آية من سورة البقرة: و عودة دائمة إلى قضية التوحيد.

إنضم
06/03/2015
المشاركات
51
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
مصر
قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [البقرة: 163، 164]
في الآيات استطرادٌ بديعٌ فيه تقرير وحدة الخالق المعبود. وكذلك تقرير وحدة الآمر المطاع سبحانه.
يقول العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز: لقد جاءت هذه الخطوة في أشد أوقات الحاجة إليها بين سابقها ولاحقها، فإن ما مضى من تعظيم أمر الكعبة والمقام والصفا المروة كان من شأنه أن يلقي في روع حديثي العهد بالإسلام معنى من معاني الوثنية الأولى في تعظيم الأحجار والمواد، ولا سيما وهذه الأماكن المقدسة كانت يومئذ مباءة للأصنام والأنصاب من حولها ومن فوقها؛ فوجب ألا يترك هذا التعظيم دون تحديد وتقييد، وألا نترك هذه الخلجات النفسية دون دفع وإبعاد [SUP]([1])[/SUP]، حتى لا يبقى شك في أن قيام المصلين عند مقام إبراهيم وتوجيه وجوههم نحو الكعبة، وتمسح الطائفتين بأركانها، وطواف الحجاج والمعتمرين بين الصفا والمروة، كل أولئك لا يَقصد به الإسلامُ توجيهَ القلوب إلى هذه الأحجار والآثار؛ تزلفًا بعبادتها أو رجاءً لرحمتها أو طلبًا لشفاعتها، وإنما يقصد تعظيم الإله الحق وامتثال أمره بعبادته في مواطن رحمته ومظان بركته التي تنزلت فيها على عباده الصالحين من قبل، ثم تجديد ذكرى أولئك الصالحين في النفوس، وتمكين محبتهم في القلوب، باقتفاء آثارهم، والتأسي بحركاتهم وسكناتهم، حتى يتصل حاضر الأمة بماضيها، وحتى تنتظم منها أمةٌ واحدة تدور حول محورٍ واحد، وتتجه إلى مقصدٍ واحد هو أعلى المقاصد وأسماها {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أتدرون من هو ... ؟ إنه ليس الكعبة وليس الصفا والمروة، ليس إبراهيم ولا مقام إبراهيم، ولكنه {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} الذي وسع كل شيء رحمة ونعمة ...انتهى[SUP]([2])[/SUP]
ثم انتقل السياق إلى الارتقاء بخلجات المؤمن وتأملاته لآفاقٍ مفتوحةٍ ترى الكون من عين مؤمنةٍ تبحث عن الله في آثار عظمته وجمال وجلال وحكمة خلقه. إنه ربط قضية التوحيد بدليلها ليرتفع المؤمن من الالتزام الشعائري في الدين إلى الالتزام الروحي والعقلي بالديّان سبحانه لتعود القضية قولا واحد في قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}؛ فبرحمانيته ( الرحمن سبحانه) العامة خلق الإنسان وهيأ له الكون بحكمة بالغةٍ، وبرحيميته (الرحيم تعالى ذكره) هداه إلى التأمل في عظمة الخلق ليعرف الخالق، وهدى المؤمنين هدايةً خاصةً للإيمان بالله وبآياته.
تحليل الآيات.

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قال أرباب العربية أنَّ لفظ " إله" من ألِهَ إلاهةً أي عبد عبادةً، والإله هو كل معبودٍ بحقٍ أو بباطل. أما لفظ الجلالة "الله" فلا يُطلق إلا على المعبود بحقٍ سبحانه، وهو ما حدا بالخليل والشافعي وغيرهما أن ينكرا أن يكون مشتقا من لفظ الإله مع الحذف والإدغام كما بينا في تفسير الفاتحة.
ولا يهمنا كثيراً المبحث اللغوي هنا فإن الدلالة من الآية لها وجهةٌ أخرى حيث جاءت تعقيباً بعد ذكر الشعائر لتزكية معنى المقصد الأول من حركة المؤمن في عبادته وفي حياته وفي فكره إنه التوجه نحو الله الواحد الرحمن الرحيم بلا أي التفاتٍ لأى شىءٍ سواه سبحانه، الذي خلق وبرأ وقدَّر وهدى.
وأما اسمه سبحانه "الواحد" فله ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى: أحدها: أنه لا ثاني له فهو نفي للعدد، والآخر: أنه لا شريك له، والثالث: أنه لا يتبعض ولا ينقسم. [SUP]([3])[/SUP]
قال العلامة ابن جزي رحمه الله : واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات الأولى: توحيد عامة المسلمين وهو الذي يعصم النفس من الهلك في الدنيا، وينجي من الخلود في النار في الآخرة وهو نفي الشركاء والأنداد، والصاحبة والأولاد، والأشباه والأضداد. الدرجة الثانية: توحيد الخاصة، وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده ويشاهد ذلك بطريق المكاشفة لا بطريق الاستدلال الحاصل لكل مؤمن، وإنما مقام الخاص في التوحيد يغني في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل، وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله والتوكل عليه وحده واطراح جميع الخلق، فلا يرجو إلّا الله، ولا يخاف أحدا سواه إذ ليس يرى فاعلا إلّا إياه ويرى جميع الخلق في قبضة القهر ليس بيدهم شيء من الأمر، فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب، والدرجة الثالثة ألّا يرى في الوجود إلّا الله وحده فيغيب عن النظر إلى المخلوقات، حتى كأنها عنده معدومة. وهذا الذي تسميه الصوفية مقام الفناء بمعنى الغيبة عن الخلق حتى أنه قد يفنى عن نفسه، وعن توحيده: أي يغيب عن ذلك باستغراقه في مشاهدة الله.
يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-على أقسام الفناء في اصطلاح السالكين:
أنه يراد به ثلاثة معان أحدها محمود والثاني منقوص والثالث إلحاد.
فالأول: أن يفنى بعبادته عن عبادة ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه وبخوفه عن خوف ما سواه وبرجائه عن رجاء ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه وهذه حقيقة التوحيد الذي أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب وهذا حال الأنبياء وأتباعهم والفناء عن عبادة السِّوى يُقارنه البقاء بعبادته تعالى فهذا الفناء يقارنه البقاء وهو حقيقة قول لا إله إلا الله.
وأما النوع الثاني: وهو الفناء عن شهود السوى ويسمى الاصطلام ومنه الفناء في توحيد الربوبية وهو أن يغيب بمشهوده عن شهوده وبمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته فيفنى بالمعروف عن المعرفة والعارف.
وهذه الحال ليست واجبة ولا مستحبة وليست حال الأنبياء ولا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ولا أكابر المشايخ الصالحين ولكن هو حالٌ يعْرِض لطائفةٍ من السالكين كما يُذْكر عن أبي يزيد البسطامي-رحمه الله-وعن غيره أنه قال في هذا المشهد سبحاني أو ما في الجبَّة إلا الله ونحو ذلك.
... لكن بكل حال ليس العبد مأمورًا بالمقام في هذه الحال وهي تُحمد من جهة انجذاب القلب إلى ربه ومن جهة توجُّهه إليه وتألُّهه إيَّاه ويسميها بعضُ الناس الجمع الأول...
وهذا المقام مما حققه الجُنيد رضي الله عنه وأمثاله من أئمة أهل الطريق الذين يُقتدى بهم الذين يلاحظون الأمرَ والنهي كالشيخ عبد القادر ونحوه من المتأخرين ...أي على كلِّ وليٍّ لله أن يتبع الأمر والنهي الإلهي النبوي الشرعي المحمدي ويحكِّم على نفسه الكتاب والسنة ولا يخرج عن ذلك لا لذوقٍ يخالفه أو وجدٍ أو حالٍ أو مشهد أو غير ذلك بل يزن أذواقه ومواجيده وأحواله وحقائقه بالكتاب والسنة......
وأصحاب هذا المشهد قد ينتقل أحدهم من هذا إلى الوحدة ولهذا يقولون السالك يشهد أولاً طاعة ومعصية ثم يشهد طاعةً بلا معصية ثم لا يشهد لا طاعة ولا معصية.
وقد يقول بعضهم يكون أولاً فقيرًا ثم يصير نبيًّا ثم يصير إلهًا وحينئذ يدخلون إلى النوع الثالث من الفناء وهو فناء المُلْحِدين الذين يقولون الوجود واحد كابن عَرَبي وابن سَبْعين وابن الفارض والقُوْنَوي والتِّلِمْساني وأمثالهم ممن يجعل الوجود الخالق هو الوجود المخلوق وربما جعلوه حالاًّ فيه ومذهبهم دائر بين الاتحاد والحلول ولكن قد لا يرضون لفظ الاتحاد بل يقولون الوحدة لأن الاتحاد يكون بين شيئين وهم يقولون الوجود واحد لا تعدد فيه.. [SUP]([SUP][4][/SUP])[/SUP]
قال القشيري طيب الله ثراه:
شرّف عباده المؤمنين غاية التشريف بقوله {وإلهكم}. وإن شيوخ هذه الطائفة قالوا: علامة من يعدّه من خاصّ الخواص أن يقول له: عبدي، وذلك (أي قوله: وإلهكم) أتمّ من هذا (أي قوله: عبدي) بكثير لأن قوله: «وَإِلهُكُمْ»: وإضافة نعته أتمّ من إضافته إياك إلى نفسه لأن إلهيته لك بلا علّة، وكونك له عبد يعوّض كل نقصك وآفتك.
واسمه تعالى: «الواحد» أى مَن لا مِثل له يدانيه، ولا شكل يلاقيه. لا قسيم يجانسه ولا قديم يؤانسه.
لا شريك يعاضده ولا معين يساعده ولا منازع يعانده.
أحدىُّ الحق، صمدىّ العين، ديمومّى البقاء، أبدىّ العز، أزلىّ الذات.
واحدٌ في عز سنائه، فرد في جلال بهائه، وِتر في جبروت كبريائه، قديمٌ فى سلطان عزّه، مجيد في جمال ملكوته. انتهى [SUP]([/SUP][SUP][SUP][5][/SUP][/SUP][SUP])[/SUP]
وللمؤمن أن يرتقي بنظره متأملا في خلق الله تعالى الدال على وحدانيته وعظمته.
فمن رحمانية الله أن (تعرّف إلى قلوب الطالبين من أصحاب الاستدلال وأرباب العقول بدلالات قدرته، وأمارات وجوده، وسمات ربوبيته التي هى أقسام أفعاله. ونبههم على وجود الحكمة ودلالات الوحدانية بما أثبت فيها من براهين تلطفت عن العبارة، ووجوه من الدلالات تدقّ عن الإشارة، فما من عينٍ من العدم محصولة-من شخص أو طلل، أو رسم أو أثر، أو سماء أو فضاء، أو هواء أو ماء، أو شمس أو قمر، أو قطر أو مطر، أو رمل أو حجر، أو نجم أو شجر-إلا وهو على الوحدانية دليل، ولمن يقصد وجوده سبيل) [SUP]([/SUP][SUP][SUP][6][/SUP][/SUP][SUP])[/SUP]
ففي قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} أي إلى قوله: {لآياتٍ لقومٍ يعقلون} ثمانية أشياءٍ في كل شيء منها آياتٌ وآياتٌ تنوء بحملها مجلدات الشروح والعلوم:
وفي كل شيءٍ له آيةٌتدل على أنه الواحدُ.
و(إن) حرف توكيد لمَن أراد أن يستيقن عن تأملٍ وتعقلٍ، فالإيمان في الإسلام بصيرةٌ وتفكر، وليس كما وصف كبير قساوسة الغرب " باسكال" الإيمان المسيحي بأنه إيمانٌ أعمى يفسده التأمل والمجادلة.

ففي خلق السماوات والأرض وما فيهما من العجائب التي تحاول فهمها علوم الفيزياء والجيولوجيا والأحياء وغيرها ما يدعو القارئ في صفحة الكون للإيمان بخالقٍ عظيمٍ لهذا الكون الكبير البديع. وهكذا قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}(ق: 6 - 7)
وأفرد الأرض ولم يجمعها في دقةٍ إعجازيةٍ خطيرة لأن الأرض كوكب متفرد بعوامل ملاءمته لحياة البشر بما يجعلها واحدة، والسماوات كل ما عدا الأرض ويحيط بها وهى كثيرة.
قوله {واختلاف الليل والنهار} أىبالذهاب والمجيء.

قال الراغب في تفسيره: أن يخلف كل واحد منهما الأخر، كقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً}، وقوله: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} وقوله: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} انتهى.
وتأمل تعبير الاختلاف هذا الذي يعبر عن حالة من التعاقب والخُلْف المستمر. ففي مكانٍ يكون ليلا وفي ذات الوقت في مكانٍ آخر يكون نهارا، وذلك لأن الأرض بيضاوية وتتعرض للشمس من جانب واحد، فما كان منها في ناحية الشمس فهو نهار، وما كان في الناحية الأخرى فهو ليل. وقدم الليل على النهار لأن الظلمة في الكون هى الأصل، وإنما يشرق النهار بحبس آشعة ضوء الشمس في الجانب المواجه لها بواسطة الغلاف الجوي، أما في خارج الأرض فهو ظلام وليل دائم.
قوله: {وَالْفُلْكِ} والفُلْك: السفينة المدورة. يستعمل مفرداً وجمعاً بوزن واحد والتغاير بالوصف، يقال فلك مشحونة وفلك مشحونات.
قوله: {الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} أي يسيرها الله بالريح مقبلة ومدبرة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ} (الشورى: 32). أى كالجبال.

وفي هذا إشارةٌ إلى قوانين الفيزياء والطفو وعلوم الملاحة وكل تطور بلغ به الإنسان بهداية ربه أن يسير في عباب البحر المتلاطم لا يرى سوى الماء من كل ناحية ويهتدي في طريقه ويقضي حوائجه {بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} سفرا ونقلا وتجارةً وسياحة ومتعةً بإذن الله وحفظه.
قوله: {وما أنزل الله من السماء مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ} فيه الإشارة إلى علوم الطقس والمناخ وعجائب تكون السحاب والمطر ونزوله بإذن الله {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ} أي أظهر ما فيها من النضارة والبهجة كأنما هى حيةٌ نابضةٌ تشير إلى الرب الخلاق العظيم. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (فصلت: 39). استدل في هذه الآية بقدرته تعالى على إحياء موات الأرض وما يدرسه العلماء في علوم النبات على إحيائه تعالى الموتى وحسابهم، فاستدل بمعلومٍ على مجهولٍ، في جدلٍ وعقلانيةٍ بسيطةٍ مدهشة.
قوله تعالى: {وبثَّ فيها من دل دابة} أى نشر في الأرض المخلوقات بكل تنوعها وعجائب خلقها في إبداعٍ يجعل علماء الحيوان والأحياء يقفون مشدوهين كل يوم أمام اكتشافهم لما يجهلون من عجائب ومجهول المخلوقات لديهم حتى إن أكثرهم علما لا يدعي أنه عرف أكثر من 10% من المخلوقات على الأرض.
قال الراغب في تفسيره: والبث إظهار ما كان خفياً عن الحاسة.
والدبيب أصله حكاية صوت المشي، ثم قيل: دب إذا مشى. والدابة ما كان يمشي، وهو كل حيوان.
قوله: {وتصريف الرياح} والتصريف: صرف الشيء من وجه إلى وجه، والمعنى حكم الله تعالى وحكمته في حركة الرياح وفوائدها في حفظ حياة البشر بما لا تكفيه المجلدات.
وقد جعل بعض المحققين ذكر الرياح بالجمع لمعنى النفع فيها، بينما ذكر القرآن الريح بالإفراد إذا أراد التعذيب بها. وفي الأمر بحثٌ.
وقوله: {وَالسَّحَابِ المسخِّر} تقييد للسحاب بأنه مسخر أى يسير بأمر الله وِفق حساباتٍ ومتغيراتٍ شتى لا يمكن ضبها كاملة، ولكم حاول البشر التحكم في السحاب ولم يفلحوا.
كل ذلك يقسم الله تعالى إنَّ فيه {لآيات لقومٍ يعقلون}. فالعقل في الإسلام مطية الإيمان، يستعمله المنصفون ليستيقنوا، ويستعمله المؤمنون ليزدادوا إيمانا، أما المعاندون فيهملونه فيزدادوا كفرا ويصيرون كالأنعام، بل أضل سبيلا.

قال تعالى في أولئك الهالكين: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَٱلْأَنْعَٰمِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (الفرقان - 44)
جاء في التفسير الوسيط في هذا الآية لاتصالها بما نحن فيه من هداية الآيات:
و " أم " هنا: هي المنقطعة، وهى تجمع فى معناها بين الإضراب الانتقالي، والاستفهام الإنكاري.
أى : بل أتحسب أن أكثر هؤلاء الكافرين يسمعون ما ترشدهم إليه سماع تدبر وتعقل ، أو يعقلون ما تأمرهم به أو تنههم عنه بافنتاح بصيرة ، وباستعداد لقبول الحق . .
كلا إنهم ليسوا كذلك، لاستيلاء الجحود والحسد على قلوبهم.
وقال -سبحانه -(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ . . . ) لأن هناك قلة منهم كانت تعرف الحق معرفة حقيقية ، ولكن المكابرة والمعاندة ومتابعة الهوى . . . حالت بينها وبين الدخول فيه ، واتباع ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم .
وقوله -سبحانه -: ( إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) ذم لهم على عدم انتفاعهم بالهداية التى أرسلها الله - تعالى - إليهم .
أى : هؤلاء المشركون ليسوا إلى كالأنعام فى عدم الانتفاع بما يقرع قلوبهم وأسماعهم من توجيهات حكيمة ، بل هم أضل سبيلا من الأنعام : لأن الأنعام تناقد لصاحبها الذى يحسن إليها ، أما هؤلاء فقد قابلوا نعم الله بالكفر والجحود .
قال صاحب الكشاف: فإن قلتَ: ما معنى ذكر الأكثر؟
قلتُ: كان فيهم من لا يصده عن الإسلام إلى داء واحد، وهو حب الرياسة، وكفى به داء عضالا .
فإن قلتَ: كيف جُعِلوا أضل من الأنعام؟
قلتُ: لأن الأنعام تنقاد لأربابها التى تعلفها وتتعهدها، وتعرف من يحسن إليها ممن يسىء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتتجنب ما يضرها ، وتهتدى لمراعيها ومشاربها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ، ولا يعرفون إحسانه إليهم ، من إساءة الشيطان الذى هو عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذى هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذى هو أشد المضار والمهالك . انتهى.


[1]) ) وهو ما يصل الحديث بنفى الجناح عن الطواف بين الصفا والمرة الذي سبق أن أفاض السياق فيه، فتأمل مشكورا.

([2])النبأ العظيم (ص: 243)

[3])) تفسير ابن جزي = التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 104)

[4])) الرد على الشاذلي في حزبيه وما صنفه في آداب الطريق (ص: 101)

[5]) ) لطائف الإشارات = تفسير القشيري (1/ 143)

[6]) ) المرجع السابق (1/ 144)
 
عودة
أعلى