أيمن أبومصطفى
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
أثر البلاغة في تفسير القرآن الكريم
فهم الاستواء نموذجا
د.أيمن أبومصطفى
باحث مصري متخصص في البلاغة والنقد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد؛
فمن المعلوم أن المعنى الأصلي والاصطلاحي للبلاغة يدور حول التوصيل والإفهام وتبليغ المعنى ، فالبلاغة لغةً : الوصول إلى الشيء ، ومنه أُخِذتْ " البلاغةُ التي يُمدَح بها الفصيح اللسانِ ؛ لأنه يبلغ بها ما يريده " [SUP]([SUP][1][/SUP][/SUP]) . واصطلاحاً : لا تتجاوز ذلك ؛ فهي إنهاء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ ، ونلاحط أن البلاغة قبل عبد القاهر قائمًة على توصيل الكلام إلى قلب المخاطب والتأثير فيه، وهو ما يسمى بالإبلاغية[SUP]([SUP][2][/SUP][/SUP]) في العصر الحديث.
وأمّا مفهوم البلاغة بعد عبد القاهر فقد اصطبغ بصبغة علمية ركزّت على خصائص هذا الكلام الذي يقنع ويؤثّر في الآخرين، وأصبح مفهوم البلاغة معنيًا بخواص التركيب، والمقام الذي يُؤدى فيه وهو ما يُعرف بمقتضى الحال، ولعلّ هذه النظرة العلمية التي بدأها عبد القاهر هي التي جعلت من البلاغة علمًا له قواعده وأصوله الواضحة[SUP]([SUP][3][/SUP][/SUP]).
فالانتقال من البلاغة الذوقية إلى البلاغة النظرية، ومن الحديث عن الأهداف إلى الحديث عن الخصائص واضح أشدّ الوضوح في تطوّر مصطلح البلاغة بعد عبد القاهر، كما أنّ الاتجاه إلى التيسير كان منصبًا على الإيجاز في تعريف هذه المصطلحات واختصارها قدر الإمكان، مع مراعاة الدقّة في اختيار الألفاظ، فقد حرصوا على أن يكون المصطلح البلاغي جامعًا مانعًا، وأن يكون ضمن دائرة علم البلاغة لا يخرج عنه.
فوظيفة البلاغة هي وصف الطرق الخاصة في استعمال اللغة وتصنيف الأساليب بحسب تمكنها في التعبير عن الغرض تعبيرا يتجاوز الإبلاغ إلى التأثير في المتكلم أو إقناعه بما نقول أو إشراكه في ما نحس به ، وغايتها مد المستعمل بما تعتبره أنجع طريقة في بلوغ المقاصد[SUP]([SUP][4][/SUP][/SUP]).
فالتفسير البلاغي أو البياني معني بالوقوف على الأسرار البلاغية للقرآن الكريم، ونعنى به ذلك التفسير الذي يقوم على أساس بلاغي ، فيتخذ من البلاغة أداة للكشف عن المعنى ، وذلك بما تحتمله اللغة العربية وأصولها ، وبما أثر عن العرب من مذاهب الكلام.
ولا شك أن البلاغة كانت قطب الرحى الذي تدور حوله تأويلات علماء التفسير لبعض الآيات، وسنقف على نموذج فهم الاستواء فيما يلي:
فيما يتعلق بالتأويل البلاغي ( للاستواء ) رأى الرازى أن قوله تعالى( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ 54 ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) مثل قولهم " للرجل الطويل فلان طويل النجاد وللرجل الذي يكثر الضيافة كثير الرماد . وليس المراد في شىء من هذه الألفاظ إجراءها على ظواهرها ، وإنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية ، فكذا ههنا يذكر الاستواء على العرش، والمراد نفاذ القدرة و جريان المشيئة "[5] .
وكذلك قوله تعالى( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )[6] لأنه " لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على البلد يريدون ملك ، وإن لم يقعد على السرير البتة وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك"[7].
أما أبو منصور الماتريدى( ت333هـ) رأس الماتريدية فيذكر انقسام طوائف المسلمين في هذه المسألة إلى ثلاثة أقسام، فقسم ذهب إلى أن الله موصوف بالاستواء على العرش، والعرش عندهم السرير المحمول بالملائكة ، وقسم يقول هو بكل مكان لقوله(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم)ٌ[8]، وقسم نفى الوصف بالمكان وإلى ذلك يميل الماتريدى فالله كان قبل المكان وهو على ما عليه كان ليس محلاً للحوادث فيتغير[9] .
وعلى ذلك " فإضافة الاستواء إليه لوجهين : أحدهما على تعظيمه بما ذكره على أثر سلطانه في ربوبيته وخلقه ما ذكر .
والثانى على تخصيصه بالذكر بما هو أعظم الخلق وأجله ، على المعروف من إضافة العظمة إلى أعظم الاشياء، كما يقال : تم لفلان ملك بلد كذا ، واستوى على موضع كذا ، لاعلى خصوص ذلك في الحق ، ولكن معلوم أن من له ملك ذلك فما دونه أحق " [10]
ويتفق المعتزلة مع أهل السنة على أن الاستواء كناية عن الملك . فيقول الزمخشرى " لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا : استوى فلان على العرش يريدون ملك ، وإن لم يقعد على السرير البتة ، وقالوه أيضاً لشهرته في ذلك المعنى، ومساواته ملك في مؤداه وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر "[11]
وإلى مثل هذا ذهب القاضي عبد الجبار وإن لم يصرح بالمصطلح البلاغي حيث يقول: " قالوا : الاستواء إنما هو القيام والانتصاب، والانتصاب و القيام من صفات الأجسام فيجب أن يكون الله تعالى جسماً .
ثم يقال لهم : الاستواء هاهنا بمعنى الاستيلاء و الغلبة وذلك مشهور في اللغة ، قال الشاعر :
فلما علونا واستوينا تركناهم صرعي لنسر وكاسر
وقال آخر :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
فالحمد للمهيمن الخلاق
وقد قيل إن العرش هاهنا بمعنى الملك وذلك ظاهر في اللغة ، يقال : ثل عرش بني فلان ، أى إذا زال ملكهم ، وفيه يقول الشاعر .
إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم وأودت كما أودت إياد وحمير "[12]
ويمثل الإمام يحي بن الحسين الفكر الزيدي في النظر للآية ويرى أنه من قبيل المثل " مثل الله علوه على جميع الأشياء وإحاطته بها كعلو الملك على سريره ، إذا استوى عليه واستعلى فوقه في المثل لا غيره ، وليس في الشبه و الصفة إلا في المثل، والعرش الذي ذكره الله عز وجل هومثل ضربه الله في استوائه على ملكه.
وإنما تفسير هذا المثل الذي ضربه الله لعباده في العرش والكرسي أن الملك من ملوك الدنيا إذا قعد على كرسيه وعلى سريره استعلى فوقه ، و العرش فهو السرير، فمثل الله عرشه وكرسيه بهذا العرش وهذا الكرسى "[13].
ويذهب الطوسى من الاثنى عشرية إلى أن معنى الاستواء الاستيلاء[14].
كذلك يفسر الشريف الرضى قوله( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ)[15] بأنه" استعارة لأن حقيقة الاستواء إنما يوصف بها الأجسام التى تعلو البساط وتميل وتعتدل ، و المراد بالاستواء هنا الاستيلاء بالقدرة و السلطان ، لا بحلول القرار و المكان كما يقال : استوى فلان الملك على سرير ملكه ، بمعنى استولى على تدبير الملك ، وملك مقعد الأمر والنهى وحسن صفته بذلك، وإن لم يكن له في الحقيقة سرير يقعد عليه، ولا مكان عال يشار إليه ، وإنما المراد نفاذ أمره في مملكته واستيلاء سلطانه على رعيته "[16] .
فقد نفي المتكلمون من أصحاب التأويل البلاغي حقيقة الاستواء عن الله وأولوا آيات الاستواء تأويلا بلاغياً بما يوافق تنزيه الله عن الجسمية .
ونقف من خلال ما تم ذكره على أن متكلمى الفرق الإسلامية من الأشاعرة والماتريدية و المعتزلة و الزيدية والاثنى عشرية استخدموا البلاغة أداة في إثبات مسئلة الاستواء.
وقد اتسم التأويل البلاغي في ميدان علم الكلام بعدم الاهتمام بتحديد المصطلحات البلاغية فالرازى والزمخشرى يطلق على الاستواء ( كناية ) ويحيى بن الحسين يسميه ( مثلاً )، والشريف الرضي يرى أنه ( استعارة ) .
وهذا الاختلاط في المصطلحات في ميدان علم الكلام يرجع إلى أن غاية مقصد المتكلمين في التأويل البلاغي للآيات القرآنية بيان أن هذه الآيات لا تفهم على ظاهرها ، وإنما تحمل على معنى آخر بلاغي يفيد غير الظاهر أما تحديد الوجه البلاغي وتسميته فلم يكن يشغلهم، وإنما كان شاغلهم في المقام الأول التأكيد على أن المعنى الظاهرى غير مراد ثم ليكن له ما شاء أن يكون من وجوه البلاغة التى تصرف العبارة عن ظاهرها .
وبهذا يتضح لنا أن البلاغة والوقوف على الجذور اللغوية مهم جدا في علم التفسير ، فالمفسر للقرآن الكريم يحتاج إلى معرفة بل إتقان لعلوم البلاغة ؛ كي يستطيع أن يشرح ويفصل ويوضح ما تحمله الآيات من معاني تتجاوز المعنى الحرفي للغة.
هذا وبالله التوفيق .
أثر البلاغة في تفسير القرآن الكريم
فهم الاستواء نموذجا
د.أيمن أبومصطفى
باحث مصري متخصص في البلاغة والنقد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد؛
فمن المعلوم أن المعنى الأصلي والاصطلاحي للبلاغة يدور حول التوصيل والإفهام وتبليغ المعنى ، فالبلاغة لغةً : الوصول إلى الشيء ، ومنه أُخِذتْ " البلاغةُ التي يُمدَح بها الفصيح اللسانِ ؛ لأنه يبلغ بها ما يريده " [SUP]([SUP][1][/SUP][/SUP]) . واصطلاحاً : لا تتجاوز ذلك ؛ فهي إنهاء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ ، ونلاحط أن البلاغة قبل عبد القاهر قائمًة على توصيل الكلام إلى قلب المخاطب والتأثير فيه، وهو ما يسمى بالإبلاغية[SUP]([SUP][2][/SUP][/SUP]) في العصر الحديث.
وأمّا مفهوم البلاغة بعد عبد القاهر فقد اصطبغ بصبغة علمية ركزّت على خصائص هذا الكلام الذي يقنع ويؤثّر في الآخرين، وأصبح مفهوم البلاغة معنيًا بخواص التركيب، والمقام الذي يُؤدى فيه وهو ما يُعرف بمقتضى الحال، ولعلّ هذه النظرة العلمية التي بدأها عبد القاهر هي التي جعلت من البلاغة علمًا له قواعده وأصوله الواضحة[SUP]([SUP][3][/SUP][/SUP]).
فالانتقال من البلاغة الذوقية إلى البلاغة النظرية، ومن الحديث عن الأهداف إلى الحديث عن الخصائص واضح أشدّ الوضوح في تطوّر مصطلح البلاغة بعد عبد القاهر، كما أنّ الاتجاه إلى التيسير كان منصبًا على الإيجاز في تعريف هذه المصطلحات واختصارها قدر الإمكان، مع مراعاة الدقّة في اختيار الألفاظ، فقد حرصوا على أن يكون المصطلح البلاغي جامعًا مانعًا، وأن يكون ضمن دائرة علم البلاغة لا يخرج عنه.
فوظيفة البلاغة هي وصف الطرق الخاصة في استعمال اللغة وتصنيف الأساليب بحسب تمكنها في التعبير عن الغرض تعبيرا يتجاوز الإبلاغ إلى التأثير في المتكلم أو إقناعه بما نقول أو إشراكه في ما نحس به ، وغايتها مد المستعمل بما تعتبره أنجع طريقة في بلوغ المقاصد[SUP]([SUP][4][/SUP][/SUP]).
فالتفسير البلاغي أو البياني معني بالوقوف على الأسرار البلاغية للقرآن الكريم، ونعنى به ذلك التفسير الذي يقوم على أساس بلاغي ، فيتخذ من البلاغة أداة للكشف عن المعنى ، وذلك بما تحتمله اللغة العربية وأصولها ، وبما أثر عن العرب من مذاهب الكلام.
ولا شك أن البلاغة كانت قطب الرحى الذي تدور حوله تأويلات علماء التفسير لبعض الآيات، وسنقف على نموذج فهم الاستواء فيما يلي:
فيما يتعلق بالتأويل البلاغي ( للاستواء ) رأى الرازى أن قوله تعالى( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ 54 ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) مثل قولهم " للرجل الطويل فلان طويل النجاد وللرجل الذي يكثر الضيافة كثير الرماد . وليس المراد في شىء من هذه الألفاظ إجراءها على ظواهرها ، وإنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية ، فكذا ههنا يذكر الاستواء على العرش، والمراد نفاذ القدرة و جريان المشيئة "[5] .
وكذلك قوله تعالى( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )[6] لأنه " لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على البلد يريدون ملك ، وإن لم يقعد على السرير البتة وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك"[7].
أما أبو منصور الماتريدى( ت333هـ) رأس الماتريدية فيذكر انقسام طوائف المسلمين في هذه المسألة إلى ثلاثة أقسام، فقسم ذهب إلى أن الله موصوف بالاستواء على العرش، والعرش عندهم السرير المحمول بالملائكة ، وقسم يقول هو بكل مكان لقوله(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم)ٌ[8]، وقسم نفى الوصف بالمكان وإلى ذلك يميل الماتريدى فالله كان قبل المكان وهو على ما عليه كان ليس محلاً للحوادث فيتغير[9] .
وعلى ذلك " فإضافة الاستواء إليه لوجهين : أحدهما على تعظيمه بما ذكره على أثر سلطانه في ربوبيته وخلقه ما ذكر .
والثانى على تخصيصه بالذكر بما هو أعظم الخلق وأجله ، على المعروف من إضافة العظمة إلى أعظم الاشياء، كما يقال : تم لفلان ملك بلد كذا ، واستوى على موضع كذا ، لاعلى خصوص ذلك في الحق ، ولكن معلوم أن من له ملك ذلك فما دونه أحق " [10]
ويتفق المعتزلة مع أهل السنة على أن الاستواء كناية عن الملك . فيقول الزمخشرى " لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا : استوى فلان على العرش يريدون ملك ، وإن لم يقعد على السرير البتة ، وقالوه أيضاً لشهرته في ذلك المعنى، ومساواته ملك في مؤداه وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر "[11]
وإلى مثل هذا ذهب القاضي عبد الجبار وإن لم يصرح بالمصطلح البلاغي حيث يقول: " قالوا : الاستواء إنما هو القيام والانتصاب، والانتصاب و القيام من صفات الأجسام فيجب أن يكون الله تعالى جسماً .
ثم يقال لهم : الاستواء هاهنا بمعنى الاستيلاء و الغلبة وذلك مشهور في اللغة ، قال الشاعر :
فلما علونا واستوينا تركناهم صرعي لنسر وكاسر
وقال آخر :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
فالحمد للمهيمن الخلاق
وقد قيل إن العرش هاهنا بمعنى الملك وذلك ظاهر في اللغة ، يقال : ثل عرش بني فلان ، أى إذا زال ملكهم ، وفيه يقول الشاعر .
إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم وأودت كما أودت إياد وحمير "[12]
ويمثل الإمام يحي بن الحسين الفكر الزيدي في النظر للآية ويرى أنه من قبيل المثل " مثل الله علوه على جميع الأشياء وإحاطته بها كعلو الملك على سريره ، إذا استوى عليه واستعلى فوقه في المثل لا غيره ، وليس في الشبه و الصفة إلا في المثل، والعرش الذي ذكره الله عز وجل هومثل ضربه الله في استوائه على ملكه.
وإنما تفسير هذا المثل الذي ضربه الله لعباده في العرش والكرسي أن الملك من ملوك الدنيا إذا قعد على كرسيه وعلى سريره استعلى فوقه ، و العرش فهو السرير، فمثل الله عرشه وكرسيه بهذا العرش وهذا الكرسى "[13].
ويذهب الطوسى من الاثنى عشرية إلى أن معنى الاستواء الاستيلاء[14].
كذلك يفسر الشريف الرضى قوله( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ)[15] بأنه" استعارة لأن حقيقة الاستواء إنما يوصف بها الأجسام التى تعلو البساط وتميل وتعتدل ، و المراد بالاستواء هنا الاستيلاء بالقدرة و السلطان ، لا بحلول القرار و المكان كما يقال : استوى فلان الملك على سرير ملكه ، بمعنى استولى على تدبير الملك ، وملك مقعد الأمر والنهى وحسن صفته بذلك، وإن لم يكن له في الحقيقة سرير يقعد عليه، ولا مكان عال يشار إليه ، وإنما المراد نفاذ أمره في مملكته واستيلاء سلطانه على رعيته "[16] .
فقد نفي المتكلمون من أصحاب التأويل البلاغي حقيقة الاستواء عن الله وأولوا آيات الاستواء تأويلا بلاغياً بما يوافق تنزيه الله عن الجسمية .
ونقف من خلال ما تم ذكره على أن متكلمى الفرق الإسلامية من الأشاعرة والماتريدية و المعتزلة و الزيدية والاثنى عشرية استخدموا البلاغة أداة في إثبات مسئلة الاستواء.
وقد اتسم التأويل البلاغي في ميدان علم الكلام بعدم الاهتمام بتحديد المصطلحات البلاغية فالرازى والزمخشرى يطلق على الاستواء ( كناية ) ويحيى بن الحسين يسميه ( مثلاً )، والشريف الرضي يرى أنه ( استعارة ) .
وهذا الاختلاط في المصطلحات في ميدان علم الكلام يرجع إلى أن غاية مقصد المتكلمين في التأويل البلاغي للآيات القرآنية بيان أن هذه الآيات لا تفهم على ظاهرها ، وإنما تحمل على معنى آخر بلاغي يفيد غير الظاهر أما تحديد الوجه البلاغي وتسميته فلم يكن يشغلهم، وإنما كان شاغلهم في المقام الأول التأكيد على أن المعنى الظاهرى غير مراد ثم ليكن له ما شاء أن يكون من وجوه البلاغة التى تصرف العبارة عن ظاهرها .
وبهذا يتضح لنا أن البلاغة والوقوف على الجذور اللغوية مهم جدا في علم التفسير ، فالمفسر للقرآن الكريم يحتاج إلى معرفة بل إتقان لعلوم البلاغة ؛ كي يستطيع أن يشرح ويفصل ويوضح ما تحمله الآيات من معاني تتجاوز المعنى الحرفي للغة.
هذا وبالله التوفيق .