آيات ووقفات (الحلقة الخامسة)

إنضم
09/08/2004
المشاركات
31
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
آيات ووقفات (الحلقة الخامسة)
اهدنا الصراط المستقيم
وهذه لمحة أخرى من التربية الربانية لعباده المؤمنين كيف يكونون في جميع أحوالهم خاضعين لله، متذللين لعظمته، وناكسي رؤوسهم بين يديه، فماذا علمهم أن يقولوا بعدما أثنوا عليه وحمدوه وأجلَّوه؟ وقرروا أنهم عبيدٌ له وحده، لا يعبدون إلا الله، ولا يستعينون إلا به، أمرهم بأن يقولوا اهدنا الصراط المستقيم، أي يارب اهدنا طريق الحق المبين ، طريق الهدى والصلاح ، طريق المغفرة والرحمة، الطريق المؤدي لرضا الرب وعفوه، وهو دين الإسلام. فما أحوجنا إلى هداية الله، وما أحوجنا إلى تعلم ديننا، وأركانه ووسائل الخير التي تدلنا على رضا ربنا، ما أحوجنا أن نعرف صراط الله المستقيم، ونعرف كيف سلكه الذين من قبلنا من السلف الصالح ، ما أحوج الأمة اليوم أن تعيش حياة الصالحين ، الذين أرادوا الخير فعملوه، وأرادوا السلام فحققوه، وأردوا الكرامة فنالوها، وذلك لأنهم اتبعوا ما يرضي الله فرضي الله عنهم، قال تعالى (رضي الله عنهم ورضوا عنه) ، إنهم الذين سكبوا دمائهم في سبيل الله إرضاء لله ، ونشراً لدينه ، وليس كما يقول المستشرقون بأنهم نشروا الدين بالسيف ، فالسيف لا يدخل الإيمان في القلوب، ولكنهم عرضوا على رؤساء الكفار من فارس والروم، عرضوا عليهم أن يسمحوا لهم بتعليم الناس دين الإسلام، أو أن يدفعوا الجزية ، أو الحرب ، فكانت خياراتهم المتكبرة المتغطرسة دائماً تنادي بالحرب، فكان لهم ما اختاروه ، وماذا كانت النتيجة؟ هزمهم الله ، ونصر المؤمنين ، حتى وصل الإسلام إلى بقاع كثيرة من العالم، وهناك دول تدين بالإسلام اليوم لم ينتشر فيها الإسلام عن طريق معارك ، بل انتشر بأخلاق التجار المسلمين ، وهذه صفات العباد الصالحين الذين كانوا أمثلة رائعة في التحلي بالإسلام ديناً ، وخلقاً . قال السعدي رحمه الله "فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط فالهداية إلى الصراط لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علماً وعملاً".


الوقفات

1- تقرير ضعف وافتقار العبد لهداية الله، فكما قال ابن رواحه فوالله لولا الله ما اهتدينا ولا صمنا ولا صلينا.
2- وجوب مسألة الله الهداية والصلاح لقوله صلى الله عليه وسلم (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).
3- تربية الله للمؤمنين أعظم مسألة ، وهي مسألته سبحانه الهداية والثبات على الصراط المستقيم ، وهو الإسلام فلله الحمد والمنة أن هدانا إلى الإسلام حيث نعبد الله وحده بدون وسطاء أو أولياء بيننا وبينه.
 
[align=justify]جزاك الله خيراً على هذا الجهد وفتح عليك ، ولو سمحت لي فلقد
يمكن أن يضاف من الوقفات التعبيرية على هذه الآية ما يأتي :
1. قيل في سبب الخطاب بالجمع هنا مع أن القياس على التكلم بالإفراد ، فقد كان السياق على أن يقال : ( أياك أعبد وإياك أستعين اهدني الصراط المستقيم ) ، ولكن جاء في اشارات الإعجاز : والتكلم مع الغير في (نعبد) لوجوه ثلاثة :
أي نعبد نحن معاشر أعضاء وذرّات هذا العالم الصغير - وهو أنا - بالشكر العرفي الذي هو إطاعة كلٍ لما أُمر به..
ونحن معاشر الموحّدين نعبدك باطاعة شريعتك..
ونحن معاشر الكائنات نعبد شريعتك الكبرى الفطرية ونسجد بالحيرة والمحبة تحت عرش عظمتك وقدرتك.
وذهب الشعراوي رحمه الله إلى أن العبد يرى في نفسه قصور أمام الله تعالى فلا يجرؤ على الطلب منه بصورة منفردة بـ ( أنا ) فسأل بسؤال الجمع اتهاماً لنفسه ، وجمعاً لنفسه مع المصلين عسى أن تنزل الرحمة لأحدهم فيشمل بها ( هم القوم لا يشقى جليسهم ) .
2. قد يستشكل في الآية أيضا طلب الهداية ممن هو مهتد ، إذ إن المصلي وغيره مهتدٍ في أصل فعله ، فكيف يطلب العبد ما هو عنده أصلاً …
فيقال : هذا أسلوبٌ جميلٌ جداً في البيان القرآني استعمل في هذه السورة ، يُجمعُ فيه بين معانٍ متعددة ، كما في جملة ( الحمد لله ) التي ( اختلف العلماء في أن جملة الحمد لله هل هي إخبار عن ثبوت الحمد لله أو هي إنشاء ثناء عليه إلى مذهبين ، فذهب فريق إلى أنها خبر ، وهؤلاء فريقان منهم من زعم أنها خبر باق على الخبرية ولا إشعار فيه بالإنشائية ، وأورد عليه أن المتكلم بها لا يكون حامدا لله تعالى مع أن القصد أنه يثنى ويحمد الله تعالى ، وأجيب بأن الخبر بثبوت الحمد له تعالى اعتراف بأنه موصوف بالجميل إذ الحمد هو عين الوصف بالجميل ، ويكفي أن يحصل هذا الوصف من الناس وينقله المتكلم . ويمكن أن يجاب أيضا بأن المخبر داخل في عموم خبره عند الجمهور من أهل أصول الفقه. وأجيب أيضا بأن كون المتكلم حامدا قد يحصل بالالتزام من الخبر يريدون أنه لازم عرفي لان شأن الأمر الذي تضافر عليه الناس قديما أن يقتدي بهم فيه غيرهم من كل من علمه ، فإخبار المتكلم بأنه علم ذلك يدل عرفا على أنه مقتد بهم في ذلك هذا وجه اللزوم، وقد خفي على كثير ، أي فيكون مثل حصول لازم الفائدة من الخبر المقررة في علم المعاني، مثل قولك : سهرت الليلة وأنت تريد أنك علمت بسهره، فلا يلزم أن يكون ذلك إنشاء لأن التقدير على هذا القول أن المتكلم يخبر عن كونه حامدا كما يخبر عن كون جميع الناس حامدين فهي خبر لا إنشاء والمستفاد منها بطريق اللزوم معنى إخباري أيضا. ويرد على هذا التقدير أيضا أن حمد المتكلم يصير غير مقصود لذاته بل حاصلا بالتبع مع أن المقام مقام حمد المتكلم لا حمد غيره من الناس، وأجيب بأن المعنى المطابقي قد يؤتى به لأجل المعنى الالتزامي لأنه وسيلة له، ونظيره قولهم طويل النجاد والمراد طول القامة فإن طول النجاد أتى به ليدل على معنى طول القامة.
وذهب فريق ثان إلى أن جملة الحمد لله هي خبر لا محالة إلا أنه أريد منه الإنشاء مع اعتبار الخبرية كما يراد من الخبر إنشاء التحسر والتحزن في نحو)إني وضعتها أنثى( وقول جعفر بن علبة الحارثي هواي مع الركب اليمانين مصعد فيكون المقصد الأصلي هو الإنشاء ولكن العدول إلى الإخبار لما يتأتى بواسطة الإخبار من الدلالة على الاستغراق والاختصاص والدوام والثبات ووجه التلازم بين الإخبار عن حمد الناس وبين إنشاء الحمد واضح مما علمته في وجه التلازم على التقرير الأول، بل هو هنا أظهر لأن المخبر عن حمد الناس لله تعالى لا جرم أنه منشئ ثناء عليه بذلك، وكون المعنى الالتزامي في الكناية هو المقصود دون المعنى المطابقي أظهر منه في اعتبار الخبرية المحضة لما عهد في الكناية من أنها لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة الأصل معه، فدل على أن المعنى الأصلي إما غير مراد أو مراد تبعا لأن مع تدخل على المتبوع.
المذهب الثاني أن جملة الحمد لله إنشاء محض لا إشعار له بالخبرية، على أنها من الصيغ التي نقلتها العرب من الإخبار إلى إنشاء الثناء كما نقلت صيغ العقود وأفعال المدح والذم أي نقلا مع عدم إماتة المعنى الخبري في الاستعمال؛ فإنك قد تقول الحمد لله جوابا لمن قال: لمن الحمد؟ أو من أحمد؟ . ولكن تعهد المعنى الأصلي ضعيف فيحتاج إلى القرينة. والحق الذي لا محيد عنه أن الحمد لله خبر مستعمل في الإنشاء فالقصد هو الإنشائية لا محالة، وعدل إلى الخبرية لتحمل جملة الحمد من الخصوصيات ما يناسب جلالة المحمود بها من الدلالة على الدوام والثبات والاستغراق والاختصاص والاهتمام، وشيء من ذلك لا يمكن حصوله بصيغة إنشاء نحو حمدا لله أو أحمد الله حمدا، ومما يدل على اعتبار العرب إياها إنشاء لا خبرا قول ذي الرمة:
ولما جرت في الجزل جريا كأنه سنا الفجر أحدثنا لخالقها شكرا
فعبر عن ذكر لفظ الحمد أو الشكر بالإحداث، والإحداث يرادف الإنشاء لغة فقوله أحدثنا خبر حكى به ما عبر عنه بالإحداث وهو حمده الواقع حين التهابها في الحطب )
وعلى مثل هذا جاءت جملة ( اهدنا الصراط المستقيم ) فهي لقائلها غير المهتدي باقيةٌ على أصلها في الطلب ، ومن حيث كونه على الهداية تخرج إلى معنى طلب الاستمرار على الفعل لا تعني عدم وجوده أصلاً من حيث انعدام الفعل ، إذ ورد فعل الأمر في قوله تعالى : ( يا أيها النبي اتق الله .. ) ومعلومٌ بالضرورة تقوى النبي لربه ، ومثله قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا ..) فقد أثبت الإيمان لهم من جهة وأمروا بفعله من جهةٍ أخرى ، فدل على أن الأمر خرج إلى معنى طلب الاستمرار على الفعل ، أو حصول الإيمان الأكمل ؛ لذلك قال الطاهر بن عاشور : ( ولا شك أن المطلوب بقوله ( اهدنا ) الملقن للمؤمنين هو ما يناسب حال الداعي بهذا إن كان باعتبار داع خاص أو طائفة خاصة عندما يقولون: اهدنا، أو هو أنواع الهداية على الجملة باعتبار توزيعها على من تأهل لها بحسب أهليته إن كان دعاء على لسان المؤمنين كلهم المخاطبين بالقرآن، وعلى كلا التقديرين فبعض أنواع الهداية مطلوب حصوله لمن لم يبلغ إليه، وبعضها مطلوب دوامه لمن كان حاصلا له خاصة أو لجميع الناس الحاصل لهم، وذلك كالهداية الحاصلة لنا قبل أن نسألها مثل غالب أنواع الجنس الأول.
وصيغة الطلب موضوعة لطلب حصول الماهية المطلوبة من فعل أو كف فإذا استعملت في طلب الدوام كان استعمالها مجازا نحو ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا ) وذلك حيث لا يراد بها إلا طلب الدوام . وأما إذا استعملت في طلب الدوام للزيادة مما حصل بعضه ولم يحصل بعضه فهي مستعملة في معناها وهو طلب الحصول لأن الزيادة في مراتب الهداية مثلا تحصيل لمواد أخرى منها . ولما كان طلب الزيادة يستلزم طلب دوام ما حصل إذ لا تكاد تنفع الزيادة إذا انتقض الأصل كان استعمالها حينئذ في لازم المعنى مع المعنى فهو كناية . أما إذا قال اهدنا الصراط المستقيم من بلغ جميع مراتب الهداية ورقي إلى قمة غاياتها وهو النبي صلى الله عليه وسلم فإن دعاءه حينئذ يكون من استعمال اللفظ في مجاز معناه ويكون دعاؤه ذلك اقتباسا من الآية وليس عين المراد من الآية لأن المراد منها طلب الحصول بالمزيد مع طلب الدوام بطريقة الالتزام ولا محالة أن المقصود في الآية هو طلب الهداية الكاملة.
3.
قال الآلوسي في تفسيره لاستعمال ( ذلك ) وهو اسم إشارة للبعيد بدلاً من ( هذا ) وهو ما يقتضيه سياق الكلام في قوله تعالى ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ) : ( وأغرب ما رأيناه في توجيه الإشارة أنها إلى الصراط المستقيم في ( الفاتحة ) كأنهم لما سألوا الهداية لذلك قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب ، وهذا إن قبلته يتبين به وجه ارتباط سورة ( البقرة ) بسورة ( الحمد ) على أتمِّ وجه )( روح المعاني 1 / 105-106) . وقد ذكر أبو حيان أنه سمعه من شيخه أبن الزبير الثقفي وقال ( وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شئ سبق ذكره لا إلى شئ لم يجر له ذكر )( ينظر ؛ البحر1/ 67 ، و النهر الماد 1/32 ).
فابتداء سورة البقرة بلفظ (( ذلك )) ، وفي السعة التعبير بـ (( هذا )) يحيل إلى افتراض وظيفة مرادة ما كانت لتحققها اللفظـة المعدول عنها (( هذا )) ؛ وإلا لم يكن للعدول من داع وإن فسر اللفظ المعدول إليه بها ، وليست المغايرة الأسلوبية (( التفنن )) علة للعدول هنا – وإن قيل بها علة للتعبير ( ينظر: البرهان في علوم القرآن 1/124 ) ؛ لأنها في كل المواضع المُعلَّلة بها تأتي في سياق مُغايِرَةٍ لأسلوبٍ متقدم ، وجاءت هنا في بداية الكلام ولا مُغايَرَةَ ابتداءً . ومن سَبـَرَ التعبير القرآني عَرَفَ أن العدول مرتبط على المستوى الوظيفي على الأقـل بسياق السورة ككل ، مما يقدِّم النصَّ وحدةً فنيةً متماسكةً ، وسورةُ البقرة تفصيلٌ أوَّلٌ للأجمال الذي تقدَّمها في الفاتحة كما يقول السيوطي ، فمدارُ سورة الفاتحة كان حَمْدَ اللهِ بصفاته وقدرته تقدُمةً لطلب الهداية المحدَّدة لا بصاحبها ( الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )(الفاتحة: من الآية7) حسب ، وإنما به وبضده ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: من الآية7) الذين جاءت البقرة بيانا لأحوالهم ، و ( وَلا الضَّالِّينَ )(الفاتحة: من الآية7) وهم ما فصلت حالهم سورة آل عمران (ينظر : النبأ العظيم 198 ).

وأسأل الله أن يبارك عملك ويفتح عليك أخي الفاضل[/align]

د. عامر مهدي العلواني
مدرس البلاغة والنقد في قسم اللغة العربية
جامعة الأنبار
 
وهنا فائدة لطيفة وهي أن الفعل اهدنا تعدى بنفسه ولم يتعدى بحرف جر ليشمل جميع انواع الهداية فهو يسأل الله الهداية إلى الصراط والهداية في تفاصيله والثبات عليه فانت تلاحظ أنه لو تعدى بحرف إلى لم يفد إلا المعنى الأول ولو تعدى بحرف في لم يفد إلا المعنى الثاني ولو تعدى بعلى لأفاد المعنى الثالث بالتضمين ولكن تعدى بنفسه ليشمل هذه المعاني كلها .
 
عودة
أعلى