آيات الحج .. تفسير وبيان

روضة

New member
إنضم
06/01/2006
المشاركات
205
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الأردن
بمناسبة أجواء الحج التي نعيشها هذه الأيام أحببت أن أضع بين أيديكم تفسيراً لآيات الحج التي وردت في سورة البقرة، اقتبستها من رسالتي الماجستير، واقتصرت على بيان معناها هنا دون الحديث عن جمال نظمها؛ اختصاراً ... أرجو أن تنال إعجابكم...

~*¤ô§ô¤*~*¤ô§ô¤*~****~*¤ô§ô¤*~*¤ô§ô¤*~​

 وَأتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ فَإنْ أحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أو بِهِ أذىً مِنْ رَأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ فَإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلىَ الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ في الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوْا أنَّ اللهَ شَدِيْدُ العِقَابِ (196) الحَجُّ أشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ فَمَنْ فَرَضَ فِيْهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوْقَ وَلا جِدَالَ في الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوْا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُوْنِ يَا أولى الألبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوْا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإذَا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوْهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّيْنَ (198) ثُمَّ أفِيْضُوا مِنْ حَيْثُ أفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ (199) فَإذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوْا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أو أشَدَّ ذِكْرَاً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُوْلُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيْبٌ مِمَّا كَسَبُوْا وَاللهُ سَرِيْعُ الحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللهَ في أيَّامٍ مِعْدُوْدَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَومَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىَ وَاتَّقُوْا اللهَ وَاعْلَمُوْا أنَّكُمْ إليْهِ تُحْشَرُوْنَ (203) [البقرة]
 وأتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ فَإنْ أحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوْسَكُمْ حَتَّىَ يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضَاً أو بِهِ أذَىً مِنْ رَأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ فَإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلىَ الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ في الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوْا أنَّ اللهَ شَدِيْدُ العِقَابِ 

مناسبة الآية لما قبلها

جاءت هذه الآية ـ وما بعدها ـ ضمن سياق ملتئم، لتأخذ موقعاً فيه، فتتصل بما قبلها اتصالاً وثيقاً ظاهراً، فقد بينت الآيات السابقة أحكام الصيام، ثم ذكرت سؤال المسلمين عن حكمة اختلاف الأهلة، وأجابت عليه بأن الأهلة مواقيت يُعرف بها وقت الحجّ، ثم ورد الحديث عن القتال؛ لِما انتاب المسلمين من خوف مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم؛ ذلك أنهم أرادوا العمرة وصدّهم المشركون، ثم صالحوهم على أن يرجعوا من عامهم ذلك ثم يأتوا القابل، فخاف المسلمون من غدر المشركين وأن يُضطروا لقتالهم في الأشهر الحرم، فبيّن الله تعالى لهم أحكام القتال إنْ تحققت مخاوفهم، وتلا ذلك حديث عن الحج وأحكامه.
وعلى هذا يمكن ربط آيات الحج بالسياق من أوجه عدّة: فذكر الحج وأحكامه بعد أحكام الصيام؛ لأن شهور الحج بعد شهر الصيام، كما أن في السياق حديثاً عن الأهلة والمواقيت، والحج لا يؤدّى إلا بوقت معين يُعرف من خلال حركة الهلال، وجاء في الآيات بيان حكم القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام، وإنما يؤدى الحج في تلك الأشهر، وتُقام مناسكه في ذلك المسجد، وفي هذا إشارة إلى المسلمين بأن دفاعهم عن المسجد الحرام أمرٌ لا بدّ منه؛ ليتسنى لهم القيام بمناسكهم على أتم وجه، ودون أن يمنعهم أحد من إقامة شعائرهم، حتى لو اضطرهم هذا لقتال الكافرين في الشهر الحرام، أو عند المسجد الحرام، ويؤيد هذا ما جاء لاحقاً في السياق من حديث عن القتال وبخاصة في الشهر الحرام(1)، فآيات الحج محاطة بذكر القتال؛ بياناً لأهميته في تمكين المسلمين من إتمام عبادتهم .

مفردات الآية

وأتموا : "التاء والميم أصل واحد، وهو دليل الكمال، يقال: تمّ الشيء، إذا كمُل"(2)، "والتمام ضد النقصان، وهو عبارة عن انتهاء الشيء إلى حدٍّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه"(3) .
الحجّ : ذكر الفراهيدي في العين أن"الحجُّ: كثرة القصد إلى من يُعَظَّم"(4)، وقال المُناوي: "الحجّ ترداد القصد إلى ما يُراد خيره وبِرّه"(5)، ثم اختُص بهذا الاسم قصد بيت الله تعالى بصفة مخصوصة، في وقت مخصوص، بشرائط مخصوصة(6)، وذكر السجستاني أن الحَجّ مصدر، والحِجّ اسم(7) .
تضمّن كلام الفراهيدي والمناوي ملحظين، أولهما أن الحج هو القصد، وثانيهما أنه متكرر، وكأنهما التفتا إلى هذا التكرير في صوت الجيم، فجمعا بين الدلالة اللغوية: (القصد)، والدلالة الصوتية: (التكرير) .
العمرة : تطلق العُمْرَة في عُرف الشرع على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج، وأصلها اللغوي قد يكون من "العَوْمَرة، وهي الصياح والجلبة، يقال: اعْتَمَرَ الرجلُ، إذا أهلّ بِعُمْرَتِه، وذلك رفعه صوتَه بالتلبية للعمرة"(8)، وقد يكون من "التَّعْمِير، وهو شغل المكان، ضد الإخلاء"(9)، وكلا الأصلين محتمل.
أُحصرتم : الحَصْرُ: الجمعُ والحبس والمنع(10)، "يقال: أُحْصِرَ فلان، إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز، قال الله تعالى:الذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيْلِ اللهِ [البقرة : 273]، وحُصِر: إذا حبسه عدوّ عن المضي، أو سُجن ... وهما بمعنى المنع في كل شيء، مثل: صدّه وأصدّه"(11) .
استيسر : "الاستيسار: صيرورة الشيء يسيراً غيرَ عسير، كأنه يجلب اليُسْر لنفسه"(12)، "واليْسْرُ
ضد العسر، وتَيَسَّرَ كذا واسْتَيْسَرَ، أي: تَسَهَّل وتهيّأ"(13) .
الهدي : "الهاء والدال والحرف المعتل، أصلان: أحدهما التقدم والإرشاد، والآخر: بَعْثَةُ لَطَفٍ(14)، فالأول قولهم: هديته الطريق هداية، أي تقدمته لأرشده، وكل متقدم لذلك هادٍ . . . والأصل الآخر: الهَدِيَّة: ما أهديتَ من لَطَفٍ إلى ذي مودة، والهَدْيُ والهِدِيُّ: ما أُهديَ من النَّعَم إلى الحرم قربة إلى الله تعالى"(15) .
مَحِلَّه : مَحِلُّ الهَدْيِ: الموضع الذي يحلّ فيه نحره(16)، أما المَحَلُّ: فهو نقيض المُرْتَحل، وهو مصدر كالحلول(17) .
أذى : "الأذى: كل ما تأذيت به، ورجل أذيٌّ: أي شديد التأذي"(18) .
فدية : "افْتَدَى به، وافتدى منه بكذا: استنقذه بماله، وافتدى: بذل المال في فداء نفسه، واسم المال: الفدية"(19) . وفي عرف الشرع: "ما يفتدي الإنسان به نفسَه من مال يبذله في عبادة يقصّر فيها، وهي الكفارة بعينها"(20) .
نُسُك : قال في الصحاح: "نسكتُ الشيء: غَسَلْتُه بالماء وطهّرتُه، فهو مَنْسُوك"(21)، ونَسَكَ لله ينسِك: ذبح لوجهه نُسُكاً ومَنْسَكاً، والنَّسيكة: الذبيحة، ثم تطورت دلالة الكلمة لتدل على العبادة(22)، فالذبيحة التي يُتقرب بها إلى الله تُسمّى نسيكة، " قال ابن الأعرابي: النسيكة في الأصل سبيكة الفضة، تسمى العبادة بها؛ لأن العبادة مُشبِهة سبيكة الفضة في صفائها وخلوصها من الآثام، وكذلك سمّي العابد ناسكاً، وقيل للذبيحة: نسيكة؛ لذلك"(23).
تمتع : " المُتُوع: الامتداد والارتفاع، والمتاع: انتفاعٌ ممتد الوقت"(24)، "ومعنى التَّمَتُع: التلذذ، يقال: تَمَتَّعَ بالشيء، أي: تَلَذَّذَ به، والمتاع: كل شيء يُتمتع به، وأصله من قولهم: حبلٌ ماتع، أي:

طويل. وكل من طالت صحبته بالشيء، فهو متمتع به"(25)، ومُتعة الحج: ضمّ العمرة إليه .
يجد : "من الوُجد، وهو الطَّول والقدرة"(26) .
واتقوا : "الوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضرّه، والتقوى: جعل النفس في وقاية مما يُخاف، هذا تحقيقه، ثم يسمى الخوف تارة تقوى، وصارت التقوى في تعارف الشرع: حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور"(27) .

التفسير والبيان

وأتموا الحج والعمرة لله  : أمر من الله تعالى للمؤمنين بأن يُتِمُّوا الحج والعمرة، واختلف المفسرون في معنى الإتمام على أقوال(28)، أهمها قولان :
1. أن الآية ليست بياناً لوجوب أصل الحجّ والعمرة، وإنما هي أمر بالإتمام على مَن شرع فيهما، وهذا ما عليه جمهور المفسرين(29) .
2. أن الآية بيان لوجوب أصل الحجّ والعمرة، فهي أمر بالوجوب ابتداءً على نعت الكمال والتمام، أي أن يأتوا بهما تامّين كاملين بمناسكهما وشرائطهما، وقد قال بهذا القول الإمام الرازي(30) .
ويبدو لي أن الراجح ما عليه الجمهور؛ لأن الظروف التي أحاطت بنزول الآية تؤيد أن المقصودَ الإتمامُ بعد الشروع في العمل، فقد جاءت الآية لترشدهم إلى كيفية الخروج من الوضع الذي قد تلبسوا فيه، وهو الإحرام؛ وذلك لأن المسلمين صُدُّوا عن البيت بعد أن أحرموا، والإحرام شروع في أعمال الحج والعمرة، فتضمنت الآية أمراً عاماً بوجوب إتمام الحج والعمرة على من شرع فيهما، ثم بينت المخرج لمن طرأ له مانع يمنعه من الإتمام، قال أبو السعود: "وأتموا الحج والعمرة لله : بيان لوجوب إتمام أفعالهما عند التصدي لأدائهما، وإرشاد الناس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المُخِلَّة بذلك من الإحصار ونحوه، من غير تعرّضٍ لحالهما أنفسهما من الوجوب وعدمه، كما في قوله تعالى: ثم أتموا الصيام إلى الليل [البقرة :187]، فإنه بيان لوجوب مدّ الصيام إلى الليل من غير تعرّضٍ لوجوب أصله، وإنما هو بقوله تعالى: كتب عليكم الصيام [البقرة :183]، كما أن وجوب الحج بقوله تعالى: ولله على الناس حج البيت [آل عمران :97]، فإن الأمر بإتمام فعل من الأفعال ليس أمراً بأصله ولا مستلزماً له أصلاً، فليس فيه دليل على وجوب العمرة قطعاً(1)، … فالمعنى: أكملوا أركانهما وشرائطهما وسائر أفعالهما المعروفة شرعاً لوجه الله تعالى من غير إخلال منكم بشيء منها .."(31) .
ثم ذكر تعالى أنه مَن أُحصِر، أي مُنع من عدو أو مرض أو نحوه(32) عن إتمام الحج أو العمرة، فعليه أن ينحر ما تيسر له من الهدي ويحلّ من إحرامه في موضعه الذي بلغه: فإنْ أُحصرتم فما استيسر من الهدي، وقد روى الإمام البخاري في صحيحه أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كان يقول: أليس حسبكم سنة رسول الله  ؟ إنْ حُبس أحدكم عن الحج، طاف بالبيت وبالصفا وبالمروة، ثم حلّ من كل شيء، حتى يحج عاماً قابلاً، فيهدي، أو يصوم إنْ لم يجد هدياً(33)، "والمقصود من هذا الذبح تحصيل بعض مصالح الحج بقدر الإمكان، فإذا فاتت المناسك لا يفوت ما ينفع فقراء مكة ومن حولها"(34) .
ثم نهى ـ تعالى ـ عن حلق الرأس حتى يبلغ الهدي محله: ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله، والمعروف أن محله هو الحرم؛ لقوله تعالى: ثم محلها إلى البيت العتيق [الحج :33]، هدياً بالغ الكعبة [المائدة:95] .
واختلف المفسرون في الجملة التي عُطف عليها قوله: ولا تحلقوا، فذهب جمهورهـم إلى أنه
عطف على فإنْ أحصرتم، فهو خطاب للمحصرين، قال شيخ المفسرين: "فإنْ أُحصرتم فأردتم الإحلال من إحرامكم، فعليكم ما استيسر من الهدي، ولا تحلوا من إحرامكم إذا أُحصرتم حتى يبلغ الهدي ـ الذي أوجبته عليكم لإحلالكم من إحرامكم الذي أُحصرتم فيه قبل تمامه وانقضاء مشاعره ومناسكه ـ محلّه؛ وذلك أن حلق الرأس إحلال من الإحرام الذي كان المحرم قد أوجبه على نفسه، فنهاه الله عن الإحلال من إحرامه بحلاقة حتى يبلغ الهدي ـ الذي أباح الله له الإحلال جلّ ثناؤه بإهدائه ـ محله"(35).
وعلّل الألوسي هذا الوجه قائلاً: "المقامُ مقامُ بيان طريق خروج المحصر عن الإحرام، لا مقام كل ما يجب عليه، ولم يُعلم من الآية حكم غير المحصر عبارةً، كما عُلم حكم المحصَر من عدم جواز الحلّ له قبل بلوغ الهدي، ويُستفاد ذلك بدلالة النصّ، وجَعْلُ الخطاب عاماً للمحصَر وغيره بناءً على عطف ولا تحلقوا على قوله سبحانه: وأتموا، لا على فما استيسر يقتضي بتر النظم؛ لأن فإذا أمنتم عطف على فإنْ أُحصرتم كما لا يخفى"(36) .
وخالف الإمام ابن كثير هذا الرأي، وجعل قوله تعالى: ولا تحلقوا رؤوسكم عطفاً على قوله: وأتموا الحج والعمرة لله، لا على: فإنْ أُحصرتم، واحتج بأن النبي وأصحابه ـ عام الحديبية ـ لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق حتى يبلغ الهدي محله ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة(37)، وتبعه في هذا الأستاذ سيد قطب حيث يرى أن الأمر بعدم الحلق عام، وليس مقتصراً على وجود الإحصار(38) .
وتُردّ حجة الإمام ابن كثير بما ذكره الإمام الزمخشري: "فإنْ قلتَ: إن النبي  نحر هديه حيث أُحصر، قلتُ: كان محصَرُه طرفَ الحديبية الذي إلى أسفل مكة، وهو من الحرم"(39)، فإذا عُلِم أن الحديبية التي أُحصر فيها النبي وأصحابه من الحرم فلا يبقى هناك مانع من عطف قوله تعالى: ولا تحلقوا على قوله: فإنْ أُحصرتم .
ولما غيّا الحلق ببلوغ الهدي محله، وكان قد يعرض للإنسان ما يقتضي حلق رأسه لمرض أو أذى
برأسه، رخّص الله له الحلق، وأوجب عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك: فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك، والأذى: كناية عن الوسخ الشديد والقمل، لكراهية التصريح بالقمل .
وبيّن رسول الله  ما انبهم من الإطلاق في قوله تعالى: ففدية من صيام أو صدقة أو نسك، حيث روى الإمام البخاري عن كعب بن عجرة(40) أنه قال: وقف عَلَيَّ رسول الله  بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً، فقال: " أيؤذيك هوامُّك ؟ "، قلت: نعم، قال: "فاحلق رأسك"، أو قال: "فاحلق"، قال: فيَّ نزلت هذه الآية: فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك  [البقرة:196]، إلى آخرها، فقال النبي  : "صم ثلاثة أيام، أو تصدّق بِفَرَقٍ(41) بين ستة، أو انسُك بما تيسر"(42) .
فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة : روى الإمام البخاري عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: " أليس حسبكم سنة رسول الله ؟ إنْ حُبِس أحدكم عن الحجّ، طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلّ من كل شيء، حتى يحج عاماً قابلاً، فيهدي، أو يصوم إنْ لم يجد هدياً"(43) .
أي فإذا تمكنتم من أداء المناسك فمَن كان منكم متمتعاً بالعمرة إلى الحج ـ وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولاً، فلما فرغ منها أحرم بالحج ـ ، فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وإنْ تعذر عليه ذبح الهدي لفقدانه أو لتعذر ثمنه، يلزمه صيام ثلاثة أيام في الحج، أي في زمن وقوع الحج، وسبعةٍ إذا رجع إلى أهله ووطنه، وصيام هذه الأيام العشرة يعادل في الثواب ذبح الهدي لمن لم يتيسر له الذبح .
" وفُسِّر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين؛ لأن حق العمرة أن تُفرد بسفرٍ غير سفر الحجّ، وقيل: لتمتعه ـ بكل ما لا يجوز فعله ـ من وقت حلّه من العمرة إلى وقت إنشاء الحج"(44) .
ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام : ذلك : إشارة إلى أقرب مذكور، وهو لزوم الهدي أو بدله على المتمتع، هذا عند الشافعي  ، فالهدي يلزم المتمتع إذا كان آفاقياً؛ لأن الواجب أن يحرم عن الحج من الميقات، فلما أحرم من الميقات عن العمرة، ثم أحرم عن الحج لا من الميقات، فقد حصل هناك الخلل، فجُعلَ مجبوراً بالدم، والمكي لا يجب إحرامه من الميقات، فإقدامه على التمتع لا يوجب خللاً في حجّه، فلا يجب عليه الهدي ولا بدله"(45)، واحتج أصحاب هذا الرأي بأن اسم الإشارة ذلك يعود إلى أقرب مذكور في السياق(46).
ويرى أبو حنيفة  أن قوله: ذلك إشارة إلى الأبعد، وهو ذكر التمتع؛ إذ لا متعة ولا قِران لحاضري المسجد؛ لأن شرعهما للترفه بإسقاط إحدى السفرتين، وهذا في حق الآفاقي، لا في حق أهل مكة ومَن في حكمهم(47) .
وحجّة أصحاب هذا الرأي أن (اللام) في قوله تعالى: لمن لم يكن تجيء مع الرخص، فتقول: لك أن تفعل كذا، وأما مع الواجبات، فتقول: عليك، وردّوا القول الأول بأن الإشارة لو كانت للهدي أو بدله لأتى بـ(على) دون (اللام) في قوله: لمن لم يكن ؛ لأن الهدي وبدله واجب على المتمتع، وجعلُ (اللام) بمعنى (على) خلاف الظاهر(48).
والذي يظهر أن اسم الإشارة ذلك يعود إلى لزوم الهدي أو بدله؛ لأنه الأقرب في السياق ـ كما تقدم ـ، ولا يلزم من هذا خروج (اللام) عن ظاهرها، فهي هنا على بابها للتخصيص، والمعنى: هذا الحكم مختص بمن كان أهله حاضري المسجد الحرام.
وحاضرو المسجد الحرام هم أهل بلدة مكة وما جاورها، واختُلف في تحديد ما جاورها(49).
واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب : خُتمت الآية بالوصاية بتقوى الله: واتقوا الله بطاعته فيما ألزمكم من فرائضه وحدوده، واحذروا أن تعتدوا في ذلك وتتجاوزوا فيما يبين لكم من مناسككم، فتستحلوا ما حرّم فيها عليكم، واعلموا : تيقنوا أنه تعالى شديد العقاب لمن انتهك محارمه، والأمر بالتقوى عام في كل عمل، والحج أجدر أفراد العموم ؛ لأن الكلام فيه .

[line]
(1) الآيات (216-218) من سورة البقرة .
(2) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (تمّ).
(3) الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مادة (تمّ)، وينظر: السمين الحلبي، عمدة الحفاظ، مادة (تمم)، والفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، (72:2) ، وأحمد رضا، معجم متن اللغة، مادة (تمّ) .
(4) الفراهيدي، العين، مادة (حجّ)، وينظر: الزبيدي، تاج العروس، مادة (حجج) .
(5) المناوي، التوقيف على مهمات التعاريف، ص(268) .
(6) ينظر: الهروي، الغريبين، مادة (حجج)، والشريف الجرجاني، التعريفات، ص(72) .
(7) ينظر: السجستاني، غريب القرآن، ص(185).
(8) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (عَمَرَ) .
(9) ابن عاشور، التحرير والتنوير، (219:2).
(10) ينظر: ابن فارس، معجم المقاييس، مادة (حَصَرَ )، وينظر: الهروي، الغريبين، مادة (حصر).
(11) الزمخشري، الكشاف، (237:1).
(12) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، (76:2) .
(13) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (يسر) .
(14) الَّلّطف (بالتحريك) : التحفة والهدية، وكلمة (بَعْثَة) مهملة النقط في الأصل، وهي المرة من البعث. (من تحقيق عبد السلام هارون على معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، مادة (هدي) .
(15) ابن فارس، معجم المقاييس، مادة (هدي)، وينظر: الهروي، الغريبين، مادة (هدى).
(16) ينظر: ابن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، مادة (حلل) .
(17) ينظر: الفراهيدي، العين، مادة (حلّ) .
(18) المرجع السابق، مادة (أذي)، وابن سيدة، المحكم والمحيط الأعظم، مادة (ذأى) مقلوبه (أذى)، (121:10) .
(19) أحمد رضا، معجم متن اللغة، مادة (فدي) .
(20) السمين الحلبي، عمدة الحفاظ، مادة (فدي) .
(21) الجوهري، الصحاح، مادة (نسك).
(22) ينظر: الزمخشري، أساس البلاغة، مادة (نَسَكَ) .
(23) السمين الحلبي، الدر المصون، (487:1) .
(24) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (متع) .
(25) ابن عادل الحنبلي، اللباب في علوم الكتاب، (377:3) .
(26) البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، (371:1) .
(27) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (وقى)، وينظر: الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، (299:2) .
(28) من هذه الأقوال : التمام ظاهراً بأداء المناسك على وجهها، وباطناً بالإخلاص لله تعالى وحده، أو التمام أن تفردوا لكلٍ من الحجّ والعمرة سفراً، أو أن تخلصوهما للعبادة لا تشوبوهما بشيء من الأغراض الدنيوية، أو أن تجعلوا نفقتهما حلالاً... للتوسع، ينظر: الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، (248:2،252)، وابن العربي، أحكام القرآن، (165:1)، والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن، (343:2) وابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (237:1).
(29) ينظر ـ مثلاً ـ : الطبري، جامع البيان، (252:2)، والألوسي، روح المعاني، (475:1)، وسيد قطب، في ظلال القرآن، (279:1)، وابن عاشور، التحرير والتنوير، (217:2).
(29) الرازي، التفسير الكبير، (296:2).
(30) في وجوب العمرة خلاف فقهي، للتوسع ينظر : القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، (368:2) .
(31) تفسير أبي السعود، (206:1) .
(32) فرّق الفرّاء بين الحصر والإحصار، فجعل الإحصار للمنع الذي يكون من الخوف أو المرض، والحصر فيما يكون من جهة العدو. ينظر: الفراء، معاني القرآن، (117:1)، وتبعه في هذا كلٍّ من: الزجاج، معاني القرآن وإعرابه، (267:1)، والشهاب الخفاجي، عناية القاضي وكفاية الراضي، (485:2)، بينما يرى الزمخشري أن الإحصار منعٌ في كل شيء، ولا يختصّ بالخوف والمرض، وكذلك الحصر. ينظر: الكشاف، (237:1)، وسوّى أبو حيان بينهما كذلك، وحمل الآية على المنع في كل شيء، وأن حادثة منع المشركين للمسلمين في الحديبية وردت على أحد مطلقات الإحصار. ينظر: البحر المحيط، (256:2)، ورجح الرازي أنه إحصار العدو فقط، ولا يقاس عليه منع المرض، وذكر لهذا أدلة. ينظر: التفسير الكبير، (302:2-303).
وللترجيح بين هذه الآراء، أقول: إن الحصر والإحصار سواء ـ كما يرى الكثير من العلماء ـ، وتكون صيغة الإفعال في (إحصار) لإفادة الصيرورة أو الوجدان، أي: صاروا محصورين، أو وجدوا محصورين .
(33) صحيح البخاري، كتاب المحصَر، باب الإحصار في الحجّ، رقم الحديث: (1810)، ص(291) .
(34) ابن عاشور ، التحرير والتنوير، (224:2) .
(35) الطبري، جامع البيان، (264:2)، ووافقه على هذا معظم المفسرين، منهم: الزمخشري، الكشاف، (238:1)، والآلوسي، روح المعاني، (477:1).
(36) الألوسي، روح المعاني، (478:1).
(37) ينظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (239:1) .
(38) ينظر: سيد قطب، في ظلال القرآن، (280:1) .
(39) الزمخشري، الكشاف، (238:1) .
(40) هو كعب بن عجرة الأنصاري السالمي المدني، من أهل بيعة الرضوان، له عدة أحاديث، مات سنة (52)هـ. الذهبي، سير أعلام النبلاء، (239:4) .
(41) الفَرَق أو الفَرْق: فُسّر في رواية أخرى بثلاثة آصع، والصاع: مكيال لأهل المدينة .
(42) صحيح البخاري، كتاب المحصَر، باب قول الله تعالى: أو صدقة، رقم الحديث: (1815)، ص(292)، وينظر: الواحدي، أسباب النزول، ص(60).
(43) سبق تخريجه، ص(84) من الرسالة .
(44) أبو حيان، البحر المحيط، (263:2) .
(45) ينظر: الكيا الهراسي، أحكام القرآن، (100:1) .
(46) ينظر: الرازي، التفسير الكبير، (312:2)، وابن عاشور، التحرير والتنوير، (229:2).
(47) ينظر: الجصاص، أحكام القرآن، (358:1).
(48) ينظر: ابن عطية، المحرر الوجيز، (118:2)، وأبو حيان، البحر المحيط، (270:2)، والألوسي، روح المعاني، (480:1) .
(49) للتوسع ينظر: ابن العربي، أحكام القرآن، (178:1).
 
(الحَجُّ أشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ فَمَنْ فَرَضَ فِيْهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوْقَ وَلا جِدَالَ في الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوْا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُوْنِ يَا أولى الألبَابِ)


مناسبة الآية لما قبلها


استئناف ابتدائي للتفصيل في أحكام الحجّ، فلما أمر الله تعالى بإتمام الحج والعمرة، مضى في الحديث عن الحجّ خاصة، فبيّن وقته وآدابه، ثم انتهى إلى التقوى كما انتهى إليها في الآية السابقة، ويجوز أن يكون الاستئناف بيانياً، على تقدير سؤال قد يرد على الذهن بعد سماع الآية الأولى، وهو: هذا أمر بإتمام الحجّ والعمرة، وبيان بعض الأحكام المتعلقة بهما، فمتى تُفعل هذه المناسك ؟ فقال تعالى: الحج أشهر معلومات .

مفردات الآية

فَرَضَ : الفَرْضُ هو التأثير في شيء من حزٍّ أو غيره، فالفَرْضُ: الحزُّ في الشيء(1)، "والتأثير فيه كضرب الحديد"(2)، "ومنه فرض الصلاة وغيرها؛ لأنها لازمة للعبد كلزوم الحزّ للشيء"(3)، وقال ابن فارس: "ومن الباب اشتقاق الفَرْضِ الذي أوجبه الله تعالى، وسمّي بذلك لأن له معالم وحدوداً"(4) .

رَفَثَ : الرَّفَثُ كل كلام يستحيا من إظهاره، وأصله الرَّفَثُ وهو النكاح، والرَّفَث: الفحش في الكلام(5).

فُسُوقَ : فَسَقَ فِسْقاً وفُسوقاً، والفِسْقُ هو الخروج، "فَسَقَ فلانٌ: خَرَجَ عن حِجْر الشرع، وذلك من قولهم: فَسَقَ الرُّطب، إذا خَرَجَ عن قشره"(6) .

جِدَالَ : أصل الباب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه ، وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام(7)، وقال ابن منظور: "الجَدْل: شدة الفتل، والجَدَل: اللدد في الخصومة والقدرة عليها"(8)، وشدة الفتل واللدد في الخصومة يعودان إلى باب استحكام الشيء، ومنه الجِدال؛ فكأن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه، وقيل: أصله من القوة، فكأن كلاً من المتجادلين يقوّي قوله ويُضَعِّفُ قولَ صاحبه(9)، وقيل: مشتق من الجَدَالَة، وهي الأرض، كأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه، حتى يغلبه ويسقطه على الجَدَالَة وهي الأرض الصُّلبة(10) .
والفتل ، والقوة ، والأرض الصُّلبة ، كلها تعود إلى أصل الباب وهو الاستحكام .

تَزَوَّدُوا : الزيادة أن ينضم إلى ما عليه الشيء في نفسه شيء آخر، والزَّادُ: المدّخر الزائد على ما يُحتاج إليه من القوت(11)، والتَّزَوّد: إعدادُ الزَّادِ، وهو تَفَعُّلٌ مشتق من اسم جامد، وهو الزاد، كما يقال: تعمّم وتقمّص، أي: جعل ذلك معه(12).

الألباب : "اللُّبّ (بالضم): السَّم أوالسُّم، وفي لسان العرب عن أبي الحسن: وربما سمي سم الحية لُبّاً، واللُّبّ: خَالِصُ كلِّ شيءٍ، كاللُّباب (بالضم أيضاً)، و(من النخل): جوفُه، وقد غلب على ما يؤكل داخله، ويرمى خارجه من الثمر، ومن المجاز: لُبُّ الرجل: وهو ما جُعِل في قلبه من العقل؛ سمّي به لأنه خلاصة الإنسان، أو أنه لا يُسمّى ذلك إلا إذا خَلَص من الهوى وشوائب الأوهام، فعلى هذا هو أخص من العقل "(13)، "فكل لبٍّ عقلٌ، وليس كلُّ عقلٍ لبّاً؛ ولهذا علق الله تعالى الأحكام التي لا يدركها إلا العقول الزكية بأولي الألباب"(14)، وفي معجم مقاييس اللغة دلالة أخرى للّبّ بالإضافة إلى الخلوص والجودة، وهي اللزوم والثبات(15) .

التفسير والبيان

بينت هذه الآية أن للحج وقتاً معلوماً عند الناس، وأن وقته أشهر معلومات، وهذه الأشهر هي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فقررت الآية ما كان معروفاً عند العرب.

ثم أخبر تعالى أن مَن ألزم نفسه بالحج فيهـن ـ أي في هذه الأشهر ـ بالتلبية أو بتقليد الهدي وسوقه، عند الإمام أبي حنيفة، وبالنية ـ أي الإحرام ـ عند الإمام الشافعي(16)، فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل، "فنهاه عن مفسِد الحج مما كان جائزاً قبله، وما كان غير جائز مطلقاً ليسوي بين التحريمين، وإن كان أحدهما مؤقتاً، والآخر ليس بمؤقت"(17) .

واختلفوا في معنى (الرفث)، فقال قوم هو الجماع، كقول الله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم  [البقرة :187]، وقال آخرون: هو ذكر الجماع إما إطلاقاً وإمـا في حضرة النساء. وجمع قوم بين القولين، فقالوا: فلا رفث: الجماع وما دونه من التعريض به(18).
والظاهر أن المراد هنا الرفث على عموم معانيه؛ لعدم ورود الخبر بتخصيص معنى فيه، وهذا ما قاله الطبري شيخ المفسرين؛ إذ لا يجوز نقل حكم ظاهر آية إلى تأويل باطن، إلا بحجة ثابتة(19) .

والنهي عن الرفث مع جوازه في غير أشهر الحجّ؛ لما يكون عليه الحاج من حال العبادة والخشوع والترفع عن الملذات، وهذه الحال تتنافى مع إتيان الشهوات، فالنهي عنه وعما ذكر بعده من الفسوق والجدال" ينتهي إلى ترك كل ما ينافي حالة التحرج، والتجرد لله في هذه الفترة، والارتفاع على دواعي الأرض، والرياضة الروحية على التعلق بالله دون سواه، والتأدب الواجب في بيته الحرام لمن قصد إليه متجرداً حتى من مخيط الثياب"(20) .

أما (الفسوق) ففيه أقوال كذلك :
القول الأول : يتضمن تفسيرات لـ(الفسوق) تجتمع في أنها تحمله على جزئية معينة، فقيل: هو السباب؛ لقول الرسول : "سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر"(21)، وقيل: المراد منه: التنابز بالألقاب؛ احتجاجاً بقوله تعالى: ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان  [الحجرات : 11]، وقيل: هو الإيذاء؛ لقول الله تعالى: ولا يُضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم [البقرة:282] .

القول الثاني : تخصيص (الفسوق) بارتكاب ما نُهي الحاج عنه في الإحرام من قتل الصيد، وحلق الشعر، وقلم الأظفار، ونحو ذلك .
وقد انفرد الإمام ابن جرير بهذا القول ـ على ما أعلم ـ؛ محتجاً بأن (الرفث) حرام في الإحرام، حلالٌ قبله، قال رحمه الله: "ولا فسوق، أي: لا يفعل ما نهاه الله عن فعله في حال إحرامه، ولا يخرج عن طاعة الله في إحرامه، وقد علمنا أن الله جل ثناؤه قد حرم معاصيه على كل أحد، مُحرِماً كان أو غير مُحرِم، وكذلك حرّم التنابز بالألقاب في حال الإحرام وغيرها، بقوله: ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب [الحجرات :11]، وحرم على المسلم سباب أخيه في كل حال، فَرَض الحج أو لم يفرضه.
فإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي نهى الله عنه العبدَ من الفسوق في حال إحرامه وفرضه الحجّ، هو ما لم يكن فسوقاً في حال إحلاله وقبل إحرامه بحجّه، كما أن الرفث الذي نهاه عنه في حال فرضه الحجّ، هو الذي كان له مطلقاً قبل إحرامه؛ لأنه لا معنى لأن يُقال فيما قد حرم الله على خلقه في كل الأحوال: "لا يفعلن أحدكم في حال الإحرام ما هو حرام عليه فعله في كل حال"؛ لأن خصوص حال الإحرام به لا وجه له، وقد عُمّ به جميع الأحوال من الإحلال والإحرام .
فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذي نُهِيَ عنه المحرم من (الفسوق) فخُصّ به حال إحرامه، وقيل: "إذا فرضت الحجّ، فلا تفعله"، هو الذي كان له مطلقاً قبل حال فرضه الحجّ، وذلك هو ما وصفنا وذكرنا، أن الله جلّ ثناؤه خص بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه مما نهاه عنه: من الطيب واللباس، والحلق، وقصّ الأظفار، وقتل الصيد، وسائر ما خص الله بالنهي عنه المحرِم في حال إحرامه"(22).

القول الثالث يحمل (الفسوق) على المعاصي بأشكالها، قال الإمام الرازي: "فاعلم أن الفِسْقَ والفُسُوقَ واحد، وهما مصدران لـ(فَسَقَ) (يَفْسُقُ)، والفسوق هو الخروج عن الطاعة"(23)، فالفسوق "يتناول المعاصي كلها، وحمل اللفظ على بعض أنواع الفسق تحكم من غير دليل"(24) .

وهذا هو القول الراجح لديّ؛ لأنه ليس هناك ما يخصص المقصود من (الفسوق)، وما قاله الإمام الطبري من أن المقصود محلِّلات الإحرام، فتدخل دخولاً أولياً في عموم المعاصي، وأما النهي عن الفسوق ـ الذي هو المعاصي بعمومها ـ في الحجّ على الرغم من حرمته قبل الحجّ؛ فلأن النهي عنه في هذا الظرف آكد؛ لما يكون عليه الحاج من حالة إيمانية تفسدها هذه المعاصي، ويقال هذا في النهي عن الجدال.

ولا جدال في الحج : نهي عن المجادلة والمخاصمة والمراء، وقيل: هو خبر عن انتفاء الجدال في موضع الحجّ، أو وقته، فقد رفع الله الجدال في الوجهين بين الخلق وأبطله إلى يوم القيامة، وهذا تعريض بالحُمْس(25)الذين خالفوا بقية الناس في بعـض المناسك، والتقدير: ولا جدال في موضع الحـجّ، أو: ولا جدال في وقت الحجّ(26).
ومن قال بالقول الأول جعل الجار في الحجّ متعلق بخبر محذوف يعود على المنهيات الثلاثة، ومن قال بالثاني جعله متعلقاً بالنهي عن الجدال فحسب .

والراجح هو القول الأول؛ لانسجام النهي عن الجدال مع باقي المنهيات المتقدمة، ولأن المحذوف وهو الخبر مفهوم من السياق، بخلاف القول الثاني، فإن المحذوف لا يفهم إلا من الروايات التي تذكر وجود خلاف في موضع الحج بين الحمس وغيرهم . ومن قال بالثاني كان غرضه الخروجَ من قضية أن الجدال منهيّ عنه قبل الإحرام، فلا وجه لتخصيصه في الحجّ، فقالوا بأن المقصود: نفي الجدال في موضع الحج ووقته .

وإذ قد تبيّن أن التزام هذه الآداب آكد في الحجّ، فقد صحّ حمل (لا) على النهي دون النفي. ويخرج من دائرة النهي عن الجدال الجدالُ بالحقّ، بل الواجب على المحرم الجدال فيما يراه باطلاً .

ثم لما نهى تعالى عن القبيح قولاً وفعلاً، حثّهم على فعل الخير على عمومه، ليستبدلوا القبيح بالحسن، "أو جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم، حتى لا يوجد منهم ما نُهوا عنه، وينصره قوله تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى "(27) .

ثم أمرهم بالتزوّد لعاجل سفرهم ولآجله، وأخبر تعالى ـ مرشداً ومؤكداً ـ أن خير الزاد اتقاء عذابه بالابتعاد عن القبائح وفعل الحسنات، " ثم نادى ذوي العقول، الذين هم أهل الخطاب، وأمرهم باتقاء عقابه؛ لأنه قد تقدم ذكر المناهي، فناسب أن ينتهوا إلى اتقاء عذاب الله بالمخالفة فيما نهى عنه"(28).

" والظاهر من اللبّ أنه لبّ مناط التكليف، فيكون عاماً، لا اللبّ الذي هو مكتسب بالتجارب فيكون خاصاً؛ لأن المأمور باتقاء الله هم جميع المكلفين"(29) .
[line]
(1) ينظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (فرض) .
(2) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (فرض) .
(3) الرازي عن ابن الأعرابي، التفسير الكبير، (315:2) .
(4) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (فرض) .
(5) ينظر: المرجع السابق، مادة (رفث)، وينظر: والهروي، الغريبين، مادة (رفث)، الزبيدي، تاج العروس، مادة (رفث).
(6) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (فسق) .
(7) ينظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (جدل) .
(8) ابن منظور، لسان العرب، مادة (جدل) .
(9) ينظر: السمين الحلبي، عمدة الحفاظ، مادة (جدل) .
(10) ينظر: الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (جدل) .
(11) ينظر: المرجع السابق، مادة (زاد) .
(12) ينظر: ابن عاشور، التحرير والتنوير، (235:2) .
(13) الزبيدي، تاج العروس، مادة (لبب).
(14) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (لبّ) .
(15) ينظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (لبّ) .
(16) ينظر: الرازي، التفسير الكبير، (316:2) .
(17) أبو حيان، البحر المحيط، (314:2) .
(18) ينظر هذان الوجهان: ابن الجوزي، زاد المسير، (211:1) .
(19) ينظر: الطبري، جامع البيان، (322:2) .
(20) سيد قطب، في ظلال القرآن، (282:1) .
(21) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يَحبطَ عمله وهو لا يشعر، رقم الحديث: (48)، ص(11) .
(22) الطبري، جامع البيان، (327:2) .
(23) الرازي، التفسير الكبير، (317:2) .
(24) حاشية شيخ زادة، (485:2) .
(25) الحُمْس هم قريش ومن دان دينها، وسموا بـ(الحُمُس)؛ لأنهم تحمسوا في دينهم، أي تشددوا. ينظر : شرح النووي على صحيح مسلم، كتاب الحجّ، باب حجّة النبي أفيضوا من حيث أفاض الناس ، رقم الحديث: (1219)، ج3، ص(351).
(26) ينظر : الطبري، جامع البيان، (332:2)، وابن العربي، أحكام القرآن، (182:1) .
(27) الزمخشري، الكشاف، (241:1) .
(28) أبو حيان، البحر المحيط ، (314:2) .
(29) المرجع السابق، (292:2) .
 
( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوْا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإذَا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوْهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّيْنَ )


مناسبة الآية لما قبلها

لما ذكر تعالى في الآية السابقة أموراً تنافي المقصودَ من الحجّ، وحثّهم على فعل الخير، سارع إلى بيان حكم التجارة؛ لأنهم كانوا يتحرجون منها في أيام الحجّ، فنفى أن يكون عليهم حرج إن تاجروا في تلك الأيام الشريفة، قال المراغي في بيان المناسبة: "جاء هذا كالاستدراك والاحتراس مما عساه يسبق إلى الفهم من منع التجارة في الحجّ؛ ذاك أن الآيات السابقة أرشدت إلى حرمة الرفث والفسوق والجدال في الحجّ، والتجارةُ تفضي إلى الجدال والنزاع في قيم السلع قلةً وكثرة، فعقّب ذلك ببيان حكمها، وأبان أن الكسب في أيام الحج مع ملاحظة أنه فضل من الله غيرُ محظور؛ لأنه لا ينافي الإخلاصَ في هذه العبادة، وإنما الذي ينافيها أن يكون القصدُ التجارةَ فحسب، بحيث لو لم يرجُ الكسبَ لم يسافر للحجّ"(1) .


مفردات الآية

جناح : أصل الكلمة يدل على الميل والعدوان(2)، "جَنَحَ الطائر جُنُوحَاً، أي: كسر من جناحيه، ثم أقبل كالواقع اللاجئ إلى موضع"(3)، والجُنَاح: الميل إلى الإثم، وقيل: هو الإثم عامة، سُمي بذلك لميله عن الحق(4) .

أفضتم : فاضَ الماءُ يفيض : سَالَ في كثرة وانصباب، وأفاضَ الماءَ على نفسِه: أَفْرَغَهُ(5)، "والإفاضةُ: الانخراطُ والاندفاعُ والخروجُ من المكان بكثرة، شُبّه بفيض الماء والدمع، فأفاضَ من (فيض) لا من (فوض)، وهو اختلاط الناس بلا سايسٍ يسوسُهم"(6).

عرفات : "موقف الحاج في تاسع ذي الحجة ببطن نَعمان . . . ويوم عرفة يوم الوقوف، وهو اسم في لفظ الجمع فلا يُجمع، وهي معرفة وإن كانت جمعاً؛ لأن الأماكن لا تزول، فصارت كالشيء الواحد"(7).

المشعر : أصل (شَعَرَ) يدل على عِلْم وعَلَم، ومنه الشعار، وهو ما يتنادى به القوم في الحرب ليعرف بعضهم بعضاً، والأصل قولهم: شَعَرْتُ بالشيء إذا علمتُه وفطنتُ له، وليت شعري، أي: ليتني علمتُ، ومشاعر الحجّ: مواضع المناسك، سُمّيت بذلك؛ لأنها معالم الحجّ، وسمّى الله ذلك الموضع بالمشعر الحرام؛ لأنه معلمٌ من معالم الحجّ(8).

الضالين : الضلال: العدول عن الطريق المستقيم، ويضاده: الهداية، ويقال الضلال لكل عدول عن المنهج عمداً كان أو سهواً، يسيراً كان أو كثيراً (9) .

التفسير والبيان

رفعت الآية الكريمة الحرج عمن ابتغى فضلاً بتجارة، أو عمل بكسب أثناء وقت الحجّ؛ وذلك أنهم كانوا يتحرجون من هذا؛ لظنهم أن الحاج عليه أن يشغل وقته كلَّه بالعبادة، روى الإمام البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: " كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتأثموا أن يتّجروا في المواسم، فنزلت:  ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج"(10)، أي: لستم تأثمون في أن تطلبوا فضلاً من ربكم، "أي عطاء منه وتفضلاً، وهو النفع والربح بالتجارة"(11)، وقيّد العلماء رفع الإثم بمن لم يشتغل بالتجارة عن العبادة الواجبة .

" ثم أمرهم تعالى بذكره عند المشعر الحرام إذا أفاضوا من عرفات، ليَرجعهم بذكره إلى الاشتغال بأفعال الحجّ، لئلا يستغرقهم التعلقُّ بالتجارات والمكاسب"(12) .

ويمكن فهم قوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام في ضوء ما ورد من فعل النبي ، فقد جاء في حديث جابر بن عبد الله ـ في صحيح مسلم ـ أن الرسول وقف بعرفة، "فلم يزل واقفاً ـ يعني بعرفة ـ حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص، وأردف أسامةَ خلفه، ودَفَع رسول الله  وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رَحْلِه، ويقول بيده اليمنى: "يا أيها الناس .. السكينةَ السكينةَ"، كلما أتى حبلاً من الحبال(13) أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يُسَبِّح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله  حتى طَلَع الفجر حتى تبين له الصبحُ بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبّره وهلّله ووحّده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدَفَعَ قبل أن تطلع الشمس"(14).

وأفضتم: دفعتم بكثرة، وأصله: أفضتم أنفسكم، فحذف المفعول، وخروجهم من عرفة يحدث في وقت واحد، وهم كثير، فيدفع بعضهم بعضاً بشدة، ويظهر هذا في الحديث السابق، حتى إن رسول الله  دعاهم للسكينة .

والمفسرون في تعيين المشعر الحرام على قولين، الأول: أن المشعر الحرام هو (المزدلفة)، ويقال لها أيضاً (جَمْع)(15)، والثاني وهو رأي صاحب الكشاف أنه جبل يقف عليه الإمام، ويسمى (قُزَح)(16)، واستدل بما ورد في حديث جابر أنه  لما صلّى الفجر بالمزدلفة ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام، وهذا يدل على التغاير بين المزدلفة والمشعر الحرام .

وفي الحقيقة لا تعارض بين القولين؛ ذلك أن جبل (قُزَح) في المزدلفة، وإطلاق (المشعر الحرام) عليه في الحديث على تقدير مضاف، أي: جبل المشعر الحرام، أو بتسمية الجزء باسم الكلّ(17)، فالمزدلفة كلها مشعر، ولو كان المشعر الحرام هو ذلك الجبل لكان في هذا صعوبة بالغة على الناس، لعدم تمكُّنهم جميعاً من الوصول إليه.

وعند المشعر الحرام : ما يليه ويقرب منه، وسمي بالحرام لحرمته. والذكر المأمور به عند المشعر الحرام هو ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل، وقيل: الصلاة به دون فعلها بالطريق(18)، والصلاة والتسبيح مما يحتمله النظم الكريم وفعل النبي .

ثم أمرهم الله عزّ وجلّ بذكره كما علمهم، فقـال: واذكروه كما هداكم، أي على النحو الذي بيّنه لكم دون العدول عنه، أو هو أمر بالذكر شكراً له تعالى على نعمة الهداية إلى الإيمان بعد الضلال، أو هو أمر بالذكر الحسن كما هداهم هداية حسنة، وقال ابن الحاجب في الأمالي النحوية: إن الكاف نعت لمصدر محذوف، أي: واذكروه ذكراً مثل ما هداكم(19) .

وقال أبو حيان: "واذكروه كما هداكم: هذا الأمر الثاني هو الأول، وكُرّر على سبيل التوكيد والمبالغة في الأمر بالذكر؛ لأن الذكر من أفضل العبادات، أو غير الأول، فيراد به تعلقه بتوحيد الله، أي: واذكروه بتوحيده كما هداكم بهدايته، أو اتصال الذكر، لمعنى: اذكروه ذكراً بعد ذكر"(20) .

والضمير في قبله يعود إلى (الهدى) المأخوذ من ما المصدرية والفعل، والمراد بالضلال هنا إما عدم المعرفة بمناسك الحجّ وشعائره إن كان المرادُ بالهدى تعليمَ المناسك، أو عبادة الأصنام إن كان المراد بالهدى نعمة الإيمان، وكلاهما فيه عدول عن المنهج .


( ثُمَّ أفِيْضُوا مِنْ حَيْثُ أفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ )

مناسبة الآية لما قبلها

لما أمرهم الله عزّ وجلّ بالذكر عند الإفاضة من عرفات، أمرهم بأن يفيضوا من المكان الذي جرت عادة الناس أن يفيضوا منه، وهو عرفات، فالإفاضة المذكورة في الآية السابقة يجب أن تكون من عرفات لا من مكان آخر، ورَبَطَ بين الآيتين بحرف (ثم) الذي يفيد هنا الترتيب في الذكر لا في الزمان.


التفسير والبيان

ورد في صحيح البخاري حديث موقوف على السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ ، فسّرت فيه هذه الآية، قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسمّون (الحُمْس)، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام، أمر الله نبيه أن يأتي عرفات، ثم يقفَ بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس (21) .
فهذا أمر لجميع المسلمين بالإفاضة من عرفات لا من المزدلفة، والحُمْس يدخلون في هذا الخطاب دخولاً أولياً لِما كانوا عليه من الترفع والتعالي اللذين يتنافيان مع المساواة التي أرادها الإسلام من فريضة الحجّ .

والمراد بـالناس : "الجنس كما هو ظاهر، أي من حيث أفاض الناس كلهم قديماً وحديثاً"(22)، وثم تخرج عن أصل موضوعها العربي من أنها تقتضي التراخي في زمان الفعل السابق، فقد قال: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم . . . ثم أفيضوا الإفاضة قد تقدمت، وأُمروا بالذكر إذا أفاضوا، فكيف يؤمر بها بعد ذلك بـثم التي تقتضي التراخي في الزمان ؟

وتوضيح هذا من وجوه :
أحدها : أن ذلك من الترتيب الذي في الذكر، لا من الترتيب في الزمان الواقع فيه الأفعال، وحسّن هذا أن الإفاضة السابقة لم يكن مأموراً بها، إنما كان المأمور به ذكر الله إذا فُعلت، والأمر بالذكر عند فعلها لا يدلّ على الأمر بها، فكأنه قيل: ثم لتكن تلك الإفاضة من عرفات لا من المزدلفة كما تفعله الحُمْس، وزعم بعضهم أن ثم هنا بمعنى الواو، فهي لعطف كلام على كلام مقتطع من الأول، وقد جوّز بعض النحويين أن (ثم) تأتي بمعنى الواو، فلا ترتيب .
وقد حمل بعض الناس ثم هنا على أصلها من الترتيب بأن جعل في الكلام تقديماً وتأخيراً، فجعل ثم أفيضوا معطوفاً على قوله: واتقون يا أولي الألباب، كأنه قيل: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم فإذا أفضتم من عرفات، وعلى هذا تكون هذه الإفاضة المشروط بها تلك الإفاضة المأمور بها. لكن التقديم والتأخير هو مما يختص بالضرورة، وننزه القرآن عن حمله عليه، وقد أمكن ذلك بجعل ثم للترتيب في الذكر لا في الفعل الواقع بالنسبة للزمان(23) .

ثم حثّهم تعالى على استغفاره، والاستغفار هو طلب المغفرة التي هي تغطية الذنوب وسترها، إن الله سبحانه وتعالى غفور رحيم: يغفر ذنوب المستغفرين، ويسبغ عليهم رحمته .


[line]
(1) تفسير المراغي، (272:1) .
(2) ينظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (جنح) .
(3) الفراهيدي، العين، مادة (جنح).
(4) ينظر: ابن سيدة، المحكم والمحيط الأعظم، (86:3)، مادة (ح ج ن) مقلوبه (ج ن ح )، وابن منظور، لسان العرب، مادة (جنح) .
(5) الفيروز آبادي، بصائر ذوي التمييز، (222:4) .
(6) أبو حيان، البحر المحيط، (274:2) .
(7) الفيروز آبادي، بصائر ذوي التمييز، (57:4).
(8) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (شعر) .
(9) ينظر: الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (ضلّ) .
(10) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم، رقم الحديث (4519)، ص(786).
(11) الزمخشري، الكشاف، (242:1).
(12) أبو حيان، البحر المحيط، (314:2) .
(13) الحبال هنا بالحاء المهملة المكسورة، جمع (حبل)، وهو التلّ اللطيف من الرمل الضخم. شرح النووي على صحيح مسلم، كتاب الحجّ، باب حجة النبي حتى أتى المزدلفة صلى بها المغرب والعشاء، رقم الحديث (1218) ، ج(3)، ص(342).
(14) صحيح مسلم، كتاب الحجّ، باب حجة النبي حتى أتى المزدلفة صلى بها المغرب والعشاء، رقم الحديث (1218)، ج(3)، ص(342).
(15) ممن قال بهذا الزجاج في (معاني القرآن)، (273:1)، وابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (249:1)، وسيد قطب، في ظلال القرآن، (286:1)، وابن عاشور، التحرير والتنوير، (240:2) .
(16) الزمخشري، الكشاف، (243:1) ، وقال البيضاوي بهذا القول أيضاً، ينظر: أنوار التنزيل، (131:1) .
(17) ينظر: القاسمي عن السيلكوتي، محاسن التأويل، (505:1) .
(18) ينظر: ابن العربي، أحكام القرآن، (186:1)، والرازي، التفسير الكبير، (329:2) .
(19) ينظر: ابن الحاجب، الأمالي النحوية، (211:1) .
(20) أبو حيان، البحر المحيط، (298:2) .
(21) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، رقم الحديث: (4520)، ص(768) .
(22) الألوسي، روح المعاني، (485:1) .
(23) ينظر: أبو حيان، البحرالمحيط، (301:2) .
 
فَإذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوْا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أو أشَدَّ ذِكْرَاً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُوْلُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيْبٌ مِمَّا كَسَبُوْا وَاللهُ سَرِيْعُ الحِسَابِ (202)

مناسبة الآيات لما قبلها


في مناسبة هذه الآيات قال البقاعي: "ولما أمرهم بالذكر في المناسك، وكان الإنسان فيها بصدد الذكر أمرهم بالذكر بعد قضائها؛ لأن من فرغ من العبادة كان بصدد أن يستريح فيفتر عن الذكر إلى غيره، وكانت عادتهم أن يذكروا بعد فراغهم مفاخر آبائهم، فقال: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكراً فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق(1).
هذا قسم من الناس يريد الدنيا فحسب، وهناك قسم آخر يجمع بين طلب الدنيا والآخرة، وبيّن تعالى أن لكل قسم نصيباً من جنس ما كسب .


مفردات الآيات


قضيتم : القضاءُ إحكامُ أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته(2)، "واعلم أن القضاء إذا عُلّق بفعل النفس، فالمراد به الإتمام والفراغ، وإذا عُلّق على فعل الغير، فالمراد به الإلزام، نظير الأول قوله تعالى: فقضاهن سبع سموات في يومين [فصلت:12]، ونظير الثاني قوله تعالى: وقضى ربك [الإسراء:23]، وإذا استعمل في الإعـلام، فالمـراد أيضاً ذلك، كقـوله: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب [الإسـراء:4]، يعـني :
أعلمناهم"(3).

مناسككم : تقدم بيان أصل معنى (نَسَك) في مفردات الآية الأولى، و"المناسك جمع (منسَك) الذي هو المصدر بمنزلة النسك، أي إذا قضيتم عبـاداتكم التي أمرتم بها في الحجّ. وإن جعلناها جمع (منسك) الـذي هو موضع العبادة، كان التقدير: فإذا قضيتم أعمال مناسككم، فيكون من باب حذف المضاف"(4).

خلاق : للكلمة أصلان، أحدهما: تقديرُ الشيء، والآخر: النصيب، وقد قُدّر لكل أحد نصيبه(5)، وقال ابن عاشور: "الخلاق: هو الحظّ من الخير والنفيس، مشتق من الخلاقة وهي الجدارة، يقال: خلُق بالشيء ـ بضم اللام ـ إذا كان جديراً به"(6)، ولهذا قالوا: الخلاق هو النصيب من الخير على وجه الاستحقاق(7).

نصيب : أصل الكلمة يدلّ على إقامة شيء وإهداف في استواء، والنصيب: الحظّ من الشيء، وهو من هذا كأنه الشيء الذي رُفع لك وأهدف(8) .


التفسير والبيان

فإذا قضيتم مناسككم : فإذا فرغتم من عباداتكم المتعلقة بالحجّ، فأكثروا من ذكر الله، وليكن ذكركم له تعالى أشد من ذكركم مآثر آبائكم ومفاخرهم، "ولما كان الإنسان كثيراً ما يذكر أباه ويثني عليه بما أسلفه من كريم المآثر، وكان ذلك عندهم الغاية في الذكر، مثّل ذكر الله بذلك الذكر، ثم أكّد مطلوبية المبالغة في الذكر بقوله: أو أشدّ؛ ليُفهم أن ما مثّل به أولاً ليس إلا على طريق ضرب المثل لهم؛ والمقصود أن لا يغفلوا عن ذكر الله تعالى طرفة عين"(9)، وفي هذا توجيه لهم نحو الأجدر والأولى .

ثم قسّم الناس من حيث الذكر والدعاء قسمين: قسم ينصرف همّه إلى الدنيا فلا يسأل إلا في أمر دنياه، ويغفل أمر الآخرة، فلا يدعو الله أن يؤتيه الخير فيها، على الرغم من وجوده في أعظم المواقف، فقوله:  وما له في الآخرة من خلاق بيان لحاله في الدنيا، وتأكيد لقصر دعائه على المطالب الدنيوية، أي: وما له في الآخرة من طلب خلاق، ويجوز أن يكون بيان لحاله في الآخرة، أي: والحال أنه ليس له حظّ في الآخرة لاقتصار همه على الدنيا(10)، وكلاهما يحتمله النظم الكريم .

وقسم يطلب في دعائه خير الدارين، وأن يقيه عذاب النار، فيقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

ولم يخصص الله تعالى من معاني الحسنة شيئاً، فقد تجمع الرزق الواسع والعافية في الجسد والعلم النافع...، ولا نصّب على خصوصه دلالةً دالّة على أن المراد بـ(الحسنة) بعض دون بعض، فلا يجوز التخصيص، بل يُحكم بالعموم على ما عمّه الله، أما في الآخرة فلا شكّ أن الحسنة فيها هي الجنّة؛ لأن من لم ينلها يومئذٍ فقد حُرِم جميع الحسنات وفارق جميع معاني العافية(11) .

وتتضمّن الآية الأولى تنفيراً من أن ينتظم المسلم في سلك من لا يطلب إلا الدنيا ويغفل الآخرة، وتتضمن الآية الثانية ترغيباً وحثّاً على الانتظام في سلك الفريق الثاني، وهاتان الآيتان تُذكِّران بقوله تعالى: مَن كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً كلاً نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً [الإسراء:18-20]، وقوله تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [الشورى:20] .

ثم قال: أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب : " أولئك الداعون بالحسنتين لهم نصيب مما كسبوا أي نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة، وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة، أو من أجل ما كسبوا، كقوله: مما خطيئاتهم أغرقوا [نوح:25] . . . ويجوز أن يكون أولئك للفريقين جميعاً، وأن لكل فريق نصيباً مما كسبوا.
والله سريع الحساب يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد، فبادروا إلى إكثار الذكر وطلب الآخرة، أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم؛ ليدل على كمال قدرته، ووجوب الحذر منه"(12) .

[line]
(1) البقاعي، نظم الدرر، (379:1) .
(2) ينظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (قضي) .
(3) ينظر: الرازي، التفسير الكبير، (333:2) .
(4) المرجع السابق، (333:2) .
(5) ينظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادى (خلق) .
(6) ابن عاشور، التحرير والتنوير، (247:2) .
(7) ينظر: الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مادة (خلق).
(8) ينظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (نصب) .
(9) أبو حيان، البحر المحيط، (314:2).
(10) ينظر: أبو السعود، إرشاد العقل السليم، (209:1) .
(11) ينظر: الطبري، جامع البيان، (363:2) .
(12) باختصار: الزمخسري، الكشاف، (246:1) .
 
وَاذْكُرُوا اللهَ في أيَّامٍ مِعْدُوْدَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَومَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىَ وَاتَّقُوْا اللهَ وَاعْلَمُوْا أنَّكُمْ إليْهِ تُحْشَرُوْنَ (203)


مناسبة الآية لما قبلها

لا زال الحديث في الحجّ وفي أعمال الحجّ، ومجيء الأمر بالذكر هنا ظاهر، فالناس ـ بعد يوم العيد ـ يخلعون ملابس الإحرام ويُشغَلون بالأحاديث العادية والأمور العامة، ظنّاً منهم أن الأمر قد انتهى، والحقيقة أن أيام منى من أيام الحج فيجب أن يبقى ذكر الله فيها متواصلاً، ولا يُشغل عنه بتلك الأمور.


مفردات الآية


معدودات : العَدّ : الإحصاء(1)، "يقال: شيء معدود ومحصور للقليل، مقابلة لما لا يُحصى كثرة"(2).

تعجّل : العَجَلَة تدلّ على الإسراع(3)، "العَجَلَةُ: طلبُ الشيء وتحرّيه قبل أوانه"(4) .

إثم : الإثمُ البطءُ والتأخر، والإثم مشتق من ذلك؛ لأن ذا الإثم بطيء عن الخير، متأخر عنه(5).

تحشرون : الحشرُ السَّوقُ والبعث والانبعاث، وأهل اللغة يقولون: الحشرُ: الجمعُ مع سَوق، وكل جمع حشر(6) .

التفسير والبيان

أمر الله عزّ وجلّ بذكره مرة أخرى، وهذه المرة الرابعة التي يأمر الله بذكره في هذه المجموعة من الآيات.
والأيام المعدودات هي أيام منى الثلاثة بعد يوم النحر(7)، واختُلف في جعل يوم النحر من الأيام المعدودات(8)، والمعنى: أمرهم الله تعالى بذكره في أيام إقامتهم بمنى، وهي أيام رمي الجمرات، وهو أن يذكروا الله بالتكبير عند الرمي، وحين ينحرون الهدايا، وغير ذلك من أوقات الحجّ .

ثم نفى الإثم عمّن استعجل وطلب الخروج من منى فاكتفى برمي الجمار في يومين، وعمّن تأخر عن الخروج حتى رمى في اليوم الثالث إن اتقى الله في حجّه، قال الإمام الطبري: "فمن تعجل في يومين من أيام منى الثلاثة فنفر في اليوم الثاني فلا إثم عليه لحطّ الله ذنوبه إنْ كان قد اتقى الله في حجّه، فاجتنب فيه ما أمره الله باجتنابه، وفعل فيه ما أمره الله بفعله، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدود، ومن تأخر إلى اليوم الثالث منهن، فلم ينفر إلى النفر الثاني حتى نفر من غد النفر الأول فلا إثم عليه لتكفير الله له ما سلف من آثامه وأجرامه، إنْ كان اتقى الله في حجّه بأدائه حدوده"(9).

وبعد هذه التوجيهات المشتملة على الأوامر والنواهي والتفصيلات المتعلقة بأعمال الحجّ ذكّرهم مجدداً بوجوب اتقائه، والحذر من التهاون في شيء من الأحكام، وأكّد لهم رجوعهم إليه وحشرهم يوم القيامة للحساب، فقال: واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون.

[line]
(1) ينظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (عدّ) .
(2) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (عدّ) .
(3) ينظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (عجل) .
(4) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (عجل) .
(5) ينظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (إثم) .
(6) ينظر: المرجع السابق، مادة (حشر) .
(7) ينظر: الطبري، جامع البيان، (365:2) .
(8) ينظر الخلاف في تفسير ابن كثير، (252:1) .
(9) الطبري، جامع البيان، (373:2) .

(انتهى)​
 
أثابكم الله على المرور والتعليق. وسدد على الخير خطاكم.
 
[


زادك الله علما وفهما ونفع بك الإسلام



تقبلوا خالص تحياتي
أخوكم
 
السلام عيكم الإخوة الأجلاء العلماء مشكورون بجهدكم الجبار لخدمة كتاب الله العزيز
أرجو منكم الإفادة والإجابة عن سؤال استشكلته كثيرأ
وهي لو قرأنا قصة ولادة موسى ، نرى في القرآن توجيه الخطاب إلى أم موسى.
إذاً هل كان موسى يتيما توفي أبوه قبل الولادة ؟ أم هناك مناسبة أخرى لتوجيه الخطاب لأم موسى ؟
وشكراً
 
أكرمكم الله . . ووفقكم إلى كل خير
 
عودة
أعلى