محمد خليل الزروق
New member
أبواب الجنان
من أين أدخل ؟ لا بأس عليك ، إنها أبواب كثيرة ، من أيها دخلت أجزأك ، وأوصلك إلى بغيتك ، ونفذ بقلبك إلى قلب هذه الحدائق .
فاتساعها ، وتباعد أطرافها ، وبُعد مداها - يهوِّن عليك الدخول من أقرب مَوْلِج ، والاكتفاء ببعض عن بعض .
ولا يهُولَنَّك هذا الاتساع فتزهدَ في الدخول ، فإنه ما من داخل أمكنته الإحاطة ، فرأى كل شيء ، وذاق كل طعم ، وسمع كل نغم ، ولكنهم يستدلون بما بلغوا على ما لم يبلغوا ، وبما أدركوه على ما فاتهم ، ويؤمِّلون إن كان في العمر باقية ، وفي الزمن اتساع ، أن يستزيدوا ما وسعتهم الاستزادة ، وأن يغترفوا على قدر آنيتهم ، ويستوعبوا على قدر مسيل أوديتهم .
* * *
هذا باب قديم ، ليس بِمُعرق في القدم ، ولكنه كان مَوْلج كثيرين رغَّبهم وحبَّبهم ، وأخذ بأيديهم وعرَّفهم ، لا سيما في عهود الصبا ، وأيام الشبيبة ، والعواطف مشبوبة ، والأوتار مشدودة ، والخيال مشيَّدةٌ مبانيه ، والقلب مضطربة معانيه ، يخفق للطيف ، ويُشغَل بالأمل ، ويُشعل بالوهم ، ففرحُه طائر ، وحزنه آسر ، وحبه حائر .
إنه باب مكتوب عليه : مصطفى لطفي المنفلوطي ، يغلب عليه الحزن والتفكر ، ففيه مع كل عِبرة عَبرة ، ومع كل فكرة فَترة ، ومع كل نظرة حسرة ، فأنت مع ( النظرات ) في ( عَبَرات ) ، ومع الكلمات في أنات ، وإذا قص عليك قَصص المآسي والأحزان ، أبكى وأشجى ، وإذا روى لك أحاديث البيان ، وصف واستقصى ، فيعلمك مع سهولة القالب رقة القلب ، ومع نقاء الديباجة إرسال الدمعة .
* * *
وليس ببعيد منه باب كبير ، ومَشْرَع واسع ، باب مكتوب عليه : أحمد حسن الزيات ، من معالمه تعرف أنه صاحب ( رسالة ) ، وكاتب مقالة ، أنشأ نهضة واسعة ، ومجلة جامعة ، يكتب فيها المصري والمغربي ، ويتحاور فيها الشامي والعراقي .
كان في أسلوبه نظام وإحكام ، مضبوط بمقاييس ، وموزون بموازين ، كأنما هو خريطة هندسية ، أو خطة عسكرية ، وقد حكى عن نفسه أنه إذا كتب سد أذنيه بالقطن ، حتى لا يسمع صوتًا ، وحتى لا ينحرف له خط ، ولا يضطرب له رسم ، ولا تند عنه كلمة . الدخول من هذا الباب يعلمك محاسن المقابلة ، وتتمرن بمحاكاته على الرصف والمزاوجة ، ولا تلبث بعد زمن أن تعلم أنه نمط أثير ، وأسلوب شائع ، وطريقة غالبة ، ولك بعد ذلك أن تأخذ منه ، وألا تكتفى به .
وأما مجلته التي ذكرتُ فمجلس لا يُسأم ، وحديث لا يمل ، سال في أنهرها مداد الأدب ، وبدا فيها بدائه الشعر والنثر ، وبدائع الفكر والفن ، وتَحارَب على صفحاتها المختلفون بلا سيف ولا صوت ، وتصارعت في فصولها الأفكار بلا غلَب ولا موت ، ، وأظهرت أدباء لم يُعرفوا ، ثم عرفوا ، وجدَّد فيها شيوخٌ من أساليب الصنعة ما لم يألفوا ، ثم ألفوا ، فكانت في تاريخ الفن نُقلة ، وبين ماضيه وحاضره وُصلة .
* * *
وباب آخر عليه وقار ومهابة ، ولصاحبه فحولة وأصالة ، وله في قلوب أهل المذهب تبجيل وجلالة ، لم يزل ممثلاً للعزة الإسلامية ، والنخوة العربية ، يخوض المعارك ( تحت راية القرآن ) ، ويجوب المسالك بصدق أهل الإيمان . كلامه في تفكُّره وتدبره ، وقلمه في ( وحيه ) ونحوِه ، وعِلْمه ( بآداب العرب ) ، وتصرُّفه في فنون الأدب - كأنما هو تنزيل من التنزيل ، أو قبس من نور الذكر الحكيم .
كان شديدًا على الطاعنين ، اللابسين لبوس البحث والأدب ليصلوا إلى حياض الدين ، مُرُّ السخرية ، واسع الحيلة ، بعيد الغور ، عميق الفِكْر ، طويل النفَس . حكوا عنه أنه كان يحمل قُصاصات من الورق يشقِّق فيها الفِكَر ، ويفتِّق فيها الصور ، فربما عسُر على الناظر من أول لمحة فهمُ ما يريد ، فإذا تأنَّى قليلاً ظهر له مرماه البعيد . يعدّه بعضهم زعيم قصيدة النثر ، وإن لم يسم ذلك باسم القصيدة أو باسم الشعر . وكان شاعرًا أول أمره ، فنسي الناس بما أذهلهم من ترسُّله ونثره ، ما كان عرض عليهم من قبل من دواوين نظمه وشعره .
الدخول من هذا الباب يعلمك كيف تجتمع جزالة العبارة وحداثة المعنى ؟ وكيف يُنحت تمثال الخيال ؟ وكيف يُستنبط ماء المجاز ؟ إنه باب مكتوب عليه : مصطفى صادق الرافعي .
* * *
وهذا باب يرغِّب في الدخول منه أناس ، ويرغِّب عنه أناس ، وأنا ممن يرغب في الدخول منه ، وما عليك إذا كنت فاقهًا فاهمًا ، أن تستمتع بأدب هذا الأديب ، وتنعم بهذا اللون من الكتابة ، حيث يكون الكاتب ممسكًا بأدواته وآلاته ، فيأخذ قارئه إلى حيث يريد ، بلا عناء ولا رهَق ، يولِّد من المعنى معاني ، ومن الفكرة صفحات ، ومن الصفحات كتابًا ، ويقص عليك حديث ( أيامه ) فيمتع ، و( حديث الأربعاء ) فيبدع ، ويجدد ذكرى ( المتنبي ) ، و( ذكرى أبي العلاء ) ، وله على السيرة ( هامش ) رقيق الحاشية ، مزخرف الناحية ، فقد كان الرجل أديبًا متأنقًا ، صاحب لحون وفنون ، ومبدع أصوات ونغمات . وقد سُمي بأخَرة حين طال به العمر ، وامتدت به الأيام - عميد الأدب ؛ إذ كان بقية أولئك المتقدمين ، وآخر طبقته من الغابرين ، وقد رجا له الحكماء أن يكون مات على نية صالحة ، وتوبة ناصحة . ذلك باب : طه حسين .
* * *
وهذا باب سهل دخوله ، هادئ جوه ، قليل زحامه ، نزر رُوَّاده ووُرَّاده ، صاحبه باحث أديب ، من كبار الكتاب ، أجرى للأدباء من ( فيض خاطره ) نهرا ، وأرخ للإسلام ( فجرا وضحى وظهرا ) ، وأشرف على لجنة للتأليف والنشر دهرا ، فأظهرت كنوزًا مخبوءة ، وأبرزت دواوين مستورة . جعل من ( حياته ) مثلاً لكتابة سيرة النفس ، ورسْم صورة الذات ، بلا تكلف يعيب ، أو تعمُّل يشين .
يعلمك الدخول من هذا الباب كيف تبتكر فكرة لمقالة ؟ وكيف تخترع موضوعًا لبحث ؟ وتعرف منه كيف يكون السهل الممتنع ؟ وكيف يكون العلم خادمًا للأدب ؟ وكيف يكون البحث مددًا للفن ؟ هذا باب : أحمد أمين .
* * *
أراني قد أطلت عليك ، وقراء هذا الزمان قليل صبرهم ، كثير تبرمهم ، ولكنك إذا دخلت حدائق هؤلاء ، وكنت راغبًا في أدبهم ، متذوقًا لفنهم ، عارفًا بقدرهم ، علَّموك الصبر على القراءة الطويلة الطويلة ، ونسيت بما تعشَّقَتْ نفسُك من آدابهم كلل العين ، وطول السهر ، وثقل الكتب ، لأنك تجد في عقلك أبوابًا كانت مغلقة ففُتحت ، وفي نفسك دروبًا كانت مجهولة فعُرفت ، وفي قلمك قدرة بالقوة انتقلت إلى الفعل ، وفي بيانك طاقة كامنة خرجت إلى العمل .
إنك إذا قرأت هؤلاء - وحدهم وحدهم - صرت أديبًا ، ولكنهم لن يتركوك حتى يأخذوا بيدك إلى أبواب الجنان ، وحتى يدخلوا بك على ابن المقفع والجاحظ وأبي حيان ، وتكون قد أُصبت بداء الإدمان ، ووقعت في الأسر ، واستولى عليك عمل السحر ، تصيح بك الوالدة أو الأخت أو الزوجة : قد برد طعامُك ! أو قد تأخر - يا فلان - منامك ! فتسمع ولا تجيب ، أو تسوِّف ولا تستجيب ! تطلب الكتاب بعد الكتاب ، ولا يُسْلمك فصل إلا إلى فصل ، ولا باب إلا إلى باب ، وتلك - لعمر الحق - رحلة ما لها من إياب !
وعسى أن يكون للحديث بقية ، إن كان في العمر أيام .
24-3-2010
ــــــــــــــ
كتبت هذه الكلمة استجابة لطلب صديق أن أكتب في هذا المعنى ، بعد صدور مجلة الرقيم على الإنترنت منذ أيام .