن يقرئ في المدينة ، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي ، والمغيرة بن أبي شهاب مع الشامي ، وأبو عبد الرحمن السلمي مع الكوفي ، وعامر بن عبد القيس مع البصري .
ومن ثَمَّ فالرواية قاضية على الرسم لا العكس .
تلخيص المراد بالأحرف السَّبعة
الأحرف السبعة : أوجه من الاختلاف في القراءة ، وما لم ينسخ منها في العرضة الأخيرة ، فهو محفوظ ومبثوث في القراءات المتواترة الباقية إلى اليوم .
ومن ثَمَّ ، فإنه لا يلزم الوصول إلى سبعة أوجه في هذه القراءات المتواترة الباقية ؛ لأنَّ بعض هذه الأحرف قد نُسِخَ .
كما أنه لا يلزم أن يوجد في كل كلمة سبعة أوجه من أوجه الاختلاف ، وإن وُجِدَ ، فإنه لا يتعدَّى السبعة ، فإن حُكيَ في لفظ أكثر من سبعة ، عُلِمَ أنَّ بعضها ليس بقرآن ؛ كبعض الأوجه الواردة في قوله تعالى : ]وَعَبَدَ الطَّاغُوت[ .
والمراد بعدد الأوجه من أوجه الاختلاف التي لا تزيد على سبع : الاختلاف في الكلمة الواحدة في النوع الواحد من أنواع الاختلاف ؛ كالمد والقصر ، والإمالة والفتح .
ومن ثَمَّ ، فلا إشكال في أن تكون أنواع الاختلاف أكثر من سبعٍ في العدد ، كما اختلف في ذلك من جعل الأحرف السبعة أنواع من الاختلاف في القراءات عموماً، والصحيح أنها كلها أوجه اختلاف مندرجة ، لكن لا يجتمع أكثر من سبعة منها في اختلاف أداء الكلمة القرآنية .
ويلاحظ أنَّ هذه الأوجه على قسمين :
الأول : ما يتعلق بالنطق واللهجة ، كالإمالة والتقليل والفتح ، وكالإدغام والإظهار ، وغيرها ، وهذا ما جاء تأكيد النبي e عليه في طلب التيسير ، حيث أن أكبر فائدة في هذه الحرف هو التيسير على الشيخ الكبير وغيره ، ولا يتصور هذا إلاَّ في النطق .
الثاني : ما يتعلق بالرسم والكتابة ؛ كالاختلاف في زيادة الواو وعدمها في لفظ ]وسارعوا[ ، والاختلاف في حركات الكلمة في لفظ ]تَرجِعون[ ، و]تُرجَعون[ ، وغيرها ، وهو ما ركَّز عليه من جعلها أنواعاً من الاختلاف في القراءة ( ابن قتيبة ، وأبو الفضل الرازي ، وابن الجزري وغيرهم ) ، وإنما دخل هذا في الأحرف ، مع أنه قد لا يعسر على الناطقين ؛ لأنك تجد هذا القسم من الاختلاف في القراءة ، فلا بدَّ أن تحمله على الأحرف السبعة ، وإلاَّ كان هناك شيء من الاختلاف غير اختلاف هذه الأحرف السبعة .
هذا ما يسر الله تقييده ، ولازال البحث يحتاج إلى إعادة صياغة وتحرير ، والله الموفق .
قال السائل : هل من كتاب في أحكام الوقف والابتداء ميسر وسهل حيث
إن كتاب الأشموني فيه شيء من الصعوبة .
الجواب : إن معرفة هذه الكتب تحتاج إلى معرفة المصطلحات التي اعتمدتها ، وغالب هذه الكتب اعتمدت مصطلح التام والكافي والحسن والقبيح ، فمعرفة هذه المصطلحات ، والاجتهاد في دراسة تطبيقاتها تجعل هذا العلم سهلاً شيئًا فشيئًا .
ومما يحسن علمه في هذا العلم أنه يقوم على ثلاثة علوم ، هي : التفسير ، والقراءات ، والنحو .
والجامع بين هذه العلوم هو معرفة المعنى ( أي : التفسير ) ، فالإعراب فرع المعنى ، والقراءة إما أن تكون مرتبطة بالإعراب ، فهي تعود في النهاية إلى المعنى ، وإما أن تعود إلى دلالة المفردة ، والحاجة إلى هذا النوع من القراءات في هذا العلم قليل .
لكن كثيرًا من المواقف لا يمكن أن تُفهم بدون معرفة النحو ، وإن كان كما قيل إنه فرع المعنى .
علة هذه المصطلحات :
جعل علماء الوقف الذين قسَّموا الوقف إلى تامٍّ وكافٍ وحسنٍ وقبيحٍ ، جعلوا اللفظ والمعنى عمدةً في التفريق بين هذه المصطلحات ، وذكر بعضهم علة هذا التقسيم ، ومنهم ابن الجزري ، حيث قال : » وأقرب ما قلته في ضبطه : أن الوقف ينقسم إلى اختياري واضطراري ؛ لأنَّ الكلام ، إمَّا أن يتمَّ ، أو لا ؛ فإن تمَّ كان اختيارياً .وكونه تامَّا لا يخلو : إمَّا أن لا يكون له تعلق بما بعده البتة ـ أي : لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ـ فهو الوقف الذي اصطلح عليه الأئمة بالتامِّ ، لتمامه المطلق ، يوقف عليه ويبتدأ بما بعده .
وإن كان له تعلق ، فلا يخلو هذا التعلق ، إما أن يكون من جهة المعنى فقط ، وهو الوقف المصطلح عليه بالكافي ، للاكتفاء به عما بعده ، واستغناء ما بعده عنه ، وهو كالتام في جواز الوقف عليه والابتداء بما بعده .
وإن كان التعلق من جهة اللفظ ، فهو الوقف المصطلح عليه بالحسن ؛ لأنه في نفسه حسن مفيد ، يجوز الوقف عليه دون الابتداء بما بعده ، للتعلق اللفظي . . وإن لم يتمَّ الكلام كان الوقف عليه اضطرارياً ، وهو المصطلح عليه بالقبيح ، لا يجوز تعمد الوقف عليه إلا لضرورة : من انقطاع نفس ونحوه ، لعدم الفائدة ، أو لفساد المعنى « . ( )
وهذا السبر والتقسيم الذي ذكره ابن الجزري واضح الدلالة على صحة هذا التقسيم وعلله . غير أنمه يبقى أن ابن الجزري وغيره ممن تقدمه لم يوضحوا المراد باللفظ والمعنى توضيحاً جلياً .
ويحتاج القارئ في كتب الوقف والابتداء التي تعتمد هذه المصطلحات أن يعرف مرادهم باللفظ والمعنى عنده .
وقد بين بعضُ العلماء المتأخرين المراد بالتعلق اللفظي ، وقالوا بأنه ما يكون ما بعده متعلقاً بما قبله من جهة الإعراب ، كأن يكون صفة ، أو معطوفاً ، أو غيرها من التوابع النحوية ( ).
وما نصَّ عليه هؤلاء ظاهر من استقراء كتب الوقف ، خاصة عند ذكر _ما لا يوقف عليه ) ، حيث يعتمدون على الإعراب ، ومن ذلك ما ذكره ابن الأنباري تحت باب (ما لا يتم الوقف عليه) ، حيث قال : » واعلم أنه لا يتمُّ الوقف على المضاف دون ما أضيف إليه ، ولا على المنعوت دون النعت ، ولا على الرافع دون المرفوع ، ولا على المرفوع دون الرافع ، ولا على الناصب دون المنصوب ، وعلى المنصوب دون الناصب ، ولا على المؤكد دون التأكيد . . . « ( ).
ومن أمثلة اعتماد الرابط النحوي في الحكم ، ما ذكره النحاس عند قوله تعالى :]قالـوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إله واحداً ونحن له مسلمون[ ] البقرة : 133 [، قال : » ]إبراهيم وإسماعيل وإسحاق[ ، حيث قال : ليس بتام ولا كاف ؛ لأن ]إله واحداً[ ] البقرة : 133 [ منصوب على الحال ، أو على البدل من الأول ، فلا يجوز الوقف على ما دونه ، والتمام : ]ونحن له مسلمــون[ « ( ).
ومن ذلك ما ذكره الداني في أسباب قبح الوقف ، ومثل له بالرابط اللفظي ؛ كالوقف على ]بسم[ من ]بسم الله[ ] الفاتحة : 1 [ ، والوقف على ]لقد كفر الذين قالوا[ ] آل عمران : 181 [ ، والابتداء بقوله تعالى : ]إن الله فقير[ ، وغيرها ( ).
وبهذا يظهر أن المراد بالتعلق اللفظي التأثير الإعرابي . ولهذا قد يقع اختلاف في تحديد الوقف ونوعه بسبب الاختلاف في الحكم الإعرابي ؛ كأن يختلف في (الواو) بين أن تكون استئنافية أو حالية . فعلى الأولى ينعدم التأثير ، وعلى الثانية يكون التأثير الإعرابي موجوداً .
أما المعنى ، فيظهر أنه نوعان :
الأول : المعنى المرتبط بالجملة القصيرة ، فإذا رأوا أنه قد تم كلامٌ وانتقل بعده إلى غيره ، فإنه تام ، وإن كان السياق والحديث لا زال في موضوعٍ معين .
الثاني : المعنى المرتبط بالقصة أو جملة الآيات التي تتحدث في موضوع واحدٍ ، وهذه يقع فيها التمام .
وبسبب النوع الأول يصعب تحديد المراد بالمعنى عند علماء الوقف والابتداء ؛ لأنهم لم يبينوا مرادهم به ، ولذا تجدهم يختلفون في الحكم على الموضع : تماماً وكفايةً ، نظراً لاختلافهم في المعنى ، قال محمود علي بسة : » ثم إن الفرق بين الوقف التام والكافي غير محدد تحديداً منضبطاً عند جميع القراء ، كالفرق بين الحسن والقبيح ؛ لأن وجه الاختلاف بين التامِّ والكافي تعلقه بما بعده بالمعنى ، أو لا ، وهو أمر نسبي يرجع في إلى الأذواق في فهم المعاني واعتبار ما وقف عليه متعلقاً بما بعده في المعنى ،أو مستغنياً عنه . ولذا تجد منهم من يعدُّ بعض الوقوف الكافية في نظر غيره تامة ، والعكس … « ( ).
ومع هذا الوضوح الفرق بين التعلق اللفظي والتعلق المعنوي ، تجد من يجعل شيئاً مما به تعلق لفظي من قسم الكافي الذي يكون التعلق فيه بالمعنى ، وهذا يدلُّك على عدم وضوح المراد بالمعنى .
ومن الأمثلة التي وقع فيها الحكم بالتعلق بالمعنى ، وفيه تعلق لفظي ، ما ذكره الداني في تمثيله للوقف الكافي ، قال : » وذلك نحو الوقف على قوله : ]حرمت عليكم أمهاتكم[ ] النساء : 23 [ ، والابتداء بما بعد ذلك في الآيةِ كلها … « ( ).
وقد انتُقد الداني في تمثيله للوقف الكافي ، ومن ذلك ما قاله السخاوي في جمال القراء : » وهذا ليس بالوقف الكافي ؛ لأن هذه المواقف يتعلق ما بعدها بما قبلها في اللفظ والمعنى ، وإنما هي من الأوقاف الحسان « ( ).
وقال ملا علي قاري في تعليقه على تمثيل ابنِ ابنِ الجزري بهذا المثالِ : » وفيه أن الظاهر أن ما بين المعطوف والمعطوف عليه تعلق لفظي ، فهو من قبيل الوقف الحسن « ( ).
وما ذكره السخاوي وملاَّ علي قاري هو الصواب ؛ لأن العطف رابط لفظي إعرابي ، ثم إن البدء يقوله تعالى : ]وبناتكم وأخواتكم … [ ] النساء : 23 [ لا يفيد معنى مستقلاًّ ؛ لأنه متعلق بقوله : ]حرمت عليكم أمهاتكم[ ] النساء : 23 [ .
وإنما يجوز البدء بأحد هذه المعطوفات للضرورة ، وهي كثرة المعطوفات مع طول الآية ، وعدم بلوغ النفَسِ نهايتها إلاَّ بتقطيعها . وقد نبَّه ابن الجزري أن مثل هذا الطول مما يتسامح الوقف فيه وإن كان من الوقف الحسن ، قال : » يغتفر في طول الفواصل والقصص والجمل المعترضة ونحو ذلك ، وفي حالة جمع القراءات ، وقراءة التحقيق والترتيل ، مالا يُغتفر في غير ذلك ، فربما أُجيز الوقف والابتداء لبعض ما ذكر ، ولو كان لغير ذلك لم يُبَحْ ، وهذا الذي يسميه السجاوندي : المرخص ضرورة « ( ).
ولما كان (المعنى) في النوع الأول غير محدد تحديدا دقيقًا ، فإنك تجد كثيرًا مما حُكِيَ فيه التمام بينه وبين ما بعده علاقة في المعنى تمنع أن يكون من قسم التامِّ .
ومن أمثلة ذلك : حكمهم بالتمام على قوله تعالى : ]وجعلوا أعزة أهلها أذلة[ ] النمل : 27 [ ، قال ملاَّ علي قاري : » وقد يوجد قبل انقضاء الفاصلة ؛ كقوله تعالى : ]وجعلوا أعزة أهلها أذلة[ ] النمل : 27 [ ، قال ابن المصنف : هذا الوقف تامٌّ ؛ لأنه انقضاء كلام بلقيس ، وهو رأس آيةٍ أ.هـ . يعني قوله تعالى : ]وكذلك يفعلون[ ] النمل : 27 [ ابتداء كلام من الله شهادة على ما ذَكَرَتْهُ .
وفيه أنَّ له تعلقاً معنوياً ، فلا يكون وقفه تاماً ، بل كافياً .
وقال بعض المفسرين : ]وكذلك يفعلون[ أيضاً من كلامها تأكيدًا لما قبلها ، فالوقف على ]أذلة[ كافٍ ، وعلى ]يفعلون[ تامٌّ .
وقد يقال : لأنه كافٍ أيضاً ؛ لأن ما بعده من جملة مقولها ، فله تعلق معنوي بما قبله .
ثمَّ قال ـ أي : ابن المصنف ـ : وقد يوجد بعد انقضاء الفاصلة بكلمة ؛ كقوله تعالى : ]وإنكم لتمرون عليهم مصبحين . وبالليل [ ] الصافات : 137 ـ 138 [ ؛ لأنه معطوف على المعنى ؛ أي : في الصبح والليل ؛ يعني : فيهما .
وفيه البحث السابق ؛ إذ من جملة التعلق المعنوي قوله : ]أفلا تعقلون[ ] الصافات : 138 [ ، فهو وقف تامٌّ ، وما قبله كافٍ « ( ).
ومن هذه النقول السابقة يتضح أن المراد بالمعنى غير واضح المعالم ، وليس له تعريف محدد ، مما يجعله عائماً غير منضبط ، وبسبب ذلك يقع الخلاف في الحكم على بعض المواطن بالتمام أو الكفاية .
ولو تأملت كثيراً من أمثلة التامِّ لوجدت فيها رابطاً لفظياً غير إعرابيٍّ ، وهي كثيرةٌ ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : ]فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون[ ] العنكبوت : 17 [ ، حكم ابن الأنباري والداني بالوقف التامِّ على قوله : ]واشكروا له[ ( ) ، ولو نظرت في قوله تعالى : ]وإليه ترجعون[ لوجدت فيه رابطاً لفظياً غير إعرابي ، وهو الضمير في قوله : ]وإليه ترجعون[ ، وهو يربط بين الجملتين في المعنى ، ويدل على عدم تمام الكلام ِ ، ولذا فالحكم على مثل هذا يكون بالكفاية ، واللهُ أعلمُ .
وإذا عرف طالب علم الوقف والابتداء وأتقنه فإنه سيفهم كثيرًا مما في كتب الوقف والابتداء ، ولا يوجد كتاب في الوقف يقال عنه : إنه سهل ما لم يُدرك ما ذكرته لك ، والله الموفق .
قال السائل : ما أفضل كتاب في إعراب القرءان ؟
الجواب : لا يوجد كتاب يمكن أن يقال : إنه أفضل كتاب ، لكن هناك مجموعة من الكتب يمكن الاستفادة منها في إعراب القرآن ، منها :
1 ـ إعراب القرآن ، لأبي جعفر النحاس ( ت : 338 ) . ومن باب الفائدة ، فإن كل كتب النحاس مفيدة جدًّا .
2 ـ الفريد في إعراب القرآن المجيد ، للمنتجب الحسين بن أبي العز الهمداني ( ت : 643 ) .
3 ـ البحر المحيط ن لأبي حيان الأندلسي ( ت : 745 ) .
4 ـ الدر المصون في علوم الكتاب المكنون ، للسمين الحلبي ( ت : 756 ) ، وهو كتاب منظَّمٌ .
وقد كتبت في كتابي ( أنواع التصنيف المتعلقة بالقرآن الكريم ) بعض الفوائد المتعلقة بإعراب القرآن ، والله الموفق . أ.هـ
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?s=&threadid=8238