جاء في صحيح مسلم:
(7059) ــ حدّثني هَـٰرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ. حَدَّثَهُ أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ عَائِشَةَ ،، زَوْجَ النَّبِيِّ حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلاً. قَالَتْ فَغِرْتُ عَلَيْهِ. فَجَاءَ فَرَأَىٰ مَا أَصْنَعُ. فَقَالَ: «مَا لَكِ؟ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ؟» فَقُلْتُ: وَمَا لِي لاَ يَغَارُ مِثْلِي عَلَىٰ مِثْلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : «أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ؟» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَوَ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَكَ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ «نَعَمْ. وَلٰكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّىٰ أَسْلَمَ». (صحيح مسلم)
(7057) ــ حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَـٰقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ إِسْحَـٰقُ : أَخْبَرَنَا. وَقَالَ عُثْمَانُ : حَدَّثَنَا) جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ». قَالُوا: وَإِيَّاكَ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ «وَإِيَّايَ. إِلاَّ أَنَّ اللّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ. فَلاَ يَأْمُرُنِي إِلاَّ بِخَيْرٍ». (مسلم)
وجاء في سنن الترمذي:
وقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي مُجالِدِ بنِ سَعِيدٍ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. وسَمِعْتُ عَلِيَّ بنَ خَشْرَمٍ، يَقُولُ: قالَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبيِّ «وَلكِنَّ الله أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلمُ» : يَعْني أَسلَمُ أنَا مِنْهُ.
قالَ سُفْيَانُ والشيطان لاَ يُسْلِمُ. (الترمذي)
كما نرى, لم يذهب المسلمون في هذا الحديث الذي يروي اسلام شيطان الرسول مذهبا واحدا, فسفيان بن عيينة يذهب الى ان الشيطان لا يسلم ... وبغضّ النظر عن صحة ما روي عن سفيان فان الحجة لا تكمن في الرواية عن سفيان, بل ما تضمنه رأيه من حجّة ... جاء في اصلاح غلط المحدثين: "عامة الرواة يقولون الراوي على مذهب الفعل الماضي يريدون أن الشيطان قد أسلم إلا سفيان بن عيينة فإنه يقول الراوي وإنما المعنى أسلم من شره وكان يقول الشيطان لا يسلم" (اصلاح غلط المحدثين ص135)
وليست القضية هنا هو الانتصار لرأي سفيان, وانما هو الانتصار لبشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ... ان اصحاب العقول البسيطة يرون ان اضفاء صفات استثنائية على الرسول يزيد من حجة الرسالة الالهية الخاتمة, رغم ان القرآن الكريم يذهب عكس ذلك تماما ...
ان المعاندين للرسالة الالهية كانوا يدقّقون في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم أيّما تدقيق, غير انهم لم يكونوا يرون فيه الا الانسان البشري العادي: {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لولا انزل اليه ملك فيكون معه نذيرا} (الفرقان 7) {وما منع الناس ان يؤمنوا اذ جاءهم الهدى الا ان قالوا أبعث الله بشرا رسولا} (الاسراء 94)
ان مفهوم بشرية الرسول ليست حكرا على المسلمين, بل هو شيء في متناول الناس جميعا ... اي ان الناس جميعا تستطيع ان تتلمّس بشريته عليه الصلاة والسلام من خلال طبيعتهم البشرية, وتستطيع ان تكوّن مفهومها عن بشريته من خلال مفهومها عن بشريتهم في الاطر المكوّنة للمخلوق البشري بما يحمل من حاجات ومشاعر وأحاسيس وقدرات ... فمفهوم البشرية لا يجوز ان يخصّص ولا بأي حال من الاحوال, ولا يجوز القول ان الرسول كان بشرا في بعض الاحوال وفي غيرها لا, او ننزع عن الرسول الحاجات والاحاسيس والمشاعر والقدرات المكوّنة للذوات البشرية ... ان القرآن حين كان يقول ان الرسول بشر كان يخاطب بذلك الناس جميعا بما فيهم الكفار ... ممّا يعني ان مفهوم البشرية الموجود في هذه الايات هو المفهوم الذي تعلمه الناس جميعا بما في ذلك المشركين ... وان الابهام في هذا المفهوم هو مدخل للطعن في الرسالة الخاتمة ... حسب السياق القرآني, ان بشرية الرسول لا تتعارض ولا بوجه من الوجوه مع مصداقية الرسالة الخاتمة, بل على العكس من ذلك ... ولقد حاول الكثيرون من مشركي مكة ان يجعل دائرة بشريته السوية صلى الله عليه وسلم محطّ تساؤل وتشكيك, فكانوا يتهمونه بالسحر والجنون والكهانة والشعوذة ... وكانوا يرون ان هناك من هو أحق منه بالرسالة {وقالوا لولا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} ...
والعجب ان تتحوّل بشرية الرسول من حجّة على الناس الى شبهة وطعن في الدين حين نحاول التأكيد على بشريته صلى الله عليه وسلم من جديد!
ان ما يميّز البشرية منذ بدء الخليقة, منذ آدم عليه السلام وحتى يوم القيامة هو صراعها مع ابليس الذي رفض السجود لآدم وتوعّد باغواء البشرية واخراجها عن طاعة الله ... فاذا كان شيطان الرسول قد اسلم فمعنى ذلك ان الرسول عليه الصلاة والسلام خرج من دائرة هذا الصراع ... وبذلك فقد الرسول صلى الله عليه وسلم اهم ما يميّز النبوة وهو ان يكون حلقة الوصل بين الوحي الالهي والتجربة البشرية ... فبخروجه عن ان يكون له شيطان, خرج عن ان يكون مثالا حقيقيا لتعامل الانسان مع وساوسه ونوازع الشر في داخله ... وبهذا تصبح الرسالة الخاتمة رسالة مثالية غير قابلة للتطبيق على النموذج الانساني والبشري حيث ان شخص النبوة احتاج الى تعديلات حتى استطاع ان يحمل اعباء تكاليفها ... وهذا بالتالي سيخوي الكثير من الايات القرآنية من مفاهيمها, وهذا ما حدث بالفعل ...... فالايات التي تتحدث عن وساوس الشيطان للرسول وجب صرفها بما يتوافق مع القول بأن الرسول معصوم حتى في خواطره وحديث نفسه ... غير ان الامر لم يقف عند هذا الحدّ حتى جاء الحديث {ولكن الله أعانني عليه فأسلم} ليقف في وجه الايات التي تقول ان للرسول ما يوسوس له كغيره من الناس : {واما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} و {واما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}
ولنتمعّن الان في النصوص التالية:
1- "جاء في شرح النووي: قال القاضي: واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه." انتهى
ان اجماع الامة في هذا الامر لا يعتبر دليلا لأن هذا الكلام يتناول باطن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ما ليس لأي انسان اليه سبيل الا ضمن ما اخبر الله تعالى به ... وان اخبار القرآن الكريم تفيد ان الرسول صلى الله عليه وسلم عرضة لوساوس الشيطان كغيره من الانبياء مثل آدم عليه السلام وكغيره من البشر بحكم بشريته: {وقل أعوذ بك رب من همزات الشياطين وأعوذ بك رب ان يحضرون} ... {واما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} ... وان هذا الكلام ليس فيه انتقاص للرسول او النبوة, بل هو تأكيد لما ذهب اليه القرآن الكريم :{قل انما انا بشر مثلكم يوحى اليّ} غير ان اشكال المسلمين هنا هو انهم لم يفصلوا بين الوحي والرسول بل كانت هناك محاولات دائمة للقول بأن الوحي متلبّس بأفعال الرسول واقواله , ولمّا كان الامر كذلك اوجب عليهم القول بأن الرسول معصوم في اقواله وافعاله وتجاوز الامر الى خواطره ايضا ... وهكذا يصبح الرسول في صيغته الحقيقية, حسب وصفهم, يمتلك من البشرية فقط صورتها, وهذه الصورة يحرّكها وحي الله ... او بكلمة اخرى الرسول هو وحي يمتلك صورة بشرية!!
2- جاء في تحفة الاحوذي:
(قال سفيان فالشيطان لا يسلم) يعني قوله فأسلم ليس بصيغة الماضي حتى يثبت إسلام الشيطان فإن الشيطان لا يسلم. قال في المجمع وهو ضعيف: فإن الله تعالى على كل شيء قدير، فلا يبعد تخصيصه من فضله بإسلام قرينه انتهى. قال ابن الأثير في النهاية: وما من آدمي إلا ومعه شيطان، قيل: ومعك؟ قال نعم. ولكن الله أعانني عليه فأسلم. وفي رواية حتى أسلم أي انقاد واستسلم وكف عن وسوستي. وقيل دخل في الإسلام فسلمت من شره، وقيل إنما هو فأسلم بضم الميم على أنه فعل مستقبل أي أسلم أنا منه ومن شره. ويشهد للأول الحديث الاۤخر كان شيطان آدم كافراً وشيطاني مسلماً انتهى. قلت لو صح هذا الحديث لكان شاهداً قوياً للأول وإني لم أقف على سنده ولا على من أخرجه (تحفة الاحوذي)
يحتج هنا من يرفض رأي سفيان بردّ الامر الى قدرة الله تعالى وان الله قادر على ان يجعل شيطان الرسول مسلما ...
ان الاستشهاد بقدرة الله عز وجل هنا لا معنى له ... ان صفات الله عز وجلّ واحدة, وان احدى مفردات العقم في فهم هذا الدين ان نظن ان قدرة الله قد تعمل بمعزل عن حكمته او صدقه او عدله ... ان جميع صفات الله هي واحدة لا تنفصم ... فقدرته تعالى لا تعمل بمعزل عن صدقه وعدله وحكمته ... فاذا سألنا: هل الله قادر على ان يدخل المؤمن النار ويدخل الكافر الجنة؟ للوهلة الاولى يبدو ان هذا السؤال يتعلّق بقدرة الله عزّ وجلّ, غير ان الامر ليس كذلك ... ان اي جواب على مثل هذه الاسئلة يجب ان تأخذ بعين الاعتبار صفات الله جميعا ... فاذا كان الله قد اخبر في كتابه بأنه سيدخل المؤمن الجنة والكافر النار وقال تعالى: {ومن اصدق من الله حديثا}, فانه لا يجوز ان نسأل سؤالا تكون فيه قدرته طعنا في عدله وصدقه ... فهذا من بديهيات العقل والحسّ السليم ... لذا نقول ان السؤال اعلاه وان كان ظاهره السؤال عن قدرة الله الا انه في حقيقة امره سؤال عن عدل الله وصدقه ايضا ... واني لا أرى ان الناس ترى فيمن يحاول ان يثبت قوته بقتل ابنه الا انسانا مجنونا اخرقا ... فلنتق الله ولنحسن أدب السؤال في ذات الله عز وجل... لذا فانا نرى ان ما جاء في نص تحفة الاحوذي اعلاه من الاستشهاد بقدرة الله عز وجل لا تقوم به حجة لأن الله اخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة في القرآن {واما ينسينك الشيطان} {واما ينزغنك الشيطان} فهذا فيه من الحجة ما فيه امام من يقولون بأن شيطان الرسول قد أسلم ...
3- جاء في فتح الباري:
قوله (وبطانة تأمره بالشر) في رواية الأوزاعي ” وبطانة لا تألوه خبالا ” وقد استشكل هذا التقسيم بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه وإن جاز عقلا، أن يكون فيمن يداخله من يكون من أهل الشر لكنه لا يتصور منه أن يصغي إليه، ولا يعمل بقوله لوجود العصمة، وأجيب بأن في بقية الحديث الإشارة إلى سلامة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله ” فالمعصوم من عصم الله تعالى ” فلا يلزم من وجود من يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بالشر أن يقبل منه..." انتهى
ان ما جاء في فتح الباري يردّه ما جاء في القرآن الكريم : {انا انزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105) واستغفر الله ان الله كان غفورا رحيما (106) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ان الله لا يحب من كان خوانا اثيما} (النساء 105-107)
4- قال تعالى: {واما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله انه سميع عليم} (الاعراف 200) وجاء في روح المعاني ج9 ص148 : " والآية على ما نص عليه بعض المحققين من باب لئن أشركت ليحبطن عملك فلا حجة فيها لمن زعم عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وسوسة الشيطان وإرتكاب المعاصي" انتهى
ان هذا الاستشهاد لا تقوم به حجة لأن الله رتّب على الاشراك احباط العمل, بينما رتّب على نزغ الشيطان أمر الهي بالاستعاذة ... ويمكننا القول بأن الآية هي اولى بأن تكون من باب {واما تعرضن عنهمم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} (الاسراء 28) فهذه الاية اقرب في تركيبها اللغوي من الاية التي استشهد بها في نص تفسير روح المعاني اعلاه..
ما اروع السياق القرآني الكريم وهو يصهر شخص الرسول في الذين اتقوا حتى يكون لهم اسوة حسنة ... فبعد ان امر الله نبيّه بالاستعاذة من الشيطان {واما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله انه سميع عليم} (الاعراف 200), يتجه السياق القرآني ليعمّم هذه الحالة على من تمسّك بتقوى الله {ان الذين اتقوا اذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون} (الاعراف 201) ... ان روعة الاسلوب القرآني تجعل من الرسول مثالا للتطبيق, ثم يأخذ بيد الرسول بسلاسة النص ليسلكه في منظومة المتقين ...
وجميل هو ما جاء في تفسير القرطبي: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال تلك محض الإيمان وفي حديث أبي هريرة ذلك صريح الإيمان والصريح الخالص وهذا ليس على ظاهره إذ لا يصح أن تكون الوسوسة نفسها هي الإيمان لأن الإيمان اليقين وإنما الإشارة إلى ما وجدوه من الخوف من الله تعالى أن يعاقبوا على ما وقع في أنفسهم فكأنه قال جزعكم من هذا هو محض الإيمان وخالصه لصحة إيمانكم وعلمكم بفسادها فسمى الوسوسة إيمانا لما كان دفعها والإعراض عنها والرد لها وعدم قبولها (القرطبي ج7 ص348)
واذا اردنا ان نضع النقاط الاخيرة في هذا الموضوع نقول ان حديث اسلام شيطان الرسول غير مقبول على الاطلاق حتى ولو ذهب البعض الى ان المعنى ان الرسول يسلم من الشيطان وليس معناه اسلام الشيطان لأن الحديث يحمل في بنيته مغايرة بين الرسول وغيره من الناس على هذا المستوى حيث جاء التعبير: " نَعَمْ. وَلٰكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّىٰ أَسْلَمَ" ... فهذا التعبير يفيد ان الرسول مخصوص بعون الله على الشيطان ... الاّ ان يقال ليس هناك خصوصية, والمقصود ان من يتق الله يعنه الله في التغلّب على وساوس شيطانه ... على أيّ, ان السياق لا يوحي بهذا من بعيد او من قريب...
(7059) ــ حدّثني هَـٰرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ. حَدَّثَهُ أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ عَائِشَةَ ،، زَوْجَ النَّبِيِّ حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلاً. قَالَتْ فَغِرْتُ عَلَيْهِ. فَجَاءَ فَرَأَىٰ مَا أَصْنَعُ. فَقَالَ: «مَا لَكِ؟ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ؟» فَقُلْتُ: وَمَا لِي لاَ يَغَارُ مِثْلِي عَلَىٰ مِثْلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : «أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ؟» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَوَ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَكَ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ «نَعَمْ. وَلٰكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّىٰ أَسْلَمَ». (صحيح مسلم)
(7057) ــ حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَـٰقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ إِسْحَـٰقُ : أَخْبَرَنَا. وَقَالَ عُثْمَانُ : حَدَّثَنَا) جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ». قَالُوا: وَإِيَّاكَ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ «وَإِيَّايَ. إِلاَّ أَنَّ اللّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ. فَلاَ يَأْمُرُنِي إِلاَّ بِخَيْرٍ». (مسلم)
وجاء في سنن الترمذي:
وقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي مُجالِدِ بنِ سَعِيدٍ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. وسَمِعْتُ عَلِيَّ بنَ خَشْرَمٍ، يَقُولُ: قالَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبيِّ «وَلكِنَّ الله أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلمُ» : يَعْني أَسلَمُ أنَا مِنْهُ.
قالَ سُفْيَانُ والشيطان لاَ يُسْلِمُ. (الترمذي)
كما نرى, لم يذهب المسلمون في هذا الحديث الذي يروي اسلام شيطان الرسول مذهبا واحدا, فسفيان بن عيينة يذهب الى ان الشيطان لا يسلم ... وبغضّ النظر عن صحة ما روي عن سفيان فان الحجة لا تكمن في الرواية عن سفيان, بل ما تضمنه رأيه من حجّة ... جاء في اصلاح غلط المحدثين: "عامة الرواة يقولون الراوي على مذهب الفعل الماضي يريدون أن الشيطان قد أسلم إلا سفيان بن عيينة فإنه يقول الراوي وإنما المعنى أسلم من شره وكان يقول الشيطان لا يسلم" (اصلاح غلط المحدثين ص135)
وليست القضية هنا هو الانتصار لرأي سفيان, وانما هو الانتصار لبشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ... ان اصحاب العقول البسيطة يرون ان اضفاء صفات استثنائية على الرسول يزيد من حجة الرسالة الالهية الخاتمة, رغم ان القرآن الكريم يذهب عكس ذلك تماما ...
ان المعاندين للرسالة الالهية كانوا يدقّقون في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم أيّما تدقيق, غير انهم لم يكونوا يرون فيه الا الانسان البشري العادي: {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لولا انزل اليه ملك فيكون معه نذيرا} (الفرقان 7) {وما منع الناس ان يؤمنوا اذ جاءهم الهدى الا ان قالوا أبعث الله بشرا رسولا} (الاسراء 94)
ان مفهوم بشرية الرسول ليست حكرا على المسلمين, بل هو شيء في متناول الناس جميعا ... اي ان الناس جميعا تستطيع ان تتلمّس بشريته عليه الصلاة والسلام من خلال طبيعتهم البشرية, وتستطيع ان تكوّن مفهومها عن بشريته من خلال مفهومها عن بشريتهم في الاطر المكوّنة للمخلوق البشري بما يحمل من حاجات ومشاعر وأحاسيس وقدرات ... فمفهوم البشرية لا يجوز ان يخصّص ولا بأي حال من الاحوال, ولا يجوز القول ان الرسول كان بشرا في بعض الاحوال وفي غيرها لا, او ننزع عن الرسول الحاجات والاحاسيس والمشاعر والقدرات المكوّنة للذوات البشرية ... ان القرآن حين كان يقول ان الرسول بشر كان يخاطب بذلك الناس جميعا بما فيهم الكفار ... ممّا يعني ان مفهوم البشرية الموجود في هذه الايات هو المفهوم الذي تعلمه الناس جميعا بما في ذلك المشركين ... وان الابهام في هذا المفهوم هو مدخل للطعن في الرسالة الخاتمة ... حسب السياق القرآني, ان بشرية الرسول لا تتعارض ولا بوجه من الوجوه مع مصداقية الرسالة الخاتمة, بل على العكس من ذلك ... ولقد حاول الكثيرون من مشركي مكة ان يجعل دائرة بشريته السوية صلى الله عليه وسلم محطّ تساؤل وتشكيك, فكانوا يتهمونه بالسحر والجنون والكهانة والشعوذة ... وكانوا يرون ان هناك من هو أحق منه بالرسالة {وقالوا لولا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} ...
والعجب ان تتحوّل بشرية الرسول من حجّة على الناس الى شبهة وطعن في الدين حين نحاول التأكيد على بشريته صلى الله عليه وسلم من جديد!
ان ما يميّز البشرية منذ بدء الخليقة, منذ آدم عليه السلام وحتى يوم القيامة هو صراعها مع ابليس الذي رفض السجود لآدم وتوعّد باغواء البشرية واخراجها عن طاعة الله ... فاذا كان شيطان الرسول قد اسلم فمعنى ذلك ان الرسول عليه الصلاة والسلام خرج من دائرة هذا الصراع ... وبذلك فقد الرسول صلى الله عليه وسلم اهم ما يميّز النبوة وهو ان يكون حلقة الوصل بين الوحي الالهي والتجربة البشرية ... فبخروجه عن ان يكون له شيطان, خرج عن ان يكون مثالا حقيقيا لتعامل الانسان مع وساوسه ونوازع الشر في داخله ... وبهذا تصبح الرسالة الخاتمة رسالة مثالية غير قابلة للتطبيق على النموذج الانساني والبشري حيث ان شخص النبوة احتاج الى تعديلات حتى استطاع ان يحمل اعباء تكاليفها ... وهذا بالتالي سيخوي الكثير من الايات القرآنية من مفاهيمها, وهذا ما حدث بالفعل ...... فالايات التي تتحدث عن وساوس الشيطان للرسول وجب صرفها بما يتوافق مع القول بأن الرسول معصوم حتى في خواطره وحديث نفسه ... غير ان الامر لم يقف عند هذا الحدّ حتى جاء الحديث {ولكن الله أعانني عليه فأسلم} ليقف في وجه الايات التي تقول ان للرسول ما يوسوس له كغيره من الناس : {واما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} و {واما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}
ولنتمعّن الان في النصوص التالية:
1- "جاء في شرح النووي: قال القاضي: واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه." انتهى
ان اجماع الامة في هذا الامر لا يعتبر دليلا لأن هذا الكلام يتناول باطن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ما ليس لأي انسان اليه سبيل الا ضمن ما اخبر الله تعالى به ... وان اخبار القرآن الكريم تفيد ان الرسول صلى الله عليه وسلم عرضة لوساوس الشيطان كغيره من الانبياء مثل آدم عليه السلام وكغيره من البشر بحكم بشريته: {وقل أعوذ بك رب من همزات الشياطين وأعوذ بك رب ان يحضرون} ... {واما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} ... وان هذا الكلام ليس فيه انتقاص للرسول او النبوة, بل هو تأكيد لما ذهب اليه القرآن الكريم :{قل انما انا بشر مثلكم يوحى اليّ} غير ان اشكال المسلمين هنا هو انهم لم يفصلوا بين الوحي والرسول بل كانت هناك محاولات دائمة للقول بأن الوحي متلبّس بأفعال الرسول واقواله , ولمّا كان الامر كذلك اوجب عليهم القول بأن الرسول معصوم في اقواله وافعاله وتجاوز الامر الى خواطره ايضا ... وهكذا يصبح الرسول في صيغته الحقيقية, حسب وصفهم, يمتلك من البشرية فقط صورتها, وهذه الصورة يحرّكها وحي الله ... او بكلمة اخرى الرسول هو وحي يمتلك صورة بشرية!!
2- جاء في تحفة الاحوذي:
(قال سفيان فالشيطان لا يسلم) يعني قوله فأسلم ليس بصيغة الماضي حتى يثبت إسلام الشيطان فإن الشيطان لا يسلم. قال في المجمع وهو ضعيف: فإن الله تعالى على كل شيء قدير، فلا يبعد تخصيصه من فضله بإسلام قرينه انتهى. قال ابن الأثير في النهاية: وما من آدمي إلا ومعه شيطان، قيل: ومعك؟ قال نعم. ولكن الله أعانني عليه فأسلم. وفي رواية حتى أسلم أي انقاد واستسلم وكف عن وسوستي. وقيل دخل في الإسلام فسلمت من شره، وقيل إنما هو فأسلم بضم الميم على أنه فعل مستقبل أي أسلم أنا منه ومن شره. ويشهد للأول الحديث الاۤخر كان شيطان آدم كافراً وشيطاني مسلماً انتهى. قلت لو صح هذا الحديث لكان شاهداً قوياً للأول وإني لم أقف على سنده ولا على من أخرجه (تحفة الاحوذي)
يحتج هنا من يرفض رأي سفيان بردّ الامر الى قدرة الله تعالى وان الله قادر على ان يجعل شيطان الرسول مسلما ...
ان الاستشهاد بقدرة الله عز وجل هنا لا معنى له ... ان صفات الله عز وجلّ واحدة, وان احدى مفردات العقم في فهم هذا الدين ان نظن ان قدرة الله قد تعمل بمعزل عن حكمته او صدقه او عدله ... ان جميع صفات الله هي واحدة لا تنفصم ... فقدرته تعالى لا تعمل بمعزل عن صدقه وعدله وحكمته ... فاذا سألنا: هل الله قادر على ان يدخل المؤمن النار ويدخل الكافر الجنة؟ للوهلة الاولى يبدو ان هذا السؤال يتعلّق بقدرة الله عزّ وجلّ, غير ان الامر ليس كذلك ... ان اي جواب على مثل هذه الاسئلة يجب ان تأخذ بعين الاعتبار صفات الله جميعا ... فاذا كان الله قد اخبر في كتابه بأنه سيدخل المؤمن الجنة والكافر النار وقال تعالى: {ومن اصدق من الله حديثا}, فانه لا يجوز ان نسأل سؤالا تكون فيه قدرته طعنا في عدله وصدقه ... فهذا من بديهيات العقل والحسّ السليم ... لذا نقول ان السؤال اعلاه وان كان ظاهره السؤال عن قدرة الله الا انه في حقيقة امره سؤال عن عدل الله وصدقه ايضا ... واني لا أرى ان الناس ترى فيمن يحاول ان يثبت قوته بقتل ابنه الا انسانا مجنونا اخرقا ... فلنتق الله ولنحسن أدب السؤال في ذات الله عز وجل... لذا فانا نرى ان ما جاء في نص تحفة الاحوذي اعلاه من الاستشهاد بقدرة الله عز وجل لا تقوم به حجة لأن الله اخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة في القرآن {واما ينسينك الشيطان} {واما ينزغنك الشيطان} فهذا فيه من الحجة ما فيه امام من يقولون بأن شيطان الرسول قد أسلم ...
3- جاء في فتح الباري:
قوله (وبطانة تأمره بالشر) في رواية الأوزاعي ” وبطانة لا تألوه خبالا ” وقد استشكل هذا التقسيم بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه وإن جاز عقلا، أن يكون فيمن يداخله من يكون من أهل الشر لكنه لا يتصور منه أن يصغي إليه، ولا يعمل بقوله لوجود العصمة، وأجيب بأن في بقية الحديث الإشارة إلى سلامة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله ” فالمعصوم من عصم الله تعالى ” فلا يلزم من وجود من يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بالشر أن يقبل منه..." انتهى
ان ما جاء في فتح الباري يردّه ما جاء في القرآن الكريم : {انا انزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105) واستغفر الله ان الله كان غفورا رحيما (106) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ان الله لا يحب من كان خوانا اثيما} (النساء 105-107)
4- قال تعالى: {واما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله انه سميع عليم} (الاعراف 200) وجاء في روح المعاني ج9 ص148 : " والآية على ما نص عليه بعض المحققين من باب لئن أشركت ليحبطن عملك فلا حجة فيها لمن زعم عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وسوسة الشيطان وإرتكاب المعاصي" انتهى
ان هذا الاستشهاد لا تقوم به حجة لأن الله رتّب على الاشراك احباط العمل, بينما رتّب على نزغ الشيطان أمر الهي بالاستعاذة ... ويمكننا القول بأن الآية هي اولى بأن تكون من باب {واما تعرضن عنهمم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} (الاسراء 28) فهذه الاية اقرب في تركيبها اللغوي من الاية التي استشهد بها في نص تفسير روح المعاني اعلاه..
ما اروع السياق القرآني الكريم وهو يصهر شخص الرسول في الذين اتقوا حتى يكون لهم اسوة حسنة ... فبعد ان امر الله نبيّه بالاستعاذة من الشيطان {واما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله انه سميع عليم} (الاعراف 200), يتجه السياق القرآني ليعمّم هذه الحالة على من تمسّك بتقوى الله {ان الذين اتقوا اذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون} (الاعراف 201) ... ان روعة الاسلوب القرآني تجعل من الرسول مثالا للتطبيق, ثم يأخذ بيد الرسول بسلاسة النص ليسلكه في منظومة المتقين ...
وجميل هو ما جاء في تفسير القرطبي: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال تلك محض الإيمان وفي حديث أبي هريرة ذلك صريح الإيمان والصريح الخالص وهذا ليس على ظاهره إذ لا يصح أن تكون الوسوسة نفسها هي الإيمان لأن الإيمان اليقين وإنما الإشارة إلى ما وجدوه من الخوف من الله تعالى أن يعاقبوا على ما وقع في أنفسهم فكأنه قال جزعكم من هذا هو محض الإيمان وخالصه لصحة إيمانكم وعلمكم بفسادها فسمى الوسوسة إيمانا لما كان دفعها والإعراض عنها والرد لها وعدم قبولها (القرطبي ج7 ص348)
واذا اردنا ان نضع النقاط الاخيرة في هذا الموضوع نقول ان حديث اسلام شيطان الرسول غير مقبول على الاطلاق حتى ولو ذهب البعض الى ان المعنى ان الرسول يسلم من الشيطان وليس معناه اسلام الشيطان لأن الحديث يحمل في بنيته مغايرة بين الرسول وغيره من الناس على هذا المستوى حيث جاء التعبير: " نَعَمْ. وَلٰكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّىٰ أَسْلَمَ" ... فهذا التعبير يفيد ان الرسول مخصوص بعون الله على الشيطان ... الاّ ان يقال ليس هناك خصوصية, والمقصود ان من يتق الله يعنه الله في التغلّب على وساوس شيطانه ... على أيّ, ان السياق لا يوحي بهذا من بعيد او من قريب...