أخي الحبيب الفاضل وفقكم الله
يا عزيزي
هذا القول يعني بالضرورة إثبات خرافة الغرانيق
تأمل ما جاء في موقع (مركز الكلمة المسيحي) التنصيري بعنوان (آيات شيطانية باعتراف القرآن) :
جلس محمد ذات مرة في ناد من أندية قريش، وجلس معه كثيرون من أبناء قريش، وأحبّ يومئذ ألاَّ يأتيه من الله شيء ينفر منه، وتمنى ذلك فأنزل تعالى سورة النجم 53-7)والنجم إذا هوى(فقرأها حتى بلغ أفرأيتم اللاّت والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان على لسانه {تلك الغرانيق العُلى إن شفاعتهن لترجى}. فلما سمعت قريش فرحوا، ومضى رسول الله في قراءته فقرأ السورة كلها، فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون، وتفرَّقت قريش وقد سرَّهم ما سمعوه، وقالوا:"قد ذكر محمد آلهتا بأحسن الذِّكْر". فلما أمسى الرسول أتاه جبريل فقال:"ماذا صنعت لقد تلوت على الناس ما لم آتيك به من عند الله"، فحزن الرسول حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً عظيماً..
الإمام عبد الله ابن أحمد النسفي قال: "إنه عليه السلام كان في نادي قومه (أي في مجلسهم) يقرأ سورة (والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم (أي محمد) وما غوى) فلما بلغ قوله: "أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى، ومناةَ الثالثةَ الأخرى" جرى على لسانه (أي أضاف) "تلك الغرانيق العلى (أي: الرائعة الجمال، العالية المقدار) وإن شفاعتهن (أي وساطتهن) لترتجى". قيل: فنبهه جبريل عليه السلام، فأخبرهم أن ذلك كان من الشيطان... (تفسير النسفي الجزء الثالث ص161)
وقد جاء في تفسير الجلالين: أنه عندما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم بمجلس من قريش، بعد الكلمات "أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى" ما ألقاه الشيطان على لسان الرسول من غير علمه، صلى الله عليه وسلم: "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى". ففرحوا بذلك. ثم أخبره جبريل بما ألقاه الشيطان على لسانه، فحزن، فسُلِّىَ (تعزى) بهذه الآية.
يقول الإمام أبو جعفر النحاس في تعليقه على حديث الغرانيق: "ألقى الشيطان هذا في تلاوة النبي " (كتاب النحاس الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ص 225)
وقول الإمام أبو جعفر النحاس أيضا: "معروف من الآثار أن الشيطان كان يظهر في كثير وقتٍ للنبي " (كتاب النحاس الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ص 225)
التساؤل الخطير هنا:
1ـ كيف ينطق الشيطان على لسان الرسول؟
2ـ كيف يؤلف الشيطان آية تماما مثل القرآن؟ الأمر الذي جعل الرسول نفسه لا يميز بين كلمات الله وكلمات الشيطان؟ في الوقت الذي تحدى فيه الله أن يأتوا بآيات مثل آيات القرآن... أفبعد كل هذا التحدي، لا يميز الرسول بين كلام الشيطان والكلام الموحى به، لو لم يرده جبريل؟؟؟!!! بالتأكيد يريد السائل أن يعرف الإجابة الصحيحة.
وحين تتناول المواقع التنصيرية خرافة الغرانيق يعرضونها بأسلوب يُفهم منه أن فرية الغرانيق يعرفها المسلمون، ويسلِّمون بصحتها، ولا تشكل لديهم أي حرج أو إشكال. ومن ذلك ما ورد في الموقع التنصيري (يوم قبل وفاة محمد):
ففي الخطاب القرآني ورد ذكر كثير من أصنام العرب في معرض التنديد غالبا. وأحيانا في معرض الإشارة كتلك الآية المنسوخة من سورة النجم والتي ورد فيها: واللاة [الصواب: أَفَرَاَيْتُمُ الَّلاةَ ] والعزى ومناة الثالثة الأخرى……… تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى". وهي الآية التي يذكر المفسرون أن الشيطان ألقاها في فم محمد
هذه الرواية باطلة موضوعة، ودليل ذلك من القرآن الكريم وصحيح السنة والمعقول والتاريخ، كما يلي:
أولاً: القرآن الكريم:
1. قال تعالى في سورة يونس: " قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) ".
فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم أن يبدل في كلام الله، فكيف بالشياطين؟
2. وفي سورة الإسراء: " وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا(73) ". وكلمة: " كاد " تفيد إن الأمر لم يحصل.
3. وفيها قوله: " وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا(74) ".
كلمة: " لولا " تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الركون، لم يحصل.
4. وفي سورة الفرقان: " كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا(32) "، والتثبيت لا يتحصل بكلام تتدخل فيه الشياطين بداهة!
5.وفي سورة الشعراء: " إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) ".
وورد في السورة ذاتها نص قاطع ينفي ذلك بتاتاً: " وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212).. هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) ".
6. وفي سورة الحاقة: " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (45) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعنَا مِنْهُ الوَتِينَ (46) ". انظر التهديد لمن ؟ فكيف بالشيطان إن تدخل؟؟
7. وأختم بسورة النجم ـ موضع الشبهة ـ حيث قال تعالى: " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4) ".
فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية: تلك الغرانيق العلى، لكان قد ناقض الآية الكريمة في الحال.
وجاء بعدها: " وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى(26) ". تقرر الآية الكريمة أن شفاعة الملائكة لا تغني شيئاً، هل الغرانيق شفاعتها ترتجى أكثر من شفاعة الملائكة المقربين ؟!
فسبحان من جعل في سورة النجم ـ موضع الشبهة ـ ردَّين عليها: الأول قبلها، والثاني بعدها!!
لقد أخطأ واضعوا تلك الفرية السورة، وعمِيَت بصيرتهم عن كونها ناسفة لشبهتهم.. فلو فكروا ملياً، لاختاروا وضعها في سورة أخرى!
ثانياً: صحيح السنة النبوية:
1. لم يثبت ذلك بأي حديث صحيح مرفوع، كما أن روايات الغرانيق متناقضة ولا يسلم أي منها من مطعن، في السند والمتن.
2. طعنُ المحدِّثين بصحة هذه القصة:
سئل ابن خزيمةعن هذه القصة فقال: " هذا وضع من الزنادقة "، وصنف فيه كتاباً.
وبيَّن الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي أن هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل.
وقال القاضي عياض في الشفا " إنه من وضع الزنادقة ". وإن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل.
3. رُوي الحديث الصحيح حول سجود المشركين عند تلاوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أوائل سورة النجم من طرق كثيرة، وليس فيه البتة أي ذكر للغرانيق.
4. لا عبرة بما نقل في كتب القصاص، أو بعض المفسرين المولعين بذكر غريب القصص والأخبار دون تثبت.
5. الأحاديث الصحيحة الكثيرة في عدم تمثل الشيطان بسيدنا محمد لمن يراه أثناء النوم، فيكون عدم قدرته التمثل بنبرة صوته من باب أولى.
6. تناقضات روايات تلك الفرية، وهي ست كما يلي:
الأولى: " تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهم لترتجى ".
الثانية: " الغرانقة العلا إن شفاعتهم ترتجى ".
الثالثة: " إن شفاعتهن ترتجى " ( دون ذكر الغرانيق ).
الرابعة: " وإنها لهي الغرانيق العلا ".
الخامسة: " وأنهن لهن الغرانيق العلا، إن شفاعتهم لهي التي ترتجى ".
السادسة: " تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى ".
وبذا تسقط جميعاً.
ثالثاً: المعقول:
1. من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعي الرسول عليه السلام كان في نفي عبادة الأوثان وشفاعتها، فكيف يُثبِت أمراً جُلُّ رسالته قبل نزول سورة النجم وبعدها في نفيه ؟!
2. معاداتهم للرسول عليه السلام كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر، فكيف أجمعوا على أنه عظَّم آلهتهم، مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم ؟
3. لو جوَّزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل الشرائع أن تكون كذلك، ولا دين يقبل ذلك.
4. لو كان الشيطان له سلطان على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بدرجة أنه يملي عليه كلامه، ويحرك لسانه بالكفر، لكان ألعوبة له، ليس في هذه القصة فقط، بل في غيرها أيضا. والنبي معصوم من الشياطين بداهةً.
5. الاعتراف بشفاعة الأصنام كفر مخرج من الملة.
رابعاً: التاريخ:
1. لم يرد في تاريخ العرب أبداً هذا التشبيه لآلهتهم بالغرنوق، ولم يعهدوه في جاهليتهم، ولم تأت أشعارهم على ذكر ذلك الوصف لآلهتهم.. وهذا يؤكد أنها لُفقت فيما بعد.
2. لو كانت صحيحة، لأحدثت أثراً سلبياً في نفوس من آمن حديثاً، وما نُسب إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يمر مرور الكرام.. فإن كان لحادثة الإسراء أثر سلبي في عقيدة بعض ضعاف الإيمان، فتلك القصة ـ على فرض صحتها ـ من باب أولى.