عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,322
- مستوى التفاعل
- 131
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
أثر إنكار نسخ التلاوة في التشكيك بالقرآن
للأستاذ الدكتور حاتم بن عارف الشريف
بين مسائل العلم ترابط شديد، فالحق فيها يدل على الحق. كما أن الباطل فيها يصطدم بالحق، فإما أن ينبهك هذا التعارض على إبطال الباطل الأول، وإما أن يقودك إلى التمادي في الباطل، وأن تنتقل من باطل إلى باطل.للأستاذ الدكتور حاتم بن عارف الشريف
تذكرت هذه الحقيقة وأنا أتابع حال أناس في عصرنا هذا، نجموا بإنكار الحق واعتقاد الباطل، فكانوا عبرةَ المعتبرين في تَـمَـثُّلِ هذه الحقيقة!
ومن أمثلة ذلك: أناس ينكرون ما اتفق عليه العلماء من وجود نسخ التلاوة في القرآن الكريم، بحجة تعظيم القرآن وصونه من دعاوى التحريف، زاعمين أن القول بنسخ التلاوة يعني: اتهام القرآن بالنقص؛ ولأن القرآنية لا تثبت بأخبار الآحاد!!!
وبغض النظر عن حجتهم في نفي نسخ التلاوة، وبغض النظر عن كونها حجة تدل على عدم الفهم؛ لأن التواتر شرط القرآن المنقول المتعبد بتلاوته، وهذا لا يعارضه خبرٌ عما كان قرآنًا ثم نُسخ؛ لأن التواتر إنما يُشترط بعد تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في حياته ولبلاغه صلى الله عليه وسلم فلا يُتصور اشتراط التواتر أصلا. وأما أن إثبات القرآنية لا يتم إلا بعد التواتر، فهذا صحيح فيما نعتقد أنه مازال قرآنا متعبدا بتلاوته، أما ما ننفي كونه قرآنا متعبدا بتلاوته، من خلال قولنا بنسخه تلاوةً، فلا علاقة له باشتراط التواتر؛ لأنه فعلا خبر آحاد، ينطبق عليه ما ينطبق على الآحاد. ولا أدري أين ذهبت عقول هؤلاء القوم؟! عندما اعترضوا على نسخ التلاوة بحجة أن القرآنية لا تثبت إلا بيقين التواتر! ألم يسمعوا أننا نقول إن الآيات المنسوخة تلاوة لم تعد قرآنا؟! ألم يفهموا أن القول بنسخ التلاوة يعني أنه لم يعد لتلك الـجُمَل التي كانت آياتٍ أيُّ علاقةٍ بالقرآن؛ إلا علاقةً تاريخية لا يُشترط لها تواتر القرآن المتلوّ!! فكيف يقولون: لا نقبل هذا القول لأننا نشترط في القرآن التواتر؟! هذا سوء فهم، يُشكّك في أهلية المتحدث فيه في حسن الفهم لمسائل العلم، فكيف بمناقشتها؟!
دعونا من هذا التردّي في الفهم، والذي عرّضَ فيه أصحابُه أنفسهم لموقفٍ لا يُـحسدون عليه من شدة الحرج، في حين أنهم كانوا يحسبون أنهم يستدركون بذكائهم على غباء أئمة الإسلام! إذ هم بزعمهم أن القول بنسخ التلاوة يعارض تعظيم القرآن وينافي صونه من دعاوى التحريف، قد اتهموا بقولهم هذا الجم الغفير من أئمة المفسرين وأئمة القراء وسادة الفقهاء ومجتهدي الأصوليين ونقّاد المحدثين ممن أثبت نسخ التلاوة كلهم أنه كان عندهم نقص شديد في تعظيم القرآن، لأنه نقصٌ بلغ من شدة انحرافه أنه يُعرِّضُ صيانة القرآن الكريم لخطر الشك فيه، وهو سبب قويٌّ للطعن فيه، حسب تقريرهم!!
ألا يعلم هؤلاء أنهم بذلك هم أول من طعن في القرآن الكريم؛ بهذا الادعاء السخيف؟! لأن الذين نقلوا لنا القرآن (أو قل: عامتهم ممن بهم يتحقق التواتر، لا بشواذ المنسوبين للعلم ممن يزعمون سبقهم إلى مقالتهم)، والذين فسروه، والذين تفقهوا فيه = كلهم كانوا على هذا الرأي (القول بنسخ التلاوة)، فإما أنهم قد ضيعوه وما صانوه، بسبب تَبنّيهم لهذا الرأي الخطير (بزعم السُّخْفِ ذاك)، وإما أنه رغم مرور أربعة عشر قرنا على شيوع هذا القول بين أهل العلم (ولست مضطرا لحكاية إجماعهم هنا) ما ازداد القرآن إلا صونًا وحياطةً وعنايةً وحفظا ويقينا في حفظه من كل شبهة زيادة أو نقص!! مما يعني أن خطورة القول بنسخ التلاوة (التي يزعمونها) يُكذبها الواقع أكبر تكذيب على مرِّ أربعة عشر قرنًا كاملة، وأنها لا تعدو خيالاتهم الباطلة! وإلا لماذا لم يزدد القرآن إلا حفظا وصونًا، رغم كل هذا الشيوع والانتشار لتثبيت القول بنسخ التلاوة كل هذه الأعصار؟!!
وكل هذا ليس هو موطن الشاهد من بيان انجرار الباطل إلى الباطل، وتراكب ظلماته بعضها على بعض! وإنما موطن شاهدي الدقيق هو ما يلي:
لما نفى هؤلاء القوم وجود نسخ في التلاوة، مع وجود مئات الروايات التي تذكر قراءة لبعض السلف تخالف خط المصحف العثماني، وليس معدودا في القراءات العشر المتواترة، مما يجعل أحد أشهر وجوه تفسير ذلك عند علمائنا، أنها ربما كانت من منسوخ التلاوة، وانتهت هذه الشبهة عند هذا الجواب المقنع الذي كان يذكره علماؤنا المثبتون لنسخ التلاوة، وعند نحوه من الأجوبة التي تقوم على فهم ترابط العلم بعضه ببعض وتعانق حقائقه في دائرةٍ واحدةٍ من سياج العقل الصريح والنقل الصحيح!
أقول: لما نفى هؤلاء القوم وجود نسخ في التلاوة، مع وجود المئات من تلك الروايات، انقسموا قسمين:
القسم الأول: كَذّبَ تلك الروايات، وظن نفسه بذلك قد ارتاح من تبعات هذا الخبط!!
وأما القسم الثاني: فلم يتطرق إلى الجزم بعدم صحة تلك الروايات التي تذكر الأحرف السبعة والقراءات ونسخ التلاوة؛ لكثرتها، فكان بهذا الموقف أصح عقلا ممن ردها، لكنه فَـقَـدَ عقلَه في النهاية، فزعم أن نقص آية أو آيات قليلة من هنا وهناك من القرآن الكريم لا يعارض حفظه في الجملة، كما تجده في كلام الدكتور الجابري في المدخل إلى القرآن الكريم (٢٢٩، ٢٣٢)!! وذلك بعد أن نفى النسخ، كما في مقاله المنشور بعنوان (لا دليل في القرآن على وقوع النسخ)، كما في منبره (موقع: منبر الدكتور محمد عابد الجابري).
فانظروا كيف رفضوا نسخ التلاوة بحجة تعظيم القرآن وصونه، ثم أدى بهم ذلك إلى الشك في حفظه كاملا، ومحاولة تبرير هذا النقص والزيادة بأنها أمر يسير!! فكانوا كمن تورع عن قتل برغوث، فقتلوا الحسين (رضي الله عنه)!!
فإن رجعنا إلى القسم الأول الذي كذّب روايات نسخ التلاوة، بحجج عديدة، منها: صيانة القرآن من ادعاء التحريف عليه والنقصان؛ فهؤلاء قد وقعوا في تخريب للعقل، حيث زعموا الاعتماد عليه!! وسوف يعود تكذيبُهم هذا إلى التشكيك في القرآن الكريم! نعم.. سيعود إلى التشكيك في القرآن الكريم نفسه، وذلك من عدة جهات:
الأول منها: أن هذه الروايات قد بلغت من الكثرة ومن التعاضد وتصديق بعضها بعضا درجة إفادة العلم النظري (اليقين المكتسب)، فهي لو لم يصح من أفرادها شيء (مع أنه يصح منها قدر كبير بالانفراد)، فهي بالمجموع مما لا يمكن عقلا رده (أقول عقلا)!! إذ كيف تَـحَـقَّـقَ أن يروي أناسٌ كثيرون جدا، من بلدان مختلفة، ومن مدارس علمية ومذاهب متعددة، لا يعرف بعضهم بعضا = أخبارًا تدل على معنى كلي واحد، ثم يقع الخطأ في نقلهم كلهم، فضلا عن بعد احتمال وقوع الكذب منهم!! هذا مما يرفضه العقل؛ إلا العقول التي قد خربت بداء الشك في اليقين!
وأنبه هنا أني لا أخص بكلامي الرواياتِ التي تنص على نسخ التلاوة فقط، على كثرتها، بل يشمل كلامي كل الروايات التي تذكر أحرفا من القرآن تخالف خط المصحف، كالتي جمع بعضها ابن أبي داود في كتابه (المصاحف)، والتي تنتثر في عموم كتب القراءات الشاذة وكتب التفاسير وكتب علوم القرآن. فكلها تثبت نسخ التلاوة، أو نحوه من الأجوبة التي لا يقل إنكارُ منكري نسخ التلاوة لها عن إنكارهم لنسخ التلاوة! فهذه روايات كثيرة جدا، لا تخفى كثرتها إلا على أجنبي تماما عن تراثنا الإسلامي. وكثرتها ليست خبرًا عن غيب، بل هي حاضرٌ مشاهَدٌ، لا يشك في وجوده إلا معاند أحمق، أو جاهل لا مدخل له في هذه المسائل.
إن من يورد احتمال الخطأ والكذب على مثل هذا النقل المتواتر المعنى، هو السوفسطائي الشَّكّاك الذي لا يوقن بشيء، أو هو في طريقه إلى هذا النفق المظلم من الشكوك والحيرة والالتباس!! فمن تَصوّرَ احتمالَ الخطأ والكذب في نقل متواترٍ واحدٍ، ما الذي سيجعله يوقن ببقية المتواترات؟! وعلى رأسها القرآن الكريم!!
وهكذا سيؤول هذا التخريب العقلي بمنكر النسخ في النهاية إلى الشك في ثبوت القرآن الكريم وحفظه، وهذا ما انتهى إليه الجابري فعلا (كما سبق)!
والثاني: على منكر هذه الروايات أن يفسر كيف يُتصور وقوع الغلط أو الكذب فيها؟! فلا يكفي أن يدعي وقوع الغلط أو الكذب، ما دام واقع الرواية لا يحتمل وقوع الغلط ولا الكذب!!
أما الغلط: فكيف يتتابع ذلك الجم الغفير على غلط النقل، والغلط لا يمكن عقلا أن يتتابع على احتمالٍ واحد من بين احتمالات الخطأ التي لا عدَّ لها ولا حصر؟! لا يمكن أن يقع بعضٌ من بعض هذا التتابع في الوهم، فكيف به كله؟! فعقلا يمتنع الغلط في مثل هذا النقل؛ إلا في عقلٍ يُنكر المتواترات، وعلى رأسها سيكون: القرآن الكريم!
وأما الكذب: فمن هو المتهم بالكذب في تلك الروايات، هل هم أئمة القراءات وعلماء التفسير والمصنفون في علوم القرآن، أم هم المحدثون المصنفون كأحمد بن حنبل والبخاري ومسلم، وكابن أبي داود وغيرهم من المئات؟!!
فإن كان الكذب قد وقع ممن سبقهم من رواة الأخبار، رغم وجود أسانيد كثيرة صحيحة لا يوجد فيها إلا عدلٌ صادقٌ ورع، فكيف تمَّ لهؤلاء الكذّابين التوافُـقُ على هذه الكذبة؟! رغم تباعد المنازل والديار، ورغم اختلاف الأزمان، ورغم تَعدُّدِ المدارس والمذاهب والتوجهات؟!
إن تكذيب هؤلاء هكذا جزافا ليس من العقل في شيء؛ لأن العقل لا يستطيع تصور احتمال وقوع الكذب منهم؛ إلا عقلا يجيب بجواب يُـجوِّزُ وقوعَ الكذبِ حتى في المتواترات، وعلى رأسها القرآن الكريم!!
والثالث: إذا انطلى هذا الغلط والكذب (نسخ التلاوة) على عامة أئمة الدين (ولست مضطرا لذكر إجماعهم، وهو إجماعٌ صحيح) من: فقهاء، ومفسرين، وقراء، ومحدثين، وأصوليين، ومن: معتزلةٍ، وأشعرية، وماتريدية، وحنابلة، وهو غلطٌ شنيعٌ يُعرِّضُ القرآنَ للشك والاستخفاف (بحسب زعم القوم)، فكيف إذن يُؤتمن هؤلاء على نقل القرآن وعلوم الإسلام بعد ذلك؟! إن أول ما يجب أن نشك فيه (بعد هذا الاتفاق على باطل خطير) هو أن نشك في قدرتهم الفكرية وأدواتهم العلمية على حفظ القرآن وصيانته، ما داموا قد تبنّوا رأيا معناه ومؤدّاه: اتّـهامُ القرآنِ بالتحريف والنقصان، وتتابعوا عليه، خلفُهم عن سلفهم؟!!!
وبهذه الوجوه الثلاثة: يتضح أن من نفى نسخ التلاوة قد شكك في القرآن بحجة الدفاع عنه، وكان هو أحد من هاجمه وطعن فيه، شعر أو لم يشعر!
والأهمُّ: تَبيّنَ بهذا المثال: كيف أن الحق يدل على الحق. كما أن الباطل يصطدم بالحق، فإما أن ينبهك هذا التعارض على إبطال الباطل الأول، وإما أن يقودك إلى التمادي في الباطل، وأن تنتقل من باطل إلى باطل.
فهل سينتهي هؤلاء عن عبثهم بحجة الدفاع عن الإسلام؟! هل سينتهون عن إساءتهم لدين الله عز وجل بسام التجديد؟!
المصدر : أثر إنكار نسخ التلاوة في التشكيك بالقرآن