أحبابي الكرام /
[color=CC0000]حين تقرأ في سورة يؤسف يمر عليك هذا الإشكال فهل فكرت فيه ؟
أبناء يعقوب عليه السلام أنبياء ..فكيف حصل منهم ما حصل مع أبيهم وهم يعتقدون نبوته وأذية النبي معصية ومع أخيهم يوسف عليه السلام ...؟ مع اعتقاد عصمة الأنبياء ..[/color]
[color=006600]وقد أجاب عن ذلك العلماء بأجوبة منها :[/color]
[color=0000FF]أولاً : أنهم في ذلك الزمن في وقت المراهقة وما كانوا بالغين قا ل الرازي :" وهذا ضعيف "
ثانياً : أن ذلك من باب الصغائر قال رحمه الله :" وهذا أيضاً بعيد .."
ثالثاً : وهو الذي صححه الرازي :" أنهم ما كانوا أنبياء ، وإن كانوا أنبياء إلا أن هذه الواقعة إنما أقدموا عليها قبل النبوة "
وعليه فإن كانوا أولياء فالولي ليس بمعصوم لكن المشكل القول بنبوتهم قال العلامة الصاوي في تفسيره :"وهو مشكل غاية الإشكال .."
ثم استدرك على القائلين بأن ذلك قبل النبوة ... قال رحمه الله :" بل الحق أن النبي معصوم باطناً وظاهراً ، قبل النبوة وبعدها ، وإنما الواجب الذي يشفي الغليل ويريح العليل أن يقال : إن الله أطلعهم على أن يوسف يعطى النبوة والملك بمصر ، ولا يتصور ذلك إلا بهذا الفعل فهم مأمورون به باطناً مخالفون ظاهراً ، إذا ليسوا مشرعين ، فلا يكلمون إلا بخلوص بواطنهم مع ربهم ونظير ذلك قصة الخضر مع موسى ..وقصة آدم في أكل الشجرة ..." والله أعلم بالصواب [/color]
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الكريم ( ابن حجر )
أشكرك على مشاركتك القيمة ، وإن كان فيها شيء من الملحوظات العلمية ، فاستبيحك ان أذكرها لك ، فأقول ـ وبالله التوفيق ـ :
إن ما ذكرته من قول الصاوي في غاية الإشكال أيضًا ، وهي تخريج غير سديد ، والقول بعصمة الأنبياء باطنًا وظاهرًا مشكل مخالفٌ للأدلة الشرعية التي ورد فيها ذكر بعض أخطاء الأنبياء عليهم السلام ، وهم ـ مع ما وقع منهم من أخطاءـ قد غفر الله لهم ، فكان ذلك لنا قدوة في أن نطلب من ربنا المغفرة ، كما ورد مثل ذلك عن الحسن البصري رحمه الله حيث قال : (( إن الله لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرًا منه لهم ، ولكنه قصَّها عليكم لئلا تقنطوا من رحمته )) .
وإذا كان ذلك كذلك ، فلا إشكال في الأمر ، لو كانوا أنبياء ، مع أن بعض العلماء ذهب إلى عدم نبوتهم ، حيث أن قوله تعالى : (( إنا أوحينا إليك كما اوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورًا )) ( النساء : 163 ) محتمل ، وليس نصًّا ، بدليل وقوع الخلاف في تفسير المراد بالأسباط .
والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب ، قاله الخليل بن أحمد ، وذكره البخاري في كتاب التفسير ، ومن ثمَّ فإن الابن المباشر لا يُسمَّى سِبطًا .
والمراد على هذا الوجه : أنه أوحى إلى بعض الأسباط ، وهم أنبياء بني إسرائيل ممن لم يُذكر في هذه الآية ، فزكريا ويحيى لم يُذكرا في هذه الآية ، فهم داخلون في الأسباط ، والمقصود بذلك أنه لا يلزم ذكر جميع الأنبياء من بني إسرائيل ، وإنما عُبِّر عنهم بلفظ الأسباط فيشمل من لم يُذكر منهم ، ويكون من ذكر منهم على سبيل التخصيص بعد العموم ، لمزية في ذلك الخاصِّ المذكور بعد العام ، ويشرح هذا العموم المخصوص قوله تعالى : (( واذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا )) ( ينظر تفسير ابن كثير / البقرة : 136 ) .
وعلى القول بأن الأسباط هم بنو يعقوب مباشرة ، فإنهم غير معصومين من وقعهم في الذنب ، ومن زعم عصمتهم فقد خالف ظاهر النص ، وذهب إلى تأوُّلات بعيدة كما ذهب إليه الصاوي .
والذي ذهب إليه الصاوي هو مذهب بعض الصوفية ، وهو مذهب مخالف لنصوص الشرع ، لذا اضطرهم هذا الاعتقاد إلى تأويل الآيات الواردة في عتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلى تأويل الآيات التي ورد فيها ذكر بعض أخطاء الأنبياء عليهم السلام .
والذي يحسن معرفته في هذا المقام ما يأتي :
1 ـ أن النبي ـ عليه السلام ـ لا يقع منه مخالفة في التبليغ ، فهو يبلغ ما أتاه من ربه ، ولا يمكن بحال أن يقول غير ما بَلَغَهُ عن ربه .
2 ـ أن النبي ـ عليه السلام ـ إذا أخطأ ، فإن الله يبين له خطأه ويغفر له هذا الخطأ ، وذلك ظاهر في غير ما قصة من قصصهم ؛ كقصة داود وسليمان .
3 ـ أن الكمالات البشرية لا تُبتُ إلا بنصًّ ، فمن زعم لنبيٍ ما كمالاً بشريًا يخالف فيه البشر فإنه يجب عليه الدليل ، ومن الكمالات التي أوتيها نبينا صلى الله عليه وسلم كون رائحة عرقه كرائحة المسك .
أما ما يقع منهم من أخطاء ، فكما يجب ألا تُحرَّف النصوص الواردة فيها ، فكذلك يجب أن لا يضاف إليهم ما لم يفعلوه ، وذلك منكر عظيم وقع فيه المغضوب عليهم ، وهم اليهود ، حيث نسبوا في أسفارهم نقائص يتنزه عنها فضلاء البشر فضلاً عن أنبيائهم .
وأخيرًا ، فإن موضوع العصمة من الموضوعات التي قُرِّر فيها العقل ، ولم يُستنطق بها الشرع ، والواجب في هذا المقام أن لا يُثبت فيها إلا ما أثبته الشرع ، وأن يُنطلق من الأمثلة التي ذكرها الله عن أنبيائه ، ومن واقع الأنبياء الوارد عنهم ورودًا صحيحًا ، فيفهم منه ما يجوز وما لا يجوز على النبي ، أما أن تقرَّر مسائل العصمة بعيدًا عن نصوص الوحيين ، ثمَّ تُحمل عليها نصزوص الوحيين فما وافقها قُبِل ، وما خالفها رُدَّ ، فهذا منهج المعتزلة الذي جعلوا العقل حَكَمًا على نصوص الوحيين ، والله المستعان .
اللهم جنبنا الخطأ والزلل ، واجعلنا من أتباع أنبيائك ، ولا تجعل في كلامنا عنهم ما يكون فيه سوءًا ، إن أردت إلا بيان الحق ما استطعت ، إني أستغفر الله من خطئي وزللي .
شيخ مساعد وفقه الله
[color=006600]بل الأنبياء معصومون ظاهراً وباطناً وحكى الإجماع على ذلك جماعات ، وليس ثم خطأ وقع فيه نبي عن عمد وقصد بل إما عن تأويل أو نحوه ...[/color]
[color=CC0066]وهل يتخيل أحد : أن أحد الأنبياء كان يشرب الخمرة أو يزني أو يسرق ..قبل النبوة ؟
وهذ1ا قد يقال حين يشيع أن الأنبياء لم يكونوا معصومين قبل النبوة !![/color]
أخي الكريم ابن حجر
يبدو أننا سندخل في متاهة مصطلحات غير متوافقة بين المتحدثيَن ،وسيأتي على ذلك جملة من الأسئلة :
1 ـ مالمراد بقول الصاوي ظاهرًا وباطنا .
2 ـ وقوع الخطأ منهم عليهم السلام إذا كان بتأوُّل فلِم يقع العتاب عليهم ، والمتأوِّل معذور .
3 ـ هل يصح تخريج الصاوي الذي لا دليل عليه ، حيث جعل حالهم كحال الخضر ، من أين جاء بهذا؟!
ألا تلاحظ سبق الإصرار والتعمد في إخوة يوسف لهذا الفعل ؟!
لو كان الحال كما قال الصاوي ؛ أكان يخفى على يعقوب عليه السلام ، وهو يقول لهم : ( قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) ؟!
أخي الكريم : إن الانطلاق في مثل هذه الأمور من العقل ليس بسديد ، فالله أعلم بأنبيائه ، وقد حكى عنهم ما حكى ، ولم يذكر أنهم متأوِّلون أو غير ذلك ، بل وقع منه لهم عتابات ومغفرة ، فعلام كانت المغفرة إذا ؟!
أخي المكرم
[color=CC00CC]أشكرك على هذ1 الرد والذي يظهر منه المتابعة المتميزة :[/color]
أقول _ وفقكم الله _ لم لا يكون ثمَّ تلاقٍ ووفاق بين المتحدثين ولو في بعض النقاط ؟!!
[color=3300FF]أولاً : في نفسي شيء من تخريج الصاوي رحمه الله حين كتبته وصرحت به لبض طلابنا في الكلية حين سئلت عن ذلك .[/color]
[color=006600]ثانياً : والذي يظهر من خلال البحث : سداد رأيكم في التخريج : إذ إنهم ليسوا بأنبياء ولا دليل على نبوتهم ...[/color]
[color=0000FF]ثالثاً : عصمة الأنبياء معلومة مبثوثة في كتب العقائد والمتكلمين وحكاية الإجماع على عصمتهم ظاهرة ..
ولا يمكن لنبي أن يواقع الفواحش ثم يتأهل لحمل النبوة .[/color]
[color=000033]وقولكم :"فالله أعلم بأنبيائه ، وقد حكى عنهم ما حكى ، ولم يذكر أنهم متأوِّلون أو غير ذلك ، بل وقع منه لهم عتابات ومغفرة ، فعلام كانت المغفرة إذا ؟!"
سؤالي : ألا ترى العصمة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بعد النبوة ؟
إن كنت ترى ذلك _ وهذا المظنون بكم _ فلماذا عاتبه الله في الأسرى وفي الأعمى ؟!!
قال الله تعالى :" ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر .." الآية
فهل تظن _ شيخي الكريم _ أن الله يخبر عن نبيه أنه سيقع في الذنوب بعد ذلك الخطاب ..
بل المراد : ترك الأفضل أو الصغائر الواقعة منهم لا عن عمد بل فضل من الله ومنة على نبيه أو المراد العصمة فيما مضى وما سيكون .[/color]
[color=CC00CC]والله أعلم
بانتظار توجيهكم حرِّمت على النار [/color]
بسم الله الرحمن الرحيم
شيخنا الفاضل د. مساعد الطيار
ليسمح لي فضيلتكم حفظكم بهذه الإضافة التالية قد لخصتها من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله من كلام طويل حول هذا الموضوع وأنا لا أضع نفسي موازيا لفضيلتكم في العلم ولكني أحببت المشاركة في بيان الحق أسأل الله أن يوفقني وجميع أخواني لما يحب ويرضى .
أن الأنبياء ـ صلوات اللّه عليهم ـ معصومون فيما يخبرون به عن اللّه ـ سبحانه ـ وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه كما قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 136، 137]، وقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
بخلاف غير الأنبياء، فإنهم ليسوا معصومين كما عصم الأنبياء وبهذه العصمة يحصل مقصود النبوة والرسالة .
ولكن يصدر ما يستدركه اللّه، فينسخ ما يلقي الشيطان، ويحكم اللّه آياته؟
وهو ما نقل عن السلف والموافق للقرآن ولا يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [ الحج: 52 ـ 54
وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع
هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع؟
ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها،
أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها؟
أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط؟
وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم لا؟
والقول الذي عليه جمهور الناس، وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف: إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقًا. أي أن الله لا يقر الأنبياء على الذنوب .
واللّه ـ تعالى ـ لم يذكر في القرآن شيئًا من ذلك عن نبي من الأنبياء إلا مقرونًا بالتوبة والاستغفار، كقول آدم وزوجته: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]،
وقوله تعالى عن سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35].
وما تضمنته [قصة ذي النون] مما يلام عليه كله مغفور بدله اللّه به حسنات، ورفع درجاته، وكان بعد خروجه من بطن الحوت وتوبته أعظم درجة منه قبل أن يقع ما وقع، قال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ. لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ. فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ} [القلم: 48ـ50]، وهذا بخلاف حال التقام الحوت فإنه قال: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 241]، فأخبر أنه في تلك الحال مليم، و [المليم] الذي فعل ما يلام عليه، فالملام في تلك الحال لا في حال نبذه بالعراء وهو سقيم، فكانت حاله بعد قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] أرفع من حاله قبل أن يكون ما كان، والاعتبار بكمال النهاية لا بما جرى في البداية، والأعمال بخواتيمها.
واللّه ـ تعالى ـ خلق الإنسان وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا ثم علمه فنقله من حال النقص إلى حال الكمال، فلا يجوز أن يعتبر قدر الإنسان بما وقع منه قبل حال الكمال، بل الاعتبار بحال كماله، ويونس صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء في حال النهاية حالهم أكمل الأحوال.
ولو اعتبر ذلك لاعتبر أحدهم وهو نطفة ثم علقة، ثم مضغة، ثم حين نفخت فيه الروح، ثم هو وليد، ثم رضيع ثم فطيم، إلى أحوال أخر، فعلم أن الواحد في هذه الحال لم تقم به صفات الكمال التي يستحق بها كمال المدح والتفضيل ، وتفضيله بها على كل صنف وجيل، وإنما فضله باعتبار المآل، عند حصول الكمال.
وما يظنه بعض الناس أنه من ولد على الإسلام فلم يكفر قط أفضل ممن كان كافرًا فأسلم ليس بصواب، بل الاعتبار بالعاقبة، وأيهما كان أتقى للّه في عاقبته كان أفضل.
فإنه من المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين آمنوا باللّه ورسوله بعد كفرهم هم أفضل ممن ولد على الإسلام من أولادهم وغير أولادهم،
وكان عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد ـ رضي اللّه عنهما ـ من أشد الناس على الإسلام فلما أسلما تقدما على من سبقهما إلى الإسلام، وكان بعض من سبقهما دونهما في الإيمان والعمل الصالح بما كان عندهما من كمال الجهاد للكفار والنصر للّه ورسوله، وكان عمر لكونه أكمل إيمانًا وإخلاصًا وصدقًا ومعرفة وفراسة ونورًا أبعد عن هوى النفس وأعلى همة في إقامة دين اللّه، مقدما على سائر المسلمين، غير أبي بكر رضي اللّه عنهم أجمعين.
وهذا وغيره مما يبين أن الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية.
وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول: إن اللّه لا يبعث نبيًا إلا من كان معصومًا قبل النبوة، كما يقول ذلك طائفة من الرافضة وغيرهم، وكذلك من قال: إنه لا يبعث نبيًا إلا من كان مؤمنا قبل النبوة، فإن هؤلاء توهموا أن الذنوب تكون نقصًا وإن تاب التائب منها، وهذا منشأ غلطهم. فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصًا فهو غالط غلطًا عظيمًا، فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب لا يلحق التائب منه شيء أصلًا، لكن إن قدم التوبة لم يلحقه شيء، وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله.
والأنبياء ـ صلوات اللّه عليهم وسلامه ـ كانوا لا يؤخرون التوبة، بل يسارعون إليها، ويسابقون إليها،لا يؤخرون ولا يصرون على الذنب بل هم معصومون من ذلك،ومن أخر ذلك زمنًا قليلًا كفر اللّه ذلك بما يبتليه به كما فعل بذي النون صلى الله عليه وسلم ،هذا على المشهور إن إلقاءه كان بعد النبوة، وأما من قال إن إلقاءه كان قبل النبوة فلا يحتاج إلى هذا.
والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب، وإذا كان قد يكون أفضل، فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة، وقد أخبر اللّه عن أخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم وهم الأسباط الذين نبأهم اللّه تعالى، وقد قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]. فآمن لوط لإبراهيم ـ عليه السلام ـ ثم أرسله اللّه تعالى إلى قوم لوط. وقد قال تعالى في قصة شعيب: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ . قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ لْفَاتِحِينَ}[الأعراف: 88، 89]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}[إبراهيم: 13، 14].
وإذا عرف أن الاعتبار بكمال النهاية، وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والاستغفار، ولابد لكل عبد من التوبة وهي واجبة على الأولين والآخرين. كما قال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 73].
وقد أخبر اللّه ـ سبحانه ـ بتوبة آدم ونوح ومن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وآخر ما نزل عليه ـ أو من آخر ما نزل عليه ـ قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . ففَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [سورة النصر]،
وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللّهم ربنا وبحمدك اللّهم اغفر لي" يتأول القرآن).
وقد أنزل اللّه عليه قبل ذلك: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]،
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر اللّه وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)، وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر اللّه في اليوم مائة مـرة)،
وفي الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللّهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير)،
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول اللّه، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول ؟ قال: (أقول: اللّهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللّهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللّهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد).
وفي صحيح مسلم وغيره أنه كان يقول نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع، وفي صحيح مسلم عن على ـ رضى اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي وعملت سوءًا فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)،
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: (اللّهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله، علانيته وسره، أوله وآخره).
وفي السنن عن على، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بدابة؛ ليركبها وأنه حمد اللّه وقال: ({سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ . وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}) [الزخرف: 13، 14] ثم كبره وحمده ثم قال: (سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، ثم ضحك ! وقال: (إن الرب يعجب من عبده إذا قال: اغفـر لي، فإنه لا يغفـر الذنوب إلا أنت، يقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا).
وثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة: (أن المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد عبد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)،
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى ترم قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال: (أفلا أكون عبدًا شكورا).
ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين كثيرة.
لكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلات الجهمية والباطنية كما فعل ذلك من صنف في هذا الباب. وتأويلاتهم تبين لمن تدبرها أنها فاسدة من باب تحريف الكلم عن مواضعه. كتأويلهم قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته وهذا معلوم البطلان .
أخي الكريم ابن حجر ـ حرم الله وجهي ووجهكم على النار ـ أسأل الله لي ولكم السداد في القول والعمل ، أما بعد :
فأنت تعلم حساسية هذا الموضوع ؛ لأنه يتعلق بجناب النبوة ، والخطأ فيها فاحش مرذول ، أسأل الله لي ولك حسن البيان على وفق ما جاء في السنة والقرآن ، وأن يُبعدنا عن التأويلات البعيدة عن ظاهر الوحيين .
أخي الكريم : لقد كنت أدرك أن مفهوم العصمة فيه اختلاف بين المتحدِّثَين ، لذا قلتُ ما قلتُ ، وإني أبنت عن مفهوم العصمة فيما سبق ، وأعيده هنا على اختصار ، فأقول :
أولاً : إن الأصل في هذه المسألة أن نُثبت ما أثبته الله لأنبيائه أو عليهم ، وننفي عنهم ما نفاه عن أنبيائه ، فلا نذكر من عند أنفسنا مالم يدل عليه النص الشرعي الذي أثبت أمرين في عصمة الأنبياء ، وهما
1 ـ إن النبي معصوم عن الخطأ في التبليغ ، فلا يمكن أن يترك النبي أمرًا من أوامر الله فلا يبلِّغه ، كما لا يمكن أن يأمره الله بأن يأمر عباده بأمر فيأمرهم بخلاف ما أمره الله ، وهذا ظاهر باستقراء حال الأنبياء ؛ إذ لم يرد ذلك عنهم .
وقصارى ما ورد في هذا الأمر عن نبينا صلى الله عليه وسلم هو تأخير الاستجابة لأمر الله خشية الناس ، فعاتبه الله على ذلك ، وذلك في شأن زواجه من زينب بعد مملوكه زيد بن حارثة ، قال الله تعالى : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله ، وتخفي في نفسك ما الله مبديه ، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولاً ) .
فالله ـ سبحانه ـ عاتبه على تأخيره لتنفيذ هذا الوحي الذي أخبره الله بأنه سيقع ، وكان تأخيره له خشية قالةِ الناس كما أخبر الله ، لكنه صلى الله عليه وسلم ـ وحاشاه من ذلك ـ لم يترك تبليغ هذا الوحي وتنفيذه ، مع انه ـ كما يظهر ـ كان شديدًا عليه تطبيق هذا في نفسه صلى الله عليه وسلم ، حيث خالف سنة ماضية عند قومه ، فخشي من كلامهم فيه .
2 ـ أن النبي إذا أخطأ ذكَّره الله بخطئه ، فاستغفر النبي منه ، فيغفر الله له ، وقد ورد هذا في أكثر من نبي عليهم السلام .
وهذا الحال لا يكون إلا للأنبياء عليهم السلام ، أما من سواهم فيُخطئون ولا يُذكَّرون بخطئهم ، وقد لا يقع منه الاستغفار من الأخطاء ، وقد لا يغفر الله لهم ، وهذا خلاف حال الأنبياء عليهم السلام .
هذا ما تعطيه النصوص الشرعية ، أما أن نُركِّب مفهومًا للعصمة ، ثمَّ نحكِّمه على نصوص القرآن والسنة فذلك نهج المعتزلة وطريقة تفكيرهم ، حيث جعلوا العقل حَكَمًا على الشرع .
ولما دخل العقل المجرد ، أو المبني على بعض الأهواء في تحديد مفهوم العصمة وصل الحال ببعض المتصوفة إلى الزعم بأن النبي لا يقع من خطأ البتة لا في أمور دينه ولا في أمور دنياه ، وراحوا يلوون أعناق النصوص التي تخالف رأيهم في العصمة ، فحرَّفوا الكلِم ، وشنَّعوا على غيرهم ممن اعتمد النصوص الظاهرة .
ثانيًا : قولكم ـ حفظكم الله ـ : (ولا يمكن لنبي أن يواقع الفواحش ثم يتأهل لحمل النبوة (ـ افتراض ، وهو مما لم يقع أصلاً ، وإني أرى أن ترك مثل هذه الافتراضات أولى ، وإنما يكون الحديث عما ثبت في النصوص ، وكيف يُفسَّرُ ، أما ما لم يقع أصلاً ، فليس بداخلٍ في مجال البحث ، بل أرى أن إيراده في الحديث عن العصمة في غير محلِّه ، فالأنبياء أرفع شأنًا من أن يُنفى عنهم ما لم يقع منهم أصلاً .
ولا يوجَّه مثل هذا إلا لمخالف يرى وقوع مثل ذلك ، فيقال له : أثبت وقوعه بالنصوص ، وذلك ما لا يمكن إثباته البتة ، ومن علم حال الأنبياء ، وتأمل في سيرهم علم بعدهم عن مثل هذه الأمور .
ثالثًا : قولكم ـ حفظكم الله ـ : (سؤالي : ألا ترى العصمة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بعد النبوة ؟
إن كنت ترى ذلك _ وهذا المظنون بكم _ فلماذا عاتبه الله في الأسرى وفي الأعمى ؟!!)
فأقول : أنا لا أشكُّ في عصمة نبينا صلى الله عليه وسلم طرفة عين ، لكن على ما ذكرت لك من مفهوم العصمة ، وطريقة ثبوت العصمة .
وأما قولكم : (فلماذا عاتبه الله في الأسرى وفي الأعمى ) فأرى أن هذا السؤال يتوجه إليكم ، إذ كيف تُخرِّجون ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في شأن الأسرى ـ مثلاً ـ ، فالله سبحانه وتعالى يقول : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم )
أفترى أن ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة لأفضل ، أو ما عبر عنه بعضهم أنه خلاف الأولَى ؟!
كيف يكون ترتيب هذه العقوبة على خلاف الأفضل أو الأولى ؟!
أفهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا ؟ أفهم الصحابة على هذا المعنى ؟ فهاهو الإمام مسلم وغيره يذكرون في الآية ما ورد عن عمر بن الخطاب في أن النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم في أسرى بدر فرأى أبو بكر الفداء ورأى عمر قتلهم ، فمال النبي صلى الله عليه وسلم إلى رأي عمر ، قال عمر : (فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت ، فلما كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان . قلت : يا رسول الله ، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكي للذي عَرَضَ عليَّ أصحابُك من أخذهم الفداء ؛ لقد عُرِضَ علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم ) ، وهذا واضح في وقوع الخطأ في أخذ الفداء ، وهذا الحديث مبيِّن لظاهر الآية ( لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) أيمسهم العذاب بسبب خلاف الأفضل ؟!
رابعًا : أما قوله تعالى : ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) فيتوجه السؤال إليكم أيضًا ، وهو : إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وقع فيما يوجب المغفرة ، وإما أنه لم يقع .
فإن كنتم ترون أنه وقع فيما يوجب المغفرة ، فقد وافقتم ظاهر الآية ، فالذي هو أعلم بنبيه صلى الله عليه وسلم ، وأدرى به ، الذي أدَّبه وشرَّفه بالرسالة = يعده بمغفرة ذنوبه ، وهذا ظاهر النصِّ بلا ريب .
ولست أرى ما ذهب إليه بعضهم من تأويلات بعيدة تخالف نص الآية ، فقد ذهب بعضهم إلى أنه يغفر ذنب أبيه آدم ، وهذا المتقدم ، ويغفر ذنوب أمته ، وهذا المتأخر ، وهذا مخالف للنص كما ترى ، ولا يدل عليه لا نص شرعي آخر ، ولا حجة عقل .
وإن كنتم ترون أنه لم يقع فيما يوجب المغفرة ، فما فائدة الآية إذن ، وماهو تفسيرها ، فأي شيء يُغفر إذا كان ليس ثمتَ ما يوجب المغفرة ؟!
إن هذه الآية مِنَّةٌ من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وتَكْرِمَةٌ منه له في أنه صلى الله عليه وسلم قد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكان منه أنه شكر ذلك لله ، فكان يكثر من القيام ، حتى قالت عائشة رضي الله عنها : ( أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه . فقالت عائشة : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟
قال : أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا ) فهذه عائشة تردد نص الآية ، ولم تفهم منها غير ظاهرها ، ولم يدلها النبي صلى الله عليه وسلم على غير ظاهرها ، بل أبان عن شكره لربه بما هو له أهل صلى الله عليه وسلم .
وأختم بأمرين :
الأول : إني أستغفر الله من أي خطأ في كلامي تجاه أنبيائه ، غير أني أثبت ما أثبته النص ، فإن كان في كلامي ما يخالف ظاهر القرآن أو السنة ، فإني أرجع عنه ولا أقول به .
الثاني : طلب خاص لابن حجر ـ حفظه الله ـ :
أودُّ منكم ـ حفظكم الله ـ لو أبنتم عن أنفسكم ، فأنتم ـ كما ظهر من قولكم : ( وصرحت به لبعض طلابنا في الكلية حين سئلت عن ذلك ) ـ في صرح علمي ، فيا حبذا لو ذكرتم اسمكم الصريح ، وجزاكم الله خير ما يجزي عباده .
هل إخوة يوسف عليه السلام أنبياء ؟ ومن هم الأسباط ؟
المسألة مبنية على أن إخوة يوسف أنبياء كما قال السائل ، وإذا تبين عدم نبوتهم فلا سؤال .
وهذا نص مشاركة قد ذكرتها ضمن سلسلة : فوائد وتنبيهات في التفسير (2) :
وقال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله وقد سئل عن إخوة يوسف هل كانوا أنبياء؟:
(الذي يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار أن إخوة يوسف ليسوا بأنبياء، وليس في القرآن، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا عن أصحابه خبر بأن الله تعالى نبأهم، وإنما احتج من قال أنهم نبئوا بقوله في آيتي البقرة والنساء "والأسباط"، وفسر الأسباط بأنهم أولاد يعقوب، والصواب أنه ليس المراد بهم أولاده لصلبه بل ذُرِّيَّتُه، كما يقال فيهم أيضاً "بنو إسرائيل"، وكان في ذريته الأنبياء، فالأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسماعيل.
قال أبو سعيد الضرير: أصل السِّبْط، شجرة ملتفة كثيرة الأغصان.
فسموا الأسباط لكثرتهم، فكما أن الأغصان من شجرة واحدة كذلك الأسباط كانوا من يعقوب، ومثل السِّبط الحافد، وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر، وقال تعالى: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون. وقطعناهم اثني عشر أسباطاً أمماً"،
فهذا صريح في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل، كل سبط أمة، لا أنهم بنوه الاثنا عشر، بل لا معنى لتسميتهم قبل أن تنتشر عنهم الأولاد أسباطاً، فالحال أن السبط هم الجماعة من الناس.
ومن قال: الأسباط أولاد يعقوب، لم يرد أنهم أولاده لصلبه، بل أراد ذريته، كما يقال: بنو إسرائيل، وبنوآدم، فتخصيص الآية ببنيه لصلبه غلط، لا يدل عليه اللفظ ولا المعنى، ومن ادعاه فقد أخطأ خطأ بيناً.
والصواب أيضاً أن كونهم أسباطاً إنما سموا به من عهد موسى للآية المتقدمة، ومن حينئذ كانت فيهم النبوة، فإنه لا يعرف أنه كان فيهم نبي قبل موسى إلا يوسف، ومما يؤيد هذا أن الله تعالى لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال: "ومن ذريته داود وسليمان" الآيات، فذكر يوسف ومن معه، ولم يذكر الأسباط، فلو أن إخوة يوسف نبئوا كما نبئ يوسف لذُكروا معه.
وأيضاً فإن الله يذكر عن الأنبياء من المحامد والثناء، وما يناسب النبوة، وإن كان قبل النبوة، كما قال عن موسى: "ولما بلغ أشده" الآية، وقال في يوسف كذلك.
وفي الحديث: "أكرم الناس يوسف بن يعقـوب بن إسحـاق بن إبراهيم، نبي من نبي من نبي"، فلو كانت إخوته أنبياء كانوا قد شاركوه في هذا الكرم، وهو تعالى لما قص قصة يوسف وما فعلوه معه ذكر اعترافهم بالخطيئة وطلبهم الاستغفار من أبيهم، ولم يذكر من فضلهم ما يناسب النبوة، ولا شيئاً من خصائص الأنبياء، بل ولا ذكر عنهم توبة باهرة كما ذكر عن ذنبه دون ذنبهم، بل إنما حكى عنهم الاعتراف وطلب الاستغفار، ولا ذكر سبحانه عن أحد من الأنبياء – لا قبل النبوة ولا بعدها – أنه فعل مثل هذه الأمور العظيمة، من عقوق الوالد، وقطيعة الرحم، وإرقاق المسلم، وبيعه إلى بلاد الكفر، والكذب البين، وغير ذلك مما حكاه عنهم، ولم يَحْكِ شيئاً يناسب الاصطفاء والاختصاص الموجب لنبوتهم، بل الذي حكاه يخالف ذلك، بخلاف ما حكاه عن يوسف.
ثم إن القرآن يدل على أنه لم يأت أهل مصر نبي قبل موسى سوى يوسف، لآية غافر، ولو كان من إخوة يوسف نبي لكان قد دعا أهل مصر، وظهرت أخبار نبوته، فلما لم يكن ذلك عُلم أنه لم يكن منهم نبي، فهذه وجوه متعددة يقوي بعضها بعضاً.
وقد ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر، وهو أيضاً، وأوصى بنقله إلى الشام فنقله موسى.
والحاصل أن الغلط في دعوى نبوتهم حَصَل من ظن أنهم هم الأسباط، وليس كذلك). انتهى من مجموع الرسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية - المجموعة الثالثة ص297-299 بتحقيق محمد عزيز .
وقال الإمام السيوطي رحمه الله: (مسألة في رجلين قال أحدهما إن إخوة يوسف عليه السلام أنبياء، وقال الآخر: ليسوا بأنبياء فمن أصاب؟
الجواب: في إخوة يوسف عليه السلام قولان للعلماء، والذي عليه الأكثرون سلفاً وخلفاً أنهم ليسوا بأنبياء، أما السلف فلم ينقل عن أحد من الصحابة أنهم قالوا بنبوتهم – كذا قال ابن تيمية - ولا أحفظه عن أحد من التابعين، وأما أتباع التابعين فنُقِل عن ابن زيد17 أنه قال بنبوتهم، وتابعه على هذا فئة قليلة، وأنكر ذلك أكثر الأتباع فمن بعدهم، وأما الخلف فالمفسرون فِرَقٌ، منهم من قال بقول ابن زيد كالبغوي، ومنهم من بالغ في رده كالقرطبي، والإمام فخر الدين، وابن كثير، ومنهم من حكى القولين بلا ترجيح كابن الجوزي، ومنهم من لم يتعرض للمسألة ولكن ذكر ما يدل على عدم كونهم أنبياء كتفسيره الأسباط بمن نبئ من بني إسرائيل، والمنزل إليهم بالمنزل على أنبيائهم، كأبي الليث السمرقندي والواحدي، ومنهم من لم يذكر شيئاً من ذلك، ولكن فسر الأسباط بأولاد يعقوب، فحسبه ناس قولاً بنبوتهم، وإنما أريد بهم ذريتهم لا بنوه لصلبه). انتهى من الحاوي للفتاوي للإمام السيوطي 1/310 .