يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا
بسم1
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة البقرة 104).
نَهى الله المؤمنين عن قولِ رَاعِنَا، وذكرَ المفسِّرُون جملة من الحكَم لسبب النهي.
وأميلُ إلى أنَّ النهيَ بسبب اشتباه لفظي الفعل
رَاعِنَا والاسم
رَاعِنًا عند الوقفِ، فتُفهمُ بمعنى بعيدٍ سيءٍ أنها معمولٌ لمحذوفٍ، كمثل قول العرب: أَهلًا وسهْلًا، وإنما الأصلُ فيها حَلَلْتُمْ أهلًا وَنزلتمْ سَهْلا؛ وهذهِ الكلماتُ: رَاعنًا، أهلًا، وسَهْلا تعربُ كلٌّ منها حالًا.
فما الدَّليلُ على هذا؟
أَوَّلًا: كانَ هذا الاستخدامُ موجودًا في كلماتٍ ظاهرها حسنٌ وباطنها سيءٌ، لذا استدَلَّ ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما بشبيهة الكلمةِ تمامًا.
عن ابن عباس في قوله: {
لَا تَقُولُوا رَاعِنَا}، قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: رَاعِنَا سَمْعَك! وإنَّما "رَاعِنَا" كقولك "
عَاطِنَا".
وهما تشتركانِ في كثرة الاستخدام للحاجة إلى المعنى الحسن فيهما، لأن راعنا من المراعاة وعاطنا من المعاطاة، ويرادُ منهما: أرعنا سمعك، حتى نفهمك وتفهم عنا.
وتشتركانِ في كونِهما نظيرتَيْ الراعن والعاطنِ السيئتَيْن حين الوقف عليهمَا معمولَيْن حالَين منصوبتَين: راعنا، عاطِنا.
ثَانيًا: القرآنُ يفسِّرُ بعضه بعضًا، والآية الوحيدةُ الأخرى، المشتملة على معنى الذَّمِّ لراعِنا، والمُفَسِّرَةُ لها قوله عز وجل: {
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (سورة النساء 46).
وتأَمَلِ الوقوفَ على: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا.
غَيْرَ مُسْمَعٍ: حالٌ، وراعنا فعلٌ إذا توقَّفْتَ عنده تبادرَ إلى الذهن توجيهه على أنَّهُ اسمٌ أيضا معطوف على "غَيْرَ مُسْمَعٍ"، بمعنى حال من الرعونة، والتقديرُ:
وَاسْمَعْ رَاعِنًا.
وإذا رَجَعنَا إلى{
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} فهيَ على نفس الشاكلة، اسْمَعْ: أمرٌ من سَمِعَ، ومُسْمَع: مفعول أَسمَعَ.
ومعنى {
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} لها معنيان قريبٌ وبَعيد.
وفي اللِّسان: "أَسمَعَه الحديثَ وأَسمَعَه أَي شتَمه".
فكأنَّما أحَبَّ الداعي بقوله "
اسْمَعْ" أنْ يُذهِبَ ما قد يتبادرُ إلى ذهن السامع من هذا المعنى السيءٍ فزادَ
غَيْرَ مُسْمَعٍ.
لكنَّهُ وَقَعَ في معنًى سيِّء متداولٍ آخرَ، فَمَن أسْمعتَهُ
مُسْمَعٌ، ومنْ حيلَ بينه وبين أن تُسمِعَهُ بحمق أو جهل أو عِلَّة
غَيْر مُسْمَعٍ.
وهو عينُ ما فسره ثعلب فقال: {
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}: اسْمَعْ لا سَمِعْتَ.
ولذا نهى الله عز وجل عن ذلك جميعًا ودلَّنا على:
- الأصَحِّ في القول {
وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا}.
- بصيغة الإخبارِ في الماضي: {
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}.
- وصيغة الإنشاء بالطلب
{وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا}.
- مُثْبِتًا أنه خير
{لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ}.
والخُلاصَةُ:
- الله عز وجل بيَّنَ في كتابه كل شيء وفصَّلهُ، ومن ذلك المناهي اللفظية.
- إكرامُ اللهِ لحبيبه صلى الله عليه وسلم بإلزام النَّاس مخاطبته بأدب واجتناب الألفاظِ التي تشوِّشُ الخاطرَ.
- النبيُّ صلى الله عليه وسلم أذكى الخَلْقِ، وخُوطبَ في القرآن بأخْصَرِ ما يتصَوَّرُه بَشرٌ من الكلامِ والتعبيرِ الإشاريِّ فوعاهُ كمثل أول سورة البقرة المذكور فيها ذلك النهيُ، وأقصدُ قوله سبحانه وتعالى: {
ألم}، فلذا وَجَبَ الوضوحُ معه صلى الله عليه وسلم وعدمُ تكدير صفْو جنانه.
- قدْ يَصِحُّ ما ذهبَ إليه الشيخ الطاهر بن عاشور من أنَّهُ احتراز من السحْرِ، واستدَلَّ أن آية النَّهي عن راعنا بعد الكلام عن السحر، وقال:
"وَمُنَاسَبَةُ نُزُولِ هَاتِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي السِّحْرِ وَمَا نَشَأَ عَنْ ذَمِّهِ أَنَّ السِّحْرَ كَمَا قَدَّمْنَا رَاجِعٌ إِلَى التَّمْوِيهِ؛ وَأَنَّ مِنْ ضُرُوبِ السِّحْرِ مَا هُوَ تَمْوِيهُ أَلْفَاظٍ وَمَا مَبْنَاهُ عَلَى اعْتِقَادِ تَأْثِيرِ الْأَلْفَاظِ فِي الْمَسْحُورِ بِحَسَبِ نِيَّةِ السَّاحِرِ وَتَوْجِيهِهِ النَّفْسِيِّ إِلَى الْمَسْحُورِ، وَقَدْ تَأَصَّلَ هَذَا عِنْدَ الْيَهُودِ وَاقْتَنَعُوا بِهِ فِي مُقَاوَمَةِ أَعْدَائِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ أَذَى الشَّخْصِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لَا يُعْلَمُ مَغْزَاهُمَا كَخِطَابِهِ بِلَفْظٍ يُفِيدُ مَعْنًى، وَمَقْصُودُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ أَذًى، أَوْ كَإِهَانَةٍ صَوَّرَتْهُ أَوِ الْوَطْءِ عَلَى ظِلِّهِ كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِالنِّيَّةِ وَالتَّوَجُّهِ فِي حُصُولِ الْأَذَى كَانَ هَذَا شَبِيهًا بِبَعْضِ ضُرُوبِ السِّحْرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ شِعَارِ مَنِ اسْتَهْوَاهُمُ السِّحْرُ وَاشْتَرَوْهُ نَاسَبَ ذِكْرَ هَاتِهِ الْحَالَةِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ عَقِبَ الْكَلَامِ عَلَى افْتِتَانِهِمْ بِالسِّحْرِ وَحُبِّهِ دُونَ بَقِيَّةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَهَاتِهِ الْمُنَاسَبَةُ هِيَ مُوجَبُ التَّعْقِيبِ فِي الذِّكْرِ" انتهى كلامه رحمه الله.
والله أعلم.