فهد الناصر
New member
- إنضم
- 07/02/2004
- المشاركات
- 166
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
أَثَرُ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ لآيَاتِ القُرْآنِ الكَرِيْمِِ (نَمَاذِجُ مِنْ تَفْسِيْرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في جَامِعِ البَيَانِ للطَّبَرِيِّ)
شريف عبد الكريم النَّجّار
مُقَدِّمة:
الإعْرَابُ والتَّفْسِيْرُ عِلْمَانِ مُتَدَاخِلانِ، فَكِلاهُما غَايَتُهُ أَنْ يَصِلَ إلى المَعْنى الصَّحِيْحِ، وكُلٌّ مِنْهُما يُؤدِّي إِلى الآخَرِ، فالإِعْرَابُ السَّدِيْدُ يُؤدّي إِلى نَظْرَةٍ صَحِيْحَةٍ في تَفْسِيْرِ الآيَةِ القُرآنِيَّةِ، والعَكْسُ كَذلِكَ، فالنَّظْرَةُ الصَّحِيْحَةُ في التَّفْسِيْرِ تُؤدّي إِلى إِعْرَابٍ صَحِيْحٍ، فُكُلٌّ مِنْهُما يُؤثّرُ في الآخَرِ.
وكَانَ التَّفْسِيْرُ بِالمَأثُورِ هو أَوّلَ أَنْوَاعِ التَّفْسِيْرِ وُجُودًا، وكَانَ وُجُودُهُ مُصَاحِبًا لِنَشْأَةِ النَّحْوِ، فالتَّفْسِيْرُ بالقُرآنِ والسَّنّةِ وأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِيْنَ كَانَ شَائِعًا في القُرُونِ الثّلاثَةِ الأُولى، وهذه القُرُونُ هي الّتي شَهِدَت نَشْأَةَ النَّحْوِ، وكَانَ لا بُدَّ للنُّحَاةِ الَّذِيْنَ عُنُوا بِتَوْجِيْهِ الآيَاتِ القُرآنِيَّةِ أَنْ يَتَأثَّرُوا بِهذا النَّوْعِ مِن التَّفْسِيْرِ؛ ولِذلِكَ وَجَدْنا كُتُبَ مَعَانِي القُرآنِ مَلِيئةً بِأَقْوالَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِيْنَ.
وقَدْ رَأَيْتُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُ هذا البَحْثِ تَأثِيْرَ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُور عَلَى تَوْجِيْهِ الآيَاتِ القُرآنِيةِ عِنْدَ المُعْرِبِيْنَ، ووَسَمْتُهُ بِـ(أَثَرُ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ لآيَاتِ القُرْآنِ الكَرِيْمِِ) مَدْفُوعًا بِعِدَّةِ أُمُورٍ: مِنْها بَيَانُ أَنَّ المَعْنى هو الأصْلُ في البَحْثِ اللُّغُوِيِّ، فالمُعْرِبُ لا بُدَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلى المَعْنى نَظْرَةً دَقِيقَةً قَبْلَ إِعْرَابِه، فإِعْرَابُهُ مِرآةٌ للمَعْنى، والمَعْنى يَأخُذُهُ مِن التَّفْسِيْرِ، ومِنْها الرَّغْبَةُ في إِظْهَارِ مَدى أَثَرِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ عَلَى تَوْجِيْهِ النُّحَاةِ لآيَاتِ القُرآنِ الكَرِيْمِ، ومِنْها إِظْهَارُ أَثَرِ سَيْطَرَةِ القَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ عَلَى النُّحَاةِ، وبُعْدِ بَعْضِهِمْ عَن المَعْنى، ومِنْها إِبْرَازُ العَلاقَةِ بَيْنَ النَّحْوِ والتَّفْسِيْرِ، فلِكِليهما مَنْبعٌ وَاحِدٌ، هو المَعْنى.
ويَنْدَرِجُ هذا البَحْثُ في مَوْضُوعِ السَّمَاعِ، فالاسْتِشهادُ بالقُرآنِ الكَرِيْمِ، وبالحَدِيْثِ النَّبَوِيّ، وبِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ والتّابِعِيْنَ مِن السَّمَاعِ، ولكنّي أَرَدْتُ مِنْ ذلكَ تَخْصِيصَ تَوجِيْهِ آيَاتِ القُرآنِ الكَرِيْمِ بِذلِكَ، وأَثَرَ ذلِكَ عَلَيْه.
ورَأَيْتُ أَنْ أَخْتَارَ مَجْمُوعَةً مِن الآيَاتِ القُرآنِيَةِ مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ، وكَانَ هذا الاخْتِيَارُ رَغْبَةً مِنّي في الوُصُولِ إِلى أَثَرٍ مَا للتَّفْسِيْرِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ، فتَناوَلْت مَجْمُوعةً من الآيات رأيت فيها أَثَرًا واضِحًا للتّفسير بالمأثور، ورَأَيْتُ أَنْ أُحَدِّدَ تَفْسِيْرًا يُعْنى بِالتّفْسِيْرِ المَأثُورِ، فَوَقَعَ اخْتِيَارِي على كِتابِ ابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ المَوْسُوم بـ(جَامِعِ البَيَانِ في تَأوِيْل القُرآنِ)، فلا شَكَّ أَنَّهُ أَبْرَزُ الكُتُبِ الّتي اهْتَمّت بالتَّفْسِيْرِ المَأثُورِ.
وكَانَ مَنْهجي في تناوُلِ هذه الآياتِ مبْنِيًّا على إبْرازِ أمرينِ، هما آراء أهل التّفسير بالمأثور، وآراء النّحاةِ، ورأيت أنْ أبدأ بآراءِ المفسِّرين في كلّ موضعٍ كي يدركَ القارئ المعنى للآيَةِ قبلَ تَوْجِيهِها نَحْوِيًّا، ثمّ أعْرِض آراءَ النُّحَاةِ في الآيَةِ، وبيَّنْتُ بعد ذلك العلاقَةَ بين الأمرين.
ورَأَيْتُ أنْ أكْتَفيَ في هذا البحْثِ بِتَحْلِيْلِ هذه النّماذج من تَفْسير الطّبري؛ ولذلك وَسَمْتُهُ بِـ(أَثَرُ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ لآيَاتِ القُرْآنِ الكَرِيْمِِ، نماذج مِنْ تَفْسِيْرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في جَامِعِ البَيَانِ للطَّبَرِيِّ)، ورأيت أنّ أُبَيِّنَ خلالَ تَحْليلِي هذه النّماذج نَوَاحِيَ تأثِيْرِ التّفْسِيْرِ في التّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ، ووجدتُ أنّ هذا النَّهْجَ أوْلى من عرضِ نَوْاحِي التَّأثِيْرِ قبل تَقْدِيمِ الدّلِيْلِ عَلى الأثَرِ.
ويَعْتَمِدُ هذا البحثُ على مَجْمُوعَةٍ من الأَقْوَالِ، فهو بحثٌ في آراء المفسِّرين، وقد حرصتُ على ذكر النُّصوصِ الّتي تُبَيِّنُ آراءَهُم، وأودُّ أنْ أنبّهَ هنا أنّي أردت من إيراد نصين أو أكثر في موضع واحدٍ التّأكيد على المعنى الّذي ذكره المفسّرون في الآيَةِ، وأنَّ هُناك أكثرَ من روايَةٍ في هذا المعنى.
وقَدْ بَدَأتُ هذا البَحْثَ بِمُقَدِّمَةٍ تَحَدَّثْتُ فِيْها عَن التَّفْسِيْرِ بالمَأثُورِ والطَّبَرِيِّ، والعَلاقَةِ بَيْن التَّفْسِيْرِ والنَّحْوِ مِنْ خِلالِ كُتُبِ مَعانِي القُرآنِ، وبَيَّنْتُ أَنّ هذه الكُتُبَ تُعَدُّ مِن كُتُبِ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ وعِلْمِ النَّحْوِ، ففيها تَوْجِيْهٌ نَحْوِيٌّ للآيَاتِ القُرآنِيَةِ وتَفْسِيْرٌ للقُرآنِ.
وتَنَاوَلْتُ بَعْدَ ذلِكَ الآيَاتِ المُخْتَارَةَ، وجَعْلْتُها في سَبْعَةِ مَوَاضِعَ، هي: المُبْتَدأ والخَبَرُ، والعَطْفُ ووَاوُ الصَّرْفِ، وحَذْفُ (أَنْ) والقَسَمُ، و(مَا) المَوْصُولَةُ والنَّافِيَةُ، و(مَا) التَّعجُّبِيّة والاسْتِفْهامِيّة، والبَدَل والعَطْف، و دَلالَةُ (أَنّى)، ورَتَّبْتُ هذه الآيَاتِ كَما هي في القُرآنِ الكَرِيْمِ.
وخَتَمْتُ هذه البَحْثَ بِخَاتِمَةٍ تَضَمَّنَتْ أَثَرَ التَّفْسِيْرِ بالمَأثُورِ عَلَى إِعْرَابِ آيَاتِ القُرآنِ الكَرِيْمِ، وأهَمِّيَّةَ النَّظَرِ إِلى المَعْنى عِنْدَ الإِعْرَابِ، فالمَعْنى هو الأسَاسُ الَّذي يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ المُعْرِبُ.*
أولاً: التَّفْسِيْرُ بِالمَأْثُورِ والطَّبَرِيُّ
يُعَرّفُ التَّفْسِيْرُ بِالمَأْثُورِ بِأَنَّهُ تَفْسِيْرُ القُرآنِ بِمَا جَاءَ في القُرآنِ نَفْسِهِ مِن البَيَانِ والتَّفْصِيْلِ لِبَعْضِ آيَاتِهِ، ومَا نُقِلَ عَن الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّمَ، ومَا نُقِلَ عَن الصّحَابَةِ رَضِي اللهُ عَنْهُم، ومَا نُقِلَ عَن التّابِعِيْنَ مِنْ كُلِّ مَا هُو بَيَانٌ وتَوْضِيْحٌ لِمُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْ نُصُوصِ الكِتَابِ الكَرِيْمِ.
ويُعَدُّ التَّفْسِيْرُ بِالمَأثُورِ مِنْ أَعْلَى أَنْوَاعِ التَّفْسِيْرِ مَنْزِلَةً؛ وذلِكَ لأَنَّهُ تَفْسِيْرٌ للقُرآنِ بِالقُرآنِ، قَالَ ابنُ تَيْمِيَةَ: "أَصَحُّ الطُّرُقِ في ذلكَ أَنْ يُفَسَّرَ القُرآنُ بِالقُرآنِ،" أَوْ بالسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، والرَّسُولُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ هو المُبَيِّنُ لهذا الدّيْنِ، وهو أَدْرى بِالكِتابِِ المُنَزّلِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وهم أَقْرَبُ إِلى صَاحِبِ الرِّسَالَةِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّم، وشَاهَدُوا التَّنْزِيْلَ، أَو بِأَقْوَالِ التَّابِعِيْنَ، وهؤلاءُ كَانُوا أكْثَرَ النّاسِ اتّصالاً بالصّحَابَةِ، فَأَخَذُوا العِلْمَ عَنْهُم، ونَقَلُوهُ إِلى مَنْ بَعْدَهُم، وهذا كُلُّهُ إِذا صَحَّ السَّنَدُ عَن الرَّسُولِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّمَ أو الصّحَابَةِ أَو التّابِعِيْن.
وقَدْ اعْتَمَدَ هذا النَّوْعَ مِن التَّفْسِيْرِ جُمْلَةٌ مِن عُلَمَاءِ الأُمَّةِ، فَوضَعُوا الكُتُبَ والمَوْسُوعَاتِ في تَفْسِيْرِ القُرآنِ بِهذا الشَّكْلِ، وكَانَ مِنْ أَبْرَزِ هذه المؤلّفاتِ: جَامِعُ البَيَانِ في تَفْسِيْرِ القُرآنِ لابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ، ومَعَالِمُ التَّنْزِيْلِ للبَغَوِيِّ، والمُحَرَّرُ الوَجِيْزُ في تَفْسِيْرِ الكِتَابِ العَزِيْزِ لابنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسيِّ، وتَفْسِيْرُ القُرآنِ العَظِيْمِ لابْنِ كَثِيْرِ، والدُّرّ المَنْثُور في التَّفِسِيْرِ المَأثُور للسُّيُوطيِّ.
وكَانَ ابنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيّ مِن أَوّلِ مَنْ وَضَعَ تَفْسِيْرًا عَلَى هذا النَّحْوِ، والطَّبَرِيُّ هو أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وعِشْرِيْنَ ومائتين، تَنَقّلَ في البِلادِ طَلَبًا للعِلْمِ، وكَانَ مِنْ أَئِمّةِ الحَدِيْثِ، ومِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ القِرَاءاتِ، ومِنْ عُلَمَاءِ العَرَبِيَّةِ، وإِمَامٌ عَالِمٌ بِالفِقْهِ، وقد تُوفّيَ سَنَةَ ثَلاثِمَائةٍ وعَشْرٍ من الهِجْرَةِ.
ويُعَدُّ تَفْسِيْرُ ابْنِ جَرِيْرٍ مِنْ أَقْوَمِ التَّفَاسِيْرِ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: "وهو مِنْ أَجَلِّ التَّفَاسِيْرِ وأَعْظَمِها قَدْرًا،" ويُعَدُّ أَيْضًا المَرْجِعَ الأَوّلَ عنْد المُفَسِّرِيْنَ الّذينَ عُنُوا بالتَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِِ، وذلِكَ لِمَا تَمَيَّزَ بِهِ مِن الْتِزَامِهِ بالسَّنَدِ، واهْتِمَامِهِ بِتَوْجِيْهِ الأَقْوَالِ، وغَيْرِها.
وأَمّا طَرِيْقَتُهُ في التَّفْسِيْرِ فَكَانَ إِذا أَرَادَ أَنْ يُفَسِّرَ آيَةً يَقُولُ: (القَوْلُ في تَأويلِ قَوْلِهِ تَعَالَى كَذا وكَذا)، ثُمَّ يُفَسِّرُ الآيَةَ، ويَسْتَشْهِدُ عَلَى تَفْسِيْرِهِ بِمَا يَرْوِيْهِ مُلْتَزِمًا بِالسَّنَدِ عَن الصَّحَابَةِ أَو التّابِعِيْنَ، ولا يَقْتَصِرُ ابنُ جَرِيْرٍ عَلَى عَرْضِ الرِّوَايَاتِ، فَنَجِدُه يُرَجِّحُ قَوْلاً عَلى قَوْلٍ بَعْدَ تَوْجِيْهِ الأَقْوَالِ جَمِيْعِها، ويَتَعَرَّضُ إلى مَا يَتَعَلّق بِالآيَةِ مِنْ أَحْكَامٍ فِقْهِيَّةٍ أَوْ نَحْوِيَّةٍ.
ثانياً: التَّفْسِيْرُ والنَّحْوُ
عَرَّفَ الزَّرْكَشِيُّ عِلْمَ التَّفْسِيْرِ بِقَوْلِهِ: "التّفْسِيْرُ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ فَهْمُ كِتَابِ اللهِ المُنَزّلِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبَيَانُ مَعَانِيْهِ، واسْتِخْرَاجُ أَحْكَامِهِ وحِكَمِهِ،" ويَسْتَمِدُّ المُفَسِّرُ ذلِكَ مِن عُلُومٍ مخْتَلِفَةٍ كعِلْمِ القِرَاءَاتِ، وعِلْمِ اللّغةِ، والنَّحْوِ والتَّصْرِيْفِ، وأُصُولِ الفِقْهِ.
وقَدْ جَعَلَ أَبُو حَيّانَ الأَنْدَلُسِيُّ عِلْمَ النَّحْوِ وغَيْرَهُ مِنْ عُلُومِ اللُّغَةِ جُزْءًا مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ، فالتَّفْسِيْرُ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، قَالَ: "التَّفْسِيْرُ عِلْمٌ يُبْحَثُ فِيْه عَنْ كَيْفِيّةِ النُّطْقِ بِأَلْفَاظِ القُرْآنِ، ومَدْلُولاتِها، وأَحْكَامِها الإفْرَادِيَّةِ والتَّرْكِيْبِيَّةِ، ومَعَانِيْها الّتِي تُحْمَلُ عَلَيْها حَالَة التَّرْكِيْبِ، وتَتِمّاتٍ لِذلِكَ." ثُمَّ قَالَ: "وقَوْلُنا: (وأَحْكَامِهَا الإفْرَادِيَّةِ والتَّرْكِيْبِيَّةِ) هذا يَشْمَلُ عِلْمَ التَّصْرِيْفِ، وعِلْمَ الإعْرَابِ، وعِلْمَ البَيَانِ وعِلْمَ البَدِيْعِ."
ولا غَرَابَةَ في أَنْ يَكُونَ عِلْمُ الإِعْرَابِ ضِمْنَ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ؛ وذلِكَ لأَنَّ كِلَيْهِما يَبْحَثَان عَن المَعْنى، ويَهْدِفَانِ إِلى الكَشْفِ عَنْ مَعْنىً تَتَبَيَّنُ مِنْ خِلالِهِ أَسْرَارُ الكِتَابِ العَزِيْزِ؛ ولأَنَّ هذين العِلْمَيْنِ وغَيْرَهُما مِن العُلُومِ كُلِّها نَشَأَتْ في فَتْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وهَدَفَت إِلى تَعْرِيْفِ النّاسِ بِأُمُورِ دِيْنِهِم، والحِفَاظِ عَلَى كِتَابِ اللهِ ولُغَتِهِ مِن اللّحْنِ الّذي أَصَابَ الأُمَّةَ في تِلْكَ الفَتْرَةِ، وكَانَ أَوْلُ هذه العُلُومِ وأَعْلاها عِلْمَ التَّفْسِيْرِ.
ويُشِيْرُ حَدُّ أَبِي حَيَّان إِلى العَلاقَةِ المَتِيْنَةِ بَيْنَ العِلْمَيْنِ؛ ولِذلِكَ كَانَ يَذْهَبُ كَثِيْرٌ مِن النُّحَاةِ في المَرحَلَةِ الأولى للنَّحْو إِلى التَّفْسِيْرِ، وأَرى أَنَّ كُتُبَ مَعَانِي القُرْآنِ الّتي اشْتَهَرَت في بِدَايَةِ نَشْأَةِ هذا العِلْمِ خَيْرُ دَلِيْلٍ عَلَى أَنَّهُم كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ مَا يَقُومُونَ بِهِ هو مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ، وكَأَنَّ النَّحْوَ قَدْ وُجِدَ لِدِرَاسَةِ آيَاتِ القُرآنِ المَجِيْدِ.
إِنَّ العَلاقَةَ بَيْنَ التَّفْسِيْرِ وتَوْجِيْهِ آياتِ القُرآنِ تَوْجِيْهًا نَحْوِيًا لا يُمْكِنُ فَصْلُها، فتَوْجِيْهُ هذه الآيَاتِ يُعَدُّ جُزْءًا مِن تَفْسِيْرِها، وكَانَ لا بُدَّ للمُعْرِبِ أَنْ يَسْتَعِيْنَ بِالمُفَسِّرِ للوُصُولِ إِلى إِعْرَابٍ صَحِيْحٍ، كَما أَنّهُ لا بُدَّ للمُفَسِّرِ أَنْ يَسْتَعِيْنَ بِإِعْرَابِ النَّحْوِيِّ لِيَصِلَ إِلى مَعْنىً صَحِيْحٍ، فالعَلاقَةُ بَيْنَهُما تَبَادُلِيّةٌ.
وكَانَ التَّفْسِيْرُ في الفَتْرَةِ الّتي نَشَأتْ فيهِ هذه العُلُومُ قَد اسْتَقَرَّ عَلَى تَفْسِيْرِ القُرآنِ بِأَقْوَالِ الرّسُولِ الكَرِيْمِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّمَ، ثُمُّ أَقُوالِ الصَّحَابَةِ والتّابِعِيْنَ، وهذا هو مَا يُعْرَفُ بِالتَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ، ولَمْ يَكُنْ غَيْرُ ذلِكَ مِن أنواع التَّفْسِيْرِ الأخرى قد اسْتَقَرّ، فَأَخَذَ النُّحَاةُ بِهذا النَّوْعِ مِن التَّفْسِيْرِ، ومُلِئت كُتُبُ مَعَانِي القُرآنِ بِالأحَادِيْثِ وأَقْوالِ الصّحابَةِ والتّابِعِيْنَ.
وكَانَ كِتَابُ مَعَانِي القُرآنِ للفَرّاءِ مِن أوّلِ الكُتُبِ الّتي دُوّنت في بَيانِ معاني آيات القرآن الكريمِ، وتوجِيهها توجيْهًا نَحْوِيًّا، واعْتَمَدَ في تَرْتِيْبِ كِتَابِهِ عَلى تَرْتِيْبِ المُصْحَفِ، قَالَ ابنُ النَّدِيْمِ: "قَالَ أَبُو العَبّاسِ ثَعْلَبُ: كَانَ السَّبَبُ في إِمْلاءِ كِتَابِ الفَرّاءِ في المَعَانِي أَنَّ عُمَرَ بنَ بَكِيْرٍ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وكَانَ مُنْقَطِعًا إِلى الحَسَنِ بنِ سَهْلٍ، فَكَتَبَ إِلى الفَرَّاءِ أَنّ الأَمِيْرَ الحَسَنَ بنَ سَهْلٍ رُبّما سَأَلَني عَن الشَّيءِ بَعْدَ الشَّيْءِ مِن القُرْآنِ، فلا يَحْضُرُنِي فِيْه جَوَابٌ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْمَعَ لي أُصُولاً، أَوْ تَجْعَلَ في ذلكَ كِتَابًا أَرْجِعُ إِلَيْهِ فَعَلْتُ، فَقَالَ الفَرّاءُ لأصْحَابِهِ: اجْتَمِعُوا حَتّى أُمْلِيَ عَلَيْكُم كِتَابًا في القُرْآنِ، وجَعَلَ لَهُم يَوْمًا فَلَمّا حَضَرُوا خَرَجَ إِلَيْهِم، وكَانَ في المَسْجِدِ رَجُلٌ يُؤَذّنُ، ويَقْرَأُ بالنّاسِ في الصَّلاةِ، فالْتَفَتَ إِلَيْه الفَرّاءُ، فَقَالَ لَهُ: اقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ نُفَسِّرُها، ثُمّ نُوفِي الكتَابَ كُلَّه، فقَرَأ الرَّجُلُ، ويُفَسِّرُ الفَرّاءُ، فَقَالَ أَبُو العَبّاسِ: لَمْ يَعْمَلْ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِثْلَه، ولا أَحْسَبُ أَنَّ أَحَدًا يَزِيْدُ عَلَيْهِ."
والظّاهِرُ أَنَّ ثَعْلَبًا قَدْ أَخْطَأ في عَدِّهِ كَتَابَ الفَرّاء أَوّلَ هذه الكُتُبِ، فَقَدْ سَبَقَهُ أُسْتَاذُه الكِسَائِي، ونُسِبَ للرّؤَاسِيّ (ت170ﻫ) كِتابٌ في مَعانِي القُرآنِ، وِنُسِبَ ذلِكَ أَيْضًا إِلى يُونُسَ بِنِ حَبِيْبٍ (ت183ﻫ)، وقَد عَدَّ ابْنُ النَّدِيْمِ خَمْسَةً وعِشْرِيْنَ مُؤلّفًا في مَعَاني القُرْآنِ.
وأَهْلُ التَّفْسِيْرِ يَرَوْنَ أَنّ هذه الكُتُبَ مِنْ كتُبِ التّفْسِيْر، ولا شَكَّ في أَنَّها كَذلِك، ولكِنَّها تَمَيّزَت عَنْ غَيْرِها في أَنّها دَرَسَتْ الآيَاتِ القُرْآنِيَّة مِنْ جَانَبٍ وَاحِدٍ، وهو الجَانِبُ اللّغَوِيُّ والنَّحْوِيُّ، فَتَوْجِيْهُ هذه الكُتُبِ للآيَاتِ القُرآنِيَّةِ تَوْجِيْهٌ نَحْوِيٌّ، ويَنْتَمِي هذا التَّوْجِيْهُ إِلى عِلْمِ النَّحْو؛ ولِذلِكَ أَرَى أَنَّهُ مِن الصَّعْبِ فَصْلُ عِلْمِ النَّحْوِ عَنْ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ في الكُتُبِ الّتي تَنَاوَلَت تَوْجِيْهَ آيَاتِ القُرآنِ الكَرِيْمِ تَوْجِيْهًا نَحْوِيًّا.
وأَرَى أَنَّه لا يُمْكِنُ قَصْرُ عِلْمِ النَّحْوِ عَلَى تَوْجِيْهِ الآيَاتِ القُرآنِيَّةِ، والكَشْفِ عَنْ مَعَانِيْها، فالنَّحْوُ عِلْمٌ وَاسِعٌ تَنَاوَلَ اللّسَانَ العَرِبِيَّ ودَرَسَهُ في شَتّى أَشْكَالِهِ، ولَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الآيَاتِ القُرْآنِيَّةِ، وكَانَ لِعُلَمَاءِ النَّحْوِ جُهُودٌ كَثِيْرَةٌ تَنَاوَلت القَوْاعِدَ النّحْوِيَّةَ لهذا اللّسَانِ، وكَانَتْ لَهُم أَيْضًا جُهُودٌ تَنَاوَلَت تَوْجِيْهَ أَشْعَارِ العَرَبِ، وأخْرَى تَنَاوَلَت الأحَادِيْثَ النَّبْوِيَّةَ، وكذلِكَ كَلامُ النَّاسِ، وغَيْرُهُ مِن أَشْكَالِ الكَلامِ، ولا شَكَّ أَنَّ هذا كُلَّهُ يَصُبُّ في خِدْمَةِ لُغَةِ الكِتَابِ العَزِيْزِ.
ثالثاً: نَماذجُ مِن تَفْسِيْرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في جَامِعِ البَيَانِ
1. المُبْتَدأُ والخَبَرُ:
قَوْلُهُ تَعَالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (البقرة: 7)
نَقَلَ ابْنُ جَريرٍ الطَّبَرِيّ في تَفْسِيْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ تَأْوِيْلَيْن:
الأَوّل: رُوِيَ عَن ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: "حَدَّثَنِـي مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ, قَالَ: حَدَّثَنِـي أَبِي, قَالَ: حَدَّثَنِـي عَمّي الحُسَيْنُ بنُ الحَسَنِ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ جَدِّهِ, عَن ابْنِ عَبّاسٍ: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم، وعَلَـى سَمْعِهِمْ، والغِشَاوَةُ عَلَى أَبْصَارِهِم."
والثّانِي: رُوِيَ عن ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ الطّبَريُّ: "حَدَّثَنا القَاسِمُ, قَالَ: حَدَّثَنا الحُسَيْنُ, قَالَ: حَدَّثَنـي حَجّاج, قَالَ: حَدَّثَنا ابنُ جُرَيْجٍ, قَالَ: الخَتْمُ عَلَى القَلْبِ والسّمعِ, والغَشَاوَةُ عَلَى البَصَرِ, قَالَ اللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ، (الشورى:24) وقَالَ: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً. (الجاثية:23)"
وقَدْ جَاءَ في الدّرِّ المَنْثُورِ أَنَّ هذا التَّفْسِيْرَ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عن ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ في الدُّرِّ: "وأَخْرجَ ابنُ جُرَيْجٍ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم، وعَلَى سَمْعِهِم، فلا يَعْقِلُونَ، ولا يَسْمَعُونَ، وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِم -يَقُولُ: أَعْيُنُهُم- غِشَاوَةً فَلا يُبْصِرُونَ." وقَدْ نَقَلَ الطّبَرِيُّ هذا التَّفْسِيْرَ عن غَيْرِ ابنِ جُرَيْجٍ مَرْوِيًّا عَن ابنِ مسْعُودٍ.
هذان تَفْسِيْرَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، أَمّا تَوْجِيْهُ النُّحاةِ للآيَةِ بِهذا اللّفْظِ فهو وَاحِدٌ لَيْسَ فِيْهِ خِلافٌ، وهو أَنَّ هذه جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ تَقَدَّمَ فِيْها الخَبَرُ، وهو شِبْهُ الجُمْلَةِ، وتَأَخَّرَ المُبْتَدَأ، وهو (غِشَاوَةٌ)، وهذا التَّوْجِيْهُ يَتَّفِقُ مَع تَفْسِيْرِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَدْ صَرَّحَ الطَّبَرِيُّ بِذلِكَ، قَالَ: "وبِمَا قُلْنا في ذلكَ مِن القَوْلِ والتَّأوِيْلِ, رُوِيَ الخَبَرُ عَن ابْنِ عَبّاسٍ."
ويُشِيْرُ كَلامُ الطَّبَرَيِّ أَنَّ قَوْلَ النُّحَاةِ، وتَوْجِيْهَهُم للآيَةِ مَرْوِيٌّ عَن ابْنِ عَبّاسٍ، وهو قَوْلُهُ: "والغَشَاوَةُ عَلَى أَبْصَارِهِم"، وكَأَنَّ النُّحَاةَ قَدْ أَخَذُوا تَوْجِيْهَهُم مِنْ كَلامِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومَا فَعَلَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أَنَّهُ أَخَّرَ مَا كَانَ مُقَدَّمًا، وقَدّمَ مَا كَانَ مُؤخّرًا، وهو المُبْتَدأ النَّكِرَةُ، ثمّ عَرَّفَها حَتّى تَصِحَّ الجُمْلَةُ، فَكَلامُ النُّحاةِ هُنا تَطْبِيْقٌ لِتَأوِيلِ ابْنِ عَبّاسٍ، ولَيْسَ في هذا التَّوْجِيْهِ خِلافٌ، والسَّبَبُ في ذلِكَ أَنّهُ لا يُوجَدُ اخْتِلافٌ في التَّأْوِيلِ، فَتَأْوِيْلُ الجُمْلَةِ وَاحِدٌ، لا خِلافَ فِيْهِ عِنْدَ أَهْلِ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.
ولا يَتَّفِقُ التَّأويلُ الثّانِي مَع هذا القِرَاءَةِ للآيَةِ، وهي قراءَةُ رَفْعِ (غِشَاوةٍ)، وذلِكَ لأَنَّ تَأْوِيْلَ ابْنِ مِسْعُودٍ لَيْسَ بِرَفْعِ (غِشَاوَةٍ)، وإِنّما بِنَصْبِها، وهو مُعْتَمِدٌ في ذلِكَ عَلى قَوْلِهِ تَعَالى في سُورَةٍ أُخْرى: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً. (الجاثية:23)
ويَتَّفِقُ هذا التّأويلِ مَع قِرَاءةٍ أخْرى، وهي القِراءَةُ بِنَصْبِ: (غِشَاوَةٍ)، وكَأَنَّ هذا التَّأويلَ جَاءَ مُفَسِّرًا لِقِرَاءَةِ النَّصْبِ، فَأَخَذَ بِهِ النَّحَاةُ، وتَأَوَّلُوا الآيَةَ كَمَا تَأَوّلَها ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: "فَإنْ قَالَ قَائِلٌ: ومَا وَجْهُ مَخْرَجِ النَّصْبِ فِيْها؟ قِيْلَ لَهُ: إِنَّ نَصْبَها بِإضْمَارِ (جَعَلَ) كَأَنَّه قَالَ: وَجَعَلَ عَلى أَبْصَارِهِم غِشَاوَةً، ثُمَّ أَسْقَطَ (جَعَلَ)؛ إِذْ كَانَ في أَوّلِ الكَلامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْه".
وأَرَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ ذَهَبَ إِلى هذا التَّأويلِ مُوَافَقَةً لِقِرَاءَةِ النَّصْبِ، وهذا يُشِيْرُ إِلى أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ كَانُوا يُدْرِكُونَ أَنَّ تَغَيُّرَ الحَرَكَةِ عَلَى الكَلِمَةِ يَتْبَعُهُ تَغْيِيْرٌ في المَعْنى، ولِذلِكَ كَانَ لَهُم تَأْوِيْلٌ في حَالَةِ الرَّفْعِ، وآخَرُ في حَالَةِ النَّصْبِ.
وللنُّحاةِ تأويلٌ آخَرُ لِوَجْهِ النَّصْبِ، قَالَ الفارسِيُّ: "وأَمّا إِذا نَصَبَ، فلا يَخْلُو في نَصْبِها مِنْ أَنْ يَحْمِلَها عَلَى (خَتَمَ) هذا الظّاهِرِ، أَو عَلَى فِعْلٍ آخَرَ غَيْرَهُ، فَإِنْ قَالَ: أَحْمِلُها عَلَى الظّاهِرِ كَأَنِّي قُلْتُ: وخَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ غِشَاوَةً، أَيْ: بِغِشَاوَةٍ، فَلَمّا حَذَفَ الحَرْفَ وَصَلَ الفِعْلَ، ومَعْنى: خَتَمَ عَلَيْهِ بِغِشَاوَةٍ مِثْلُ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشَاوَةً."
وقَدْ جَاءَ هذا التَّأويلُ النَّحْوِيُّ مُوافِقًا لِتَأويلٍ آخَرَ عِنْدِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، وهو مَا نُقِلَ عَن سَعِيْدٍ المَقْبَرِيِّ، جَاءَ في تَفْسِيْرِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: "حَدَّثَنا عَلِيٌّ بنُ الحُسَيْنِ، ثَنَا مُحَمّدٌ بنُ المُثَنّى، ثَنَا مُحَمّدٌ بنُ جَهْضَمٍ، ثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ سَعِيْدٍ المَقْبَرِيِّ، قَالَ: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم بِالكُفْرِ."
والظّاهِرُ ممّا سَبَقَ أَنَّ كُلَّ تَأوِيْلٍ نَحْوِيٍّ كَانَ يُوَافِقُهُ تَأْوِيْلٌ عِنْدَ المُفَسِّرِيْنَ، فَتَوْجِيْهُ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ عِنْدَ النُّحَاةِ يُوَافِقُه تَأْوِيْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: (الغِشَاوَةُ عَلَى أَبْصَارِهِم)، وتَوْجِيْهُ قِرَاءَةِ النَّصْبِ عِنْدَ النُّحَاةِ مُتَعَدِّدٌ كَما أَنَّ تَأْويلَ المُفَسِّرِيْنَ مُتَعَدِّدٌ، فالّذي أَرَاهُ أَنَّ النُحَاةَ كَانُوا يَنْظُرُونَ تَأوِيْلاتِ مَنْ سَبَقَهُم، ثُمَّ يُوجّهُونَ الآيَةَ التَّوْجِيْهَ المُنَاسِبَ لِتَأويل المُفَسِّرِيْنَ.
2. العَطْفُ، ووَاوُ الصَّرْفِ:
قولُهُ تَعَالَى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة:42)
ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ في توجيه هذه الآية وَجْهين: الأوّل: مَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: "حَدَّثَنا عُثْمَانُ بنُ سَعِيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنا بِشْر بنُ عَمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: (وَتَكْتُمُوا الحَقَّ) يَقُولُ: ولا تَكْتُمُوا الحَقَّ وأَنْتُم تَعْلَمُونَ."
والوَجْهُ الثّانِي: مَذْهَبُ أبِي العَالِيَةِ ومُجَاهِدٍ، قال الطّبَرِيُّ: "حَدَّثَنا أَبُو جَعْفَرٍ عَن الرَّبِيْعِ عَن أَبِي العَالِيَةِ: (وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وأَنْتُم تَعْلَمُونَ)، قَالَ: كَتَمُوا بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،" وكذلكَ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ.
أمّا النُّحَاةُ فلهم في تَوْجِيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَكْتُمُوا رَأْيَانِ، هُما:
الأَوَّلُ: هو مَجْزُومٌ بِالعَطْفِ عَلَى (تَلْبِسُوا)، والمَعْنى أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ نَهى أَهْلَ الكِتَابِ والكَافِرِيْنَ عَنْ أَمْرَيْنِ: خَلْطِ الحَقِّ بِالبَاطِلِ، وكِتِمَانِ الحَقِّ، والحَقُّ هو صِفَةُ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم الوَارِدَةُ في التَّوْراةِ والإِنْجِيْلِ، كَما وَرَدَ في بَعْضِ الأَقْوَالِ، فالنَّهْيُ هُنا عَن الحَدثَيْنِ.
والثّانِي: النَّصْبُ، وفِيْهِ عِدَّةُ أَوْجُهٍ، هي:
الوَجْهُ الأَوّلُ: النَّصْبُ بِإِضْمَارِ (أَنْ)، والوَاوُ بِمَعْنى الجَمْعِ، والمَعْنى في هذا الرَّأيِ أَنَّ اللهَ جَلَّ وعَلا نَهَاهُم عَن الجَمْعِ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ: الخَلْطِ، والكِتْمَانِ، فَيَجُوزُ لأَحَدِهِم أَنْ يَقُومَ بِفِعْلٍ مِنْهُما، والتَّقْدِيْرُ: لا يَكُنْ مِنْكُم لَبْسُ الحَقِّ وكِتْمَانُهُ، وهذا رَأيُ البَصْرِيِّيْنَ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: "وهو عِنْدَ البَصْرِيِّيْنَ عَطْفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهّم،" وهو مُتَابَعَةٌ لِرَأْيِ سِيْبَوَيْه، قَالَ: "إِنْ ِشِئْتَ جَعَلْتَ (وتَكْتُمُوا) عَلَى النَّهْيِ، وإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ عَلَى الوَاوِ،" وهي عِنْدَه بِإِضْمَارِ (أَنْ).
والوَجْهُ الثّانِي: إِنَّ المَعْنى في حَالِ النَّصْبِ لَيْسَ الجَمْعَ، وإِنَّما هو إِخْبَارٌ عَن الكَافِرِيْنَ بِكِتْمَانِهِم الحَقَّ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: "وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ خَبَرًا مِنْهُ عَنْهُم بِكِتْمَانِهِم الحَقَّ الّذي يَعْلَمُونَهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: "وتَكْتُمُوا" حِيْنَئِذٍ مَنْصُوبًا لانْصِرَافِهِ عَنْ مَعْنى قَوْلِهِ: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِل؛ِ إِذْ كَانَ قَوْلُهُ: ولا تَلْبِسُوا نَهْيًا، وقَوْلُهُ: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ خَبَرًا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُعَادَ عَلَيْهِ مَا عَمِلَ في قَوْلِهِ: تَلْبِسُوا مِن الحَرْفِ الجَازِمِ، وذلكَ هو المَعْنى الّذي يُسَمِّيْه النَّحْوِيُّونَ صَرْفًا،" وهذا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الكُوفَةِ.
وقَدَّرَهُ ابْنُ شُقَيْرٍ بِقَوْلِهِ: "مَعْنَاهُ واللهُ أَعْلَمُ: وأَنْتُم تَكْتُمُونَ الحَقَّ"، ثُمَّ قَالَ: "فَلَمّا أَسْقَطَ أَنْتُم نَصَبَ،" وهذا تَفْسِيْرٌ لِرَأْيِ الكُوفِيِّيْنَ، والظّاهِرُ لِي أَنَّ الوَاوَ فِيْهِ لا تَدُلُّ عَلَى الجَمْعِ، وإِنْ كَانَتْ عَاطِفَةً، قَالَ الفَرّاءُ: "فَإِنْ قُلْتَ: وَمَا الصَّرْفُ؟ قُلْتُ: أَنْ تَأْتِيَ بِالوَاوِ مَعْطُوفَةً عَلَى كَلامٍ في أَوَّلِهِ حَادِثَةٌ لا يَسْتَقِيْمُ إِعَادَتُها عَلَى مَا عُطِفَ عَلَيْها، فَإِنْ كَانَ كَذلِكَ فهو الصَّرْفُ."
وقَدْ الْتَبَسَ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي فَهْمِ رَأْيِ الكُوفِيِّينَ، فَخَلَطُوا بَيْنَ الرَّأْيَيْنِ، ونَسَبُوا للكُوفِيّينَ القَوْلَ بِإِضْمَارِ (أَنْ) في مَفْهُومِهِم للصَّرْفِ، ولَيْسَ كَذلِك، قَالَ أبُو حَيَّانَ: "وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ: وهذه الوَاوُ وَنَحْوُها الَّتي يُسَمِّيْها الكُوفِيّونَ وَاوَ الصَّرْفِ؛ لأَنّ حَقِيْقَةَ وَاوِ الصّرْفِ الّتي يُرِيْدُونَها عَطْفُ فِعْلٍ عَلَى اسْمٍ مُقَدَّرٍ، فَيُقَدّرُ (أَنْ) لِيَكُونَ مَع الفِعْلِ بِتَأْوِيْلِ المَصْدَرِ، فَيَحْسُنَ عَطْفُه عَلَى الاسْمِ.انْتَهَى. ولَيْسَ قَوْلُهُ تَعْلِيْلاً لِقَوْلِهِم وَاوَ الصَّرْفِ، إِنَّما هو تَقْرِيْرٌ لِمَذْهَبِ البَصْرِيّيْنَ، وأَمّا الكُوفِيّونَ فَإِنَّ وَاوَ الصَّرْفِ نَاصِبَةٌ بِنَفْسِها، لا بِإِضْمَارِ (أَنْ) بَعْدَها."
ومِمّن خَلَطَ بَيْنَ الرَّأْيَيْنِ أَيْضًا البَاقُولِيُّ الأَصْفَهَانِيُّ، وتَاجُ الدّينِ الجَنَدِيُّ، قَالَ: "فَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّ الوَاوَ وَاوُ الصَّرْفِ، أَيْ: مَع الكِتْمانِ، وإِنَّمَا يَكُونُ ذلِكَ إِذا لَمْ يُرَد الاشْتِرَاكُ بَيْنَ الفِعْلِ والفِعْلِ، أَيْ: لا تَجْمَعُوا بَيْنَ لَبْسِ الحَقِّ بِالبَاطِلِ وبَيْنَ كَتْمِ الحَقِّ، فالمَنْهِيُّ عَنْهُ هو الجَمْعُ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ لا نَفْسَ الفِعْلِ،" فالرّأيُ للكُوفِيّيْنَ، والتَّقْدِيْرُ للبَصْرِيّيْن.
والوَجْهُ الثّالِثُ: يَرَى أبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، ومَكِيٌّ أَنَّ الفِعْلَ مَنْصُوبٌ لأَنَّهُ جَوَابُ النَّهْيِ، قَالَ: "تَكْتُموا مَنْصُوبٌ؛ لأَنَّهُ جَوَابُ النَّهْيِ، وحَذْفُ النُّونِ عَلَمُ النَّصْبِ،" ولَمْ يُوضّحا رَأيَهُما في الوَاوِ، كَما َلَمْ يُبَيِّنَا كَيْفَ يَكُونُ جَوَابًا للنَّهْيِ مَع وُجُودِ الوَاوِ.
هذا رَأْيُ النُّحَاةِ في هذه المَسْأَلَةِ، وأَرَى أَنَّ التَّنَوُّعَ في آرَائِهِم جَاءَ مُوَافِقًا لِتَفْسِيْرِ أَهْلِ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ في الوَجْهِ الأَوَّلِ، وهو الجَزْمُ: "فَأَمّا الوَجْهُ الأَوَّلُ مِنْ هذينِ الوَجْهَيْنِ اللَّذَينِ ذَكَرْنا أَنَّ الآيَةَ تَحْتَمِلُهُما فهو عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ عَبّاسٍ،" وقَالَ في الوَجْهِ الثّانِي: "وأَمّا الوَجْهُ الثّانِي مِنْهُما فهو عَلَى مَذْهَبِ أبِي العَالِيَةِ ومُجَاهِدٍ،" فَقَدْ جَاءَ الوَجْهَانِ النَّحْوِيّانِ مُتَّفِقَيْنِ مَع مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.
أَمّا مَا ذَكَرَه ابْنُ عَبّاسٍ فهو تَأوِيْلُ النّحاةِ نَفْسُهُ، لَفْظًا ومَعْنىً، وقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ قَوْلَه، فَقَالَ: "حَدَّثَنا عُثْمَانُ بنُ سَعِيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنا بِشْر بنُ عَمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَن الضَّحَّاكِ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ يَقُولُ: ولا تَكْتُمُوا الحَقَّ وأَنْتُم تَعْلَمُونَ."
وقَدْ وَرَدَ عِنْدَ الفَرّاءِ تَوْجِيْهٌ نَحْوِيٌّ مُعْتَمِدٌ عَلَى كَلامِ ابْنِ عَبّاسٍ والتَّفْسِيْرِ بِالقُرآنِ، قَالَ في تَوْجِيْهِ الجَزْمِ: "إِنْ شِئْتَ جَعلْتَ وَتَكْتُمُوا في مَوْضِعِ جَزْمٍ، تُرِيْدُ بِهِ: ولا تَلْبِسُوا الحَقَّ بالبَاطِلِ ولا تَكْتُمُوا الحَقَّ، فَتُلْقِي (لا) لِمَجِيئِها في أَوّلِ الكَلامِ، وفي قِرَاءَةِ أُبَيّ: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً، (البقرة: 41) فهذا دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ الجَزْمَ في قَوْلِهِ: (وتَكْتُمُوا الحَقَّ) مُسْتَقِيْمٌ صَوَابٌ، ومِثْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ، (البقرة: 188) وكَذلِكَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، (الأنفال:27)" وهذا يُشِيْرُ إِلى مَدَى تَأثِيْرِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ.
والمُلاحَظُ هُنا أَنَّ تَأْوِيلَ النُّحَاةِ هو تَأوِيْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وتَقْدِيْرُهُم تَقْدِيْرُهُ، والمَعْنى في الآَيَةِ عِنْدَ النُّحاةِ هو النَّهْيُ عَنْ كِتْمَانِ الحَقِّ، وكَذلِكَ المَعْنى عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ، والنَّهيُ هنا عَن الحَدَثَيْنِ: خَلْطِ الحَقِّ بِالباطِلِ، وكِتْمَانِ الحَقِّ.
وأَمّا مَا ذَكَرَهُ أبو العَالِيَةِ، ومُجَاهِدٌ فَهو يَتَّفِقُ مَع مَا ذَكَرَهُ الكُوفِيُّونَ، وهو القَوْلُ بالصَّرْفِ، ومَا نُقِلَ عَنْهُما قَدْ جَاءَ في قَوْلِ الطّبَرِيِّ: "حَدَّثَنا أَبُو جَعْفَرٍ عَن الرَّبِيْعِ عَن أَبِي العَالِيَةِ: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، قَالَ: كَتَمُوا بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،" وكذلكَ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ.
ويَقْصِدُ الطَّبَرِيُّ بِقَوْلِهِ: "وأَمّا الوَجْهُ الثّانِي مِنْهُما فهو عَلَى مَذْهَبِ أبِي العَالِيَةِ ومُجَاهِدٍ" أنَّ الوَجْهَ النَّحْوِيَّ وَافَقَ المَعْنى الّذي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو العَالِيَةِ ومُجَاهِدٌ، وهذا المَعْنى هو الإِخْبَارُ عَنْ كِتْمَانِهِم بَعْثَ مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يَتَّفِقُ مَع وَجْهِ الكُوفِيِّيْنَ، وهو القَوْلُ بالصَّرْفِ، وتَقْدِيْرُهُم للجُمْلَةِ يَحْمِلُ مَعْنى الإِخْبَارِ، وهو: وأَنْتُم تَكْتُمُونَ الحَقَّ.
وقَدْ قُرِئَ في الشَّوَاذِّ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ: "وتَكْتُمُونَ الحَقَّ،" وهذا مِمّا يَعْضُدُ قَوْلَ الكُوفِيّيْنَ، وتَقْدِيْرَ ابْنِ شُقَيْرٍ، قَالَ العُكْبُرِيُّ: "والوَجْهُ فِيْهِ أَنَّهُ جَعَلَ الوَاوَ للحَالِ وحَذَفَ المُبْتَدَأ، تَقْدِيْرُه: وأَنْتُم تَكْتُمُونَ الحَقَّ."
أَمّا رَأْيُ البَصْرِيِّينَ وهو القَوْلُ بِتَقْدِيْرِ (أَنْ) فالمَعْنى فِيْهِ غَيْرُ وَاضِحٍ؛ إِذْ يُفْهَمُ مِنْ رَأْيِ البَصْرِيّينَ أَنّ الوَاوَ في هذه الآيَةِ للجَمْعِ، فالنَّهْيُ في الآيَةِ -كَمَا فَهِمَهُ بَعْضُهُم- عَن الجَمْعِ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ، وهذا يَعْني جَوَازَ فِعْلِ أَحَدِهِما، وهذا أَمْرٌ تَرْفُضُهُ الشَّرِيْعَةُ، ومِمّن فَهِمُوا هذا الفَهْمَ القَوّاسُ المُوصِلِيُّ، وأَبُو حَيّانَ الأَنْدَلُسِيُّ، قَالَ في تَفْسِيْرِهَِ: "وَمَا جَوَّزُوهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ النَّهْيُ مُنْسَحِبًا عَلَى الجَمْعِ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ، كَمَا إِذَا قُلْتَ: لا تَأكُل السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ، مَعْناهُ النَّهْيُ عَن الجَمْعِ بَيْنَهُما، وَيَكُونُ بِالمَفْهُومِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الالْتِبَاسِ بِوَاحِدٍ مِنْهُما، وذلكَ مَنْهِيٌّ عَنْه؛ فَلِذلِكَ رُجِّحَ الجَزْمُ."
ويَرى ابْنُ يَعِيْشَ أَنَّهُ "يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْصُوبًا، ويَكُونُ النَّهْيُ عَن الجَمْعِ بَيْنَهُما، ويَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما مَنْهِيًّا عَنْهُ بِدَلِيْلٍ آخَرَ،" وذَكَرَ النِّيْلِيُّ وَجْهًا آخَرَ للنَّصْبِ، قَالَ: "وأَمّا تَجْوِيْزُهُم أَنْ يَكُونَ وَتَكْتُمُوا مَنْصُوبًا فَوَجْهُهُ أَنَّ بَعْدَهُ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، كَأَنَّ المَعْنى: لا يَجْتَمِعُ مِنْكُم لَبْسٌ وكِتْمَانٌ مَعْ عِلْمٍ؛ لأَنّ اللّبْسَ الّذي لا يَعْلَمُهُ الإنْسَانُ لا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ عَنْه."
يُلاحَظُ أَنَّ الآرَاءَ في هذه الآيَةِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ تَوَافَقَ مَعْ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ لَفْظًا ومَعْنىً، وهذا القِسْمُ تَوَافَقَ أَيْضًا مَع أَفْهامِ أَكْثَرِ النُّحَاةِ، فَكَانَ هو المُرَجّحَ عِنْدَهُم، وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّحَاةَ يَنْظُرُونَ إِلى أَنْ تُوَافِقَ تَأويلاتُهِم تَأْوِيلَ أَهْلِ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ مِن المُفَسّرِيْنَ، فهُم مَنْ سَبَقُوهُم في العِلْمِ بِأَسْرَارِ القُرآنِ العَظِيْمِ.
وقِسْمٌ لَمْ يَتَوَافَقْ مَع كَلامِ أَهْلِ التَّأْوِيْلِ، ولَمْ تَقْبَلْهُ أَفْهَامُ كَثِيْرٍ مِن النُّحاةِ، ثُمَّ إِنّ مِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إِلى تَوْجِيهِ رَاْيِ البَصْرِيّيْنَ تَوْجِيْهًا غَيْرَ سَدِيْدٍ، وأَرَى أَنّ الأخْذَ بِهذا الرَّأيِ عِنْدَ بَعْضِهِم لِكَوْنِه يَحْمِلُ اسْمَ سِيْبَوَيْهِ والبَصْرِيّيْن، ويُلاحَظُ هُنا أَنَّ الرَّأيَ الّذي لَمْ يَتَوَافَقْ مَع مَا ذَكَرَه أَهْلُ التَّأوِيْلِ كَانَ رَأْيًا يَحْتَاجُ إِلى تَأْوِيْلٍ وتَقْدِيْرٍ غَيَّرَ المَعْنى؛ ولِذلِكَ الْتَبَسَت آرَاءُ النُّحَاةِ في فَهْمِ هذا الرَّأْيِ وتَوْجِيْهِه.
3. حَذْفُ (أَنْ) والقَسَمُ:
قوله تعالـى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ. (البقرة: 83)
تَتَحَدّثُ هذه الآيَةُ الكَرِيْمَةُ عَنْ َبَنِي إِسْرَائِيلَ، والمِيْثَاقِ الَّذي أُخِذَ عَلَيْهِم وبُنُودِهِ، وهو كَمَا عَرَّفَهُ الرّاغِبُ عَقْدٌ مُؤَكّدٌ بِيَمِيْنٍ وعَهْدِ، وكَانَت الآياتُ الّتي قَبْلها قد تَحَدَّثت عن النِّعَمِ التي أَنْعَمَ اللهُ بِها عَلَى بَني إسْرَائِيلَ، ومَا قَطَعُوهُ عَلَى أَنْفُسِهم مِن العُهُودِ، قَالَ تَعَالى: يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، (البقرة: 40) وتَضمَّنَتْ هذه العُهُودُ الإيْمَانَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وإِقَامَ الصَّلاةِ، وإيْتَاءَ الزَّكَاةِ إلى غَيْرِ ذلك مِنْ أَمْرِ العلاقَةِ بَيْنَ العَبْدِ ورَبِّهِ، ثُمّ تَنَاوَلَت الآيَاتُ النِّعَمَ الّتي أَنْعَمَها عَلَيْهِم، وهي نَجَاتُهُم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وتَحَدّثت الآيَاتُ الّتي بَعْدَها عَنْ نَقْضِ اليَهُودِ للمِيْثَاقِ فَعَبَدُوا العِجْلَ، وتَرَكُوا عِبَادَةَ اللهِ، ثُمّ عَفا اللهُ عَنْهُم، وقَدْ أنعَمَ اللهُ عَلَيْهم بعد ذلك بِنِعَمٍ كَثِيْرَةٍ، ثُمّ خَانُوا العَهْدَ مَرَّةً أُخْرى، وأُخِذَ عَلَيْهِم المِيْثَاقُ باتّباعِ مَا جَاءَ في التَّوْرَاةِ، فَنَقَضُوا العَهْدَ والمِيْثَاقَ، وهكذا اسْتَمَرّ اليَهُودُ في نَقْضِ العُهُودِ والمَوَاثِيْق، وكانَ مِنْها هذا المِيْثَاقُ الّذي يَنُصُّ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَه، والإِحْسَانِ إِلى الوَالِدَيْنِ، وإِقَامِ الصَّلاةِ، وإيْتَاءِ الزَّكَاةِ.
وقد نقلَ الطّبَرِيُّ رأيًا لأبِي العَالِيَةِ في تفسير هذه الآية، قَالَ: "حَدّثَني المُثَنّى، قَالَ: ثَنا آدَمُ، قَالَ: ثَنا أَبُو جَعْفَرٍ عَن الرَّبِيْعِ عَن أَبِي العَالِيَةِ: أَخَذَ مَوَاثِيْقَهُم أَنْ يُخْلِصُوا لَهُ، وأَنْ لا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ،" ونَقَلَ الطّبَرِيُّ ذلِكَ عَن الرَّبِيْعِ مِنْ طَرِيْقٍ آخَرَ.
ومِمّا رَوَاهُ في تَفْسِيْرِ هذه الآيَةِ قَوْلُهُ: "حَدَّثَنا القَاسِمُ، قَالَ: ثَنا الحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَن ابْنِ جُرَيْجَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ، قَالَ: المِيْثَاقُ الّذي أُخِذَ عَلَيْهِم في المَائِدَةِ." وإِذا ذَهَبْنا إِلى سُورَةِ المَائِدَةِ نَجِدُ أَنَّ المِيْثَاقَ قَوْلٌ أَمَرَ اللهُ عِيسى عَلَيْهِ السّلامُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُم، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ. (المائدة:117)
ورَوَى الطَّبَرِيُّ أَيْضًا قَوْلاً آَخَرَ في هذه الآية، قَالَ: "حَدَّثَنِي بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ أَبِي مُحَمَّد عَنْ سَعِيْد بنِ جُبَيْرٍ، أَو عِكْرِمَةُ عَن ابنِ عَبّاسٍ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ مِيْثَاقُكُم لاَ تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ."
وللنُّحَاةِ في تَوْجِيْهِ قَوْلِهِ: لا تَعْبُدُونَ عِدّةُ آرَاءٍ، هي:
الأَوّلُ: يَرَى سِيْبَوَيْهِ أَنَّ كَلِمَةَ (مِيْثَاقٍ) في الآيَةِ تَقُومُ مَقَامَ القَسَمِ، وأَنَّ قَوْلَهُ: (لا تَعْبُدُونَ) جُمْلَةُ جَوَابِ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَهَا مِن الإِعْرَابِ، قَالَ في كِتَابِهِ: "واعْلَمْ أَنَّكَ إِذا أَخْبَرْتَ عَنْ غَيْرِكِ أَنَّه أَكَّدَ عَلَى نَفْسِه أَو عَلَى غَيْرِه فالفِعْلُ يَجْري مَجْراهُ حَيْثُ حَلَفْتَ أَنْتَ؛ وذلك قَولُكَ: أَقْسَمَ لَيَفْعَلَنَّ، واستَحْلَفَه لَيَفْعَلَنَّ، وحَلَفَ لَيَفْعَلنَّ ذلك، وأخَذَ عَلَيهِ لا يَفْعَلُ ذلكَ أَبَدًا، وذاكَ أَنَّهُ أَعْطاهُ مِنْ نَفْسِهِ في هذا المَوضِعِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَ أَنْتَ مِنْ نَفْسِكَ حِيْنَ حَلَفْتَ، كَأَنَّكَ قُلْتَ حِيْنَ قُلْتَ: أُقْسِمُ لَيَفْعَلَنَّ، وقَالَ: واللهِ لَيَفْعَلَنَّ، وحِيْنَ قُلْتَ: أَسْتَحْلِفُهُ لَيَفْعَلَنَّ، قَالَ لَهُ: واللهِ لَيَفْعَلَنَّ، ومِثْلُ ذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى جَدُّهُ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ، وَسَأَلْتُهُ: لِمَ لَمْ يَجُزْ: واللهِ تَفْعَلُ، يُرِيْدُونَ بِها مَعْنى سَتَفْعَلُ، فَقَالَ: مِنْ قِبَلِ أَنَّهُم وَضَعُوا تَفْعَلُ هاهنا مَحْذُوفَةً مِنْها (لا)، وإِنَّما تَجِيءُ في مَعْنى (لا أَفْعَلُ) فَكَرِهُوا أَنْ تَلْتَبِسَ إِحْدَاهُما بِالأُخْرى،" وأخَذَ بِهذا الرَّأيِ جُمْلَةٌ مِن النُّحَاةِ مِنْهُم الكِسَائِيُّ والمبرّد، والفَراء، وأَجْرَى ابْنُ مَالِكٍ جُمْلَةً مِن الأَلْفَاظِ مَجْرَى القَسَمِ، وذلكَ مِثْلُ: (نَشهَدُ)، و(خِفْتُ)، و(عَاهَدْتُ)، و(وَاثَقْتُ) وغَيْرَها من الألفاظِ.
الثّانِي: ذَكَرَ الأَخْفَشُ أَنَّ الفِعْلَ ارْتَفعَ بَعْدَ أَنْ حُذِفَ حَرْفُ النَّصْبِ، والتَّقْدِيْرُ عِنْدَه: أَنْ لا تَعْبُدُوا، والأخْفَشُ يَذْهَبُ هُنا إِلى أَنّ هذا أُسْلُوبُ نَفْيٍ، لا نَهْيٍ، فـ(لا) في الآيَةِ نَافِيَةٌ، أَمّا الفِعْلُ فالأَصْلُ أَنْ يَكُونَ بِحَذْفِ النُّونِ عَلَى تَقْدِيْرِ النَّصْبِ بِـ(أَنْ)، وفي الآيَةِ قِرَاءَةٌ شَاذّةٌ بِجَزْمِ الفِعْلِ: "لا تَعْبُدُوا،" وقَدْ دَفَعَت هذه القِرَاءَةُ كَثِيْرًا مِن النُّحَاةِ إِلى القَوْلِ إِنَّ هذا أُسْلُوبُ نَفْيٍ يَحْمِلُ مَعْنى النَّهْيِ، وقَدْ نُسِبَ إلى الأَخْفَشِ أَنّ الجُمْلَةَ في مَحَلّ نَصْبِ مَفْعُولٍ على إِسْقاطِ حَرْفِ الجرِّ، والتَّقْدِيرُ عِنْدَه: أَخَذَنا مِيْثاقَهُم بِأَنْ لا تَعْبُدُوا، أو عَلَى أَنْ لا تَعْبُدوا، ويَحْتَمِلُ عَلَى تَقْدِيْرِ الأَخْفَشِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الجُمْلَةِ النَّصْبَ عَلَى البَدَلِيَّةِ مِن المِيْثَاقِ، والتَّقْدِيْرُ: أَخَذْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ تَوْحِيْدَهُم.
الثّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الحَالِ، والتَّقْدِيْرُ: أَخَذْنا مِيْثاقَكُم غَيْرَ عَابِدِيْنَ إِلاّ اللهَ، ونُسِبَ هذا القَوْلُ إِلى قُطْرُبٍ، والمُبَرّدِ، وهو حَالٌ مِن المُضَافِ إِلَيْهِ في قَوْلِهِ: مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: "وهو لا يَجُوزُ عَلَى الصّحِيْحِ."
الرّابِعُ: أَنّ قَوْلَهُ: "لا تَعْبُدُونَ" مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وتَحْتَمِلُ هُنا أَنْ تَكُونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ للقَوْلِ، والتَّقْدِيْرُ: قُلْنَا لَهُم ذلِكَ.
الخَامِسُ: أَنْ يُقَدَّرَ (أَنْ) التَّفْسِيْرِيَّةُ، ويَكُونُ لا مَوْضِعَ إِعْرَابٍ للجُمْلَةِ.
هذه هي أَهَمُّ الآرَاءِ النَّحْوِيَّةِ في تَوْجِيْهِ قَوْلِهِ: لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ، وأَرَى أَنَّ رَأْيَ الأَخْفَشِ هو أَقْرَبُ الآرَاءِ إِلى المَعْنى، ولَمْ يُخَالِف القَوَاعَدَ النَّحْوِيَّةَ إِلاّ في إِضْمَارِ (أَنْ) عِنْدَ البَصْرِيِّيْنَ، فَحَذْفُ (أنْ) المَصْدرِيَّةِ لا يَنْقاسُ عَلَيْهِ عِنْدَهُم، فهو شَاذٌّ قَلِيلٌ خِلافًا للكُوفِيّيْنَ، وممّا يُؤَيِّدُ رَأْيَ الأَخْفَشِ أَنَّه قد جَاءَت (أَنْ) في آيَةٍ أُخْرى، فِيْها الأَلْفَاظُ نَفْسُها والمَعْنى، وهذا في قَوْلِه تَعَالَى: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ، (الأعراف:169) وهذا من تَفْسِيْرِ القُرآنِ بالقُرآنِ، وهو مِن التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.
وكَانَ رَأْيُ الأَخْفَشِ مُوَافَقًا لِمَا جَاءَ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيْلِ مِمّا رَوَاهُ الطّبَرِيُّ في جَامِعِ البَيَانِ، فَتَأْوِيْلُهُ للجُمْلَةِ هي تَأْوِيْلاتُهُم، والمَعْنى عِنْدَه هو المَعْنى الّذي أَرَادُوه، فقد وافق مَا رَوَاهُ الطّبَرِيُّ عَن أَبِي العَالِيَةِ، وهو قوله: "أَخَذَ مَوَاثِيْقَهُم أَنْ يُخْلِصُوا لَهُ، وأَنْ لا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ."
فيُلاحَظُ هنا أَنَّ تَأْوِيْلَ الأَخْفَشِ النَّحْوِيَّ لا يَخْتَلِفُ عَنْ تَأْوِيْلِ أَبِي العَالِيَةِ في شَيءٍ، وقَدْ ظَهَرَتْ (أَنْ) في تَأْوِيلهِما، وهذا حُجَّةٌ لَهُ، وأرى أَنَّ مَا يَرَاهُ الأخْفَشُ ها هُنا هو أَنَّ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةٌ تتَعَلَّقُ بِالأَخْذِ، وهذا مَا يُفْهَمُ مِن كَلامِ أَبِي العَالِيَةِ، فالتَّقْدِيْرُ: أَخَذَ مِنْهُم إِخْلاصَهُم للهِ وعَدَمِ عِبَادَتِهِم إِلاّ إِيّاهُ، فالظّاهِرُ أَنَّهُ قَدْ تَأَثَّرَ في رَأْيِهِ بِكَلامِ أَبِي العَالِيَةِ كَما تَأثّرَ بِآيَةِ الأَعْرَافِ: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ، (الأعراف:169) في تَقْدِيْرِ (أَنْ).
وما رَوَاهُ الطّبريّ من أقوالٍ أُخْرى في تفسير هذه الآيةِ سَاعَدَ عَلَى وُجُودِ التَّعَدُّدِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ، فالآرَاءُ الكَثِيْرَةُ في إِعْرَابِ الآيَةِ القُرآنِيةِ جَاءَت نَتِيْجَةً لِكَثْرَةِ آرَاءِ المُفَسِّرِيْنَ في دَلالَةِ الآيَةِ، وهؤلاء المُفسِّرُونَ مِن أَهْلِ التَّأْوِيْلِ كَانُوا أَقْرَبَ النّاسِ إِلى كِتَابِ اللهِ، سَواءٌ كَانَ القُرْبُ زَمانِيًّا مِنْ عَصْرِ التَّنْزِيْلِ، أَوْ فِكْرِيًّا، فابْنُ عَبّاسٍ وابنُ عُمرَ وابْنِ مسْعُودٍ وغَيْرُهُم مِن الصّحَابَةِ أَو التّابِعِيْنَ الّذينَ شَهِدَ لَهُم رَسُولُ اللهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّمَ بِالعِلْمِ، فتَفْسِيْرُهُم كَانَ الأَقْرَبَ إِلى الصَّوَابِ، وارْتِباطُ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ بِهذا التَّفْسِيْرِ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الرّابِطَةِ بَيْنَ النَّحْوِ والمَعْنى.
وما نقله الطّبري عن ابْنِ جُرَيْج يُفَسِّرُ قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إِلى أَنَّ قَوْلَهُ: لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلٍ مُقَدَّرٍ، فقولُ ابن جريج اعتمد على ما جاء في سُورَةِ المَائِدَةِ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، (المائدة:117) فإنَّ قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ متعلّقٌ بالقول.
وما نقلَه الطَّبَرِيُّ عن ابن عباس يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ حَمْلاً مُخْتَلِفًا، فَيُفْهَمُ مِنْ كَلامِ ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُرِيْدُ أَنْ يُخْبِرَهُم عن بُنُودِ هذا المِيْثَاقِ، فَقَوْلُهُ: لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ أَحَدُ بُنُودِهِ، وهذا المِيْثَاقُ يَتَكَوَّنُ مِنْ بُنُودٍ أُخْرَى، هي: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، (البقرة: 83) وكَأَنَّ ابْنَ عَبّاسٍ يُرِيْدَ تَفْسِيْرَ المِيْثَاقِ وذِكْرَ بُنُودِهِ، وأَرَى أَنَّ هذه الرّوَايَةَ تُفَسِّرُ لَنَا قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إِلى أَنّ هذه جُمْلَةٌ تَفْسِيْرِيَّةٌ، وقَدَّرَ (أَنْ) التَّفْسِيْرِيَّةَ.
ومِمّا يُؤَيِّدُ ذلكَ مَا نُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ في الدُّرِّ المَنْثُورِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: "أَخْرَجَ عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ في قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ، قَالَ: مِيْثَاقٌ أَخَذَهُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ، فاسْمَعُوا عَلَى مَا أُخِذَ مِيْثَاقُ القَوْمِ: لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً،" ولا أَرَاكَ تَفْهَمُ مِنْ هذا إِلاّ تَفْسِيْرًا للمِيْثَاقِ، وبَيَانًا لِبُنُودِه.
أَمّا قَوْلُ قُطْرُبٍ والمُبَرّدِ إِنّه في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الحَالِيَّةِ فهم يُقَدِّرُونَ في هذا الرّأيِ (أنْ) المَصْدَرِيَّةَ، وهذا مَا يَدْعَمُ رَأيَ الأَخْفَشِ في تَقْدِيْرِ (أَنْ) خِلافًا للبَصْرِيّيْنَ، أَمّا مَحَلُّ الجُمْلَةِ فَأَمْرٌ آخَرُ، فَمِنْهُم مَنْ يَفْهَمُ البَدَلِيَّةَ، ومنْهُم مَنْ يَرَى الحَالِيَّةَ، وهذا لا يَجُوزُ في الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو حَيَّان.
أَمّا رَأيُ سِيْبَوَيْهِ فَهو مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ دَلالَةَ (المِيْثَاقِ) هي دَلالَةُ القَسَمِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: "وقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي البَصْرَةِ يَقُولُ: مَعْنى قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ حِكَايَةٌ، كَأَنَّكَ قُلْتَ: اسْتَحْلَفْنَاهُم لا تَعْبُدُونَ، أَيْ: قُلْنا لَهُم: واللهِ لا تَعْبُدُونُ، وقَالُوا: واللهِ لا يَعْبُدُونَ،" وتَابَعَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وأَجْرَى جُمْلَةً من الأَلْفَاظِ مَجْرَى القَسَمِ، منها: (نَشهَدُ)، و(خِفْتُ)، و(عَاهَدْتُ)، و(وَاثَقْتُ).
ولَمْ أَجِدْ في جَامِعِ البَيانِ رِوَايَةً تَعْضُدُ رَأيَهُ في دَلالَةِ (المِيْثَاقِ)، ولِكنّي وَجَدْتُ رِوَايَةً عَن ابنِ عَبّاسٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّه جَعَلَ المِيْثَاقَ كالقَسَمِ، قَالَ في دَقَائِقِ التَّفْسِيْرِ: "قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ مِن السَّلَفِ: مَا بَعَثَ اللهُ نُبِيًّا إِلا أَخَذَ عَلَيْهِ المِيْثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمّدٌ وهو حَيٌّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ، ولَيَنْصُرنَّهُ، وأَمَرَه أَنْ يَأْخُذَ المِيْثاقَ عَلَى أُمَّتِه: لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وهم أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَيَنْصُرُنَّهُ."
ولا أَرَى أَنَّ كُلَّ (وَاثَقْتُ)، و(عَاهَدْتُ)، و(أَشْهَدُ)، و(خِفْتُ) تَقُومُ مَقَامَ القَسَمِ، والأَصْلُ في هذه الأفْعَالِ أَنْ تتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ بِحَرْفِ الجَرِّ فتَقُولُ: عَاهَدْتُ زَيْدًا عَلَى أنْ يَفْعَلَ كَذا، وكَذلكَ (وَاثَقْت)، و(أَشْهَدُ)، وأَمّا (خِفْتُ) فالأَصْلُ فِيْهِ أَنْ لا يَدُلَّ عَلَى قَسَمٍ، ولكنَّهُ يَخْرجُ هو وغَيْرُه من الأَفْعَالِ للدَّلالَةِ عَلَى أَغْرَاضٍ مُخْتلفَةٍ، ولا أَراكَ تَفهَمُ مَعْنى القَسَمِ أو غَيْرَهُ من المَعَانِي إِلاّ إِذا وُجِدَتْ قَرِيْنَةٌ تَدُلُّ على ذلك المَعْنى.
وأَرَى أَنَّ هُناكَ عَلاقَةً وثِيْقَةً بَيْنَ التّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ والوُجُوهِ الإِعْرَابِيَّةِ المُتَعَدّدَةِ، وكَأَنّ كُلَّ وَجْهٍ مِنها يُقَابِلُ وَجْهًا مِن وُجُوهِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ، وهذا يُشِيْرُ إِلى أَنَّ التَّفْسِيْرَ بِالمَأثُورِ كَانَ مَنارًا يَسْتَنِيْرُ بِهِ النُّحَاةُ في تَحْدِيْدِ الوَجْهِ النَّحْوِيِّ للآيَةِ الكَرِيْمَةِ، وهذا يُؤكّدُ ارْتِبَاطَ التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيّ بِالمَعْنى.
4. (مَا) المَوْصُولَةُ والنَّافِيَةُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. (البقرة: 102)
نَقَلَ الطَّبَرِيُّ في جَامِعِهِ خِلافًا بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيْلِ في دَلالَةِ (مَا) في قَوْلِهِ: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وقَدْ نَقَلَ لَهُم في ذلِكَ رأيََيْن، هُما:
الأَوّلُ: (مَا) اسْمٌ مَوْصُولٌ.
جَاءَتْ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ تَدُلُّ بِمَعْناها عَلَى أَنّ (مَا) اسْمٌ مَوْصُولٌ، وبَلَغَ مَجْمُوعُ رِوَاياتِ الطَّبَرِيِّ في هذا المَعْنى خَمْسُ رِوَايَاتٍ، مِنْها قَوْلُهُ: "حَدَّثَنِي المُثَنّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ صَالِحٍ, قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بنُ صَالِحٍ, عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَلْحَةَ, عَن ابنِ عَبّاسٍ قَوْلُهُ: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ قَالَ: التَّفْرِيْقُ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ."
فالمَعْنى الّذي أَشَارَ إِلِيْهِ نَصُّ ابنِ عَبّاسٍ هو مَعْنى المَوْصُولِ، فالتَّقْدِيْرُ: الّذي أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ التَّفْرِيْقُ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ، وهذا مَا جَاءَ في النُّصُوصِ الأُخْرى، حَيْثُ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ (الّذي)، وإِنّما المَوْجُودُ هُو مَعْناهُ، قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيّ في مَعْنى الآيَةِ عَلَى هذا التّأْوِيْلِ: "واتَّبَعَت اليَهُودُ الَّذي تَلَتْ الشَّيَاطِيْنُ فِي مُلْكِ سُلَيْمانَ الَّذي أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ ومَارُوتَ، وهُمَا مَلَكَانِ مِنْ مَلائِكَةِ اللهِ."
الثّانِي: (مَا) حَرْفُ نَفْيٍ.
وقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيْلِ في هذا المَعْنى رَوَايَتَيْن، هما:
الأُولى: قَوْلُهُ: "حَدَّثَنِي مُحَمّدُ بنُ سَعْدٍ, قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي, قَالَ: حَدّثَنِي عَمّي, قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي, عَنْ أَبِيْهِ, عَن ابنِ عَبّاسٍ قَوْلُهُ: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَمْ يُنَزِّل اللهُ السِّحْرَ."
الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: "حَدَّثَنا ابنُ حُمَيْدٍ, قَالَ: حَدَّثَنِي حَكَامٌ عَن أَبِي جَعْفَرٍ, عَن الرَّبِيْعِ بنِ أَنَسٍ: "وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ" قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِما السِّحْرَ."
والمَعْنى عَلَى هذا التَّأْوِيْلِ أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَنْزَلَ سِحْرًا عَلَى المَلَكَيْنِ، قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ: "واتَّبَعُوا الَّذي تَتْلُوا الشَّيَاطِيْنُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ مِن السِّحْرِ, ومَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ، ولا أَنْزَلَ اللهُ السِّحْرَ عَلَى المَلَكَيْنِ، ولكنّ الشَّيَاطِيْنَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ ومَارُوتَ."
ولَمْ يَكُنْ عِنْدَ النُّحَاةِ غَيْرُ هذين الرَّأْيَيْنِ؛ وذلِكَ لأَنَّ هذين المَعْنَيَيْنِ هُما المُتَبَادَرَانِ إِلى الذِّهْنِ، فَلَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبالِهِم أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، أَو اسْتِفْهامِيَّةً؛ لأَنَّ مُقْتَضى هذين المَعْنَيَيْنِ غَيْرُ موجُودٍ في الآيَةِ، ومقْتَضاهُما هو مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الآيَةُ منْ مَعْنىً.
والمُلاحَظُ أَنَّ رِوَايَةَ النَّفْيِ أَقَلُّ منْ رِوَايَةِ الاسْمِ المَوْصُولِ، وقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ ذلِكَ عَلَى النُّحَاةِ والمُفَسّرِينَ، فجُمْهُورُهُم أَخَذَ بِرِوَايَةِ الاسْمِ المَوْصُولِ، وهي الأَكْثَرُ رِوَايَةً، أَمّا رِوَايَةُ النَّفْيِ فلَمْ يَأْخُذْ بِها إِلاّ القَلِيْلُ، وهذا يُشِيْرُ إِلى وُجُودِ تَنَاسُبٍ بَيْنَ كَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ والآخِذِيْنَ بِها.
وقَد أَخَذَ بِرِوَايَةِ الاسْمِ المَوْصُولِ الزَّجّاجُ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، والبَغَوِيُّ، والعُكْبُرِيُّ، ومَكِّيٌّ، وابْنُ هِشَامٍ، واخْتَلَفُوا في مَوْقِعِ الاسْمِ المَوْصُولِ، فَمِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إِلى أَنَّ مَحَلَّها النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى (السِّحْرِ)، والتَّقْدِيْرُ: يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ والّذي أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ، ومِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إِلى أَنَّ مَحَلَّها النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى مَا تَتْلُوا والتَّقْدِيْرُ: واتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشّياطِيْنُ ومَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ، ومِنْهُم مَنْ رَأى أَنّ مَحَلّها الجَرُّ عَطْفًا عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، والتَّقْدِيْرُ: مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِيْنُ افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وعَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ، وهو اخْتِيارُ أَبِي مُسْلِمٍ الخُرَاسَانِيِّ.
أَمّا الرَّأْيُ الآخَرُ فلَمْ يَأْخُذْ بِهِ إِلاّ القَلِيْلُ، وذلِكَ يَعُودُ لِقِلَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ فِيْهِ، لأَنَّ المَعْنى فِيْه غَرِيْبٌ، قَالَ السَّمْعَانِيّ فِيْهِ: "وهذا قَوْلٌ غَرِيْبٌ،" وقَدْ ذَكَرَهُ كَثِيْرٌ مِن النُّحَاةِ في كُتُبِهِم، ولَمْ يَأْخُذُوا بِهِ، وأَخَذَ بِهِ القُرْطُبِيُّ، قَالَ: "(مَا) نَفْيٌ، والوَاوُ للعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وذلكَ أَنّ اليَهُودَ قَالُوا: إِنّ اللهَ أَنْزَلَ جِبْرِيْلَ ومِيْكَائِيْلَ بالسِّحْرِ، فنَفَى اللهُ ذلكَ."
ومِمّا يَدُلُّ عَلَى تَأَثُّرِ النُّحَاةِ بِأَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ أَنَّ الزَّجّاجَ نَقَلَ أَقْوَالَهُم في هذا المَوْضِعَ، وقَامَ بِدِرَاسَتِها، واخْتَارَ رَأْيًا مِنْها، ثُمّ صَرَّحَ بِضَرُورَةِ الأَخْذِ بِالمَعْنى والتَّفْسِيْرِ، وبَيَّنَ علّةَ ذلِكَ، قَالَ: "وإِنَّما نَذْكُرُ مَع الإِعْرَابِ المَعْنى والتَّفْسِيْرَ؛ لأَنَّ كِتَابَ اللهِ ينْبَغي أَنْ يَتَبَيَّنَ، أَلا تَرَى أَنّ اللهَ يَقُولُ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، (محمّد:24) فَحُضِضْنا عَلَى التَّدَبُّرِ والنَّظَرِ، ولكن لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلّمَ إِلاّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ اللّغَةِ، أَو مَا يُوافِقُ نَقَلَةَ أَهْلِ العِلْمِ" فهذا تَصْرِيْحٌ مِن الزَّجَاجِ بِضَرُورَةِ الأَخْذِ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيْر.
5. (مَا) التَّعجُّبِيّة والاسْتِفْهامِيّة:
قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ. (البقرة: 175)
نَقَلَ لَنَا الطَّبَرِيُّ في تَفْسِيْرِ (مَا) في قَوْلِهِ: "فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ،" دَلالَتَيْن، هما:
الأولى: الاسْتِفْهَامُ، ونَقَلَ لَنَا للدّلالَةِ عَلى ذلِكَ عِدَّةَ أَقْوَالٍ، قَالَ: "حَدَّثَنِي مُوسَى بنُ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا عَمْروٌ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَن السّديِّ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ هذا عَلَى وَجْهِ الاسْتِفْهامِ، يَقُولُ: مَا الّذي أَصْبَرَهُم عَلَى النّارِ.
حَدَّثَنِي عَبّاسُ بنُ مُحَمّدٍ، قَالَ: ثَنَا حَجّاجٌ الأعْوَرُ، قَالَ: أَخْبَرَنا ابنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءٌ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، قَالَ: مَا يُصَبِّرُهُم عَلَى النّارِ حِيْنَ تَرَكُوا الحَقَّ واتَّبَعُوا البَاطِلَ.
حَدَّثَنا أَبُوكُرَيبٍ، قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ بن عَيّاشٍ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، قَالَ: هذا اسْتِفْهَامٌ، وَلَو كَانَتْ مِن الصّبْرِ قَالَ: فَمَا أَصْبَرُهُم رَفْعًا، قَالَ: يُقَالُ للرَّجُلِ: مَا أَصْبَرَكَ؟ مَا الّذي فَعَلَ بِكَ هذا.
حَدَّثَني يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنا ابنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابنُ زَيْدٍ في قَوْلِهِ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، قَالَ: هذا اسْتِفْهَامٌ، يَقُولُ: مَا هذا الّذي صَبَّرَهُم عَلَى النّارِ حَتّى جَرَّأَهُم فَعَمِلُوا بِهذا."
الثّانِيَةُ: التَّعَجُّبُ، ونَقَلَ لَنَا في هذا المَعْنى قَولاً عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: "حَدَّثَنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيْعٍ, قَالَ: حَدَّثَنا أَبِي, عَن ابنِ عُيَيْنَةَ, عَنْ ابنِ أَبِي نُجَيْحٍ, عَن مُجَاهِدٍ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، قَالَ: مَا أَعْمَلَهُم بِأَعْمَالِ أَهْلِ النّار" ثُمّ قَالَ: "وهو قَوْلُ الحَسَنِ وقَتَادَةَ."
يُلاحَظُ في هذين القَوْلَيْنِ أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ شَارَكُوا في التَّوْجِيْهِ النّحْوِيِّ، وهذا وَاضِحٌ في قَوْلِ الأَوّلِ: "هذا عَلَى وَجْهِ الاسْتِفْهامِ"، وقَوْلِ الآخَرِ: "هذا اسْتِفْهَامٌ"، ثُمَّ إِنَّ تَفْسِيْرَهُم لِوَجْهِ الاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِ أَحَدِهِمِ: "مَا هذا الّذي صَبَّرَهُم عَلَى النّارِ" تَوْجِيْهٌ نَحْوِيٌّ، فَأَهْلُ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ قَدْ شَارَكُوا في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ، ولا غَرَابَةَ في ذلِكَ؛ لأَنَّهُم قَدْ عَاشُوا في بِدَايَاتِ جَمْعِ اللّغَةِ والتَّدْوِيْنِ والتَّقْعِيْدِ النَّحْوِيِّ.
وهذان الرَّأيانِ هُما أَبْرَزُ الآرَاءِ النَّحْوِيَّة في هذه الآيَةِ، وأَخَذَ بالقَوْلِ إِنَّه اسْتِفْهَامٌ أَبُو عُبَيْدَةَ مُعَمّرُ بنُ المُثَنّى، والكِسَائِيُّ، والفَرّاءُ، والمُبَرّدُ، ونُسِبَ إِلى ابنِ عَبّاسٍ، وابْنِ زَيْدٍ، وعَطَاءٍ، والسّديِّ، وأبُو بَكْر بنِ عَيّاشٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، وأَمّا القَوْلُ إِنَّهُ تَعَجُّبٌ فَأَخَذَ بِهِ سِيْبَوَيْه، والزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، والعُكْبُرِيُّ، ونُسِبَ إِلى قَتَادَةَ، والحَسَنِ، وابنِ جُبَيْرٍ، والرَّبِيْعِ، ومُجَاهِدٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.
وفي المَسْأَلَةِ آَرَاءٌ نَحْوِيَّةٌ أُخْرى، فَقَد يُفْهَمُ مِن كَلامِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنّها مَوْصُولَةٌ لا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، فهو قَدْ صَرَّحَ بِمَوْصُولِيَّتِها في قَوْلِهِ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (مَا) في هذا المَوْضِعِ في مَعْنى الّذي، فَمَجَازُها: مَا الّذي صَبَّرَهُم عَلَى النّارِ، وَدَعَاهُمْ إِلَيْها، ولَيْسَ بِتَعَجُّبٍ،" ولَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَنْسِبُ إِلَيْه ذلك، إِلاّ أَنّ أَحَدَ المُفَسِّرِيْنَ ذَكَرَ أَنَّهُ قِيْلَ: إِنّها مَوْصُولَةٌ، ونُسِبَ هذا الرَّأيُ إلى الأَخْفَشِ.
وقِيْلَ: هي نَافِيَةٌ، ويُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ هذا مِمّا نُقِلَ عَن الحَسَنِ البَصْرِيِّ، قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ: "حَدَّثَنِي المُثَنّى, قَالَ: حَدَّثَنا عَمْرو بنُ عَوْنٍ, قَالَ: حَدَّثَنا هُشَيْـمٌ, عَن بِشْرٍ, عَن الحَسَنِ في قَوْلِهِ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ قَالَ: واللهِ مَا لَهُم عَلَيْها مِنْ صَبْرٍ, ولكَن مَا أَجْرَأَهُم عَلَـى النَّارِ،" فيُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِن هذا القَوْلِ أَمْرَانِ: يُفْهَمُ النَّفْيُ مِن الجُزْءِ الأَوّلِ مِن كَلامِهِ، ويُفْهَمُ التَّعَجُّبُ وتَفْسِيْرُ الصَّبْرِ مِن الجُزْءِ الثّانِي.
وقيل: هي مَوْصُوفَةٌ بِمَا بَعْدَها والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، قَالَ أَبُو السُّعُودِ: "أَيْ: الّذي أَصْبَرَهُم عَلَى النَّار أو شَيءٌ أصْبَرَهُم عَلَى النّارِ أَمْرٌ عَجِيْبٌ فَظِيْعٌ."
هذه هي الآرَاءُ النَّحْوِيَّةُ في هذه المَسْأَلَةِ، وأَقْوَالُ المُفَسِّرِيْنَ فِيْها، ولا يُعَوّلُ فيها إِلاّ عَلَى الرَّأْيَيْنِ الأَوْلِ والثّانِي، ويَظْهَرُ فِيْهِما مَدَى العَلاقَةِ بَيْنَ تَوْجِيْهَاتِ النُّحَاةِ وأَقْوالِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، فَهيَ تَرْجَمَةٌ لأَقْوَالِهِم، إِضَافَةً إِلى أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ كَانُوا مُعَاصِرِيْنَ لِوضْعِ اللَّبِنَاتِ الأُولَى للنَّحْوِ، فَلَيْسَ عَجِيْبًا أَنْ تَكُونَ لَهُم مُشَارَكَةٌ في وَضْعِ هذه اللّبِنَاتِ.
6. البَدَل والعَطْف:
قوله تعالـى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. (البقرة: 217)
يُمْكِنُ النَّظَرُ في أَثَرِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ إِلى أَكْثَرِ مِنْ مَوْضِعٍ في هذه الآيَةِ الكَرِيْمَةِ، وسَأَتَنَاوَلُ مِنْها مَوْضِعَيْنِ، هُما:
الأَوّلُ: تَوْجِيْهُ قَوْلِه: "قِتَالٍ فِيْهِ."
رَوَى لَنا الطّبَرِيُّ في جَامِعِهِ تَفْسِيْرًا لِقَوْلِهِ: قِتَالٍ فِيهِ قَالَ: "وقَدْ حَدَّثْتُ عَنْ عَمّارِ بنِ الحَسَنِ، قَالَ: ثَنَا ابنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيْهِ عَن الرّبِيْعِ قَوْلُهُ: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، قَالَ: يَقُولُ: يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِيْهِ،" وجَاءَ ذلِكَ في قِرَاءَةِ ابنِ مَسْعُودٍ، قَالَ في الدّرّ المَنْثُور: "وأَخْرَجَ ابنُ أَبِي دَاوُدَ في المَصَاحِفِ عَن الأَعْمَشِ، قَالَ: في قِرَاءَةِ عَبْدِ الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الْحَرَامِ عن قِتَالٍ فِيهِ."
ورَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ذلِكَ عن عُرْوةَ بن الزُّبَيْرِ، قَالَ: "حَدَّثَنا مُحَمّدُ بنُ العَبّاسِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرو زُنَيْج، ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ مُحَمّدُ بنُ إسْحاقَ فِيْما حَدَّثَنِي يَزِيْدُ بنُ رُومَانَ، والزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، أَيْ: عَنْ قِتَالٍ فِيْهِ، وَرُويَ عَنْ عِكْرِمَةَ والرَّبِيْعِ بنِ أَنَسِ نَحْوُ ذلكَ."
يُلاحَظُ في هذه الرِّوَايَةِ، وقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنّ المَقْصُودَ مِن السُّؤَالِ هو القِتَالُ لا الشَّهْرُ، ولَمْ يَخْتَلِف النُّحَاةُ عن المفسِّرِيْنَ في هذه الرُّؤيَةِ، قَالَ ابْنُ شُقَيْرِ في تَوْجِيْهِهِ للآيَةِ: "كَأَنَّهُ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ عَن الشَّهْرِ الحَرَامِ عَنْ قِتَالٍ فِيْهِ،" فالتَّأوِيْلُ النَّحْوِيُّ لِهذه الآيَةِ عِنْدَ ابْنِ شُقَيْرِ لا يَخْتَلِفُ عَن تَأْوِيْلِ الرَّبِيْع، وقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، والمَعْنى عِنْدَ النُّحَاةِ هو المَعْنى الّّذي قَصَدُوهُ مِن أَنَّ السُّؤالَ عَن القِتَالِ، قَالَ المُبَرّدُ: "لأَنَّ المَسْأَلَةَ وَقَعَت عَن القِتَالِ،" وقالَ ابنُ السَّرَاجِ: "لأَنَّ المَسْأَلَةَ في المَعْنَى عَن القِتَالِ في الشَّهْرِ الحَرَامِ."
وللنُّحَاةِ في إِعْرَابِهِ رَأْيَانِ:
أَوّلُها: الجَرُّ عَلَى البَدَلِيَّةِ، وقِيْلَ: هو مَخْفُوضُ عَلَى تَكْرِيْرِ العَامِلِ، وهو (عَنْ)، وهذا رَأْيُ الكُوفِيِّيْنَ، ولَيْسَ هذان رَأْيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إِنّما هُما رَأْيٌ وَاحِدٌ، وذلك لأَنَّ البَدَلَ عِنْدَهُم عَلَى نِيَّةِ تَكْرِيْرِ العَامِلِ، قَالَ أَبُو حَيّانَ: "لا فَرْقَ بَيْنَ هذه الأَقْوَالِ، هِيَ كُلُّها تَرْجِعُ لِمَعْنًى وَاحِدٍ."
وهذا الرّأيُ هو مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ عَيْنُهُ، فالتَّقْدِيْرُ عِنْدَ الكُوفِيّيْنَ: يَسْأَلُونَكَ عن الشَّهْرِ الحَرَامِ عَن قِتَالٍ، وهذا مَا جَاءَ في تَفْسِيْرِهِم وقِرَاءَتِهِم، وقَدْ جَاءَ عَنْ علماء البَصْرَةِ أَنَّ المَقْصُودَ بِالسُّؤَالِ هو القِتَالُ، فيَكُونُ الرَّأيَانِ مَتَّفِقَيْنِ في المَعْنى.
وثَانِيْها الجَرُّ عَلَى الجِوَارِ، وهو رَأيُ أَبِي عُبَيْدَةَ مُعَمّر بن المُثَنّى، قَالَ: "مَجْرُورٌ بِالجِوَارِ لِمَا كَانَ بَعْدهُ،" قَالَ النّحّاس: "لا يَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ شَيءٌ عَلَى الجِوَارِ في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، ولا في شَيءٍ مِن الكَلامِ، وإِنّما الجِوَارُ غَلَطٌ، وإِنّما وَقَعَ في شَيءٍ شَاذٍّ، وهو قَوْلِهُم: "هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ."
الثّانِي: تَوْجِيْهُ قَوْلِه: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
رَوَى الطَّبَرِيُّ لأَهْلِ التَّأْوِيْلِ في تَفْسِيْرِ هذا الموضع قولين هما:
الأوّلُ: قَالَ الطَّبَرِيُّ: "حَدَّثَنا القَاسِمُ, قَالَ: حَدَّثَنا الحُسَيْنُ, قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ, عَن ابْنِ جُرَيْجٍ, قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ: يَُقولُ: صَدٌّ عَن المَسْجِدِ الحَرَامِ وإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ, فَكُلُّ هذا أَكْبَرُ مِنْ قَتْلِ ابْنِ الحَضْرَمِيِّ, والفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِن القَتْلِ كُفْرٌ بِاللهِ وعِبَادَةُ الأَوْثَانِ أَكْبَرُ مِنْ هذا كُلِّهِ،" وهذا تَوْجِيْهُ ابْنِ عَبّاسٍ أَيْضًا؛ إِذ قَالَ في تَوْجِيْهِ النَّصِّ: "وصَدُّ النَّاسِ عن المَسْجِدِ الحَرَامِ."
الثّانِي: قَالَ: "حَدَّثْتُ عَن الحُسَيْنِ بنِ الفَرَجِ, قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الفَضْلَ بنَ خَالِدٍ, قَالَ: أَخْبَرَنا عُبَيْدُ بنُ سُلَيْمانَ البَاهِلِيِّ, قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بنَ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلُوا ابْنَ الحَضْرَمِيِّ فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ, فَعَيَّرَ المُشْرِكُونَ المُسْلِمِيْنَ بِذلِكَ, فَقَالَ اللهُ: قِتَالٌ فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ كَبِيْرٌ, وأَكْبَرُ مِنْ ذلك صَدٌّ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ وكُفْرٌ بِهِ, وإِخْرَاجُ أَهْلِ المَسْجِدِ الحَرَامِ مِن المَسْجِدِ الحَرَامِ."
يُفْهَمُ مِنْ النّصِّ الأوّل أَنَّ (المَسْجِدَ) مُتَعَلِّقٌ بـ(صَدٌّ)، فالصَّدُّ في الآيَةِ وقَعَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ وعَنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ، فالمَسْجِدُ الحَرَامُ في هذا التَّأوِيْلِ مَعْطُوفٌ عَلَى (سَبِيْلِ اللهِ)، وهذا رَأْيُ الأَخْفَشِ، قَالَ في مَعَانِيْهِ: "وصَدٌّ عَن المَسْجِدِ الحَرَامِ"، وأَخَذَ بِهذا الرّأيِ النَّحَاسُ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، وأَرَى أَنَّ تَأْوِيْلَ الأَخْفَشِ لا يَخْتَلِفُ عَن تَأْوِيْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ومُجَاهدٍ، ولا يَخْتَلِفُ أَيْضًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، (الفتح: 25) وهذه آيَةٌ تُؤكِّدُ تَوْجِيْهَ الأَخْفَشِ لِقَوْلِهِ: (المَسْجِدِ الحَرَامِ)، وهم قد اسْتَدَلُّوا بِهذه الآيَةِ في تَوْجِيهِ هذا الرَّأيِ، وهذا يَدُلُّ عَلى تَأثُّرِهِم بالتّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.
ورَدَّ العُكْبُريُّ، وأبُو حيّانَ، والسّمِيْنُ الحَلَبِيُّ هذا التَّوْجِيْهَ مُعْتَمِدِيْنَ عَلَى قَوَاعِدَ نَحْوَيَّةٍ، ولَمْ يَعْتَمِدُا فيها عَلَى المَعْنى، قَالَ في التّبْيَانِ: "وهذا لا يَجُوزُ؛ لأَنَّه مَعْمُولُ المَصْدَرِ، والعَطْفُ بِقَوْلِهِ: (وكُفْرٌ بِه) يَفْرُقُ بَيْنَ الصِّلَةِ والمَوْصُولِ،" فالمَانِعُ عِنْدَهُم قَاعِدَةٌ تَقُولُ: لا يَجُوزُ الفَصْلُ بَيْنَ الصِّلَةِ والمَوْصُولِ، فَجَعَلُوا العَلاقَةَ بَيْنَ المَصْدَرِ ومَعْمُولِهِ كَالعَلاقَةِ بَيْنِ (الّذي) ومَوْصُولِه.
أمّا القولُ الثّاني فأَرَى أَنَّه تَفْسِيْرٌ للتَّأْوِيْلِ السّابِقِ، إِذْ كَانَ كُفّارُ قُرَيْشٍ يُخْرِجُونَ أَهْلَ المَسْجِدِ الحَرَامِ مِن المُسْلِمِيْنَ، وهذا هو الصَدُّ عَن المَسْجِدِ الحَرَامِ، وهذا التَّأوِيْلُ يَتَّفِقُ مَع قَوْلِ الزّجّاجِ في تَفْسِيْرِهِ؛ إِذْ يَقُولُ: "والمَعْنى: وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وكُفْرٌ به وإِخْراجُ أَهْلِ المَسْجِدِ الحَرامِ منه،" فَإخْراجُ المُسْلِمِيْنَ من المَسْجِدِ صَدٌّ عن المَسْجِدِ، وعَنْ سَبِيْلِ اللهِ.
ورَوَى الطَّبَرِيُّ وغَيْرُه في مُنَاسَبَة الآيَةِ رِوَايَةً أُخْرى عَن ابْنِ عَبّاسٍ تُؤكّدُ هذا المَعْنى، فالمُشْرِكُونَ قَامُوا بِصَدِّ رَسُولِ اللهِ ورَدِّهِ عَن المَسْجِدِ الحَرَامِ في الشَّهْرِ الحَرَامِ أَوّلاً، ثُمَّ فَتَحَ اللهُ عَلى نَبِيِّه في العَامِ الّذي يَلِيْهِ في الشَّهْرِ الحَرَامِ، فَعَيَّرَ المُشْرِكُونَ المُسْلِمِيْنَ بِقِتَالِهِم في الشَّهْرِ الحَرَامِ، فَنَزَلَت الآيَةُ، قَالَ الطّبَرِيُّ: "حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، قَالَ: ثَنَا عَمِّي، قَالَ: ثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيْهِ عَن ابْنِ عَبّاسٍ، قَوْلُهُ: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وذلكَ أَنّ المُشْرِكِيْنَ صَدُّوا رَسُولَ اللهِ، وَرَدُّوهُ عَنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ في شَهْرٍ حَرَامٍ، فَفَتَحَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ في شَهْرٍ حَرَامٍ مِن العَامِ المُقْبِلِ، فَعَابَ المُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ القِتَالَ في شَهْرٍ حَرَامٍ فَقَالَ اللهُ جَلَّ وعَزَّ: وَصَدّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ مِن القَتْلِ فيهِ."
وفي تَوْجِيْهِ هذا الموْضِعِ آرَاءٌ نَحْوِيَّةٌ أُخْرَى لَمْ أَجِدْ لَها دَلِيْلاً مِن الرِّوَايَاتِ عِنْدَ أَهْلِ التّفْسِيْرِ، ولَمْ يَقْبَلْها المَعْنى الّذي تُشِيْرُ إِلَيْهِ الآيَاتِ، وأَرَى أَنَّ المَعَانِي الّتي تَقْبَلُها الآي قَدْ جَاءَتْ في تَوْجِيْهاتِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بالمَأثُورِ، ثُمّ اطّلَعَ عَلَيْها عُلَماءُ النَّحْوِ، واسْتَفَادُوا مِنْها في تَوْجِيْهِ الآيَاتِ تَوْجِيْهًا نَحْوِيًّا، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ النُّحَاةِ رَأَى أَنْ يَسِيْرَ مَعْتَمِدًا عَلَى القَاعِدِةِ النَّحْوِيَّةِ بَعِيْدًا عَنْ تَوْجِيْهَاتِ أَهْلِ التّفْسِيْرِ، فَرَفَضَهُ المَعْنى، والمَقْصُودُ هنا أَنَّ أَيَّ تَوْجِيْهٍ نَحْوِيٍّ اعْتَمَدَ فِيْهِ عَلَى القَاعِدَة النَّحْوِيَّةِ دُونَ المَعْنى تَوْجِيْهٌ مَرْفُوضٌ.
مِنْ هذه الآرَاءِ رَأْيٌ للعُكْبُرِيِّ حَاوَلَ فِيْهِ أَنْ يَهْرُبَ مِنْ المَحْظُورِ، وهو الفَصْلُ بَيْنَ الصّلَةِ والمَوْصُولِ المَوْجُودُ في الرَّأيِ السّابِقِ، فَرَأَى تَقْديرَ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيه: (وصَدٌّ) المَصدَرُ، تَقْدِيْرُهُ: ويَصُدّونَ عن المَسْجِدِ، فهذا هُرُوبٌ مِن المَحْظور المَوْجُودِ في الرّأيِ السّابِقِ، إِذ المَعْنى هو هو، فهاهنا يَلْجَأ إلى التّقدير حتّى يَبْتَعِدَ عن مَحْظورِ القَواعِدِ النّحْويّةِ، قالَ السّمينُ الحَلبي في رَدّه "وهذا غيرُ جَيّدٍ؛ لأَنّه يَلْزَمُ منه حَذْفُ حَرْفِ الجَرِّ وإبقاءُ عَمَلِه، ولا يجوزُ ذلك."
ومِنْها رَأْيٌ للفَرّاءِ، قَالَ في مَعَانِيْهِ: "والمَسْجِدُ الحَرَامُ مَخْفُوضٌ بِقَولِهِ: يَسْأَلونَكَ عَن القِتَالِ وعن المَسْجِدِ،" وقَدْ رُدَّ هذا الرّأيُ من جِهَةِ المَعْنى، فالمَعنى هنا يُشيرُ إلى أَنَّهم سَأَلوا عن القِتالِ في الشَّهر الحَرامِ وعن المَسْجدِ الحَرامِ، وهذا تَفسِيْرٌ غَيْرُ صَحِيْحٍ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: "وضُعِّفَ هذا بِأَنَّ القَوْمَ لَمْ يَسْأَلُوا عَن الشَّهْرِ الحَرَامِ، إِذْ لَمْ يَشُكّوا في تَعْظِيمِهِ، وإِنَّمَا سَأَلُوا عَن القِتَالِ في الشَّهْرِ الحَرَامِ؛ لأَنَّه وَقَعَ مِنْهُم، ولَمْ يَشْعُرُوا بِدُخُولِهِ، فَخَافُوا مِن الإثْمِ، وكَانَ المُشْرِكُون عَيَّرُوهُم بِذلِكَ."
وهُنَاكَ رَأْيٌ رَابِعٌ في هذه المَسْأَلَةِ بَعِيْدٌ عَن المَعْنى، وهو ما نُسِبَ إلى الفَرّاءِ وليسَ له، وهو عَطْفُ المَسْجِدِ عَلى الضَّمِيْرِ في: (وكُفْرٌ به)، والتَّقْدِيرُ: وكُفرٌ باللهِ وكُفْرٌ بالمَسْجِدِ الحَرامِ، ولا أَدْري ماذا يَعْنِي الكُفْرُ بالمَسْجِدِ الحَرامِ؟ فكُفّارُ قُريش كانوا يُعَظّمون المسجِدَ الحَرامَ قبل وُجُودِ المُسْلِمِيْنَ، إِلاّ أَنْ يُرادَ الحَجُّ المَفْرُوضُ عَلَى المُسْلِمِيْن إلى البَيْتِ الحَرَامِ، وهذا خِلافُ الظّاهِرِ، وهو اخْتِيارُ أَبي حَيّانَ.
7. دَلالَةُ (أَنّى):
قَوْلُهُ تَعَالَى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ. (البقرة:223)
للنّحَاةِ والمُفَسّرِيْنَ في مَعْنى (أَنّى شِئْتُم) في الآيَةِ الكَرِيْمَةِ عِدّةُ آراءٍ، وتُعَدُّ هذه الآرَاءُ مِثالاً وَاضِحًا لأَثَرِ أَهْلِ التَّأوِيْلِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ، فالآرَاءُ النَّحْوِيّةُ كَثِيْرَةٌ، وكُلُّ رَأْيٍ من هذه الآرَاءِ يُقَابِلُهُ رَأْيٌ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ، وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْجِيْهَ النَّحْوِيِّ قد اعْتَمَدَ عَلى تَوْجِيْهِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.
نَقَلَ الطَّبَرِيُّ تَوْجِيْهاتٍ عِدَّةً لأهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ في مَعْنى أَنَّى شِئْتُمْ هي:
الأَوّلُ: أَنْ تَكُونَ (أَنّى) بِمَعْنى (كَيْفَ)، ونَقَلَ في ذلِكَ عَشْرَةَ نُصُوصٍ تَدُلُّ عَلَى هذا المَعْنى، وهذه النُّصُوصُ مَرْوِيّةٌ عن ابنِ عَبّاسٍ، وعِكرِمَةَ، ومُجَاهِدٍ، وأبَيِّ بن كَعْبٍ، ومُرّةَ الهَمَدَانِيِّ، وقَتَادَةَ، والسّدِيِّ، وعَبْدِاللهِ بن عَلِيٍّ.
ومنْ ذلِكَ قَوْلُ الطّبَرِيِّ: "حَدَّثَنَا أَبُوكُرَيْبٍ, قَالَ: حَدَّثَنا ابْنُ عَطِيَّةَ, قَالَ: حَدَّثَنَا شُرَيْكٌ, عَنْ عَطَاءٍ, عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ, عَن ابْنِ عَبّاسٍ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ قَالَ: يَأْتِيْها كَيْفَ شَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ يَأْتِيْها فِي دُبُرِها أو فِي الحَيْضِ."
وهذا رَأيُ كَثِيْرٍ مِن النُّحَاةِ، فهو رَأْيُ الفَرّاءِ، وابنِ قُتَيْبَةَ، والبَاقُولِي، والشَّرِيْفِ الكُوفِيِّ، والزّجّاجِ، قَال: "أَيْ: كَيْفَ شِئتُم، أَي: ائتُوا مَوضِعَ حَرْثِكُم كَيْفَ شئْتُم،" وأَرى أَنَّ هذا هو مَا ذَكَرَه ابْنَ عَبّاسٍ عَيْنُه، لا فَرْقَ بَيْنَهُما.
ومِمّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَوْجِيْهَ النَّحْوِيَّ قد اعْتَمَدَ عَلى تَفْسِيْرِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ أَنَّ الفَرّاءَ قَدْ نَقَلَ كَلامًا لابْنِ عَبّاسٍ في هذه الآيَةِ مُسْتَدِلاًّ بِه، وأَخَذَ بِهِ في تفسِيْرِهِ، قَالَ: "أَيْ: كَيْفَ شِئْتُم، حَدَّثَنا مُحَمّدُ بنُ الجَهْمِ، قَالَ: حَدَّثْنا الفَرّاءُ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ عَنْ مَيْمُونِ بِنِ مَهْرَانَ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبّاسٍ: إِنَّ اليَهُودَ تَزْعُمُ أنّ الرَّجُلَ إِذا أَتى امْرَأَتَهُ مِنْ وَرَائِها في قُبُلِها خَرَجَ الوَلَدُ أَحْولَ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كذَبَتْ يَهُودُ، نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ يَقُولُ: ايْتِ الفَرْجَ مِن حَيْثُ شِئْتَ،" وقَدْ فَهِمَ الفَرّاءُ مِن قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ مَعْنى (كَيْفَ)، وقَوْلُه يُشِيْرُ إِلى مَعْنى آخَرَ، وهو (مِن حَيْثُ)، أو (أَيّ وَجْهٍ).
الثّانِي: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنى (مِن حَيْثُ شِئْتُم)، أَوْ (مِنْ أَيّ وَجْهٍ)، وقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ في هذا المَعْنى خَمْسَةَ نُصُوصٍ، مِنْها قَوْلُهُ: "حَدَّثَنَا سَهْلُ بنُ مُوسَى الرَّازِيّ, قَالَ: حَدّثَنا ابنُ أَبِي فُدَيْكٍ, عَنْ إبْرَاهِيْمَ بنِ إسْمَاعِيْلَ بنِ أَبِي حَبِيْبَةَ الأَشْهَلِ, عَنْ دَاوُودَ بنِ الحُصَيْنِ, عَنْ عِكْرِمَةَ, عَن ابنِ عَبّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى المَرْأَةُ فِي دُبُرِهَا، ويَقُولُ: إِنَّما الحَرْثُ مِن القُبُلِ الّذي يَكُونُ مِنْه النَّسْلُ والحَيْضُ، ويَنْهَى عَن إِتْيَانِ المَرْأَةِ فِي دُبُرِها، ويَقُولُ: إِنَّما نَزَلَتْ هذه الآيَةُ: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ يَقُولُ: مِنْ أَيِّ وَجْهٍ شِئْتُم."
ومِنْ ذلِكَ قَوْلُه: "حَدَّثَنا عُبَيْدُاللهِ بنِ سَعْدٍ, قَالَ: ثَنَا عَمّي, قَالَ: ثَنَا أَبِي, عَنْ يَزِيدَ, عَنْ الحَرْثِ بنِ كَعْبٍ, عَنْ مُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ, قَالَ: إِنَّ ابْنَ عَبّاسٍ كَانَ يَقُولُ: اسْقِ نَبَـاتَك مِنْ حَيْثُ نَبَاتُه" ومِن ذلك النّصّ الّذي رَواهُ الفَرّاءُ بِمَعْنى (مِن حَيْثُ).
وهذا رَأيُ الزّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: "مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شِئْتُمْ"، ثمّ قالَ: "لا تُحْظَرُ عَلَيْكُمْ جِهَةٌ دُونَ جِهَةٍ، والمَعْنى: جَامِعُوهُنَّ مِنْ أَيِّ شِقٍّ أَرَدْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ المَأْتَى وَاحِدًا، وهو مَوْضِعُ الحَرْثِ،" وقَدْ عَبّرَ بَعْضُ النُّحَاةِ عَنْ هذا المَعْنى بِقَوْلِهِ: (مِن أَيْنَ شِئتُم)، قَالَ النَّحّاس: "ومَعْناهُ مِنْ أَيْنَ شِئْتُم، أَي: مِن أَيّ الجِهَاتِ شِئْتُم."
الثّالِثُ: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنى (مَتَى شِئْتُم)، ونَقَلَ الطَّبَرِيُّ نَصَّيْن في هذا المَعْنى، الأَوّلُ مَرْوِيٌّ عَن الضَّحّاكِ، قَالَ الطّبَرِيُّ: "حَدَّثْتُ عَنْ حُسَيْنِ بنِ الفَرَجِ, قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الفَضْلَ بنَ خَالِدٍ, قَالَ: أَخْبَرَنا عُبَيْدُ بنُ سُلَيْمَانَ, قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ يَقُولُ: مَتَى شِئْتُم."
والثّانِي عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: "بَيْنا أَنَا ومُجَاهِدٌ جَالِسَانِ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ, أَتَاهُ رجُلٌ، فَوَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ, فَقَالَ: يَا أَبَا العَبّاسِ، أَو يَا أَبَا الفَضْلِ أَلا تَشْفِيْنِي عَنْ آيَةِ المَحِيْضِ؟ فَقَالَ: بَلَى فَقَرَأَ: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ (البقرة: 222) حَتّى بَلَغَ آخِرَ الآيَةِ, فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مِنْ حَيْثُ جَاءَ الدَّمُ، مِنْ ثَمَّ أُمِرْتَ أَنْ تَأْتِيَ, فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا أَبَا الفَضْلِ، كَيْفَ بِالآيَةِ الّتِي تَتْبَعُها: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ؟ فَقَالَ: إِيْ وَيْحَكَ وفِي الدُّبُرِ مِنْ حَرْثٍ؟ لَوْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا لَكَانَ المَحِيْضُ مَنْسُوخًا إِذا اشْتَغَلَ مِنْ ههنا جِئْتَ مِنْ ههنا، ولكنْ أَنّى شِئْتُم مِن اللَّيْلِ والنَّهَارِ."
وقَدْ جَاءَ هذا الرَّأْيُ في كَثِيْرٍ مِن كُتُبِ التّفْسِيْرِ والنَّحْوِ، قَالَ الرّازي: "المَعْنَى: أَيَّ وَقْتٍ شِئْتُمْ مِنْ أَوْقَاتِ الحِلِّ، يَعْنِى: إِذا لَمْ تَكُنْ أَجْنَبِيّةً أَوْ مُحَرّمَةً أَوْ صَائِمَةً أَوْ حَائِضًا."
الرّابِعُ: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنى (أيْنَ شِئْتُم)، أَوْ (حَيْثُ شِئْتُم)، وقَدْ نَقَلَ الطّبَرِيُّ فِي هذا المَعْنى عِدّةَ رِوَايَاتٍ، جَمِيْعُها رِوَاياتٍ عَنْ نَافِعٍ عَن عِبْدِ اللهِ بن عُمَرَ إلاّ رِوَايَةً عَنْ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ عن ابنِ عُمَرَ، وأُخْرى عَنْ زَيْدِ بن أَسْلَمَ، والمَعْنى فِيْها جَوَازُ الإِتْيَانِ في الدُّبُرِ، وقَدْ نُسِبَ جُوازُه إِلى الإِمَامِ مَالِكِ، وحُكِيَ أَنَّ ذلكَ في كِتابٍ لَهُ يُسَمّى كِتابُ السّرِّ، وأصْحَابُهُ يُنْكِرُونَ الكِتَابَ، وقَدْ تَبَرَّأَ مِنْ ذلكَ رَحِمَهُ اللهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا الحَرْثُ في مَوْضِعِ الزَّرْعِ، ونَقَلَ نافُعٌ ذلكَ عن ابنِ عُمَرَ، قَالَ الرّازِيُّ: "وَسَائِرُ النّاسِ كَذّبُوا نَافِعًا في هذه الرِّوَايَةِ،" وقَدْ رُوِيَ عَنْهُ تَكْفِيْرُ مَنْ يَفْعَلُ ذلكَ، وهو رَأْيُ السَّيّدِ المُرْتَضى مِن الشِّيْعَةِ، وعِنَدَه أُمُورٌ يَحْتَجُّ بِها، ونُسِبَ هذا أَيْضًا إِلى سَعِيْدِ بنِ المُسَيّبِ، ونَافِعٍ، ومُحَمّدِ بنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ، وعَبْدِ المَلِكِ بنِ المَاجِشُونَ.
ويَكْفِي في رَدِّ هذا الرَّأْيِ قَوْلُ أَبِي حَيّانَ: "وقَدْ رَوى تَحْرِيْمَ ذلكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ اثْنا عَشَر صَحَابِيًّا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، كُلُّها تَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيْمِ، ذَكَرَها أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وأَبُو دَاوُودَ والتّرْمِذِيُّ والنّسائِيُّ وغَيْرُهُم، وقَدْ جَمَعَها أَبُو الفَرَجِ بن الجَوْزِيِّ بِطُرِقِها في جُزْءٍ سَمّاهُ تَحْرِيْمَ المَحَلِّ المَكْرُوهِ."
أَمّا النُّحَاةُ فقَدْ ذَكَرَ سِيْبَوَيْه أَنَّ (أَنّى) تَكُونُ بِمَعْنى كَيْفَ، وأَيْنَ، وأشَارَ جُمْلَةٌ مِن النُّحَاةِ إِلى أَنَّ الآيَةَ قَدْ فُسِّرَتْ بالمَعَانِي الثَّلاثَةِ: كَيْفَ، وأيْنَ، ومَتى، قالَ أبُو حَيّانَ: "وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أنَّى بِمَعْنى أَيْنَ، فجَعَلَها مَكَانًا."
الخَامِسُ: العَزْلُ، فالمَعْنى إِنْ شِئْتُم فَاعْزِلُوا، وإِنْ شِئْتُم فَلا تَعْزِلُوا، وقَدْ نَقَلَ فِيْهِ الطَّبَرِيُّ قَوْلَيْن، هما:
الأَوّلُ: قَالَ الطّبَرِيُّ: "حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بنِ إسْحَاقَ, قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ, قَالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بنُ صَالِحٍ, عَنْ لَيْثٍ, عَنْ عِيسَى بْنِ سِنَانٍ, عَنْ سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ إِنْ شِئْتُم فَاعْزِلُوا, وإِنْ شِئْتُم فَلا تَعْزِلوا."
الثّانِي: حَدّثَنا أَبُو كُرَيْبٍ, قَالَ: حَدّثَنا وَكِيْعٌ, عَنْ يُونُسَ, عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ, عَنْ زَائِدَةَ بنِ عُمَيْرٍ, عَنْ ابنِ عَبّاسٍ، قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَاعْزِلْ, وإِنْ شِئْتَ فَلا تَعْزِلْ."
وأَرَى أَنَّ هذا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ تَحْتِ تَوْجِيْهِ مَنْ قَالَ: إنّها بِمَعْنى (كَيْفَ)؛ لأَنّ المَقْصُودَ مِنْ كَلامِ ابنِ المُسَيّبِ وابْنِ عَبّاسٍ تَوْجِيْهٌ للآيَةِ، ولَيْسَ تَحْدِيْدًا لِدَلالَةِ (أَنّى) تَحْدِيْدًا مَكَانِيًّا، فالمَعْنى هنا قد يَكُونُ مَعْنى (كَيْفَ)، أَوْ (مِنْ حَيْثُ).
يُلاحَظُ في هذه الآرَاءِ ارْتِبَاطُها بِالدّلالَةِ الّتي ذَكَرَها أَهْلُ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، ومِنْ ثَمَّ ارْتِبَاطُها بِالحُكْمِ الفِقْهِيِّ، فَكُلُّ رَأْيٍ مِنْ هذه الآرَاءِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنى مُخْتَلِفٍ عن الآخَرِ، والشَّرْعُ قَدْ أَجَازَ للرَّجُلِ أََنْ يَأتِيَ امْرَأَتَهُ في أَيِّ وَقْتِ، وعَلَى أَيّةِ كَيْفِيّةٍ، ومِنْ أَيِّ طَرِيْقٍ، فالفُقَهاءُ مُتّفِقُونَ عَلَى ذلِكَ، لكنّهُم مُخْتَلِفُونَ في المَعْنى الرّابِعِ، وجُمْهُورُ العُلَماءِ ذَهَبُوا إلى تَحْرِيْمِ الإِتْيانِ في الدّبُرِ.
وأَرَى أَنَّ تَعَدُّدَ الآرَاءِ النَّحْوِيّة مُرْتَبِطٌ بِتَعَدُّدِ آرَاءِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ مِن المُفَسِّرِيْنَ، فَتَعَدُّدُ آرَاءِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ سَبَبٌ في وُجُودِ الخِلافِ بَيْنَ النُّحَاةِ في التّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ لآيَاتِ القُرآنِ الكريْمِ، وذلِكَ لأَنَّ النَّحْوِيَّ يَنْطَلِقُ في تَوْجِيْهِهِ مِن المَعْنى، وهو يَأْخُذُ المَعْنى مِن المفَسِّرِيْنَ، فَإِذا اخْتَلَفُوا في تَأْوِيْلِهِم للمَعْنى اخْتَلَفُوا في التّأوِيْلِ النَّحْوِيِّ.
خاتِمَة:
تَبَيَّنَ للبَاحِثِ في هذه الدِّرَاسَةِ أَنَّ تَوْجِيْهَ النُّحَاةِ لآيَاتِ القُرآنِ الكَرِيْمِ قَدْ تَأَثَّرَ بالتَّفْسِيْرِ بالمَأثُورِ، سَواءٌ كَانَ بِتَفْسِيْرِ القُرآنِ للقُرآنِ، أَو بالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، أَو بِمَا نُقِلَ عَن الصَّحَابَةِ والتَّابِعِيْنَ، وهذا أَمْرٌ بَدَهِيٌ، فالتَّفْسِيْرُ يَهْدِفُ إِلى بَيَانِ المَعْنى، والكَشْفِ عَنْهِ، وهذا هو غَايَةُ المُعْرِبِ، فالمَعْنى عِنْدَهُ هو مَا يُحَاوِلُ إِيْضَاحَهُ عِنْدَ الإِعْرَابِ، فلا بُدَّ إِذن أَنْ يَرْتَكِزَ عَلَى أَسَاسٍ مِن المَعْنى، وهو التَّفْسِيْرُ.
وقَدْ اسْتَطَاعَ البَاحِثُ في هذه الدِّرَاسَةِ أَنْ يَصِلَ إِلى مِجْمُوعَةٍ مِن النَّتَائِجِ، يَجْدُرُ بِهِ أَنْ يُوجِزَ أَهَمَّها:
أَوّلاً: يَرَى الباحِثُ أَنَّ عِلْمَ الإِعْرَابِ كَانَ في الفَتْرَةِ الأولى مِن نَشْأَتِهِ ضِمْنَ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ؛ وذلِكَ لأَنَّ كِلَيْهِما يَبْحَثَان عَن المَعْنى، ويَهْدِفَانِ إِلى الكَشْفِ عَنْ مَعْنىً تَتَبَيَّنُ مِنْ خِلالِهِ أَسْرَارُ الكِتَابِ العَزِيْزِ؛ ولأَنَّ هذين العِلْمَيْنِ وغَيْرَهُما مِن العُلُومِ كُلَّها نَشَأَتْ في فَتْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وهَدَفَت إِلى تَعْرِيْفِ النّاسِ بِأُمُورِ دِيْنِهِم، والحِفَاظِ عَلَى كِتَابِ اللهِ ولُغَتِهِ مِن اللّحْنِ الّذي أَصَابَ لُغَةَ الأُمَّةِ في تَلْكَ الفَتْرَةِ، وكَانَ أَوْلُ هذه العُلُومِ وأَعْلاها عِلْمَ التَّفْسِيْرِ.
ثَانِيًا: يَرَى البَاحِثُ أَنَّ العَلاقَةَ بَيْنَ التَّفْسِيْرِ وتَوْجِيْهِ آياتِ القُرآنِ تَوْجِيْهًا نَحْوِيًا لا يُمْكِنُ فَصْلُها، فتَوْجِيْهُ هذه الآيَاتِ يُعَدُّ جُزْءًا مِن تَفْسِيْرِها، وكَانَ لا بُدَّ للمُعْرِبِ أَنْ يَسْتَعِيْنَ بِالمُفَسِّرِ للوُصُولِ إِلى إِعْرَابٍ صَحِيْحٍ، كَما أَنّهُ لا بُدَّ للمُفَسِّرِ أَنْ يَسْتَعِيْنَ بِإِعْرَابِ النَّحْوِيِّ لِيَصِلَ إِلى مَعْنىً صَحِيْحٍ، فالعَلاقَةُ بَيْنَهُما تَبَادُلِيّةٌ.
ثَالِثًا: يرَى البَاحِثُ أَنَّهُ مِن الصَّعْبِ فَصْلُ عِلْمِ النَّحْوِ عَنْ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ في الكُتُبِ الّتي تَنَاوَلَت تَوْجِيْهَ آيَاتِ القُرآنِ الكَرِيْمِ تَوْجِيْهًا نَحْوِيًّا، فهي كُتُبٌ تَفْسِيْرِيَّةٌ، لكنَّها تَمَيَّزَت بِأَنَّها تَنَاوَلَت الآيَاتِ مِنْ جَانِبٍ لُغَوِيٍّ.
رَابِعًا: تَأثَّرَت تَوجِيْهاتُ النُّحَاةِ بِجَمِيْعِ أَشْكَالِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُور، فقد وَرَدَ تَأثُّرُهُم بالقُرآنِ الكَرِيْمِ، والسّنّةِ النّبَوِيَّةِ، وبِأَقْوَالِ الصّحَابَة،ِ والتّابعِيْن، ولَمْ يَقْتَصِر تَأثُّرُهُم عَلَى شَكْلٍ وَاحِدٍ مِنْها.
خَامِسًا: مِن مَظَاهِرِ تَأثُّرِ النُّحَاةِ بأَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ أَنَّهم كَانُوا في كَثِيْرٍ مِن المَوْاضِعِ يِأخُذُونَ بِتأِويلِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ لَفْظِيًّا، فلَمْ يَكُنْ تقْدِيْرُهم وتأويلهم للآيات يَخْتَلِفُ عَن كَلامِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، وفي مَوَاضِعَ أُخْرَى كَانُوا يَتَأثّرُونَ بِمَعْنى كَلامِهِم.
سَادِسًا: وَجَدْتُ أَنَّ التَّوْجِيْهَاتِ النَّحْوِيَّةَ الّتي تَلَقَّفَها النُّحَاةُ، وقَبِلُوها كَانَتْ تَسْتَنِدُ إِلى آَرَاءِ المُفَسِّرِيْنَ، ورَأَيْتُ أَنَّ التَّوْجِيْهَاتِ النَّحْوِيَّةَ الّتي لم يُؤخذ بها، وآثَرُوا عَلَيْها غَيْرها لَمْ يَكُن يُقَابِلُها أَيُّ رَأْيٍ للمَفَسِّرِيْنَ.
سَابِعًا: رأَيْتُ أَنَّ بَعْضَ النُّحَاةِ كَانَ يُحَاوِلُ الخُرُوجَ عَنْ مَا يَذْكُرُه أَهْلُ التَّفْسِيْرِ وجُمْهُورُ النُّحاةِ مُتَمَسِّكًَا بِالقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ، فَإِذا جَاءَ بِرَأْيٍ جَدِيْدٍ قَامَ عَلَيْهِ النُّحَاةُ، ورَدُّوا رَأْيَهُ مُسْتَندينَ إِلى القَاعِدَةِ أو المَعْنى.
ثَامِنًا: تَبَيَّنَ للبَاحِثِ أَنَّ تَعَدُّدَ الآرَاءِ النَّحْوِيّة مُرْتَبِطٌ بِتَعَدُّدِ آرَاءِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ مِن المُفَسِّرِيْنَ، فالاخْتِلافُ بَيْنَ النُّحَاةِ عِنْدَ التَّوْجِيْهِ يَعُودُ إِلى كَثْرَةِ الآرَاءِ عِنْدَ المُفَسِّرِيْنَ، وهذا من الأُمُور البَدَهِيَّةِ، فالنَّحْويُّ يَنْطَلِقُ في إِعْرَابِهِ مِن المَعْنى، وهو يَأخُذُ المُعْنى مِن المُفَسِّرِيْنَ، فَإذا اخْتَلَفُوا في التَّفْسِيْرِ اخْتَلَفُوا في الإِعْرَابِ.
المصدر : مجلة إسلامية المعرفة
شريف عبد الكريم النَّجّار
مُقَدِّمة:
الإعْرَابُ والتَّفْسِيْرُ عِلْمَانِ مُتَدَاخِلانِ، فَكِلاهُما غَايَتُهُ أَنْ يَصِلَ إلى المَعْنى الصَّحِيْحِ، وكُلٌّ مِنْهُما يُؤدِّي إِلى الآخَرِ، فالإِعْرَابُ السَّدِيْدُ يُؤدّي إِلى نَظْرَةٍ صَحِيْحَةٍ في تَفْسِيْرِ الآيَةِ القُرآنِيَّةِ، والعَكْسُ كَذلِكَ، فالنَّظْرَةُ الصَّحِيْحَةُ في التَّفْسِيْرِ تُؤدّي إِلى إِعْرَابٍ صَحِيْحٍ، فُكُلٌّ مِنْهُما يُؤثّرُ في الآخَرِ.
وكَانَ التَّفْسِيْرُ بِالمَأثُورِ هو أَوّلَ أَنْوَاعِ التَّفْسِيْرِ وُجُودًا، وكَانَ وُجُودُهُ مُصَاحِبًا لِنَشْأَةِ النَّحْوِ، فالتَّفْسِيْرُ بالقُرآنِ والسَّنّةِ وأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِيْنَ كَانَ شَائِعًا في القُرُونِ الثّلاثَةِ الأُولى، وهذه القُرُونُ هي الّتي شَهِدَت نَشْأَةَ النَّحْوِ، وكَانَ لا بُدَّ للنُّحَاةِ الَّذِيْنَ عُنُوا بِتَوْجِيْهِ الآيَاتِ القُرآنِيَّةِ أَنْ يَتَأثَّرُوا بِهذا النَّوْعِ مِن التَّفْسِيْرِ؛ ولِذلِكَ وَجَدْنا كُتُبَ مَعَانِي القُرآنِ مَلِيئةً بِأَقْوالَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِيْنَ.
وقَدْ رَأَيْتُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُ هذا البَحْثِ تَأثِيْرَ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُور عَلَى تَوْجِيْهِ الآيَاتِ القُرآنِيةِ عِنْدَ المُعْرِبِيْنَ، ووَسَمْتُهُ بِـ(أَثَرُ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ لآيَاتِ القُرْآنِ الكَرِيْمِِ) مَدْفُوعًا بِعِدَّةِ أُمُورٍ: مِنْها بَيَانُ أَنَّ المَعْنى هو الأصْلُ في البَحْثِ اللُّغُوِيِّ، فالمُعْرِبُ لا بُدَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلى المَعْنى نَظْرَةً دَقِيقَةً قَبْلَ إِعْرَابِه، فإِعْرَابُهُ مِرآةٌ للمَعْنى، والمَعْنى يَأخُذُهُ مِن التَّفْسِيْرِ، ومِنْها الرَّغْبَةُ في إِظْهَارِ مَدى أَثَرِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ عَلَى تَوْجِيْهِ النُّحَاةِ لآيَاتِ القُرآنِ الكَرِيْمِ، ومِنْها إِظْهَارُ أَثَرِ سَيْطَرَةِ القَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ عَلَى النُّحَاةِ، وبُعْدِ بَعْضِهِمْ عَن المَعْنى، ومِنْها إِبْرَازُ العَلاقَةِ بَيْنَ النَّحْوِ والتَّفْسِيْرِ، فلِكِليهما مَنْبعٌ وَاحِدٌ، هو المَعْنى.
ويَنْدَرِجُ هذا البَحْثُ في مَوْضُوعِ السَّمَاعِ، فالاسْتِشهادُ بالقُرآنِ الكَرِيْمِ، وبالحَدِيْثِ النَّبَوِيّ، وبِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ والتّابِعِيْنَ مِن السَّمَاعِ، ولكنّي أَرَدْتُ مِنْ ذلكَ تَخْصِيصَ تَوجِيْهِ آيَاتِ القُرآنِ الكَرِيْمِ بِذلِكَ، وأَثَرَ ذلِكَ عَلَيْه.
ورَأَيْتُ أَنْ أَخْتَارَ مَجْمُوعَةً مِن الآيَاتِ القُرآنِيَةِ مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ، وكَانَ هذا الاخْتِيَارُ رَغْبَةً مِنّي في الوُصُولِ إِلى أَثَرٍ مَا للتَّفْسِيْرِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ، فتَناوَلْت مَجْمُوعةً من الآيات رأيت فيها أَثَرًا واضِحًا للتّفسير بالمأثور، ورَأَيْتُ أَنْ أُحَدِّدَ تَفْسِيْرًا يُعْنى بِالتّفْسِيْرِ المَأثُورِ، فَوَقَعَ اخْتِيَارِي على كِتابِ ابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ المَوْسُوم بـ(جَامِعِ البَيَانِ في تَأوِيْل القُرآنِ)، فلا شَكَّ أَنَّهُ أَبْرَزُ الكُتُبِ الّتي اهْتَمّت بالتَّفْسِيْرِ المَأثُورِ.
وكَانَ مَنْهجي في تناوُلِ هذه الآياتِ مبْنِيًّا على إبْرازِ أمرينِ، هما آراء أهل التّفسير بالمأثور، وآراء النّحاةِ، ورأيت أنْ أبدأ بآراءِ المفسِّرين في كلّ موضعٍ كي يدركَ القارئ المعنى للآيَةِ قبلَ تَوْجِيهِها نَحْوِيًّا، ثمّ أعْرِض آراءَ النُّحَاةِ في الآيَةِ، وبيَّنْتُ بعد ذلك العلاقَةَ بين الأمرين.
ورَأَيْتُ أنْ أكْتَفيَ في هذا البحْثِ بِتَحْلِيْلِ هذه النّماذج من تَفْسير الطّبري؛ ولذلك وَسَمْتُهُ بِـ(أَثَرُ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ لآيَاتِ القُرْآنِ الكَرِيْمِِ، نماذج مِنْ تَفْسِيْرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في جَامِعِ البَيَانِ للطَّبَرِيِّ)، ورأيت أنّ أُبَيِّنَ خلالَ تَحْليلِي هذه النّماذج نَوَاحِيَ تأثِيْرِ التّفْسِيْرِ في التّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ، ووجدتُ أنّ هذا النَّهْجَ أوْلى من عرضِ نَوْاحِي التَّأثِيْرِ قبل تَقْدِيمِ الدّلِيْلِ عَلى الأثَرِ.
ويَعْتَمِدُ هذا البحثُ على مَجْمُوعَةٍ من الأَقْوَالِ، فهو بحثٌ في آراء المفسِّرين، وقد حرصتُ على ذكر النُّصوصِ الّتي تُبَيِّنُ آراءَهُم، وأودُّ أنْ أنبّهَ هنا أنّي أردت من إيراد نصين أو أكثر في موضع واحدٍ التّأكيد على المعنى الّذي ذكره المفسّرون في الآيَةِ، وأنَّ هُناك أكثرَ من روايَةٍ في هذا المعنى.
وقَدْ بَدَأتُ هذا البَحْثَ بِمُقَدِّمَةٍ تَحَدَّثْتُ فِيْها عَن التَّفْسِيْرِ بالمَأثُورِ والطَّبَرِيِّ، والعَلاقَةِ بَيْن التَّفْسِيْرِ والنَّحْوِ مِنْ خِلالِ كُتُبِ مَعانِي القُرآنِ، وبَيَّنْتُ أَنّ هذه الكُتُبَ تُعَدُّ مِن كُتُبِ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ وعِلْمِ النَّحْوِ، ففيها تَوْجِيْهٌ نَحْوِيٌّ للآيَاتِ القُرآنِيَةِ وتَفْسِيْرٌ للقُرآنِ.
وتَنَاوَلْتُ بَعْدَ ذلِكَ الآيَاتِ المُخْتَارَةَ، وجَعْلْتُها في سَبْعَةِ مَوَاضِعَ، هي: المُبْتَدأ والخَبَرُ، والعَطْفُ ووَاوُ الصَّرْفِ، وحَذْفُ (أَنْ) والقَسَمُ، و(مَا) المَوْصُولَةُ والنَّافِيَةُ، و(مَا) التَّعجُّبِيّة والاسْتِفْهامِيّة، والبَدَل والعَطْف، و دَلالَةُ (أَنّى)، ورَتَّبْتُ هذه الآيَاتِ كَما هي في القُرآنِ الكَرِيْمِ.
وخَتَمْتُ هذه البَحْثَ بِخَاتِمَةٍ تَضَمَّنَتْ أَثَرَ التَّفْسِيْرِ بالمَأثُورِ عَلَى إِعْرَابِ آيَاتِ القُرآنِ الكَرِيْمِ، وأهَمِّيَّةَ النَّظَرِ إِلى المَعْنى عِنْدَ الإِعْرَابِ، فالمَعْنى هو الأسَاسُ الَّذي يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ المُعْرِبُ.*
أولاً: التَّفْسِيْرُ بِالمَأْثُورِ والطَّبَرِيُّ
يُعَرّفُ التَّفْسِيْرُ بِالمَأْثُورِ بِأَنَّهُ تَفْسِيْرُ القُرآنِ بِمَا جَاءَ في القُرآنِ نَفْسِهِ مِن البَيَانِ والتَّفْصِيْلِ لِبَعْضِ آيَاتِهِ، ومَا نُقِلَ عَن الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّمَ، ومَا نُقِلَ عَن الصّحَابَةِ رَضِي اللهُ عَنْهُم، ومَا نُقِلَ عَن التّابِعِيْنَ مِنْ كُلِّ مَا هُو بَيَانٌ وتَوْضِيْحٌ لِمُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْ نُصُوصِ الكِتَابِ الكَرِيْمِ.
ويُعَدُّ التَّفْسِيْرُ بِالمَأثُورِ مِنْ أَعْلَى أَنْوَاعِ التَّفْسِيْرِ مَنْزِلَةً؛ وذلِكَ لأَنَّهُ تَفْسِيْرٌ للقُرآنِ بِالقُرآنِ، قَالَ ابنُ تَيْمِيَةَ: "أَصَحُّ الطُّرُقِ في ذلكَ أَنْ يُفَسَّرَ القُرآنُ بِالقُرآنِ،" أَوْ بالسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، والرَّسُولُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ هو المُبَيِّنُ لهذا الدّيْنِ، وهو أَدْرى بِالكِتابِِ المُنَزّلِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وهم أَقْرَبُ إِلى صَاحِبِ الرِّسَالَةِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّم، وشَاهَدُوا التَّنْزِيْلَ، أَو بِأَقْوَالِ التَّابِعِيْنَ، وهؤلاءُ كَانُوا أكْثَرَ النّاسِ اتّصالاً بالصّحَابَةِ، فَأَخَذُوا العِلْمَ عَنْهُم، ونَقَلُوهُ إِلى مَنْ بَعْدَهُم، وهذا كُلُّهُ إِذا صَحَّ السَّنَدُ عَن الرَّسُولِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّمَ أو الصّحَابَةِ أَو التّابِعِيْن.
وقَدْ اعْتَمَدَ هذا النَّوْعَ مِن التَّفْسِيْرِ جُمْلَةٌ مِن عُلَمَاءِ الأُمَّةِ، فَوضَعُوا الكُتُبَ والمَوْسُوعَاتِ في تَفْسِيْرِ القُرآنِ بِهذا الشَّكْلِ، وكَانَ مِنْ أَبْرَزِ هذه المؤلّفاتِ: جَامِعُ البَيَانِ في تَفْسِيْرِ القُرآنِ لابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ، ومَعَالِمُ التَّنْزِيْلِ للبَغَوِيِّ، والمُحَرَّرُ الوَجِيْزُ في تَفْسِيْرِ الكِتَابِ العَزِيْزِ لابنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسيِّ، وتَفْسِيْرُ القُرآنِ العَظِيْمِ لابْنِ كَثِيْرِ، والدُّرّ المَنْثُور في التَّفِسِيْرِ المَأثُور للسُّيُوطيِّ.
وكَانَ ابنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيّ مِن أَوّلِ مَنْ وَضَعَ تَفْسِيْرًا عَلَى هذا النَّحْوِ، والطَّبَرِيُّ هو أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وعِشْرِيْنَ ومائتين، تَنَقّلَ في البِلادِ طَلَبًا للعِلْمِ، وكَانَ مِنْ أَئِمّةِ الحَدِيْثِ، ومِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ القِرَاءاتِ، ومِنْ عُلَمَاءِ العَرَبِيَّةِ، وإِمَامٌ عَالِمٌ بِالفِقْهِ، وقد تُوفّيَ سَنَةَ ثَلاثِمَائةٍ وعَشْرٍ من الهِجْرَةِ.
ويُعَدُّ تَفْسِيْرُ ابْنِ جَرِيْرٍ مِنْ أَقْوَمِ التَّفَاسِيْرِ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: "وهو مِنْ أَجَلِّ التَّفَاسِيْرِ وأَعْظَمِها قَدْرًا،" ويُعَدُّ أَيْضًا المَرْجِعَ الأَوّلَ عنْد المُفَسِّرِيْنَ الّذينَ عُنُوا بالتَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِِ، وذلِكَ لِمَا تَمَيَّزَ بِهِ مِن الْتِزَامِهِ بالسَّنَدِ، واهْتِمَامِهِ بِتَوْجِيْهِ الأَقْوَالِ، وغَيْرِها.
وأَمّا طَرِيْقَتُهُ في التَّفْسِيْرِ فَكَانَ إِذا أَرَادَ أَنْ يُفَسِّرَ آيَةً يَقُولُ: (القَوْلُ في تَأويلِ قَوْلِهِ تَعَالَى كَذا وكَذا)، ثُمَّ يُفَسِّرُ الآيَةَ، ويَسْتَشْهِدُ عَلَى تَفْسِيْرِهِ بِمَا يَرْوِيْهِ مُلْتَزِمًا بِالسَّنَدِ عَن الصَّحَابَةِ أَو التّابِعِيْنَ، ولا يَقْتَصِرُ ابنُ جَرِيْرٍ عَلَى عَرْضِ الرِّوَايَاتِ، فَنَجِدُه يُرَجِّحُ قَوْلاً عَلى قَوْلٍ بَعْدَ تَوْجِيْهِ الأَقْوَالِ جَمِيْعِها، ويَتَعَرَّضُ إلى مَا يَتَعَلّق بِالآيَةِ مِنْ أَحْكَامٍ فِقْهِيَّةٍ أَوْ نَحْوِيَّةٍ.
ثانياً: التَّفْسِيْرُ والنَّحْوُ
عَرَّفَ الزَّرْكَشِيُّ عِلْمَ التَّفْسِيْرِ بِقَوْلِهِ: "التّفْسِيْرُ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ فَهْمُ كِتَابِ اللهِ المُنَزّلِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبَيَانُ مَعَانِيْهِ، واسْتِخْرَاجُ أَحْكَامِهِ وحِكَمِهِ،" ويَسْتَمِدُّ المُفَسِّرُ ذلِكَ مِن عُلُومٍ مخْتَلِفَةٍ كعِلْمِ القِرَاءَاتِ، وعِلْمِ اللّغةِ، والنَّحْوِ والتَّصْرِيْفِ، وأُصُولِ الفِقْهِ.
وقَدْ جَعَلَ أَبُو حَيّانَ الأَنْدَلُسِيُّ عِلْمَ النَّحْوِ وغَيْرَهُ مِنْ عُلُومِ اللُّغَةِ جُزْءًا مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ، فالتَّفْسِيْرُ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، قَالَ: "التَّفْسِيْرُ عِلْمٌ يُبْحَثُ فِيْه عَنْ كَيْفِيّةِ النُّطْقِ بِأَلْفَاظِ القُرْآنِ، ومَدْلُولاتِها، وأَحْكَامِها الإفْرَادِيَّةِ والتَّرْكِيْبِيَّةِ، ومَعَانِيْها الّتِي تُحْمَلُ عَلَيْها حَالَة التَّرْكِيْبِ، وتَتِمّاتٍ لِذلِكَ." ثُمَّ قَالَ: "وقَوْلُنا: (وأَحْكَامِهَا الإفْرَادِيَّةِ والتَّرْكِيْبِيَّةِ) هذا يَشْمَلُ عِلْمَ التَّصْرِيْفِ، وعِلْمَ الإعْرَابِ، وعِلْمَ البَيَانِ وعِلْمَ البَدِيْعِ."
ولا غَرَابَةَ في أَنْ يَكُونَ عِلْمُ الإِعْرَابِ ضِمْنَ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ؛ وذلِكَ لأَنَّ كِلَيْهِما يَبْحَثَان عَن المَعْنى، ويَهْدِفَانِ إِلى الكَشْفِ عَنْ مَعْنىً تَتَبَيَّنُ مِنْ خِلالِهِ أَسْرَارُ الكِتَابِ العَزِيْزِ؛ ولأَنَّ هذين العِلْمَيْنِ وغَيْرَهُما مِن العُلُومِ كُلِّها نَشَأَتْ في فَتْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وهَدَفَت إِلى تَعْرِيْفِ النّاسِ بِأُمُورِ دِيْنِهِم، والحِفَاظِ عَلَى كِتَابِ اللهِ ولُغَتِهِ مِن اللّحْنِ الّذي أَصَابَ الأُمَّةَ في تِلْكَ الفَتْرَةِ، وكَانَ أَوْلُ هذه العُلُومِ وأَعْلاها عِلْمَ التَّفْسِيْرِ.
ويُشِيْرُ حَدُّ أَبِي حَيَّان إِلى العَلاقَةِ المَتِيْنَةِ بَيْنَ العِلْمَيْنِ؛ ولِذلِكَ كَانَ يَذْهَبُ كَثِيْرٌ مِن النُّحَاةِ في المَرحَلَةِ الأولى للنَّحْو إِلى التَّفْسِيْرِ، وأَرى أَنَّ كُتُبَ مَعَانِي القُرْآنِ الّتي اشْتَهَرَت في بِدَايَةِ نَشْأَةِ هذا العِلْمِ خَيْرُ دَلِيْلٍ عَلَى أَنَّهُم كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ مَا يَقُومُونَ بِهِ هو مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ، وكَأَنَّ النَّحْوَ قَدْ وُجِدَ لِدِرَاسَةِ آيَاتِ القُرآنِ المَجِيْدِ.
إِنَّ العَلاقَةَ بَيْنَ التَّفْسِيْرِ وتَوْجِيْهِ آياتِ القُرآنِ تَوْجِيْهًا نَحْوِيًا لا يُمْكِنُ فَصْلُها، فتَوْجِيْهُ هذه الآيَاتِ يُعَدُّ جُزْءًا مِن تَفْسِيْرِها، وكَانَ لا بُدَّ للمُعْرِبِ أَنْ يَسْتَعِيْنَ بِالمُفَسِّرِ للوُصُولِ إِلى إِعْرَابٍ صَحِيْحٍ، كَما أَنّهُ لا بُدَّ للمُفَسِّرِ أَنْ يَسْتَعِيْنَ بِإِعْرَابِ النَّحْوِيِّ لِيَصِلَ إِلى مَعْنىً صَحِيْحٍ، فالعَلاقَةُ بَيْنَهُما تَبَادُلِيّةٌ.
وكَانَ التَّفْسِيْرُ في الفَتْرَةِ الّتي نَشَأتْ فيهِ هذه العُلُومُ قَد اسْتَقَرَّ عَلَى تَفْسِيْرِ القُرآنِ بِأَقْوَالِ الرّسُولِ الكَرِيْمِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّمَ، ثُمُّ أَقُوالِ الصَّحَابَةِ والتّابِعِيْنَ، وهذا هو مَا يُعْرَفُ بِالتَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ، ولَمْ يَكُنْ غَيْرُ ذلِكَ مِن أنواع التَّفْسِيْرِ الأخرى قد اسْتَقَرّ، فَأَخَذَ النُّحَاةُ بِهذا النَّوْعِ مِن التَّفْسِيْرِ، ومُلِئت كُتُبُ مَعَانِي القُرآنِ بِالأحَادِيْثِ وأَقْوالِ الصّحابَةِ والتّابِعِيْنَ.
وكَانَ كِتَابُ مَعَانِي القُرآنِ للفَرّاءِ مِن أوّلِ الكُتُبِ الّتي دُوّنت في بَيانِ معاني آيات القرآن الكريمِ، وتوجِيهها توجيْهًا نَحْوِيًّا، واعْتَمَدَ في تَرْتِيْبِ كِتَابِهِ عَلى تَرْتِيْبِ المُصْحَفِ، قَالَ ابنُ النَّدِيْمِ: "قَالَ أَبُو العَبّاسِ ثَعْلَبُ: كَانَ السَّبَبُ في إِمْلاءِ كِتَابِ الفَرّاءِ في المَعَانِي أَنَّ عُمَرَ بنَ بَكِيْرٍ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وكَانَ مُنْقَطِعًا إِلى الحَسَنِ بنِ سَهْلٍ، فَكَتَبَ إِلى الفَرَّاءِ أَنّ الأَمِيْرَ الحَسَنَ بنَ سَهْلٍ رُبّما سَأَلَني عَن الشَّيءِ بَعْدَ الشَّيْءِ مِن القُرْآنِ، فلا يَحْضُرُنِي فِيْه جَوَابٌ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْمَعَ لي أُصُولاً، أَوْ تَجْعَلَ في ذلكَ كِتَابًا أَرْجِعُ إِلَيْهِ فَعَلْتُ، فَقَالَ الفَرّاءُ لأصْحَابِهِ: اجْتَمِعُوا حَتّى أُمْلِيَ عَلَيْكُم كِتَابًا في القُرْآنِ، وجَعَلَ لَهُم يَوْمًا فَلَمّا حَضَرُوا خَرَجَ إِلَيْهِم، وكَانَ في المَسْجِدِ رَجُلٌ يُؤَذّنُ، ويَقْرَأُ بالنّاسِ في الصَّلاةِ، فالْتَفَتَ إِلَيْه الفَرّاءُ، فَقَالَ لَهُ: اقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ نُفَسِّرُها، ثُمّ نُوفِي الكتَابَ كُلَّه، فقَرَأ الرَّجُلُ، ويُفَسِّرُ الفَرّاءُ، فَقَالَ أَبُو العَبّاسِ: لَمْ يَعْمَلْ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِثْلَه، ولا أَحْسَبُ أَنَّ أَحَدًا يَزِيْدُ عَلَيْهِ."
والظّاهِرُ أَنَّ ثَعْلَبًا قَدْ أَخْطَأ في عَدِّهِ كَتَابَ الفَرّاء أَوّلَ هذه الكُتُبِ، فَقَدْ سَبَقَهُ أُسْتَاذُه الكِسَائِي، ونُسِبَ للرّؤَاسِيّ (ت170ﻫ) كِتابٌ في مَعانِي القُرآنِ، وِنُسِبَ ذلِكَ أَيْضًا إِلى يُونُسَ بِنِ حَبِيْبٍ (ت183ﻫ)، وقَد عَدَّ ابْنُ النَّدِيْمِ خَمْسَةً وعِشْرِيْنَ مُؤلّفًا في مَعَاني القُرْآنِ.
وأَهْلُ التَّفْسِيْرِ يَرَوْنَ أَنّ هذه الكُتُبَ مِنْ كتُبِ التّفْسِيْر، ولا شَكَّ في أَنَّها كَذلِك، ولكِنَّها تَمَيّزَت عَنْ غَيْرِها في أَنّها دَرَسَتْ الآيَاتِ القُرْآنِيَّة مِنْ جَانَبٍ وَاحِدٍ، وهو الجَانِبُ اللّغَوِيُّ والنَّحْوِيُّ، فَتَوْجِيْهُ هذه الكُتُبِ للآيَاتِ القُرآنِيَّةِ تَوْجِيْهٌ نَحْوِيٌّ، ويَنْتَمِي هذا التَّوْجِيْهُ إِلى عِلْمِ النَّحْو؛ ولِذلِكَ أَرَى أَنَّهُ مِن الصَّعْبِ فَصْلُ عِلْمِ النَّحْوِ عَنْ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ في الكُتُبِ الّتي تَنَاوَلَت تَوْجِيْهَ آيَاتِ القُرآنِ الكَرِيْمِ تَوْجِيْهًا نَحْوِيًّا.
وأَرَى أَنَّه لا يُمْكِنُ قَصْرُ عِلْمِ النَّحْوِ عَلَى تَوْجِيْهِ الآيَاتِ القُرآنِيَّةِ، والكَشْفِ عَنْ مَعَانِيْها، فالنَّحْوُ عِلْمٌ وَاسِعٌ تَنَاوَلَ اللّسَانَ العَرِبِيَّ ودَرَسَهُ في شَتّى أَشْكَالِهِ، ولَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الآيَاتِ القُرْآنِيَّةِ، وكَانَ لِعُلَمَاءِ النَّحْوِ جُهُودٌ كَثِيْرَةٌ تَنَاوَلت القَوْاعِدَ النّحْوِيَّةَ لهذا اللّسَانِ، وكَانَتْ لَهُم أَيْضًا جُهُودٌ تَنَاوَلَت تَوْجِيْهَ أَشْعَارِ العَرَبِ، وأخْرَى تَنَاوَلَت الأحَادِيْثَ النَّبْوِيَّةَ، وكذلِكَ كَلامُ النَّاسِ، وغَيْرُهُ مِن أَشْكَالِ الكَلامِ، ولا شَكَّ أَنَّ هذا كُلَّهُ يَصُبُّ في خِدْمَةِ لُغَةِ الكِتَابِ العَزِيْزِ.
ثالثاً: نَماذجُ مِن تَفْسِيْرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في جَامِعِ البَيَانِ
1. المُبْتَدأُ والخَبَرُ:
قَوْلُهُ تَعَالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (البقرة: 7)
نَقَلَ ابْنُ جَريرٍ الطَّبَرِيّ في تَفْسِيْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ تَأْوِيْلَيْن:
الأَوّل: رُوِيَ عَن ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: "حَدَّثَنِـي مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ, قَالَ: حَدَّثَنِـي أَبِي, قَالَ: حَدَّثَنِـي عَمّي الحُسَيْنُ بنُ الحَسَنِ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ جَدِّهِ, عَن ابْنِ عَبّاسٍ: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم، وعَلَـى سَمْعِهِمْ، والغِشَاوَةُ عَلَى أَبْصَارِهِم."
والثّانِي: رُوِيَ عن ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ الطّبَريُّ: "حَدَّثَنا القَاسِمُ, قَالَ: حَدَّثَنا الحُسَيْنُ, قَالَ: حَدَّثَنـي حَجّاج, قَالَ: حَدَّثَنا ابنُ جُرَيْجٍ, قَالَ: الخَتْمُ عَلَى القَلْبِ والسّمعِ, والغَشَاوَةُ عَلَى البَصَرِ, قَالَ اللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ، (الشورى:24) وقَالَ: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً. (الجاثية:23)"
وقَدْ جَاءَ في الدّرِّ المَنْثُورِ أَنَّ هذا التَّفْسِيْرَ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عن ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ في الدُّرِّ: "وأَخْرجَ ابنُ جُرَيْجٍ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم، وعَلَى سَمْعِهِم، فلا يَعْقِلُونَ، ولا يَسْمَعُونَ، وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِم -يَقُولُ: أَعْيُنُهُم- غِشَاوَةً فَلا يُبْصِرُونَ." وقَدْ نَقَلَ الطّبَرِيُّ هذا التَّفْسِيْرَ عن غَيْرِ ابنِ جُرَيْجٍ مَرْوِيًّا عَن ابنِ مسْعُودٍ.
هذان تَفْسِيْرَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، أَمّا تَوْجِيْهُ النُّحاةِ للآيَةِ بِهذا اللّفْظِ فهو وَاحِدٌ لَيْسَ فِيْهِ خِلافٌ، وهو أَنَّ هذه جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ تَقَدَّمَ فِيْها الخَبَرُ، وهو شِبْهُ الجُمْلَةِ، وتَأَخَّرَ المُبْتَدَأ، وهو (غِشَاوَةٌ)، وهذا التَّوْجِيْهُ يَتَّفِقُ مَع تَفْسِيْرِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَدْ صَرَّحَ الطَّبَرِيُّ بِذلِكَ، قَالَ: "وبِمَا قُلْنا في ذلكَ مِن القَوْلِ والتَّأوِيْلِ, رُوِيَ الخَبَرُ عَن ابْنِ عَبّاسٍ."
ويُشِيْرُ كَلامُ الطَّبَرَيِّ أَنَّ قَوْلَ النُّحَاةِ، وتَوْجِيْهَهُم للآيَةِ مَرْوِيٌّ عَن ابْنِ عَبّاسٍ، وهو قَوْلُهُ: "والغَشَاوَةُ عَلَى أَبْصَارِهِم"، وكَأَنَّ النُّحَاةَ قَدْ أَخَذُوا تَوْجِيْهَهُم مِنْ كَلامِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومَا فَعَلَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أَنَّهُ أَخَّرَ مَا كَانَ مُقَدَّمًا، وقَدّمَ مَا كَانَ مُؤخّرًا، وهو المُبْتَدأ النَّكِرَةُ، ثمّ عَرَّفَها حَتّى تَصِحَّ الجُمْلَةُ، فَكَلامُ النُّحاةِ هُنا تَطْبِيْقٌ لِتَأوِيلِ ابْنِ عَبّاسٍ، ولَيْسَ في هذا التَّوْجِيْهِ خِلافٌ، والسَّبَبُ في ذلِكَ أَنّهُ لا يُوجَدُ اخْتِلافٌ في التَّأْوِيلِ، فَتَأْوِيْلُ الجُمْلَةِ وَاحِدٌ، لا خِلافَ فِيْهِ عِنْدَ أَهْلِ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.
ولا يَتَّفِقُ التَّأويلُ الثّانِي مَع هذا القِرَاءَةِ للآيَةِ، وهي قراءَةُ رَفْعِ (غِشَاوةٍ)، وذلِكَ لأَنَّ تَأْوِيْلَ ابْنِ مِسْعُودٍ لَيْسَ بِرَفْعِ (غِشَاوَةٍ)، وإِنّما بِنَصْبِها، وهو مُعْتَمِدٌ في ذلِكَ عَلى قَوْلِهِ تَعَالى في سُورَةٍ أُخْرى: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً. (الجاثية:23)
ويَتَّفِقُ هذا التّأويلِ مَع قِرَاءةٍ أخْرى، وهي القِراءَةُ بِنَصْبِ: (غِشَاوَةٍ)، وكَأَنَّ هذا التَّأويلَ جَاءَ مُفَسِّرًا لِقِرَاءَةِ النَّصْبِ، فَأَخَذَ بِهِ النَّحَاةُ، وتَأَوَّلُوا الآيَةَ كَمَا تَأَوّلَها ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: "فَإنْ قَالَ قَائِلٌ: ومَا وَجْهُ مَخْرَجِ النَّصْبِ فِيْها؟ قِيْلَ لَهُ: إِنَّ نَصْبَها بِإضْمَارِ (جَعَلَ) كَأَنَّه قَالَ: وَجَعَلَ عَلى أَبْصَارِهِم غِشَاوَةً، ثُمَّ أَسْقَطَ (جَعَلَ)؛ إِذْ كَانَ في أَوّلِ الكَلامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْه".
وأَرَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ ذَهَبَ إِلى هذا التَّأويلِ مُوَافَقَةً لِقِرَاءَةِ النَّصْبِ، وهذا يُشِيْرُ إِلى أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ كَانُوا يُدْرِكُونَ أَنَّ تَغَيُّرَ الحَرَكَةِ عَلَى الكَلِمَةِ يَتْبَعُهُ تَغْيِيْرٌ في المَعْنى، ولِذلِكَ كَانَ لَهُم تَأْوِيْلٌ في حَالَةِ الرَّفْعِ، وآخَرُ في حَالَةِ النَّصْبِ.
وللنُّحاةِ تأويلٌ آخَرُ لِوَجْهِ النَّصْبِ، قَالَ الفارسِيُّ: "وأَمّا إِذا نَصَبَ، فلا يَخْلُو في نَصْبِها مِنْ أَنْ يَحْمِلَها عَلَى (خَتَمَ) هذا الظّاهِرِ، أَو عَلَى فِعْلٍ آخَرَ غَيْرَهُ، فَإِنْ قَالَ: أَحْمِلُها عَلَى الظّاهِرِ كَأَنِّي قُلْتُ: وخَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ غِشَاوَةً، أَيْ: بِغِشَاوَةٍ، فَلَمّا حَذَفَ الحَرْفَ وَصَلَ الفِعْلَ، ومَعْنى: خَتَمَ عَلَيْهِ بِغِشَاوَةٍ مِثْلُ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشَاوَةً."
وقَدْ جَاءَ هذا التَّأويلُ النَّحْوِيُّ مُوافِقًا لِتَأويلٍ آخَرَ عِنْدِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، وهو مَا نُقِلَ عَن سَعِيْدٍ المَقْبَرِيِّ، جَاءَ في تَفْسِيْرِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: "حَدَّثَنا عَلِيٌّ بنُ الحُسَيْنِ، ثَنَا مُحَمّدٌ بنُ المُثَنّى، ثَنَا مُحَمّدٌ بنُ جَهْضَمٍ، ثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ سَعِيْدٍ المَقْبَرِيِّ، قَالَ: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم بِالكُفْرِ."
والظّاهِرُ ممّا سَبَقَ أَنَّ كُلَّ تَأوِيْلٍ نَحْوِيٍّ كَانَ يُوَافِقُهُ تَأْوِيْلٌ عِنْدَ المُفَسِّرِيْنَ، فَتَوْجِيْهُ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ عِنْدَ النُّحَاةِ يُوَافِقُه تَأْوِيْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: (الغِشَاوَةُ عَلَى أَبْصَارِهِم)، وتَوْجِيْهُ قِرَاءَةِ النَّصْبِ عِنْدَ النُّحَاةِ مُتَعَدِّدٌ كَما أَنَّ تَأْويلَ المُفَسِّرِيْنَ مُتَعَدِّدٌ، فالّذي أَرَاهُ أَنَّ النُحَاةَ كَانُوا يَنْظُرُونَ تَأوِيْلاتِ مَنْ سَبَقَهُم، ثُمَّ يُوجّهُونَ الآيَةَ التَّوْجِيْهَ المُنَاسِبَ لِتَأويل المُفَسِّرِيْنَ.
2. العَطْفُ، ووَاوُ الصَّرْفِ:
قولُهُ تَعَالَى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة:42)
ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ في توجيه هذه الآية وَجْهين: الأوّل: مَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: "حَدَّثَنا عُثْمَانُ بنُ سَعِيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنا بِشْر بنُ عَمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: (وَتَكْتُمُوا الحَقَّ) يَقُولُ: ولا تَكْتُمُوا الحَقَّ وأَنْتُم تَعْلَمُونَ."
والوَجْهُ الثّانِي: مَذْهَبُ أبِي العَالِيَةِ ومُجَاهِدٍ، قال الطّبَرِيُّ: "حَدَّثَنا أَبُو جَعْفَرٍ عَن الرَّبِيْعِ عَن أَبِي العَالِيَةِ: (وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وأَنْتُم تَعْلَمُونَ)، قَالَ: كَتَمُوا بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،" وكذلكَ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ.
أمّا النُّحَاةُ فلهم في تَوْجِيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَكْتُمُوا رَأْيَانِ، هُما:
الأَوَّلُ: هو مَجْزُومٌ بِالعَطْفِ عَلَى (تَلْبِسُوا)، والمَعْنى أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ نَهى أَهْلَ الكِتَابِ والكَافِرِيْنَ عَنْ أَمْرَيْنِ: خَلْطِ الحَقِّ بِالبَاطِلِ، وكِتِمَانِ الحَقِّ، والحَقُّ هو صِفَةُ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم الوَارِدَةُ في التَّوْراةِ والإِنْجِيْلِ، كَما وَرَدَ في بَعْضِ الأَقْوَالِ، فالنَّهْيُ هُنا عَن الحَدثَيْنِ.
والثّانِي: النَّصْبُ، وفِيْهِ عِدَّةُ أَوْجُهٍ، هي:
الوَجْهُ الأَوّلُ: النَّصْبُ بِإِضْمَارِ (أَنْ)، والوَاوُ بِمَعْنى الجَمْعِ، والمَعْنى في هذا الرَّأيِ أَنَّ اللهَ جَلَّ وعَلا نَهَاهُم عَن الجَمْعِ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ: الخَلْطِ، والكِتْمَانِ، فَيَجُوزُ لأَحَدِهِم أَنْ يَقُومَ بِفِعْلٍ مِنْهُما، والتَّقْدِيْرُ: لا يَكُنْ مِنْكُم لَبْسُ الحَقِّ وكِتْمَانُهُ، وهذا رَأيُ البَصْرِيِّيْنَ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: "وهو عِنْدَ البَصْرِيِّيْنَ عَطْفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهّم،" وهو مُتَابَعَةٌ لِرَأْيِ سِيْبَوَيْه، قَالَ: "إِنْ ِشِئْتَ جَعَلْتَ (وتَكْتُمُوا) عَلَى النَّهْيِ، وإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ عَلَى الوَاوِ،" وهي عِنْدَه بِإِضْمَارِ (أَنْ).
والوَجْهُ الثّانِي: إِنَّ المَعْنى في حَالِ النَّصْبِ لَيْسَ الجَمْعَ، وإِنَّما هو إِخْبَارٌ عَن الكَافِرِيْنَ بِكِتْمَانِهِم الحَقَّ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: "وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ خَبَرًا مِنْهُ عَنْهُم بِكِتْمَانِهِم الحَقَّ الّذي يَعْلَمُونَهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: "وتَكْتُمُوا" حِيْنَئِذٍ مَنْصُوبًا لانْصِرَافِهِ عَنْ مَعْنى قَوْلِهِ: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِل؛ِ إِذْ كَانَ قَوْلُهُ: ولا تَلْبِسُوا نَهْيًا، وقَوْلُهُ: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ خَبَرًا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُعَادَ عَلَيْهِ مَا عَمِلَ في قَوْلِهِ: تَلْبِسُوا مِن الحَرْفِ الجَازِمِ، وذلكَ هو المَعْنى الّذي يُسَمِّيْه النَّحْوِيُّونَ صَرْفًا،" وهذا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الكُوفَةِ.
وقَدَّرَهُ ابْنُ شُقَيْرٍ بِقَوْلِهِ: "مَعْنَاهُ واللهُ أَعْلَمُ: وأَنْتُم تَكْتُمُونَ الحَقَّ"، ثُمَّ قَالَ: "فَلَمّا أَسْقَطَ أَنْتُم نَصَبَ،" وهذا تَفْسِيْرٌ لِرَأْيِ الكُوفِيِّيْنَ، والظّاهِرُ لِي أَنَّ الوَاوَ فِيْهِ لا تَدُلُّ عَلَى الجَمْعِ، وإِنْ كَانَتْ عَاطِفَةً، قَالَ الفَرّاءُ: "فَإِنْ قُلْتَ: وَمَا الصَّرْفُ؟ قُلْتُ: أَنْ تَأْتِيَ بِالوَاوِ مَعْطُوفَةً عَلَى كَلامٍ في أَوَّلِهِ حَادِثَةٌ لا يَسْتَقِيْمُ إِعَادَتُها عَلَى مَا عُطِفَ عَلَيْها، فَإِنْ كَانَ كَذلِكَ فهو الصَّرْفُ."
وقَدْ الْتَبَسَ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي فَهْمِ رَأْيِ الكُوفِيِّينَ، فَخَلَطُوا بَيْنَ الرَّأْيَيْنِ، ونَسَبُوا للكُوفِيّينَ القَوْلَ بِإِضْمَارِ (أَنْ) في مَفْهُومِهِم للصَّرْفِ، ولَيْسَ كَذلِك، قَالَ أبُو حَيَّانَ: "وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ: وهذه الوَاوُ وَنَحْوُها الَّتي يُسَمِّيْها الكُوفِيّونَ وَاوَ الصَّرْفِ؛ لأَنّ حَقِيْقَةَ وَاوِ الصّرْفِ الّتي يُرِيْدُونَها عَطْفُ فِعْلٍ عَلَى اسْمٍ مُقَدَّرٍ، فَيُقَدّرُ (أَنْ) لِيَكُونَ مَع الفِعْلِ بِتَأْوِيْلِ المَصْدَرِ، فَيَحْسُنَ عَطْفُه عَلَى الاسْمِ.انْتَهَى. ولَيْسَ قَوْلُهُ تَعْلِيْلاً لِقَوْلِهِم وَاوَ الصَّرْفِ، إِنَّما هو تَقْرِيْرٌ لِمَذْهَبِ البَصْرِيّيْنَ، وأَمّا الكُوفِيّونَ فَإِنَّ وَاوَ الصَّرْفِ نَاصِبَةٌ بِنَفْسِها، لا بِإِضْمَارِ (أَنْ) بَعْدَها."
ومِمّن خَلَطَ بَيْنَ الرَّأْيَيْنِ أَيْضًا البَاقُولِيُّ الأَصْفَهَانِيُّ، وتَاجُ الدّينِ الجَنَدِيُّ، قَالَ: "فَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّ الوَاوَ وَاوُ الصَّرْفِ، أَيْ: مَع الكِتْمانِ، وإِنَّمَا يَكُونُ ذلِكَ إِذا لَمْ يُرَد الاشْتِرَاكُ بَيْنَ الفِعْلِ والفِعْلِ، أَيْ: لا تَجْمَعُوا بَيْنَ لَبْسِ الحَقِّ بِالبَاطِلِ وبَيْنَ كَتْمِ الحَقِّ، فالمَنْهِيُّ عَنْهُ هو الجَمْعُ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ لا نَفْسَ الفِعْلِ،" فالرّأيُ للكُوفِيّيْنَ، والتَّقْدِيْرُ للبَصْرِيّيْن.
والوَجْهُ الثّالِثُ: يَرَى أبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، ومَكِيٌّ أَنَّ الفِعْلَ مَنْصُوبٌ لأَنَّهُ جَوَابُ النَّهْيِ، قَالَ: "تَكْتُموا مَنْصُوبٌ؛ لأَنَّهُ جَوَابُ النَّهْيِ، وحَذْفُ النُّونِ عَلَمُ النَّصْبِ،" ولَمْ يُوضّحا رَأيَهُما في الوَاوِ، كَما َلَمْ يُبَيِّنَا كَيْفَ يَكُونُ جَوَابًا للنَّهْيِ مَع وُجُودِ الوَاوِ.
هذا رَأْيُ النُّحَاةِ في هذه المَسْأَلَةِ، وأَرَى أَنَّ التَّنَوُّعَ في آرَائِهِم جَاءَ مُوَافِقًا لِتَفْسِيْرِ أَهْلِ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ في الوَجْهِ الأَوَّلِ، وهو الجَزْمُ: "فَأَمّا الوَجْهُ الأَوَّلُ مِنْ هذينِ الوَجْهَيْنِ اللَّذَينِ ذَكَرْنا أَنَّ الآيَةَ تَحْتَمِلُهُما فهو عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ عَبّاسٍ،" وقَالَ في الوَجْهِ الثّانِي: "وأَمّا الوَجْهُ الثّانِي مِنْهُما فهو عَلَى مَذْهَبِ أبِي العَالِيَةِ ومُجَاهِدٍ،" فَقَدْ جَاءَ الوَجْهَانِ النَّحْوِيّانِ مُتَّفِقَيْنِ مَع مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.
أَمّا مَا ذَكَرَه ابْنُ عَبّاسٍ فهو تَأوِيْلُ النّحاةِ نَفْسُهُ، لَفْظًا ومَعْنىً، وقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ قَوْلَه، فَقَالَ: "حَدَّثَنا عُثْمَانُ بنُ سَعِيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنا بِشْر بنُ عَمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَن الضَّحَّاكِ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ يَقُولُ: ولا تَكْتُمُوا الحَقَّ وأَنْتُم تَعْلَمُونَ."
وقَدْ وَرَدَ عِنْدَ الفَرّاءِ تَوْجِيْهٌ نَحْوِيٌّ مُعْتَمِدٌ عَلَى كَلامِ ابْنِ عَبّاسٍ والتَّفْسِيْرِ بِالقُرآنِ، قَالَ في تَوْجِيْهِ الجَزْمِ: "إِنْ شِئْتَ جَعلْتَ وَتَكْتُمُوا في مَوْضِعِ جَزْمٍ، تُرِيْدُ بِهِ: ولا تَلْبِسُوا الحَقَّ بالبَاطِلِ ولا تَكْتُمُوا الحَقَّ، فَتُلْقِي (لا) لِمَجِيئِها في أَوّلِ الكَلامِ، وفي قِرَاءَةِ أُبَيّ: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً، (البقرة: 41) فهذا دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ الجَزْمَ في قَوْلِهِ: (وتَكْتُمُوا الحَقَّ) مُسْتَقِيْمٌ صَوَابٌ، ومِثْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ، (البقرة: 188) وكَذلِكَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، (الأنفال:27)" وهذا يُشِيْرُ إِلى مَدَى تَأثِيْرِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ.
والمُلاحَظُ هُنا أَنَّ تَأْوِيلَ النُّحَاةِ هو تَأوِيْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وتَقْدِيْرُهُم تَقْدِيْرُهُ، والمَعْنى في الآَيَةِ عِنْدَ النُّحاةِ هو النَّهْيُ عَنْ كِتْمَانِ الحَقِّ، وكَذلِكَ المَعْنى عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ، والنَّهيُ هنا عَن الحَدَثَيْنِ: خَلْطِ الحَقِّ بِالباطِلِ، وكِتْمَانِ الحَقِّ.
وأَمّا مَا ذَكَرَهُ أبو العَالِيَةِ، ومُجَاهِدٌ فَهو يَتَّفِقُ مَع مَا ذَكَرَهُ الكُوفِيُّونَ، وهو القَوْلُ بالصَّرْفِ، ومَا نُقِلَ عَنْهُما قَدْ جَاءَ في قَوْلِ الطّبَرِيِّ: "حَدَّثَنا أَبُو جَعْفَرٍ عَن الرَّبِيْعِ عَن أَبِي العَالِيَةِ: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، قَالَ: كَتَمُوا بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،" وكذلكَ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ.
ويَقْصِدُ الطَّبَرِيُّ بِقَوْلِهِ: "وأَمّا الوَجْهُ الثّانِي مِنْهُما فهو عَلَى مَذْهَبِ أبِي العَالِيَةِ ومُجَاهِدٍ" أنَّ الوَجْهَ النَّحْوِيَّ وَافَقَ المَعْنى الّذي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو العَالِيَةِ ومُجَاهِدٌ، وهذا المَعْنى هو الإِخْبَارُ عَنْ كِتْمَانِهِم بَعْثَ مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يَتَّفِقُ مَع وَجْهِ الكُوفِيِّيْنَ، وهو القَوْلُ بالصَّرْفِ، وتَقْدِيْرُهُم للجُمْلَةِ يَحْمِلُ مَعْنى الإِخْبَارِ، وهو: وأَنْتُم تَكْتُمُونَ الحَقَّ.
وقَدْ قُرِئَ في الشَّوَاذِّ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ: "وتَكْتُمُونَ الحَقَّ،" وهذا مِمّا يَعْضُدُ قَوْلَ الكُوفِيّيْنَ، وتَقْدِيْرَ ابْنِ شُقَيْرٍ، قَالَ العُكْبُرِيُّ: "والوَجْهُ فِيْهِ أَنَّهُ جَعَلَ الوَاوَ للحَالِ وحَذَفَ المُبْتَدَأ، تَقْدِيْرُه: وأَنْتُم تَكْتُمُونَ الحَقَّ."
أَمّا رَأْيُ البَصْرِيِّينَ وهو القَوْلُ بِتَقْدِيْرِ (أَنْ) فالمَعْنى فِيْهِ غَيْرُ وَاضِحٍ؛ إِذْ يُفْهَمُ مِنْ رَأْيِ البَصْرِيّينَ أَنّ الوَاوَ في هذه الآيَةِ للجَمْعِ، فالنَّهْيُ في الآيَةِ -كَمَا فَهِمَهُ بَعْضُهُم- عَن الجَمْعِ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ، وهذا يَعْني جَوَازَ فِعْلِ أَحَدِهِما، وهذا أَمْرٌ تَرْفُضُهُ الشَّرِيْعَةُ، ومِمّن فَهِمُوا هذا الفَهْمَ القَوّاسُ المُوصِلِيُّ، وأَبُو حَيّانَ الأَنْدَلُسِيُّ، قَالَ في تَفْسِيْرِهَِ: "وَمَا جَوَّزُوهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ النَّهْيُ مُنْسَحِبًا عَلَى الجَمْعِ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ، كَمَا إِذَا قُلْتَ: لا تَأكُل السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ، مَعْناهُ النَّهْيُ عَن الجَمْعِ بَيْنَهُما، وَيَكُونُ بِالمَفْهُومِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الالْتِبَاسِ بِوَاحِدٍ مِنْهُما، وذلكَ مَنْهِيٌّ عَنْه؛ فَلِذلِكَ رُجِّحَ الجَزْمُ."
ويَرى ابْنُ يَعِيْشَ أَنَّهُ "يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْصُوبًا، ويَكُونُ النَّهْيُ عَن الجَمْعِ بَيْنَهُما، ويَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما مَنْهِيًّا عَنْهُ بِدَلِيْلٍ آخَرَ،" وذَكَرَ النِّيْلِيُّ وَجْهًا آخَرَ للنَّصْبِ، قَالَ: "وأَمّا تَجْوِيْزُهُم أَنْ يَكُونَ وَتَكْتُمُوا مَنْصُوبًا فَوَجْهُهُ أَنَّ بَعْدَهُ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، كَأَنَّ المَعْنى: لا يَجْتَمِعُ مِنْكُم لَبْسٌ وكِتْمَانٌ مَعْ عِلْمٍ؛ لأَنّ اللّبْسَ الّذي لا يَعْلَمُهُ الإنْسَانُ لا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ عَنْه."
يُلاحَظُ أَنَّ الآرَاءَ في هذه الآيَةِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ تَوَافَقَ مَعْ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ لَفْظًا ومَعْنىً، وهذا القِسْمُ تَوَافَقَ أَيْضًا مَع أَفْهامِ أَكْثَرِ النُّحَاةِ، فَكَانَ هو المُرَجّحَ عِنْدَهُم، وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّحَاةَ يَنْظُرُونَ إِلى أَنْ تُوَافِقَ تَأويلاتُهِم تَأْوِيلَ أَهْلِ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ مِن المُفَسّرِيْنَ، فهُم مَنْ سَبَقُوهُم في العِلْمِ بِأَسْرَارِ القُرآنِ العَظِيْمِ.
وقِسْمٌ لَمْ يَتَوَافَقْ مَع كَلامِ أَهْلِ التَّأْوِيْلِ، ولَمْ تَقْبَلْهُ أَفْهَامُ كَثِيْرٍ مِن النُّحاةِ، ثُمَّ إِنّ مِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إِلى تَوْجِيهِ رَاْيِ البَصْرِيّيْنَ تَوْجِيْهًا غَيْرَ سَدِيْدٍ، وأَرَى أَنّ الأخْذَ بِهذا الرَّأيِ عِنْدَ بَعْضِهِم لِكَوْنِه يَحْمِلُ اسْمَ سِيْبَوَيْهِ والبَصْرِيّيْن، ويُلاحَظُ هُنا أَنَّ الرَّأيَ الّذي لَمْ يَتَوَافَقْ مَع مَا ذَكَرَه أَهْلُ التَّأوِيْلِ كَانَ رَأْيًا يَحْتَاجُ إِلى تَأْوِيْلٍ وتَقْدِيْرٍ غَيَّرَ المَعْنى؛ ولِذلِكَ الْتَبَسَت آرَاءُ النُّحَاةِ في فَهْمِ هذا الرَّأْيِ وتَوْجِيْهِه.
3. حَذْفُ (أَنْ) والقَسَمُ:
قوله تعالـى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ. (البقرة: 83)
تَتَحَدّثُ هذه الآيَةُ الكَرِيْمَةُ عَنْ َبَنِي إِسْرَائِيلَ، والمِيْثَاقِ الَّذي أُخِذَ عَلَيْهِم وبُنُودِهِ، وهو كَمَا عَرَّفَهُ الرّاغِبُ عَقْدٌ مُؤَكّدٌ بِيَمِيْنٍ وعَهْدِ، وكَانَت الآياتُ الّتي قَبْلها قد تَحَدَّثت عن النِّعَمِ التي أَنْعَمَ اللهُ بِها عَلَى بَني إسْرَائِيلَ، ومَا قَطَعُوهُ عَلَى أَنْفُسِهم مِن العُهُودِ، قَالَ تَعَالى: يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، (البقرة: 40) وتَضمَّنَتْ هذه العُهُودُ الإيْمَانَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وإِقَامَ الصَّلاةِ، وإيْتَاءَ الزَّكَاةِ إلى غَيْرِ ذلك مِنْ أَمْرِ العلاقَةِ بَيْنَ العَبْدِ ورَبِّهِ، ثُمّ تَنَاوَلَت الآيَاتُ النِّعَمَ الّتي أَنْعَمَها عَلَيْهِم، وهي نَجَاتُهُم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وتَحَدّثت الآيَاتُ الّتي بَعْدَها عَنْ نَقْضِ اليَهُودِ للمِيْثَاقِ فَعَبَدُوا العِجْلَ، وتَرَكُوا عِبَادَةَ اللهِ، ثُمّ عَفا اللهُ عَنْهُم، وقَدْ أنعَمَ اللهُ عَلَيْهم بعد ذلك بِنِعَمٍ كَثِيْرَةٍ، ثُمّ خَانُوا العَهْدَ مَرَّةً أُخْرى، وأُخِذَ عَلَيْهِم المِيْثَاقُ باتّباعِ مَا جَاءَ في التَّوْرَاةِ، فَنَقَضُوا العَهْدَ والمِيْثَاقَ، وهكذا اسْتَمَرّ اليَهُودُ في نَقْضِ العُهُودِ والمَوَاثِيْق، وكانَ مِنْها هذا المِيْثَاقُ الّذي يَنُصُّ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَه، والإِحْسَانِ إِلى الوَالِدَيْنِ، وإِقَامِ الصَّلاةِ، وإيْتَاءِ الزَّكَاةِ.
وقد نقلَ الطّبَرِيُّ رأيًا لأبِي العَالِيَةِ في تفسير هذه الآية، قَالَ: "حَدّثَني المُثَنّى، قَالَ: ثَنا آدَمُ، قَالَ: ثَنا أَبُو جَعْفَرٍ عَن الرَّبِيْعِ عَن أَبِي العَالِيَةِ: أَخَذَ مَوَاثِيْقَهُم أَنْ يُخْلِصُوا لَهُ، وأَنْ لا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ،" ونَقَلَ الطّبَرِيُّ ذلِكَ عَن الرَّبِيْعِ مِنْ طَرِيْقٍ آخَرَ.
ومِمّا رَوَاهُ في تَفْسِيْرِ هذه الآيَةِ قَوْلُهُ: "حَدَّثَنا القَاسِمُ، قَالَ: ثَنا الحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَن ابْنِ جُرَيْجَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ، قَالَ: المِيْثَاقُ الّذي أُخِذَ عَلَيْهِم في المَائِدَةِ." وإِذا ذَهَبْنا إِلى سُورَةِ المَائِدَةِ نَجِدُ أَنَّ المِيْثَاقَ قَوْلٌ أَمَرَ اللهُ عِيسى عَلَيْهِ السّلامُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُم، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ. (المائدة:117)
ورَوَى الطَّبَرِيُّ أَيْضًا قَوْلاً آَخَرَ في هذه الآية، قَالَ: "حَدَّثَنِي بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ أَبِي مُحَمَّد عَنْ سَعِيْد بنِ جُبَيْرٍ، أَو عِكْرِمَةُ عَن ابنِ عَبّاسٍ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ مِيْثَاقُكُم لاَ تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ."
وللنُّحَاةِ في تَوْجِيْهِ قَوْلِهِ: لا تَعْبُدُونَ عِدّةُ آرَاءٍ، هي:
الأَوّلُ: يَرَى سِيْبَوَيْهِ أَنَّ كَلِمَةَ (مِيْثَاقٍ) في الآيَةِ تَقُومُ مَقَامَ القَسَمِ، وأَنَّ قَوْلَهُ: (لا تَعْبُدُونَ) جُمْلَةُ جَوَابِ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَهَا مِن الإِعْرَابِ، قَالَ في كِتَابِهِ: "واعْلَمْ أَنَّكَ إِذا أَخْبَرْتَ عَنْ غَيْرِكِ أَنَّه أَكَّدَ عَلَى نَفْسِه أَو عَلَى غَيْرِه فالفِعْلُ يَجْري مَجْراهُ حَيْثُ حَلَفْتَ أَنْتَ؛ وذلك قَولُكَ: أَقْسَمَ لَيَفْعَلَنَّ، واستَحْلَفَه لَيَفْعَلَنَّ، وحَلَفَ لَيَفْعَلنَّ ذلك، وأخَذَ عَلَيهِ لا يَفْعَلُ ذلكَ أَبَدًا، وذاكَ أَنَّهُ أَعْطاهُ مِنْ نَفْسِهِ في هذا المَوضِعِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَ أَنْتَ مِنْ نَفْسِكَ حِيْنَ حَلَفْتَ، كَأَنَّكَ قُلْتَ حِيْنَ قُلْتَ: أُقْسِمُ لَيَفْعَلَنَّ، وقَالَ: واللهِ لَيَفْعَلَنَّ، وحِيْنَ قُلْتَ: أَسْتَحْلِفُهُ لَيَفْعَلَنَّ، قَالَ لَهُ: واللهِ لَيَفْعَلَنَّ، ومِثْلُ ذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى جَدُّهُ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ، وَسَأَلْتُهُ: لِمَ لَمْ يَجُزْ: واللهِ تَفْعَلُ، يُرِيْدُونَ بِها مَعْنى سَتَفْعَلُ، فَقَالَ: مِنْ قِبَلِ أَنَّهُم وَضَعُوا تَفْعَلُ هاهنا مَحْذُوفَةً مِنْها (لا)، وإِنَّما تَجِيءُ في مَعْنى (لا أَفْعَلُ) فَكَرِهُوا أَنْ تَلْتَبِسَ إِحْدَاهُما بِالأُخْرى،" وأخَذَ بِهذا الرَّأيِ جُمْلَةٌ مِن النُّحَاةِ مِنْهُم الكِسَائِيُّ والمبرّد، والفَراء، وأَجْرَى ابْنُ مَالِكٍ جُمْلَةً مِن الأَلْفَاظِ مَجْرَى القَسَمِ، وذلكَ مِثْلُ: (نَشهَدُ)، و(خِفْتُ)، و(عَاهَدْتُ)، و(وَاثَقْتُ) وغَيْرَها من الألفاظِ.
الثّانِي: ذَكَرَ الأَخْفَشُ أَنَّ الفِعْلَ ارْتَفعَ بَعْدَ أَنْ حُذِفَ حَرْفُ النَّصْبِ، والتَّقْدِيْرُ عِنْدَه: أَنْ لا تَعْبُدُوا، والأخْفَشُ يَذْهَبُ هُنا إِلى أَنّ هذا أُسْلُوبُ نَفْيٍ، لا نَهْيٍ، فـ(لا) في الآيَةِ نَافِيَةٌ، أَمّا الفِعْلُ فالأَصْلُ أَنْ يَكُونَ بِحَذْفِ النُّونِ عَلَى تَقْدِيْرِ النَّصْبِ بِـ(أَنْ)، وفي الآيَةِ قِرَاءَةٌ شَاذّةٌ بِجَزْمِ الفِعْلِ: "لا تَعْبُدُوا،" وقَدْ دَفَعَت هذه القِرَاءَةُ كَثِيْرًا مِن النُّحَاةِ إِلى القَوْلِ إِنَّ هذا أُسْلُوبُ نَفْيٍ يَحْمِلُ مَعْنى النَّهْيِ، وقَدْ نُسِبَ إلى الأَخْفَشِ أَنّ الجُمْلَةَ في مَحَلّ نَصْبِ مَفْعُولٍ على إِسْقاطِ حَرْفِ الجرِّ، والتَّقْدِيرُ عِنْدَه: أَخَذَنا مِيْثاقَهُم بِأَنْ لا تَعْبُدُوا، أو عَلَى أَنْ لا تَعْبُدوا، ويَحْتَمِلُ عَلَى تَقْدِيْرِ الأَخْفَشِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الجُمْلَةِ النَّصْبَ عَلَى البَدَلِيَّةِ مِن المِيْثَاقِ، والتَّقْدِيْرُ: أَخَذْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ تَوْحِيْدَهُم.
الثّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الحَالِ، والتَّقْدِيْرُ: أَخَذْنا مِيْثاقَكُم غَيْرَ عَابِدِيْنَ إِلاّ اللهَ، ونُسِبَ هذا القَوْلُ إِلى قُطْرُبٍ، والمُبَرّدِ، وهو حَالٌ مِن المُضَافِ إِلَيْهِ في قَوْلِهِ: مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: "وهو لا يَجُوزُ عَلَى الصّحِيْحِ."
الرّابِعُ: أَنّ قَوْلَهُ: "لا تَعْبُدُونَ" مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وتَحْتَمِلُ هُنا أَنْ تَكُونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ للقَوْلِ، والتَّقْدِيْرُ: قُلْنَا لَهُم ذلِكَ.
الخَامِسُ: أَنْ يُقَدَّرَ (أَنْ) التَّفْسِيْرِيَّةُ، ويَكُونُ لا مَوْضِعَ إِعْرَابٍ للجُمْلَةِ.
هذه هي أَهَمُّ الآرَاءِ النَّحْوِيَّةِ في تَوْجِيْهِ قَوْلِهِ: لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ، وأَرَى أَنَّ رَأْيَ الأَخْفَشِ هو أَقْرَبُ الآرَاءِ إِلى المَعْنى، ولَمْ يُخَالِف القَوَاعَدَ النَّحْوِيَّةَ إِلاّ في إِضْمَارِ (أَنْ) عِنْدَ البَصْرِيِّيْنَ، فَحَذْفُ (أنْ) المَصْدرِيَّةِ لا يَنْقاسُ عَلَيْهِ عِنْدَهُم، فهو شَاذٌّ قَلِيلٌ خِلافًا للكُوفِيّيْنَ، وممّا يُؤَيِّدُ رَأْيَ الأَخْفَشِ أَنَّه قد جَاءَت (أَنْ) في آيَةٍ أُخْرى، فِيْها الأَلْفَاظُ نَفْسُها والمَعْنى، وهذا في قَوْلِه تَعَالَى: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ، (الأعراف:169) وهذا من تَفْسِيْرِ القُرآنِ بالقُرآنِ، وهو مِن التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.
وكَانَ رَأْيُ الأَخْفَشِ مُوَافَقًا لِمَا جَاءَ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيْلِ مِمّا رَوَاهُ الطّبَرِيُّ في جَامِعِ البَيَانِ، فَتَأْوِيْلُهُ للجُمْلَةِ هي تَأْوِيْلاتُهُم، والمَعْنى عِنْدَه هو المَعْنى الّذي أَرَادُوه، فقد وافق مَا رَوَاهُ الطّبَرِيُّ عَن أَبِي العَالِيَةِ، وهو قوله: "أَخَذَ مَوَاثِيْقَهُم أَنْ يُخْلِصُوا لَهُ، وأَنْ لا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ."
فيُلاحَظُ هنا أَنَّ تَأْوِيْلَ الأَخْفَشِ النَّحْوِيَّ لا يَخْتَلِفُ عَنْ تَأْوِيْلِ أَبِي العَالِيَةِ في شَيءٍ، وقَدْ ظَهَرَتْ (أَنْ) في تَأْوِيلهِما، وهذا حُجَّةٌ لَهُ، وأرى أَنَّ مَا يَرَاهُ الأخْفَشُ ها هُنا هو أَنَّ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةٌ تتَعَلَّقُ بِالأَخْذِ، وهذا مَا يُفْهَمُ مِن كَلامِ أَبِي العَالِيَةِ، فالتَّقْدِيْرُ: أَخَذَ مِنْهُم إِخْلاصَهُم للهِ وعَدَمِ عِبَادَتِهِم إِلاّ إِيّاهُ، فالظّاهِرُ أَنَّهُ قَدْ تَأَثَّرَ في رَأْيِهِ بِكَلامِ أَبِي العَالِيَةِ كَما تَأثّرَ بِآيَةِ الأَعْرَافِ: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ، (الأعراف:169) في تَقْدِيْرِ (أَنْ).
وما رَوَاهُ الطّبريّ من أقوالٍ أُخْرى في تفسير هذه الآيةِ سَاعَدَ عَلَى وُجُودِ التَّعَدُّدِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ، فالآرَاءُ الكَثِيْرَةُ في إِعْرَابِ الآيَةِ القُرآنِيةِ جَاءَت نَتِيْجَةً لِكَثْرَةِ آرَاءِ المُفَسِّرِيْنَ في دَلالَةِ الآيَةِ، وهؤلاء المُفسِّرُونَ مِن أَهْلِ التَّأْوِيْلِ كَانُوا أَقْرَبَ النّاسِ إِلى كِتَابِ اللهِ، سَواءٌ كَانَ القُرْبُ زَمانِيًّا مِنْ عَصْرِ التَّنْزِيْلِ، أَوْ فِكْرِيًّا، فابْنُ عَبّاسٍ وابنُ عُمرَ وابْنِ مسْعُودٍ وغَيْرُهُم مِن الصّحَابَةِ أَو التّابِعِيْنَ الّذينَ شَهِدَ لَهُم رَسُولُ اللهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّمَ بِالعِلْمِ، فتَفْسِيْرُهُم كَانَ الأَقْرَبَ إِلى الصَّوَابِ، وارْتِباطُ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ بِهذا التَّفْسِيْرِ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الرّابِطَةِ بَيْنَ النَّحْوِ والمَعْنى.
وما نقله الطّبري عن ابْنِ جُرَيْج يُفَسِّرُ قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إِلى أَنَّ قَوْلَهُ: لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلٍ مُقَدَّرٍ، فقولُ ابن جريج اعتمد على ما جاء في سُورَةِ المَائِدَةِ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، (المائدة:117) فإنَّ قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ متعلّقٌ بالقول.
وما نقلَه الطَّبَرِيُّ عن ابن عباس يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ حَمْلاً مُخْتَلِفًا، فَيُفْهَمُ مِنْ كَلامِ ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُرِيْدُ أَنْ يُخْبِرَهُم عن بُنُودِ هذا المِيْثَاقِ، فَقَوْلُهُ: لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ أَحَدُ بُنُودِهِ، وهذا المِيْثَاقُ يَتَكَوَّنُ مِنْ بُنُودٍ أُخْرَى، هي: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، (البقرة: 83) وكَأَنَّ ابْنَ عَبّاسٍ يُرِيْدَ تَفْسِيْرَ المِيْثَاقِ وذِكْرَ بُنُودِهِ، وأَرَى أَنَّ هذه الرّوَايَةَ تُفَسِّرُ لَنَا قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إِلى أَنّ هذه جُمْلَةٌ تَفْسِيْرِيَّةٌ، وقَدَّرَ (أَنْ) التَّفْسِيْرِيَّةَ.
ومِمّا يُؤَيِّدُ ذلكَ مَا نُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ في الدُّرِّ المَنْثُورِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: "أَخْرَجَ عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ في قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ، قَالَ: مِيْثَاقٌ أَخَذَهُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ، فاسْمَعُوا عَلَى مَا أُخِذَ مِيْثَاقُ القَوْمِ: لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً،" ولا أَرَاكَ تَفْهَمُ مِنْ هذا إِلاّ تَفْسِيْرًا للمِيْثَاقِ، وبَيَانًا لِبُنُودِه.
أَمّا قَوْلُ قُطْرُبٍ والمُبَرّدِ إِنّه في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الحَالِيَّةِ فهم يُقَدِّرُونَ في هذا الرّأيِ (أنْ) المَصْدَرِيَّةَ، وهذا مَا يَدْعَمُ رَأيَ الأَخْفَشِ في تَقْدِيْرِ (أَنْ) خِلافًا للبَصْرِيّيْنَ، أَمّا مَحَلُّ الجُمْلَةِ فَأَمْرٌ آخَرُ، فَمِنْهُم مَنْ يَفْهَمُ البَدَلِيَّةَ، ومنْهُم مَنْ يَرَى الحَالِيَّةَ، وهذا لا يَجُوزُ في الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو حَيَّان.
أَمّا رَأيُ سِيْبَوَيْهِ فَهو مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ دَلالَةَ (المِيْثَاقِ) هي دَلالَةُ القَسَمِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: "وقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي البَصْرَةِ يَقُولُ: مَعْنى قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ حِكَايَةٌ، كَأَنَّكَ قُلْتَ: اسْتَحْلَفْنَاهُم لا تَعْبُدُونَ، أَيْ: قُلْنا لَهُم: واللهِ لا تَعْبُدُونُ، وقَالُوا: واللهِ لا يَعْبُدُونَ،" وتَابَعَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وأَجْرَى جُمْلَةً من الأَلْفَاظِ مَجْرَى القَسَمِ، منها: (نَشهَدُ)، و(خِفْتُ)، و(عَاهَدْتُ)، و(وَاثَقْتُ).
ولَمْ أَجِدْ في جَامِعِ البَيانِ رِوَايَةً تَعْضُدُ رَأيَهُ في دَلالَةِ (المِيْثَاقِ)، ولِكنّي وَجَدْتُ رِوَايَةً عَن ابنِ عَبّاسٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّه جَعَلَ المِيْثَاقَ كالقَسَمِ، قَالَ في دَقَائِقِ التَّفْسِيْرِ: "قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ مِن السَّلَفِ: مَا بَعَثَ اللهُ نُبِيًّا إِلا أَخَذَ عَلَيْهِ المِيْثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمّدٌ وهو حَيٌّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ، ولَيَنْصُرنَّهُ، وأَمَرَه أَنْ يَأْخُذَ المِيْثاقَ عَلَى أُمَّتِه: لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وهم أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَيَنْصُرُنَّهُ."
ولا أَرَى أَنَّ كُلَّ (وَاثَقْتُ)، و(عَاهَدْتُ)، و(أَشْهَدُ)، و(خِفْتُ) تَقُومُ مَقَامَ القَسَمِ، والأَصْلُ في هذه الأفْعَالِ أَنْ تتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ بِحَرْفِ الجَرِّ فتَقُولُ: عَاهَدْتُ زَيْدًا عَلَى أنْ يَفْعَلَ كَذا، وكَذلكَ (وَاثَقْت)، و(أَشْهَدُ)، وأَمّا (خِفْتُ) فالأَصْلُ فِيْهِ أَنْ لا يَدُلَّ عَلَى قَسَمٍ، ولكنَّهُ يَخْرجُ هو وغَيْرُه من الأَفْعَالِ للدَّلالَةِ عَلَى أَغْرَاضٍ مُخْتلفَةٍ، ولا أَراكَ تَفهَمُ مَعْنى القَسَمِ أو غَيْرَهُ من المَعَانِي إِلاّ إِذا وُجِدَتْ قَرِيْنَةٌ تَدُلُّ على ذلك المَعْنى.
وأَرَى أَنَّ هُناكَ عَلاقَةً وثِيْقَةً بَيْنَ التّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ والوُجُوهِ الإِعْرَابِيَّةِ المُتَعَدّدَةِ، وكَأَنّ كُلَّ وَجْهٍ مِنها يُقَابِلُ وَجْهًا مِن وُجُوهِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ، وهذا يُشِيْرُ إِلى أَنَّ التَّفْسِيْرَ بِالمَأثُورِ كَانَ مَنارًا يَسْتَنِيْرُ بِهِ النُّحَاةُ في تَحْدِيْدِ الوَجْهِ النَّحْوِيِّ للآيَةِ الكَرِيْمَةِ، وهذا يُؤكّدُ ارْتِبَاطَ التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيّ بِالمَعْنى.
4. (مَا) المَوْصُولَةُ والنَّافِيَةُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. (البقرة: 102)
نَقَلَ الطَّبَرِيُّ في جَامِعِهِ خِلافًا بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيْلِ في دَلالَةِ (مَا) في قَوْلِهِ: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وقَدْ نَقَلَ لَهُم في ذلِكَ رأيََيْن، هُما:
الأَوّلُ: (مَا) اسْمٌ مَوْصُولٌ.
جَاءَتْ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ تَدُلُّ بِمَعْناها عَلَى أَنّ (مَا) اسْمٌ مَوْصُولٌ، وبَلَغَ مَجْمُوعُ رِوَاياتِ الطَّبَرِيِّ في هذا المَعْنى خَمْسُ رِوَايَاتٍ، مِنْها قَوْلُهُ: "حَدَّثَنِي المُثَنّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ صَالِحٍ, قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بنُ صَالِحٍ, عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَلْحَةَ, عَن ابنِ عَبّاسٍ قَوْلُهُ: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ قَالَ: التَّفْرِيْقُ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ."
فالمَعْنى الّذي أَشَارَ إِلِيْهِ نَصُّ ابنِ عَبّاسٍ هو مَعْنى المَوْصُولِ، فالتَّقْدِيْرُ: الّذي أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ التَّفْرِيْقُ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ، وهذا مَا جَاءَ في النُّصُوصِ الأُخْرى، حَيْثُ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ (الّذي)، وإِنّما المَوْجُودُ هُو مَعْناهُ، قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيّ في مَعْنى الآيَةِ عَلَى هذا التّأْوِيْلِ: "واتَّبَعَت اليَهُودُ الَّذي تَلَتْ الشَّيَاطِيْنُ فِي مُلْكِ سُلَيْمانَ الَّذي أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ ومَارُوتَ، وهُمَا مَلَكَانِ مِنْ مَلائِكَةِ اللهِ."
الثّانِي: (مَا) حَرْفُ نَفْيٍ.
وقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيْلِ في هذا المَعْنى رَوَايَتَيْن، هما:
الأُولى: قَوْلُهُ: "حَدَّثَنِي مُحَمّدُ بنُ سَعْدٍ, قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي, قَالَ: حَدّثَنِي عَمّي, قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي, عَنْ أَبِيْهِ, عَن ابنِ عَبّاسٍ قَوْلُهُ: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَمْ يُنَزِّل اللهُ السِّحْرَ."
الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: "حَدَّثَنا ابنُ حُمَيْدٍ, قَالَ: حَدَّثَنِي حَكَامٌ عَن أَبِي جَعْفَرٍ, عَن الرَّبِيْعِ بنِ أَنَسٍ: "وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ" قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِما السِّحْرَ."
والمَعْنى عَلَى هذا التَّأْوِيْلِ أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَنْزَلَ سِحْرًا عَلَى المَلَكَيْنِ، قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ: "واتَّبَعُوا الَّذي تَتْلُوا الشَّيَاطِيْنُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ مِن السِّحْرِ, ومَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ، ولا أَنْزَلَ اللهُ السِّحْرَ عَلَى المَلَكَيْنِ، ولكنّ الشَّيَاطِيْنَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ ومَارُوتَ."
ولَمْ يَكُنْ عِنْدَ النُّحَاةِ غَيْرُ هذين الرَّأْيَيْنِ؛ وذلِكَ لأَنَّ هذين المَعْنَيَيْنِ هُما المُتَبَادَرَانِ إِلى الذِّهْنِ، فَلَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبالِهِم أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، أَو اسْتِفْهامِيَّةً؛ لأَنَّ مُقْتَضى هذين المَعْنَيَيْنِ غَيْرُ موجُودٍ في الآيَةِ، ومقْتَضاهُما هو مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الآيَةُ منْ مَعْنىً.
والمُلاحَظُ أَنَّ رِوَايَةَ النَّفْيِ أَقَلُّ منْ رِوَايَةِ الاسْمِ المَوْصُولِ، وقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ ذلِكَ عَلَى النُّحَاةِ والمُفَسّرِينَ، فجُمْهُورُهُم أَخَذَ بِرِوَايَةِ الاسْمِ المَوْصُولِ، وهي الأَكْثَرُ رِوَايَةً، أَمّا رِوَايَةُ النَّفْيِ فلَمْ يَأْخُذْ بِها إِلاّ القَلِيْلُ، وهذا يُشِيْرُ إِلى وُجُودِ تَنَاسُبٍ بَيْنَ كَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ والآخِذِيْنَ بِها.
وقَد أَخَذَ بِرِوَايَةِ الاسْمِ المَوْصُولِ الزَّجّاجُ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، والبَغَوِيُّ، والعُكْبُرِيُّ، ومَكِّيٌّ، وابْنُ هِشَامٍ، واخْتَلَفُوا في مَوْقِعِ الاسْمِ المَوْصُولِ، فَمِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إِلى أَنَّ مَحَلَّها النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى (السِّحْرِ)، والتَّقْدِيْرُ: يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ والّذي أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ، ومِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إِلى أَنَّ مَحَلَّها النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى مَا تَتْلُوا والتَّقْدِيْرُ: واتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشّياطِيْنُ ومَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ، ومِنْهُم مَنْ رَأى أَنّ مَحَلّها الجَرُّ عَطْفًا عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، والتَّقْدِيْرُ: مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِيْنُ افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وعَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ، وهو اخْتِيارُ أَبِي مُسْلِمٍ الخُرَاسَانِيِّ.
أَمّا الرَّأْيُ الآخَرُ فلَمْ يَأْخُذْ بِهِ إِلاّ القَلِيْلُ، وذلِكَ يَعُودُ لِقِلَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ فِيْهِ، لأَنَّ المَعْنى فِيْه غَرِيْبٌ، قَالَ السَّمْعَانِيّ فِيْهِ: "وهذا قَوْلٌ غَرِيْبٌ،" وقَدْ ذَكَرَهُ كَثِيْرٌ مِن النُّحَاةِ في كُتُبِهِم، ولَمْ يَأْخُذُوا بِهِ، وأَخَذَ بِهِ القُرْطُبِيُّ، قَالَ: "(مَا) نَفْيٌ، والوَاوُ للعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وذلكَ أَنّ اليَهُودَ قَالُوا: إِنّ اللهَ أَنْزَلَ جِبْرِيْلَ ومِيْكَائِيْلَ بالسِّحْرِ، فنَفَى اللهُ ذلكَ."
ومِمّا يَدُلُّ عَلَى تَأَثُّرِ النُّحَاةِ بِأَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ أَنَّ الزَّجّاجَ نَقَلَ أَقْوَالَهُم في هذا المَوْضِعَ، وقَامَ بِدِرَاسَتِها، واخْتَارَ رَأْيًا مِنْها، ثُمّ صَرَّحَ بِضَرُورَةِ الأَخْذِ بِالمَعْنى والتَّفْسِيْرِ، وبَيَّنَ علّةَ ذلِكَ، قَالَ: "وإِنَّما نَذْكُرُ مَع الإِعْرَابِ المَعْنى والتَّفْسِيْرَ؛ لأَنَّ كِتَابَ اللهِ ينْبَغي أَنْ يَتَبَيَّنَ، أَلا تَرَى أَنّ اللهَ يَقُولُ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، (محمّد:24) فَحُضِضْنا عَلَى التَّدَبُّرِ والنَّظَرِ، ولكن لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلّمَ إِلاّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ اللّغَةِ، أَو مَا يُوافِقُ نَقَلَةَ أَهْلِ العِلْمِ" فهذا تَصْرِيْحٌ مِن الزَّجَاجِ بِضَرُورَةِ الأَخْذِ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيْر.
5. (مَا) التَّعجُّبِيّة والاسْتِفْهامِيّة:
قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ. (البقرة: 175)
نَقَلَ لَنَا الطَّبَرِيُّ في تَفْسِيْرِ (مَا) في قَوْلِهِ: "فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ،" دَلالَتَيْن، هما:
الأولى: الاسْتِفْهَامُ، ونَقَلَ لَنَا للدّلالَةِ عَلى ذلِكَ عِدَّةَ أَقْوَالٍ، قَالَ: "حَدَّثَنِي مُوسَى بنُ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا عَمْروٌ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَن السّديِّ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ هذا عَلَى وَجْهِ الاسْتِفْهامِ، يَقُولُ: مَا الّذي أَصْبَرَهُم عَلَى النّارِ.
حَدَّثَنِي عَبّاسُ بنُ مُحَمّدٍ، قَالَ: ثَنَا حَجّاجٌ الأعْوَرُ، قَالَ: أَخْبَرَنا ابنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءٌ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، قَالَ: مَا يُصَبِّرُهُم عَلَى النّارِ حِيْنَ تَرَكُوا الحَقَّ واتَّبَعُوا البَاطِلَ.
حَدَّثَنا أَبُوكُرَيبٍ، قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ بن عَيّاشٍ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، قَالَ: هذا اسْتِفْهَامٌ، وَلَو كَانَتْ مِن الصّبْرِ قَالَ: فَمَا أَصْبَرُهُم رَفْعًا، قَالَ: يُقَالُ للرَّجُلِ: مَا أَصْبَرَكَ؟ مَا الّذي فَعَلَ بِكَ هذا.
حَدَّثَني يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنا ابنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابنُ زَيْدٍ في قَوْلِهِ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، قَالَ: هذا اسْتِفْهَامٌ، يَقُولُ: مَا هذا الّذي صَبَّرَهُم عَلَى النّارِ حَتّى جَرَّأَهُم فَعَمِلُوا بِهذا."
الثّانِيَةُ: التَّعَجُّبُ، ونَقَلَ لَنَا في هذا المَعْنى قَولاً عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: "حَدَّثَنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيْعٍ, قَالَ: حَدَّثَنا أَبِي, عَن ابنِ عُيَيْنَةَ, عَنْ ابنِ أَبِي نُجَيْحٍ, عَن مُجَاهِدٍ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، قَالَ: مَا أَعْمَلَهُم بِأَعْمَالِ أَهْلِ النّار" ثُمّ قَالَ: "وهو قَوْلُ الحَسَنِ وقَتَادَةَ."
يُلاحَظُ في هذين القَوْلَيْنِ أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ شَارَكُوا في التَّوْجِيْهِ النّحْوِيِّ، وهذا وَاضِحٌ في قَوْلِ الأَوّلِ: "هذا عَلَى وَجْهِ الاسْتِفْهامِ"، وقَوْلِ الآخَرِ: "هذا اسْتِفْهَامٌ"، ثُمَّ إِنَّ تَفْسِيْرَهُم لِوَجْهِ الاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِ أَحَدِهِمِ: "مَا هذا الّذي صَبَّرَهُم عَلَى النّارِ" تَوْجِيْهٌ نَحْوِيٌّ، فَأَهْلُ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ قَدْ شَارَكُوا في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ، ولا غَرَابَةَ في ذلِكَ؛ لأَنَّهُم قَدْ عَاشُوا في بِدَايَاتِ جَمْعِ اللّغَةِ والتَّدْوِيْنِ والتَّقْعِيْدِ النَّحْوِيِّ.
وهذان الرَّأيانِ هُما أَبْرَزُ الآرَاءِ النَّحْوِيَّة في هذه الآيَةِ، وأَخَذَ بالقَوْلِ إِنَّه اسْتِفْهَامٌ أَبُو عُبَيْدَةَ مُعَمّرُ بنُ المُثَنّى، والكِسَائِيُّ، والفَرّاءُ، والمُبَرّدُ، ونُسِبَ إِلى ابنِ عَبّاسٍ، وابْنِ زَيْدٍ، وعَطَاءٍ، والسّديِّ، وأبُو بَكْر بنِ عَيّاشٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، وأَمّا القَوْلُ إِنَّهُ تَعَجُّبٌ فَأَخَذَ بِهِ سِيْبَوَيْه، والزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، والعُكْبُرِيُّ، ونُسِبَ إِلى قَتَادَةَ، والحَسَنِ، وابنِ جُبَيْرٍ، والرَّبِيْعِ، ومُجَاهِدٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.
وفي المَسْأَلَةِ آَرَاءٌ نَحْوِيَّةٌ أُخْرى، فَقَد يُفْهَمُ مِن كَلامِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنّها مَوْصُولَةٌ لا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، فهو قَدْ صَرَّحَ بِمَوْصُولِيَّتِها في قَوْلِهِ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (مَا) في هذا المَوْضِعِ في مَعْنى الّذي، فَمَجَازُها: مَا الّذي صَبَّرَهُم عَلَى النّارِ، وَدَعَاهُمْ إِلَيْها، ولَيْسَ بِتَعَجُّبٍ،" ولَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَنْسِبُ إِلَيْه ذلك، إِلاّ أَنّ أَحَدَ المُفَسِّرِيْنَ ذَكَرَ أَنَّهُ قِيْلَ: إِنّها مَوْصُولَةٌ، ونُسِبَ هذا الرَّأيُ إلى الأَخْفَشِ.
وقِيْلَ: هي نَافِيَةٌ، ويُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ هذا مِمّا نُقِلَ عَن الحَسَنِ البَصْرِيِّ، قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ: "حَدَّثَنِي المُثَنّى, قَالَ: حَدَّثَنا عَمْرو بنُ عَوْنٍ, قَالَ: حَدَّثَنا هُشَيْـمٌ, عَن بِشْرٍ, عَن الحَسَنِ في قَوْلِهِ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ قَالَ: واللهِ مَا لَهُم عَلَيْها مِنْ صَبْرٍ, ولكَن مَا أَجْرَأَهُم عَلَـى النَّارِ،" فيُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِن هذا القَوْلِ أَمْرَانِ: يُفْهَمُ النَّفْيُ مِن الجُزْءِ الأَوّلِ مِن كَلامِهِ، ويُفْهَمُ التَّعَجُّبُ وتَفْسِيْرُ الصَّبْرِ مِن الجُزْءِ الثّانِي.
وقيل: هي مَوْصُوفَةٌ بِمَا بَعْدَها والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، قَالَ أَبُو السُّعُودِ: "أَيْ: الّذي أَصْبَرَهُم عَلَى النَّار أو شَيءٌ أصْبَرَهُم عَلَى النّارِ أَمْرٌ عَجِيْبٌ فَظِيْعٌ."
هذه هي الآرَاءُ النَّحْوِيَّةُ في هذه المَسْأَلَةِ، وأَقْوَالُ المُفَسِّرِيْنَ فِيْها، ولا يُعَوّلُ فيها إِلاّ عَلَى الرَّأْيَيْنِ الأَوْلِ والثّانِي، ويَظْهَرُ فِيْهِما مَدَى العَلاقَةِ بَيْنَ تَوْجِيْهَاتِ النُّحَاةِ وأَقْوالِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، فَهيَ تَرْجَمَةٌ لأَقْوَالِهِم، إِضَافَةً إِلى أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ كَانُوا مُعَاصِرِيْنَ لِوضْعِ اللَّبِنَاتِ الأُولَى للنَّحْوِ، فَلَيْسَ عَجِيْبًا أَنْ تَكُونَ لَهُم مُشَارَكَةٌ في وَضْعِ هذه اللّبِنَاتِ.
6. البَدَل والعَطْف:
قوله تعالـى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. (البقرة: 217)
يُمْكِنُ النَّظَرُ في أَثَرِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ إِلى أَكْثَرِ مِنْ مَوْضِعٍ في هذه الآيَةِ الكَرِيْمَةِ، وسَأَتَنَاوَلُ مِنْها مَوْضِعَيْنِ، هُما:
الأَوّلُ: تَوْجِيْهُ قَوْلِه: "قِتَالٍ فِيْهِ."
رَوَى لَنا الطّبَرِيُّ في جَامِعِهِ تَفْسِيْرًا لِقَوْلِهِ: قِتَالٍ فِيهِ قَالَ: "وقَدْ حَدَّثْتُ عَنْ عَمّارِ بنِ الحَسَنِ، قَالَ: ثَنَا ابنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيْهِ عَن الرّبِيْعِ قَوْلُهُ: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، قَالَ: يَقُولُ: يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِيْهِ،" وجَاءَ ذلِكَ في قِرَاءَةِ ابنِ مَسْعُودٍ، قَالَ في الدّرّ المَنْثُور: "وأَخْرَجَ ابنُ أَبِي دَاوُدَ في المَصَاحِفِ عَن الأَعْمَشِ، قَالَ: في قِرَاءَةِ عَبْدِ الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الْحَرَامِ عن قِتَالٍ فِيهِ."
ورَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ذلِكَ عن عُرْوةَ بن الزُّبَيْرِ، قَالَ: "حَدَّثَنا مُحَمّدُ بنُ العَبّاسِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرو زُنَيْج، ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ مُحَمّدُ بنُ إسْحاقَ فِيْما حَدَّثَنِي يَزِيْدُ بنُ رُومَانَ، والزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، أَيْ: عَنْ قِتَالٍ فِيْهِ، وَرُويَ عَنْ عِكْرِمَةَ والرَّبِيْعِ بنِ أَنَسِ نَحْوُ ذلكَ."
يُلاحَظُ في هذه الرِّوَايَةِ، وقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنّ المَقْصُودَ مِن السُّؤَالِ هو القِتَالُ لا الشَّهْرُ، ولَمْ يَخْتَلِف النُّحَاةُ عن المفسِّرِيْنَ في هذه الرُّؤيَةِ، قَالَ ابْنُ شُقَيْرِ في تَوْجِيْهِهِ للآيَةِ: "كَأَنَّهُ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ عَن الشَّهْرِ الحَرَامِ عَنْ قِتَالٍ فِيْهِ،" فالتَّأوِيْلُ النَّحْوِيُّ لِهذه الآيَةِ عِنْدَ ابْنِ شُقَيْرِ لا يَخْتَلِفُ عَن تَأْوِيْلِ الرَّبِيْع، وقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، والمَعْنى عِنْدَ النُّحَاةِ هو المَعْنى الّّذي قَصَدُوهُ مِن أَنَّ السُّؤالَ عَن القِتَالِ، قَالَ المُبَرّدُ: "لأَنَّ المَسْأَلَةَ وَقَعَت عَن القِتَالِ،" وقالَ ابنُ السَّرَاجِ: "لأَنَّ المَسْأَلَةَ في المَعْنَى عَن القِتَالِ في الشَّهْرِ الحَرَامِ."
وللنُّحَاةِ في إِعْرَابِهِ رَأْيَانِ:
أَوّلُها: الجَرُّ عَلَى البَدَلِيَّةِ، وقِيْلَ: هو مَخْفُوضُ عَلَى تَكْرِيْرِ العَامِلِ، وهو (عَنْ)، وهذا رَأْيُ الكُوفِيِّيْنَ، ولَيْسَ هذان رَأْيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إِنّما هُما رَأْيٌ وَاحِدٌ، وذلك لأَنَّ البَدَلَ عِنْدَهُم عَلَى نِيَّةِ تَكْرِيْرِ العَامِلِ، قَالَ أَبُو حَيّانَ: "لا فَرْقَ بَيْنَ هذه الأَقْوَالِ، هِيَ كُلُّها تَرْجِعُ لِمَعْنًى وَاحِدٍ."
وهذا الرّأيُ هو مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ عَيْنُهُ، فالتَّقْدِيْرُ عِنْدَ الكُوفِيّيْنَ: يَسْأَلُونَكَ عن الشَّهْرِ الحَرَامِ عَن قِتَالٍ، وهذا مَا جَاءَ في تَفْسِيْرِهِم وقِرَاءَتِهِم، وقَدْ جَاءَ عَنْ علماء البَصْرَةِ أَنَّ المَقْصُودَ بِالسُّؤَالِ هو القِتَالُ، فيَكُونُ الرَّأيَانِ مَتَّفِقَيْنِ في المَعْنى.
وثَانِيْها الجَرُّ عَلَى الجِوَارِ، وهو رَأيُ أَبِي عُبَيْدَةَ مُعَمّر بن المُثَنّى، قَالَ: "مَجْرُورٌ بِالجِوَارِ لِمَا كَانَ بَعْدهُ،" قَالَ النّحّاس: "لا يَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ شَيءٌ عَلَى الجِوَارِ في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، ولا في شَيءٍ مِن الكَلامِ، وإِنّما الجِوَارُ غَلَطٌ، وإِنّما وَقَعَ في شَيءٍ شَاذٍّ، وهو قَوْلِهُم: "هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ."
الثّانِي: تَوْجِيْهُ قَوْلِه: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
رَوَى الطَّبَرِيُّ لأَهْلِ التَّأْوِيْلِ في تَفْسِيْرِ هذا الموضع قولين هما:
الأوّلُ: قَالَ الطَّبَرِيُّ: "حَدَّثَنا القَاسِمُ, قَالَ: حَدَّثَنا الحُسَيْنُ, قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ, عَن ابْنِ جُرَيْجٍ, قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ: يَُقولُ: صَدٌّ عَن المَسْجِدِ الحَرَامِ وإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ, فَكُلُّ هذا أَكْبَرُ مِنْ قَتْلِ ابْنِ الحَضْرَمِيِّ, والفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِن القَتْلِ كُفْرٌ بِاللهِ وعِبَادَةُ الأَوْثَانِ أَكْبَرُ مِنْ هذا كُلِّهِ،" وهذا تَوْجِيْهُ ابْنِ عَبّاسٍ أَيْضًا؛ إِذ قَالَ في تَوْجِيْهِ النَّصِّ: "وصَدُّ النَّاسِ عن المَسْجِدِ الحَرَامِ."
الثّانِي: قَالَ: "حَدَّثْتُ عَن الحُسَيْنِ بنِ الفَرَجِ, قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الفَضْلَ بنَ خَالِدٍ, قَالَ: أَخْبَرَنا عُبَيْدُ بنُ سُلَيْمانَ البَاهِلِيِّ, قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بنَ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلُوا ابْنَ الحَضْرَمِيِّ فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ, فَعَيَّرَ المُشْرِكُونَ المُسْلِمِيْنَ بِذلِكَ, فَقَالَ اللهُ: قِتَالٌ فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ كَبِيْرٌ, وأَكْبَرُ مِنْ ذلك صَدٌّ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ وكُفْرٌ بِهِ, وإِخْرَاجُ أَهْلِ المَسْجِدِ الحَرَامِ مِن المَسْجِدِ الحَرَامِ."
يُفْهَمُ مِنْ النّصِّ الأوّل أَنَّ (المَسْجِدَ) مُتَعَلِّقٌ بـ(صَدٌّ)، فالصَّدُّ في الآيَةِ وقَعَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ وعَنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ، فالمَسْجِدُ الحَرَامُ في هذا التَّأوِيْلِ مَعْطُوفٌ عَلَى (سَبِيْلِ اللهِ)، وهذا رَأْيُ الأَخْفَشِ، قَالَ في مَعَانِيْهِ: "وصَدٌّ عَن المَسْجِدِ الحَرَامِ"، وأَخَذَ بِهذا الرّأيِ النَّحَاسُ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، وأَرَى أَنَّ تَأْوِيْلَ الأَخْفَشِ لا يَخْتَلِفُ عَن تَأْوِيْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ومُجَاهدٍ، ولا يَخْتَلِفُ أَيْضًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، (الفتح: 25) وهذه آيَةٌ تُؤكِّدُ تَوْجِيْهَ الأَخْفَشِ لِقَوْلِهِ: (المَسْجِدِ الحَرَامِ)، وهم قد اسْتَدَلُّوا بِهذه الآيَةِ في تَوْجِيهِ هذا الرَّأيِ، وهذا يَدُلُّ عَلى تَأثُّرِهِم بالتّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.
ورَدَّ العُكْبُريُّ، وأبُو حيّانَ، والسّمِيْنُ الحَلَبِيُّ هذا التَّوْجِيْهَ مُعْتَمِدِيْنَ عَلَى قَوَاعِدَ نَحْوَيَّةٍ، ولَمْ يَعْتَمِدُا فيها عَلَى المَعْنى، قَالَ في التّبْيَانِ: "وهذا لا يَجُوزُ؛ لأَنَّه مَعْمُولُ المَصْدَرِ، والعَطْفُ بِقَوْلِهِ: (وكُفْرٌ بِه) يَفْرُقُ بَيْنَ الصِّلَةِ والمَوْصُولِ،" فالمَانِعُ عِنْدَهُم قَاعِدَةٌ تَقُولُ: لا يَجُوزُ الفَصْلُ بَيْنَ الصِّلَةِ والمَوْصُولِ، فَجَعَلُوا العَلاقَةَ بَيْنَ المَصْدَرِ ومَعْمُولِهِ كَالعَلاقَةِ بَيْنِ (الّذي) ومَوْصُولِه.
أمّا القولُ الثّاني فأَرَى أَنَّه تَفْسِيْرٌ للتَّأْوِيْلِ السّابِقِ، إِذْ كَانَ كُفّارُ قُرَيْشٍ يُخْرِجُونَ أَهْلَ المَسْجِدِ الحَرَامِ مِن المُسْلِمِيْنَ، وهذا هو الصَدُّ عَن المَسْجِدِ الحَرَامِ، وهذا التَّأوِيْلُ يَتَّفِقُ مَع قَوْلِ الزّجّاجِ في تَفْسِيْرِهِ؛ إِذْ يَقُولُ: "والمَعْنى: وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وكُفْرٌ به وإِخْراجُ أَهْلِ المَسْجِدِ الحَرامِ منه،" فَإخْراجُ المُسْلِمِيْنَ من المَسْجِدِ صَدٌّ عن المَسْجِدِ، وعَنْ سَبِيْلِ اللهِ.
ورَوَى الطَّبَرِيُّ وغَيْرُه في مُنَاسَبَة الآيَةِ رِوَايَةً أُخْرى عَن ابْنِ عَبّاسٍ تُؤكّدُ هذا المَعْنى، فالمُشْرِكُونَ قَامُوا بِصَدِّ رَسُولِ اللهِ ورَدِّهِ عَن المَسْجِدِ الحَرَامِ في الشَّهْرِ الحَرَامِ أَوّلاً، ثُمَّ فَتَحَ اللهُ عَلى نَبِيِّه في العَامِ الّذي يَلِيْهِ في الشَّهْرِ الحَرَامِ، فَعَيَّرَ المُشْرِكُونَ المُسْلِمِيْنَ بِقِتَالِهِم في الشَّهْرِ الحَرَامِ، فَنَزَلَت الآيَةُ، قَالَ الطّبَرِيُّ: "حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، قَالَ: ثَنَا عَمِّي، قَالَ: ثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيْهِ عَن ابْنِ عَبّاسٍ، قَوْلُهُ: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وذلكَ أَنّ المُشْرِكِيْنَ صَدُّوا رَسُولَ اللهِ، وَرَدُّوهُ عَنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ في شَهْرٍ حَرَامٍ، فَفَتَحَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ في شَهْرٍ حَرَامٍ مِن العَامِ المُقْبِلِ، فَعَابَ المُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ القِتَالَ في شَهْرٍ حَرَامٍ فَقَالَ اللهُ جَلَّ وعَزَّ: وَصَدّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ مِن القَتْلِ فيهِ."
وفي تَوْجِيْهِ هذا الموْضِعِ آرَاءٌ نَحْوِيَّةٌ أُخْرَى لَمْ أَجِدْ لَها دَلِيْلاً مِن الرِّوَايَاتِ عِنْدَ أَهْلِ التّفْسِيْرِ، ولَمْ يَقْبَلْها المَعْنى الّذي تُشِيْرُ إِلَيْهِ الآيَاتِ، وأَرَى أَنَّ المَعَانِي الّتي تَقْبَلُها الآي قَدْ جَاءَتْ في تَوْجِيْهاتِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بالمَأثُورِ، ثُمّ اطّلَعَ عَلَيْها عُلَماءُ النَّحْوِ، واسْتَفَادُوا مِنْها في تَوْجِيْهِ الآيَاتِ تَوْجِيْهًا نَحْوِيًّا، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ النُّحَاةِ رَأَى أَنْ يَسِيْرَ مَعْتَمِدًا عَلَى القَاعِدِةِ النَّحْوِيَّةِ بَعِيْدًا عَنْ تَوْجِيْهَاتِ أَهْلِ التّفْسِيْرِ، فَرَفَضَهُ المَعْنى، والمَقْصُودُ هنا أَنَّ أَيَّ تَوْجِيْهٍ نَحْوِيٍّ اعْتَمَدَ فِيْهِ عَلَى القَاعِدَة النَّحْوِيَّةِ دُونَ المَعْنى تَوْجِيْهٌ مَرْفُوضٌ.
مِنْ هذه الآرَاءِ رَأْيٌ للعُكْبُرِيِّ حَاوَلَ فِيْهِ أَنْ يَهْرُبَ مِنْ المَحْظُورِ، وهو الفَصْلُ بَيْنَ الصّلَةِ والمَوْصُولِ المَوْجُودُ في الرَّأيِ السّابِقِ، فَرَأَى تَقْديرَ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيه: (وصَدٌّ) المَصدَرُ، تَقْدِيْرُهُ: ويَصُدّونَ عن المَسْجِدِ، فهذا هُرُوبٌ مِن المَحْظور المَوْجُودِ في الرّأيِ السّابِقِ، إِذ المَعْنى هو هو، فهاهنا يَلْجَأ إلى التّقدير حتّى يَبْتَعِدَ عن مَحْظورِ القَواعِدِ النّحْويّةِ، قالَ السّمينُ الحَلبي في رَدّه "وهذا غيرُ جَيّدٍ؛ لأَنّه يَلْزَمُ منه حَذْفُ حَرْفِ الجَرِّ وإبقاءُ عَمَلِه، ولا يجوزُ ذلك."
ومِنْها رَأْيٌ للفَرّاءِ، قَالَ في مَعَانِيْهِ: "والمَسْجِدُ الحَرَامُ مَخْفُوضٌ بِقَولِهِ: يَسْأَلونَكَ عَن القِتَالِ وعن المَسْجِدِ،" وقَدْ رُدَّ هذا الرّأيُ من جِهَةِ المَعْنى، فالمَعنى هنا يُشيرُ إلى أَنَّهم سَأَلوا عن القِتالِ في الشَّهر الحَرامِ وعن المَسْجدِ الحَرامِ، وهذا تَفسِيْرٌ غَيْرُ صَحِيْحٍ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: "وضُعِّفَ هذا بِأَنَّ القَوْمَ لَمْ يَسْأَلُوا عَن الشَّهْرِ الحَرَامِ، إِذْ لَمْ يَشُكّوا في تَعْظِيمِهِ، وإِنَّمَا سَأَلُوا عَن القِتَالِ في الشَّهْرِ الحَرَامِ؛ لأَنَّه وَقَعَ مِنْهُم، ولَمْ يَشْعُرُوا بِدُخُولِهِ، فَخَافُوا مِن الإثْمِ، وكَانَ المُشْرِكُون عَيَّرُوهُم بِذلِكَ."
وهُنَاكَ رَأْيٌ رَابِعٌ في هذه المَسْأَلَةِ بَعِيْدٌ عَن المَعْنى، وهو ما نُسِبَ إلى الفَرّاءِ وليسَ له، وهو عَطْفُ المَسْجِدِ عَلى الضَّمِيْرِ في: (وكُفْرٌ به)، والتَّقْدِيرُ: وكُفرٌ باللهِ وكُفْرٌ بالمَسْجِدِ الحَرامِ، ولا أَدْري ماذا يَعْنِي الكُفْرُ بالمَسْجِدِ الحَرامِ؟ فكُفّارُ قُريش كانوا يُعَظّمون المسجِدَ الحَرامَ قبل وُجُودِ المُسْلِمِيْنَ، إِلاّ أَنْ يُرادَ الحَجُّ المَفْرُوضُ عَلَى المُسْلِمِيْن إلى البَيْتِ الحَرَامِ، وهذا خِلافُ الظّاهِرِ، وهو اخْتِيارُ أَبي حَيّانَ.
7. دَلالَةُ (أَنّى):
قَوْلُهُ تَعَالَى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ. (البقرة:223)
للنّحَاةِ والمُفَسّرِيْنَ في مَعْنى (أَنّى شِئْتُم) في الآيَةِ الكَرِيْمَةِ عِدّةُ آراءٍ، وتُعَدُّ هذه الآرَاءُ مِثالاً وَاضِحًا لأَثَرِ أَهْلِ التَّأوِيْلِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ، فالآرَاءُ النَّحْوِيّةُ كَثِيْرَةٌ، وكُلُّ رَأْيٍ من هذه الآرَاءِ يُقَابِلُهُ رَأْيٌ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ، وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْجِيْهَ النَّحْوِيِّ قد اعْتَمَدَ عَلى تَوْجِيْهِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.
نَقَلَ الطَّبَرِيُّ تَوْجِيْهاتٍ عِدَّةً لأهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ في مَعْنى أَنَّى شِئْتُمْ هي:
الأَوّلُ: أَنْ تَكُونَ (أَنّى) بِمَعْنى (كَيْفَ)، ونَقَلَ في ذلِكَ عَشْرَةَ نُصُوصٍ تَدُلُّ عَلَى هذا المَعْنى، وهذه النُّصُوصُ مَرْوِيّةٌ عن ابنِ عَبّاسٍ، وعِكرِمَةَ، ومُجَاهِدٍ، وأبَيِّ بن كَعْبٍ، ومُرّةَ الهَمَدَانِيِّ، وقَتَادَةَ، والسّدِيِّ، وعَبْدِاللهِ بن عَلِيٍّ.
ومنْ ذلِكَ قَوْلُ الطّبَرِيِّ: "حَدَّثَنَا أَبُوكُرَيْبٍ, قَالَ: حَدَّثَنا ابْنُ عَطِيَّةَ, قَالَ: حَدَّثَنَا شُرَيْكٌ, عَنْ عَطَاءٍ, عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ, عَن ابْنِ عَبّاسٍ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ قَالَ: يَأْتِيْها كَيْفَ شَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ يَأْتِيْها فِي دُبُرِها أو فِي الحَيْضِ."
وهذا رَأيُ كَثِيْرٍ مِن النُّحَاةِ، فهو رَأْيُ الفَرّاءِ، وابنِ قُتَيْبَةَ، والبَاقُولِي، والشَّرِيْفِ الكُوفِيِّ، والزّجّاجِ، قَال: "أَيْ: كَيْفَ شِئتُم، أَي: ائتُوا مَوضِعَ حَرْثِكُم كَيْفَ شئْتُم،" وأَرى أَنَّ هذا هو مَا ذَكَرَه ابْنَ عَبّاسٍ عَيْنُه، لا فَرْقَ بَيْنَهُما.
ومِمّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَوْجِيْهَ النَّحْوِيَّ قد اعْتَمَدَ عَلى تَفْسِيْرِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ أَنَّ الفَرّاءَ قَدْ نَقَلَ كَلامًا لابْنِ عَبّاسٍ في هذه الآيَةِ مُسْتَدِلاًّ بِه، وأَخَذَ بِهِ في تفسِيْرِهِ، قَالَ: "أَيْ: كَيْفَ شِئْتُم، حَدَّثَنا مُحَمّدُ بنُ الجَهْمِ، قَالَ: حَدَّثْنا الفَرّاءُ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ عَنْ مَيْمُونِ بِنِ مَهْرَانَ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبّاسٍ: إِنَّ اليَهُودَ تَزْعُمُ أنّ الرَّجُلَ إِذا أَتى امْرَأَتَهُ مِنْ وَرَائِها في قُبُلِها خَرَجَ الوَلَدُ أَحْولَ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كذَبَتْ يَهُودُ، نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ يَقُولُ: ايْتِ الفَرْجَ مِن حَيْثُ شِئْتَ،" وقَدْ فَهِمَ الفَرّاءُ مِن قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ مَعْنى (كَيْفَ)، وقَوْلُه يُشِيْرُ إِلى مَعْنى آخَرَ، وهو (مِن حَيْثُ)، أو (أَيّ وَجْهٍ).
الثّانِي: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنى (مِن حَيْثُ شِئْتُم)، أَوْ (مِنْ أَيّ وَجْهٍ)، وقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ في هذا المَعْنى خَمْسَةَ نُصُوصٍ، مِنْها قَوْلُهُ: "حَدَّثَنَا سَهْلُ بنُ مُوسَى الرَّازِيّ, قَالَ: حَدّثَنا ابنُ أَبِي فُدَيْكٍ, عَنْ إبْرَاهِيْمَ بنِ إسْمَاعِيْلَ بنِ أَبِي حَبِيْبَةَ الأَشْهَلِ, عَنْ دَاوُودَ بنِ الحُصَيْنِ, عَنْ عِكْرِمَةَ, عَن ابنِ عَبّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى المَرْأَةُ فِي دُبُرِهَا، ويَقُولُ: إِنَّما الحَرْثُ مِن القُبُلِ الّذي يَكُونُ مِنْه النَّسْلُ والحَيْضُ، ويَنْهَى عَن إِتْيَانِ المَرْأَةِ فِي دُبُرِها، ويَقُولُ: إِنَّما نَزَلَتْ هذه الآيَةُ: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ يَقُولُ: مِنْ أَيِّ وَجْهٍ شِئْتُم."
ومِنْ ذلِكَ قَوْلُه: "حَدَّثَنا عُبَيْدُاللهِ بنِ سَعْدٍ, قَالَ: ثَنَا عَمّي, قَالَ: ثَنَا أَبِي, عَنْ يَزِيدَ, عَنْ الحَرْثِ بنِ كَعْبٍ, عَنْ مُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ, قَالَ: إِنَّ ابْنَ عَبّاسٍ كَانَ يَقُولُ: اسْقِ نَبَـاتَك مِنْ حَيْثُ نَبَاتُه" ومِن ذلك النّصّ الّذي رَواهُ الفَرّاءُ بِمَعْنى (مِن حَيْثُ).
وهذا رَأيُ الزّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: "مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شِئْتُمْ"، ثمّ قالَ: "لا تُحْظَرُ عَلَيْكُمْ جِهَةٌ دُونَ جِهَةٍ، والمَعْنى: جَامِعُوهُنَّ مِنْ أَيِّ شِقٍّ أَرَدْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ المَأْتَى وَاحِدًا، وهو مَوْضِعُ الحَرْثِ،" وقَدْ عَبّرَ بَعْضُ النُّحَاةِ عَنْ هذا المَعْنى بِقَوْلِهِ: (مِن أَيْنَ شِئتُم)، قَالَ النَّحّاس: "ومَعْناهُ مِنْ أَيْنَ شِئْتُم، أَي: مِن أَيّ الجِهَاتِ شِئْتُم."
الثّالِثُ: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنى (مَتَى شِئْتُم)، ونَقَلَ الطَّبَرِيُّ نَصَّيْن في هذا المَعْنى، الأَوّلُ مَرْوِيٌّ عَن الضَّحّاكِ، قَالَ الطّبَرِيُّ: "حَدَّثْتُ عَنْ حُسَيْنِ بنِ الفَرَجِ, قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الفَضْلَ بنَ خَالِدٍ, قَالَ: أَخْبَرَنا عُبَيْدُ بنُ سُلَيْمَانَ, قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ يَقُولُ: مَتَى شِئْتُم."
والثّانِي عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: "بَيْنا أَنَا ومُجَاهِدٌ جَالِسَانِ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ, أَتَاهُ رجُلٌ، فَوَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ, فَقَالَ: يَا أَبَا العَبّاسِ، أَو يَا أَبَا الفَضْلِ أَلا تَشْفِيْنِي عَنْ آيَةِ المَحِيْضِ؟ فَقَالَ: بَلَى فَقَرَأَ: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ (البقرة: 222) حَتّى بَلَغَ آخِرَ الآيَةِ, فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مِنْ حَيْثُ جَاءَ الدَّمُ، مِنْ ثَمَّ أُمِرْتَ أَنْ تَأْتِيَ, فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا أَبَا الفَضْلِ، كَيْفَ بِالآيَةِ الّتِي تَتْبَعُها: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ؟ فَقَالَ: إِيْ وَيْحَكَ وفِي الدُّبُرِ مِنْ حَرْثٍ؟ لَوْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا لَكَانَ المَحِيْضُ مَنْسُوخًا إِذا اشْتَغَلَ مِنْ ههنا جِئْتَ مِنْ ههنا، ولكنْ أَنّى شِئْتُم مِن اللَّيْلِ والنَّهَارِ."
وقَدْ جَاءَ هذا الرَّأْيُ في كَثِيْرٍ مِن كُتُبِ التّفْسِيْرِ والنَّحْوِ، قَالَ الرّازي: "المَعْنَى: أَيَّ وَقْتٍ شِئْتُمْ مِنْ أَوْقَاتِ الحِلِّ، يَعْنِى: إِذا لَمْ تَكُنْ أَجْنَبِيّةً أَوْ مُحَرّمَةً أَوْ صَائِمَةً أَوْ حَائِضًا."
الرّابِعُ: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنى (أيْنَ شِئْتُم)، أَوْ (حَيْثُ شِئْتُم)، وقَدْ نَقَلَ الطّبَرِيُّ فِي هذا المَعْنى عِدّةَ رِوَايَاتٍ، جَمِيْعُها رِوَاياتٍ عَنْ نَافِعٍ عَن عِبْدِ اللهِ بن عُمَرَ إلاّ رِوَايَةً عَنْ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ عن ابنِ عُمَرَ، وأُخْرى عَنْ زَيْدِ بن أَسْلَمَ، والمَعْنى فِيْها جَوَازُ الإِتْيَانِ في الدُّبُرِ، وقَدْ نُسِبَ جُوازُه إِلى الإِمَامِ مَالِكِ، وحُكِيَ أَنَّ ذلكَ في كِتابٍ لَهُ يُسَمّى كِتابُ السّرِّ، وأصْحَابُهُ يُنْكِرُونَ الكِتَابَ، وقَدْ تَبَرَّأَ مِنْ ذلكَ رَحِمَهُ اللهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا الحَرْثُ في مَوْضِعِ الزَّرْعِ، ونَقَلَ نافُعٌ ذلكَ عن ابنِ عُمَرَ، قَالَ الرّازِيُّ: "وَسَائِرُ النّاسِ كَذّبُوا نَافِعًا في هذه الرِّوَايَةِ،" وقَدْ رُوِيَ عَنْهُ تَكْفِيْرُ مَنْ يَفْعَلُ ذلكَ، وهو رَأْيُ السَّيّدِ المُرْتَضى مِن الشِّيْعَةِ، وعِنَدَه أُمُورٌ يَحْتَجُّ بِها، ونُسِبَ هذا أَيْضًا إِلى سَعِيْدِ بنِ المُسَيّبِ، ونَافِعٍ، ومُحَمّدِ بنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ، وعَبْدِ المَلِكِ بنِ المَاجِشُونَ.
ويَكْفِي في رَدِّ هذا الرَّأْيِ قَوْلُ أَبِي حَيّانَ: "وقَدْ رَوى تَحْرِيْمَ ذلكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ اثْنا عَشَر صَحَابِيًّا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، كُلُّها تَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيْمِ، ذَكَرَها أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وأَبُو دَاوُودَ والتّرْمِذِيُّ والنّسائِيُّ وغَيْرُهُم، وقَدْ جَمَعَها أَبُو الفَرَجِ بن الجَوْزِيِّ بِطُرِقِها في جُزْءٍ سَمّاهُ تَحْرِيْمَ المَحَلِّ المَكْرُوهِ."
أَمّا النُّحَاةُ فقَدْ ذَكَرَ سِيْبَوَيْه أَنَّ (أَنّى) تَكُونُ بِمَعْنى كَيْفَ، وأَيْنَ، وأشَارَ جُمْلَةٌ مِن النُّحَاةِ إِلى أَنَّ الآيَةَ قَدْ فُسِّرَتْ بالمَعَانِي الثَّلاثَةِ: كَيْفَ، وأيْنَ، ومَتى، قالَ أبُو حَيّانَ: "وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أنَّى بِمَعْنى أَيْنَ، فجَعَلَها مَكَانًا."
الخَامِسُ: العَزْلُ، فالمَعْنى إِنْ شِئْتُم فَاعْزِلُوا، وإِنْ شِئْتُم فَلا تَعْزِلُوا، وقَدْ نَقَلَ فِيْهِ الطَّبَرِيُّ قَوْلَيْن، هما:
الأَوّلُ: قَالَ الطّبَرِيُّ: "حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بنِ إسْحَاقَ, قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ, قَالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بنُ صَالِحٍ, عَنْ لَيْثٍ, عَنْ عِيسَى بْنِ سِنَانٍ, عَنْ سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ إِنْ شِئْتُم فَاعْزِلُوا, وإِنْ شِئْتُم فَلا تَعْزِلوا."
الثّانِي: حَدّثَنا أَبُو كُرَيْبٍ, قَالَ: حَدّثَنا وَكِيْعٌ, عَنْ يُونُسَ, عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ, عَنْ زَائِدَةَ بنِ عُمَيْرٍ, عَنْ ابنِ عَبّاسٍ، قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَاعْزِلْ, وإِنْ شِئْتَ فَلا تَعْزِلْ."
وأَرَى أَنَّ هذا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ تَحْتِ تَوْجِيْهِ مَنْ قَالَ: إنّها بِمَعْنى (كَيْفَ)؛ لأَنّ المَقْصُودَ مِنْ كَلامِ ابنِ المُسَيّبِ وابْنِ عَبّاسٍ تَوْجِيْهٌ للآيَةِ، ولَيْسَ تَحْدِيْدًا لِدَلالَةِ (أَنّى) تَحْدِيْدًا مَكَانِيًّا، فالمَعْنى هنا قد يَكُونُ مَعْنى (كَيْفَ)، أَوْ (مِنْ حَيْثُ).
يُلاحَظُ في هذه الآرَاءِ ارْتِبَاطُها بِالدّلالَةِ الّتي ذَكَرَها أَهْلُ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، ومِنْ ثَمَّ ارْتِبَاطُها بِالحُكْمِ الفِقْهِيِّ، فَكُلُّ رَأْيٍ مِنْ هذه الآرَاءِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنى مُخْتَلِفٍ عن الآخَرِ، والشَّرْعُ قَدْ أَجَازَ للرَّجُلِ أََنْ يَأتِيَ امْرَأَتَهُ في أَيِّ وَقْتِ، وعَلَى أَيّةِ كَيْفِيّةٍ، ومِنْ أَيِّ طَرِيْقٍ، فالفُقَهاءُ مُتّفِقُونَ عَلَى ذلِكَ، لكنّهُم مُخْتَلِفُونَ في المَعْنى الرّابِعِ، وجُمْهُورُ العُلَماءِ ذَهَبُوا إلى تَحْرِيْمِ الإِتْيانِ في الدّبُرِ.
وأَرَى أَنَّ تَعَدُّدَ الآرَاءِ النَّحْوِيّة مُرْتَبِطٌ بِتَعَدُّدِ آرَاءِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ مِن المُفَسِّرِيْنَ، فَتَعَدُّدُ آرَاءِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ سَبَبٌ في وُجُودِ الخِلافِ بَيْنَ النُّحَاةِ في التّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ لآيَاتِ القُرآنِ الكريْمِ، وذلِكَ لأَنَّ النَّحْوِيَّ يَنْطَلِقُ في تَوْجِيْهِهِ مِن المَعْنى، وهو يَأْخُذُ المَعْنى مِن المفَسِّرِيْنَ، فَإِذا اخْتَلَفُوا في تَأْوِيْلِهِم للمَعْنى اخْتَلَفُوا في التّأوِيْلِ النَّحْوِيِّ.
خاتِمَة:
تَبَيَّنَ للبَاحِثِ في هذه الدِّرَاسَةِ أَنَّ تَوْجِيْهَ النُّحَاةِ لآيَاتِ القُرآنِ الكَرِيْمِ قَدْ تَأَثَّرَ بالتَّفْسِيْرِ بالمَأثُورِ، سَواءٌ كَانَ بِتَفْسِيْرِ القُرآنِ للقُرآنِ، أَو بالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، أَو بِمَا نُقِلَ عَن الصَّحَابَةِ والتَّابِعِيْنَ، وهذا أَمْرٌ بَدَهِيٌ، فالتَّفْسِيْرُ يَهْدِفُ إِلى بَيَانِ المَعْنى، والكَشْفِ عَنْهِ، وهذا هو غَايَةُ المُعْرِبِ، فالمَعْنى عِنْدَهُ هو مَا يُحَاوِلُ إِيْضَاحَهُ عِنْدَ الإِعْرَابِ، فلا بُدَّ إِذن أَنْ يَرْتَكِزَ عَلَى أَسَاسٍ مِن المَعْنى، وهو التَّفْسِيْرُ.
وقَدْ اسْتَطَاعَ البَاحِثُ في هذه الدِّرَاسَةِ أَنْ يَصِلَ إِلى مِجْمُوعَةٍ مِن النَّتَائِجِ، يَجْدُرُ بِهِ أَنْ يُوجِزَ أَهَمَّها:
أَوّلاً: يَرَى الباحِثُ أَنَّ عِلْمَ الإِعْرَابِ كَانَ في الفَتْرَةِ الأولى مِن نَشْأَتِهِ ضِمْنَ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ؛ وذلِكَ لأَنَّ كِلَيْهِما يَبْحَثَان عَن المَعْنى، ويَهْدِفَانِ إِلى الكَشْفِ عَنْ مَعْنىً تَتَبَيَّنُ مِنْ خِلالِهِ أَسْرَارُ الكِتَابِ العَزِيْزِ؛ ولأَنَّ هذين العِلْمَيْنِ وغَيْرَهُما مِن العُلُومِ كُلَّها نَشَأَتْ في فَتْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وهَدَفَت إِلى تَعْرِيْفِ النّاسِ بِأُمُورِ دِيْنِهِم، والحِفَاظِ عَلَى كِتَابِ اللهِ ولُغَتِهِ مِن اللّحْنِ الّذي أَصَابَ لُغَةَ الأُمَّةِ في تَلْكَ الفَتْرَةِ، وكَانَ أَوْلُ هذه العُلُومِ وأَعْلاها عِلْمَ التَّفْسِيْرِ.
ثَانِيًا: يَرَى البَاحِثُ أَنَّ العَلاقَةَ بَيْنَ التَّفْسِيْرِ وتَوْجِيْهِ آياتِ القُرآنِ تَوْجِيْهًا نَحْوِيًا لا يُمْكِنُ فَصْلُها، فتَوْجِيْهُ هذه الآيَاتِ يُعَدُّ جُزْءًا مِن تَفْسِيْرِها، وكَانَ لا بُدَّ للمُعْرِبِ أَنْ يَسْتَعِيْنَ بِالمُفَسِّرِ للوُصُولِ إِلى إِعْرَابٍ صَحِيْحٍ، كَما أَنّهُ لا بُدَّ للمُفَسِّرِ أَنْ يَسْتَعِيْنَ بِإِعْرَابِ النَّحْوِيِّ لِيَصِلَ إِلى مَعْنىً صَحِيْحٍ، فالعَلاقَةُ بَيْنَهُما تَبَادُلِيّةٌ.
ثَالِثًا: يرَى البَاحِثُ أَنَّهُ مِن الصَّعْبِ فَصْلُ عِلْمِ النَّحْوِ عَنْ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ في الكُتُبِ الّتي تَنَاوَلَت تَوْجِيْهَ آيَاتِ القُرآنِ الكَرِيْمِ تَوْجِيْهًا نَحْوِيًّا، فهي كُتُبٌ تَفْسِيْرِيَّةٌ، لكنَّها تَمَيَّزَت بِأَنَّها تَنَاوَلَت الآيَاتِ مِنْ جَانِبٍ لُغَوِيٍّ.
رَابِعًا: تَأثَّرَت تَوجِيْهاتُ النُّحَاةِ بِجَمِيْعِ أَشْكَالِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُور، فقد وَرَدَ تَأثُّرُهُم بالقُرآنِ الكَرِيْمِ، والسّنّةِ النّبَوِيَّةِ، وبِأَقْوَالِ الصّحَابَة،ِ والتّابعِيْن، ولَمْ يَقْتَصِر تَأثُّرُهُم عَلَى شَكْلٍ وَاحِدٍ مِنْها.
خَامِسًا: مِن مَظَاهِرِ تَأثُّرِ النُّحَاةِ بأَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ أَنَّهم كَانُوا في كَثِيْرٍ مِن المَوْاضِعِ يِأخُذُونَ بِتأِويلِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ لَفْظِيًّا، فلَمْ يَكُنْ تقْدِيْرُهم وتأويلهم للآيات يَخْتَلِفُ عَن كَلامِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، وفي مَوَاضِعَ أُخْرَى كَانُوا يَتَأثّرُونَ بِمَعْنى كَلامِهِم.
سَادِسًا: وَجَدْتُ أَنَّ التَّوْجِيْهَاتِ النَّحْوِيَّةَ الّتي تَلَقَّفَها النُّحَاةُ، وقَبِلُوها كَانَتْ تَسْتَنِدُ إِلى آَرَاءِ المُفَسِّرِيْنَ، ورَأَيْتُ أَنَّ التَّوْجِيْهَاتِ النَّحْوِيَّةَ الّتي لم يُؤخذ بها، وآثَرُوا عَلَيْها غَيْرها لَمْ يَكُن يُقَابِلُها أَيُّ رَأْيٍ للمَفَسِّرِيْنَ.
سَابِعًا: رأَيْتُ أَنَّ بَعْضَ النُّحَاةِ كَانَ يُحَاوِلُ الخُرُوجَ عَنْ مَا يَذْكُرُه أَهْلُ التَّفْسِيْرِ وجُمْهُورُ النُّحاةِ مُتَمَسِّكًَا بِالقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ، فَإِذا جَاءَ بِرَأْيٍ جَدِيْدٍ قَامَ عَلَيْهِ النُّحَاةُ، ورَدُّوا رَأْيَهُ مُسْتَندينَ إِلى القَاعِدَةِ أو المَعْنى.
ثَامِنًا: تَبَيَّنَ للبَاحِثِ أَنَّ تَعَدُّدَ الآرَاءِ النَّحْوِيّة مُرْتَبِطٌ بِتَعَدُّدِ آرَاءِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ مِن المُفَسِّرِيْنَ، فالاخْتِلافُ بَيْنَ النُّحَاةِ عِنْدَ التَّوْجِيْهِ يَعُودُ إِلى كَثْرَةِ الآرَاءِ عِنْدَ المُفَسِّرِيْنَ، وهذا من الأُمُور البَدَهِيَّةِ، فالنَّحْويُّ يَنْطَلِقُ في إِعْرَابِهِ مِن المَعْنى، وهو يَأخُذُ المُعْنى مِن المُفَسِّرِيْنَ، فَإذا اخْتَلَفُوا في التَّفْسِيْرِ اخْتَلَفُوا في الإِعْرَابِ.
المصدر : مجلة إسلامية المعرفة