{.... وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ...} [الأحزاب: 6]
أحيانا نمر بــآية ما, فتستوقفنا بلحظة من صفاء الروح وتفتح العقل, تستوقفنا إذ يلتمع لنا معنى لم يكن قد خطر على بالنا يوما, كأننا نقرأها أول مرة, أو كأن معنى جديدا ينسكب في قلوبنا, علما أن المعنى كان كامنا في الآية .. ولم يزل .. وسيبقى .. غير أن للنفوس أحوال, وللقلوب أطوار, وللبصيرة تفتح أحيانا .. وأحيانا كثيرة عشو وغبش ..
وهو الشعور عينه الذي خامر الفاروق رضي الله عنه يوم انتقل الحبيب للرفيق الأعلى ووقف الصديق رضي الله عنه يتلو قوله تعالى
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]
إذن تعالى نتأمل هذه الآية الكريمة {.. وأزواجه أمهاتهم ..} وأقول من منا لم يقرأها عشرات المرات ؟؟!!
لا أحسب أحدا لم يقرأها .. ولكن لا أحسب أحدا –إلا القلة- تنبه لما تشتمل عليه الآية الكريمة من شعور جميل ..
إن هنالك مساحة كبيرة من العاطفة والشعور في هذه الآية الكريمة, ومغبون من لم يحسها في وجدانه ويعيشها بشعوره ..
الله تعالى خالق الخلق, ومنزل القرآن, يقول لي إنَّ عائشة ابنة الصديق أمِّي, وحفصة ابنة الفاروق أمِّي, وسودة أمي ومارية وخديجة وبقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهن ..
أمي !! نعم أمي !! إن هذه الكلمة المخملية الرقيقة لهي ينبوع متدفق من العاطفة الجميلة والشعور الدافئ, ينبوع متدفق لا ينفد ولن ينفد أبدا .
عائشة أمي .. وجعلت أردد هذه الكلمة الرائعة في سري, وأنا أستحضر في وجداني خيالات جميلة عن أمي عائشة, بقسماتٍ نبيلة, ووجه كأنه مضاء من داخله بشمعة, وصوت حانٍ رقيق, أقول جعلت أردد هذه الكلمة وأنا أحاول أن أحرر ما فيها من شعور وعاطفة, فماذا وجدت ؟؟ .
وجدت كأن الآية قد وُلِدَتْ فيَّ ولادة جديدة, وكأني والله أقرأها لأول مرة لأنها أتت تفيض بمعنى جديد على حسي, جديد على شعوري ووجداني, وما أجمله من إحساس وما أحناه من شعور .
هذا المعنى الجميل كان موجودا في الآية من قبل, ولم تزل البصيرة تزيغ عنه المرة تلو المرة, إما للعجلة التي تغلب علينا ونحن نقرأ القرآن طمعا بالوصول إلى سورة الناس, أو لعدم التدبر والتفكر في الآيات التي نقرأها وذاك هجر للقرآن, وأحيانا لجهلنا بالقرآن, ولهذا السبب وذاك كان هذا الكم الكبير من الشعور والعاطفة يضيع منّا ..
إن شعور أحدنا تجاه أمه التي ولدته شعور جلي صريح, نعرفه حق معرفته لأنه قد أشْرِبَ في دمنا, ونشعر به لأنه شيئ في نفوسنا, ونحسه نبضا من نبض قلوبنا, ونتفاعل معه ونتأثر به حد البكاء أحيانا, ذلك لأنه حقيقة قائمة فينا, قائمة في حِسِّنا, هذا ما لا ينكره أحد بل ولا يجرئ على إنكاره احد ..
وهذه الوشيجة العاطفية التي تربط أحدنا بأمه, وهذا النسج القوي المتين, إنما يريد الله تعالى أن ينشئ مثلها في نفس كل مؤمن ومؤمنة تجاه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .. أي تجاه أمهاتنا .. لحكمة بالغة أرادها الله تعالى بهذه الأمة .
إن الآية الكريمة وهي تنشئ هذا النسيج الشعوري الجميل بيننا وبين أمهاتنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم, إنما تريد أن تجعل المسافة بيننا وبين بيت النبوة الطاهر النقي أكثر قربا, وأن تزيد العاطفة بيننا وبين بيت النبوة لونا هو أكثر دفئا ولطفا, وهذا ما يبقي أجيال الأمة متصلة ببيت النبوة اتصال الفرع بأصله واتصال الابن ببيته الذي يلوذ به ويؤيــه ..
ثم إن الآية الكريمة تريد أن تجعل من هذا اللون من العاطفة –أي عاطفة الابن وأمه- تريد أن تجعل منه دافعا قويا في نفوسنا يستفزنا للذود عن بيت النبوة الطاهر إذا ما حاول معتد أثيم أو مجرم زنيم أن يرمي هذا البيت الزكي الكريم بشيء من أوحال الدنيا ..
ثم إن الآية الكريمة وهي تنشئ في نفوسنا هذا النسج الشعوري الجميل كأني بها تقول لأحدنا "الآن اقرأ سيرة بيت النبوة الكريم, وخبر أولئك النسوة الطيبات, لكن تذكر أن تقرأه قراءة قلب لا قراءة فكر لأنك تقرأ تاريخ أم من أمهاتك" وعندئذ ستجد في سيرة أولئك النسوة معنى جديدا لا عهد لك به قبل فقه هذه الآية ..
حادثة الإفك مثلا .. أنا زعيم أنك ستفهمها فهما جديدا, وأنت تستحضر في خيالاتك مشهد أمك الصديقة عائشة وهي متوعكة شهرا, ثم مشهدها وقد فجأها الخبر وراحت مدامعها تتساتل على خديها يوم علمت بما رماها به المنافقون من إفك وبهتان, حتى ظنت لطول بكاءها أن الحزن فالق كبدها, وستشعر عندئذ بما شعر به الجيل الأول من المؤمنين الذين عاشوا تلك المحنة العصيبة وقد أوذي بيت النبوة ورميت زوجة نبيهم أو قل رُمِيَتْ أمُّهُم ..
هذا وفي القرآن بعد آيات كثيرة نمر بها مرورا عابرا في سيرنا الحثيث إلى سورة الناس, وسيبقى ثمة معنى جميل كامن فيها, لن ينجلي حتى تتفتح البصيرة بلحظة من لحظات صفاء الروح, فيقع معنى النور على أثر النور في قلب المؤمن, وحينئذ ستبدو الآية جديدة على حسنا وشعورنا, إذ أتت تفيض بمعنى جديد ينبض بالحياة كطفل وليد ..
* * *