بمناسبة أجواء الحج التي نعيشها هذه الأيام أحببت أن أضع بين أيديكم تفسيراً لآيات الحج التي وردت في سورة البقرة، اقتبستها من رسالتي الماجستير، واقتصرت على بيان معناها هنا دون الحديث عن جمال نظمها؛ اختصاراً ... أرجو أن تنال إعجابكم...
وَأتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ فَإنْ أحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أو بِهِ أذىً مِنْ رَأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ فَإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلىَ الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ في الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوْا أنَّ اللهَ شَدِيْدُ العِقَابِ (196) الحَجُّ أشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ فَمَنْ فَرَضَ فِيْهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوْقَ وَلا جِدَالَ في الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوْا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُوْنِ يَا أولى الألبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوْا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإذَا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوْهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّيْنَ (198) ثُمَّ أفِيْضُوا مِنْ حَيْثُ أفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ (199) فَإذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوْا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أو أشَدَّ ذِكْرَاً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُوْلُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيْبٌ مِمَّا كَسَبُوْا وَاللهُ سَرِيْعُ الحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللهَ في أيَّامٍ مِعْدُوْدَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَومَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىَ وَاتَّقُوْا اللهَ وَاعْلَمُوْا أنَّكُمْ إليْهِ تُحْشَرُوْنَ (203) [البقرة]
وأتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ فَإنْ أحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوْسَكُمْ حَتَّىَ يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضَاً أو بِهِ أذَىً مِنْ رَأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ فَإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلىَ الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ في الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوْا أنَّ اللهَ شَدِيْدُ العِقَابِ
مناسبة الآية لما قبلها
جاءت هذه الآية ـ وما بعدها ـ ضمن سياق ملتئم، لتأخذ موقعاً فيه، فتتصل بما قبلها اتصالاً وثيقاً ظاهراً، فقد بينت الآيات السابقة أحكام الصيام، ثم ذكرت سؤال المسلمين عن حكمة اختلاف الأهلة، وأجابت عليه بأن الأهلة مواقيت يُعرف بها وقت الحجّ، ثم ورد الحديث عن القتال؛ لِما انتاب المسلمين من خوف مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم؛ ذلك أنهم أرادوا العمرة وصدّهم المشركون، ثم صالحوهم على أن يرجعوا من عامهم ذلك ثم يأتوا القابل، فخاف المسلمون من غدر المشركين وأن يُضطروا لقتالهم في الأشهر الحرم، فبيّن الله تعالى لهم أحكام القتال إنْ تحققت مخاوفهم، وتلا ذلك حديث عن الحج وأحكامه.
وعلى هذا يمكن ربط آيات الحج بالسياق من أوجه عدّة: فذكر الحج وأحكامه بعد أحكام الصيام؛ لأن شهور الحج بعد شهر الصيام، كما أن في السياق حديثاً عن الأهلة والمواقيت، والحج لا يؤدّى إلا بوقت معين يُعرف من خلال حركة الهلال، وجاء في الآيات بيان حكم القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام، وإنما يؤدى الحج في تلك الأشهر، وتُقام مناسكه في ذلك المسجد، وفي هذا إشارة إلى المسلمين بأن دفاعهم عن المسجد الحرام أمرٌ لا بدّ منه؛ ليتسنى لهم القيام بمناسكهم على أتم وجه، ودون أن يمنعهم أحد من إقامة شعائرهم، حتى لو اضطرهم هذا لقتال الكافرين في الشهر الحرام، أو عند المسجد الحرام، ويؤيد هذا ما جاء لاحقاً في السياق من حديث عن القتال وبخاصة في الشهر الحرام(1)، فآيات الحج محاطة بذكر القتال؛ بياناً لأهميته في تمكين المسلمين من إتمام عبادتهم .
مفردات الآية
وأتموا : "التاء والميم أصل واحد، وهو دليل الكمال، يقال: تمّ الشيء، إذا كمُل"(2)، "والتمام ضد النقصان، وهو عبارة عن انتهاء الشيء إلى حدٍّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه"(3) .
الحجّ : ذكر الفراهيدي في العين أن"الحجُّ: كثرة القصد إلى من يُعَظَّم"(4)، وقال المُناوي: "الحجّ ترداد القصد إلى ما يُراد خيره وبِرّه"(5)، ثم اختُص بهذا الاسم قصد بيت الله تعالى بصفة مخصوصة، في وقت مخصوص، بشرائط مخصوصة(6)، وذكر السجستاني أن الحَجّ مصدر، والحِجّ اسم(7) .
تضمّن كلام الفراهيدي والمناوي ملحظين، أولهما أن الحج هو القصد، وثانيهما أنه متكرر، وكأنهما التفتا إلى هذا التكرير في صوت الجيم، فجمعا بين الدلالة اللغوية: (القصد)، والدلالة الصوتية: (التكرير) .
العمرة : تطلق العُمْرَة في عُرف الشرع على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج، وأصلها اللغوي قد يكون من "العَوْمَرة، وهي الصياح والجلبة، يقال: اعْتَمَرَ الرجلُ، إذا أهلّ بِعُمْرَتِه، وذلك رفعه صوتَه بالتلبية للعمرة"(8)، وقد يكون من "التَّعْمِير، وهو شغل المكان، ضد الإخلاء"(9)، وكلا الأصلين محتمل.
أُحصرتم : الحَصْرُ: الجمعُ والحبس والمنع(10)، "يقال: أُحْصِرَ فلان، إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز، قال الله تعالى:الذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيْلِ اللهِ [البقرة : 273]، وحُصِر: إذا حبسه عدوّ عن المضي، أو سُجن ... وهما بمعنى المنع في كل شيء، مثل: صدّه وأصدّه"(11) .
استيسر : "الاستيسار: صيرورة الشيء يسيراً غيرَ عسير، كأنه يجلب اليُسْر لنفسه"(12)، "واليْسْرُ
ضد العسر، وتَيَسَّرَ كذا واسْتَيْسَرَ، أي: تَسَهَّل وتهيّأ"(13) .
الهدي : "الهاء والدال والحرف المعتل، أصلان: أحدهما التقدم والإرشاد، والآخر: بَعْثَةُ لَطَفٍ(14)، فالأول قولهم: هديته الطريق هداية، أي تقدمته لأرشده، وكل متقدم لذلك هادٍ . . . والأصل الآخر: الهَدِيَّة: ما أهديتَ من لَطَفٍ إلى ذي مودة، والهَدْيُ والهِدِيُّ: ما أُهديَ من النَّعَم إلى الحرم قربة إلى الله تعالى"(15) .
مَحِلَّه : مَحِلُّ الهَدْيِ: الموضع الذي يحلّ فيه نحره(16)، أما المَحَلُّ: فهو نقيض المُرْتَحل، وهو مصدر كالحلول(17) .
أذى : "الأذى: كل ما تأذيت به، ورجل أذيٌّ: أي شديد التأذي"(18) .
فدية : "افْتَدَى به، وافتدى منه بكذا: استنقذه بماله، وافتدى: بذل المال في فداء نفسه، واسم المال: الفدية"(19) . وفي عرف الشرع: "ما يفتدي الإنسان به نفسَه من مال يبذله في عبادة يقصّر فيها، وهي الكفارة بعينها"(20) .
نُسُك : قال في الصحاح: "نسكتُ الشيء: غَسَلْتُه بالماء وطهّرتُه، فهو مَنْسُوك"(21)، ونَسَكَ لله ينسِك: ذبح لوجهه نُسُكاً ومَنْسَكاً، والنَّسيكة: الذبيحة، ثم تطورت دلالة الكلمة لتدل على العبادة(22)، فالذبيحة التي يُتقرب بها إلى الله تُسمّى نسيكة، " قال ابن الأعرابي: النسيكة في الأصل سبيكة الفضة، تسمى العبادة بها؛ لأن العبادة مُشبِهة سبيكة الفضة في صفائها وخلوصها من الآثام، وكذلك سمّي العابد ناسكاً، وقيل للذبيحة: نسيكة؛ لذلك"(23).
تمتع : " المُتُوع: الامتداد والارتفاع، والمتاع: انتفاعٌ ممتد الوقت"(24)، "ومعنى التَّمَتُع: التلذذ، يقال: تَمَتَّعَ بالشيء، أي: تَلَذَّذَ به، والمتاع: كل شيء يُتمتع به، وأصله من قولهم: حبلٌ ماتع، أي:
طويل. وكل من طالت صحبته بالشيء، فهو متمتع به"(25)، ومُتعة الحج: ضمّ العمرة إليه .
يجد : "من الوُجد، وهو الطَّول والقدرة"(26) .
واتقوا : "الوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضرّه، والتقوى: جعل النفس في وقاية مما يُخاف، هذا تحقيقه، ثم يسمى الخوف تارة تقوى، وصارت التقوى في تعارف الشرع: حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور"(27) .
التفسير والبيان
وأتموا الحج والعمرة لله : أمر من الله تعالى للمؤمنين بأن يُتِمُّوا الحج والعمرة، واختلف المفسرون في معنى الإتمام على أقوال(28)، أهمها قولان :
1. أن الآية ليست بياناً لوجوب أصل الحجّ والعمرة، وإنما هي أمر بالإتمام على مَن شرع فيهما، وهذا ما عليه جمهور المفسرين(29) .
2. أن الآية بيان لوجوب أصل الحجّ والعمرة، فهي أمر بالوجوب ابتداءً على نعت الكمال والتمام، أي أن يأتوا بهما تامّين كاملين بمناسكهما وشرائطهما، وقد قال بهذا القول الإمام الرازي(30) .
ويبدو لي أن الراجح ما عليه الجمهور؛ لأن الظروف التي أحاطت بنزول الآية تؤيد أن المقصودَ الإتمامُ بعد الشروع في العمل، فقد جاءت الآية لترشدهم إلى كيفية الخروج من الوضع الذي قد تلبسوا فيه، وهو الإحرام؛ وذلك لأن المسلمين صُدُّوا عن البيت بعد أن أحرموا، والإحرام شروع في أعمال الحج والعمرة، فتضمنت الآية أمراً عاماً بوجوب إتمام الحج والعمرة على من شرع فيهما، ثم بينت المخرج لمن طرأ له مانع يمنعه من الإتمام، قال أبو السعود: "وأتموا الحج والعمرة لله : بيان لوجوب إتمام أفعالهما عند التصدي لأدائهما، وإرشاد الناس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المُخِلَّة بذلك من الإحصار ونحوه، من غير تعرّضٍ لحالهما أنفسهما من الوجوب وعدمه، كما في قوله تعالى: ثم أتموا الصيام إلى الليل [البقرة :187]، فإنه بيان لوجوب مدّ الصيام إلى الليل من غير تعرّضٍ لوجوب أصله، وإنما هو بقوله تعالى: كتب عليكم الصيام [البقرة :183]، كما أن وجوب الحج بقوله تعالى: ولله على الناس حج البيت [آل عمران :97]، فإن الأمر بإتمام فعل من الأفعال ليس أمراً بأصله ولا مستلزماً له أصلاً، فليس فيه دليل على وجوب العمرة قطعاً(1)، … فالمعنى: أكملوا أركانهما وشرائطهما وسائر أفعالهما المعروفة شرعاً لوجه الله تعالى من غير إخلال منكم بشيء منها .."(31) .
ثم ذكر تعالى أنه مَن أُحصِر، أي مُنع من عدو أو مرض أو نحوه(32) عن إتمام الحج أو العمرة، فعليه أن ينحر ما تيسر له من الهدي ويحلّ من إحرامه في موضعه الذي بلغه: فإنْ أُحصرتم فما استيسر من الهدي، وقد روى الإمام البخاري في صحيحه أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كان يقول: أليس حسبكم سنة رسول الله ؟ إنْ حُبس أحدكم عن الحج، طاف بالبيت وبالصفا وبالمروة، ثم حلّ من كل شيء، حتى يحج عاماً قابلاً، فيهدي، أو يصوم إنْ لم يجد هدياً(33)، "والمقصود من هذا الذبح تحصيل بعض مصالح الحج بقدر الإمكان، فإذا فاتت المناسك لا يفوت ما ينفع فقراء مكة ومن حولها"(34) .
ثم نهى ـ تعالى ـ عن حلق الرأس حتى يبلغ الهدي محله: ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله، والمعروف أن محله هو الحرم؛ لقوله تعالى: ثم محلها إلى البيت العتيق [الحج :33]، هدياً بالغ الكعبة [المائدة:95] .
واختلف المفسرون في الجملة التي عُطف عليها قوله: ولا تحلقوا، فذهب جمهورهـم إلى أنه
عطف على فإنْ أحصرتم، فهو خطاب للمحصرين، قال شيخ المفسرين: "فإنْ أُحصرتم فأردتم الإحلال من إحرامكم، فعليكم ما استيسر من الهدي، ولا تحلوا من إحرامكم إذا أُحصرتم حتى يبلغ الهدي ـ الذي أوجبته عليكم لإحلالكم من إحرامكم الذي أُحصرتم فيه قبل تمامه وانقضاء مشاعره ومناسكه ـ محلّه؛ وذلك أن حلق الرأس إحلال من الإحرام الذي كان المحرم قد أوجبه على نفسه، فنهاه الله عن الإحلال من إحرامه بحلاقة حتى يبلغ الهدي ـ الذي أباح الله له الإحلال جلّ ثناؤه بإهدائه ـ محله"(35).
وعلّل الألوسي هذا الوجه قائلاً: "المقامُ مقامُ بيان طريق خروج المحصر عن الإحرام، لا مقام كل ما يجب عليه، ولم يُعلم من الآية حكم غير المحصر عبارةً، كما عُلم حكم المحصَر من عدم جواز الحلّ له قبل بلوغ الهدي، ويُستفاد ذلك بدلالة النصّ، وجَعْلُ الخطاب عاماً للمحصَر وغيره بناءً على عطف ولا تحلقوا على قوله سبحانه: وأتموا، لا على فما استيسر يقتضي بتر النظم؛ لأن فإذا أمنتم عطف على فإنْ أُحصرتم كما لا يخفى"(36) .
وخالف الإمام ابن كثير هذا الرأي، وجعل قوله تعالى: ولا تحلقوا رؤوسكم عطفاً على قوله: وأتموا الحج والعمرة لله، لا على: فإنْ أُحصرتم، واحتج بأن النبي وأصحابه ـ عام الحديبية ـ لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق حتى يبلغ الهدي محله ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة(37)، وتبعه في هذا الأستاذ سيد قطب حيث يرى أن الأمر بعدم الحلق عام، وليس مقتصراً على وجود الإحصار(38) .
وتُردّ حجة الإمام ابن كثير بما ذكره الإمام الزمخشري: "فإنْ قلتَ: إن النبي نحر هديه حيث أُحصر، قلتُ: كان محصَرُه طرفَ الحديبية الذي إلى أسفل مكة، وهو من الحرم"(39)، فإذا عُلِم أن الحديبية التي أُحصر فيها النبي وأصحابه من الحرم فلا يبقى هناك مانع من عطف قوله تعالى: ولا تحلقوا على قوله: فإنْ أُحصرتم .
ولما غيّا الحلق ببلوغ الهدي محله، وكان قد يعرض للإنسان ما يقتضي حلق رأسه لمرض أو أذى
برأسه، رخّص الله له الحلق، وأوجب عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك: فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك، والأذى: كناية عن الوسخ الشديد والقمل، لكراهية التصريح بالقمل .
وبيّن رسول الله ما انبهم من الإطلاق في قوله تعالى: ففدية من صيام أو صدقة أو نسك، حيث روى الإمام البخاري عن كعب بن عجرة(40) أنه قال: وقف عَلَيَّ رسول الله بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً، فقال: " أيؤذيك هوامُّك ؟ "، قلت: نعم، قال: "فاحلق رأسك"، أو قال: "فاحلق"، قال: فيَّ نزلت هذه الآية: فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [البقرة:196]، إلى آخرها، فقال النبي : "صم ثلاثة أيام، أو تصدّق بِفَرَقٍ(41) بين ستة، أو انسُك بما تيسر"(42) .
فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة : روى الإمام البخاري عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: " أليس حسبكم سنة رسول الله ؟ إنْ حُبِس أحدكم عن الحجّ، طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلّ من كل شيء، حتى يحج عاماً قابلاً، فيهدي، أو يصوم إنْ لم يجد هدياً"(43) .
أي فإذا تمكنتم من أداء المناسك فمَن كان منكم متمتعاً بالعمرة إلى الحج ـ وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولاً، فلما فرغ منها أحرم بالحج ـ ، فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وإنْ تعذر عليه ذبح الهدي لفقدانه أو لتعذر ثمنه، يلزمه صيام ثلاثة أيام في الحج، أي في زمن وقوع الحج، وسبعةٍ إذا رجع إلى أهله ووطنه، وصيام هذه الأيام العشرة يعادل في الثواب ذبح الهدي لمن لم يتيسر له الذبح .
" وفُسِّر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين؛ لأن حق العمرة أن تُفرد بسفرٍ غير سفر الحجّ، وقيل: لتمتعه ـ بكل ما لا يجوز فعله ـ من وقت حلّه من العمرة إلى وقت إنشاء الحج"(44) .
ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام : ذلك : إشارة إلى أقرب مذكور، وهو لزوم الهدي أو بدله على المتمتع، هذا عند الشافعي ، فالهدي يلزم المتمتع إذا كان آفاقياً؛ لأن الواجب أن يحرم عن الحج من الميقات، فلما أحرم من الميقات عن العمرة، ثم أحرم عن الحج لا من الميقات، فقد حصل هناك الخلل، فجُعلَ مجبوراً بالدم، والمكي لا يجب إحرامه من الميقات، فإقدامه على التمتع لا يوجب خللاً في حجّه، فلا يجب عليه الهدي ولا بدله"(45)، واحتج أصحاب هذا الرأي بأن اسم الإشارة ذلك يعود إلى أقرب مذكور في السياق(46).
ويرى أبو حنيفة أن قوله: ذلك إشارة إلى الأبعد، وهو ذكر التمتع؛ إذ لا متعة ولا قِران لحاضري المسجد؛ لأن شرعهما للترفه بإسقاط إحدى السفرتين، وهذا في حق الآفاقي، لا في حق أهل مكة ومَن في حكمهم(47) .
وحجّة أصحاب هذا الرأي أن (اللام) في قوله تعالى: لمن لم يكن تجيء مع الرخص، فتقول: لك أن تفعل كذا، وأما مع الواجبات، فتقول: عليك، وردّوا القول الأول بأن الإشارة لو كانت للهدي أو بدله لأتى بـ(على) دون (اللام) في قوله: لمن لم يكن ؛ لأن الهدي وبدله واجب على المتمتع، وجعلُ (اللام) بمعنى (على) خلاف الظاهر(48).
والذي يظهر أن اسم الإشارة ذلك يعود إلى لزوم الهدي أو بدله؛ لأنه الأقرب في السياق ـ كما تقدم ـ، ولا يلزم من هذا خروج (اللام) عن ظاهرها، فهي هنا على بابها للتخصيص، والمعنى: هذا الحكم مختص بمن كان أهله حاضري المسجد الحرام.
وحاضرو المسجد الحرام هم أهل بلدة مكة وما جاورها، واختُلف في تحديد ما جاورها(49).
واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب : خُتمت الآية بالوصاية بتقوى الله: واتقوا الله بطاعته فيما ألزمكم من فرائضه وحدوده، واحذروا أن تعتدوا في ذلك وتتجاوزوا فيما يبين لكم من مناسككم، فتستحلوا ما حرّم فيها عليكم، واعلموا : تيقنوا أنه تعالى شديد العقاب لمن انتهك محارمه، والأمر بالتقوى عام في كل عمل، والحج أجدر أفراد العموم ؛ لأن الكلام فيه .
[line]
(1) الآيات (216-218) من سورة البقرة .
(2) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (تمّ).
(3) الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مادة (تمّ)، وينظر: السمين الحلبي، عمدة الحفاظ، مادة (تمم)، والفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، (72:2) ، وأحمد رضا، معجم متن اللغة، مادة (تمّ) .
(4) الفراهيدي، العين، مادة (حجّ)، وينظر: الزبيدي، تاج العروس، مادة (حجج) .
(5) المناوي، التوقيف على مهمات التعاريف، ص(268) .
(6) ينظر: الهروي، الغريبين، مادة (حجج)، والشريف الجرجاني، التعريفات، ص(72) .
(7) ينظر: السجستاني، غريب القرآن، ص(185).
(8) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (عَمَرَ) .
(9) ابن عاشور، التحرير والتنوير، (219:2).
(10) ينظر: ابن فارس، معجم المقاييس، مادة (حَصَرَ )، وينظر: الهروي، الغريبين، مادة (حصر).
(11) الزمخشري، الكشاف، (237:1).
(12) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، (76:2) .
(13) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (يسر) .
(14) الَّلّطف (بالتحريك) : التحفة والهدية، وكلمة (بَعْثَة) مهملة النقط في الأصل، وهي المرة من البعث. (من تحقيق عبد السلام هارون على معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، مادة (هدي) .
(15) ابن فارس، معجم المقاييس، مادة (هدي)، وينظر: الهروي، الغريبين، مادة (هدى).
(16) ينظر: ابن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، مادة (حلل) .
(17) ينظر: الفراهيدي، العين، مادة (حلّ) .
(18) المرجع السابق، مادة (أذي)، وابن سيدة، المحكم والمحيط الأعظم، مادة (ذأى) مقلوبه (أذى)، (121:10) .
(19) أحمد رضا، معجم متن اللغة، مادة (فدي) .
(20) السمين الحلبي، عمدة الحفاظ، مادة (فدي) .
(21) الجوهري، الصحاح، مادة (نسك).
(22) ينظر: الزمخشري، أساس البلاغة، مادة (نَسَكَ) .
(23) السمين الحلبي، الدر المصون، (487:1) .
(24) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (متع) .
(25) ابن عادل الحنبلي، اللباب في علوم الكتاب، (377:3) .
(26) البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، (371:1) .
(27) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (وقى)، وينظر: الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، (299:2) .
(28) من هذه الأقوال : التمام ظاهراً بأداء المناسك على وجهها، وباطناً بالإخلاص لله تعالى وحده، أو التمام أن تفردوا لكلٍ من الحجّ والعمرة سفراً، أو أن تخلصوهما للعبادة لا تشوبوهما بشيء من الأغراض الدنيوية، أو أن تجعلوا نفقتهما حلالاً... للتوسع، ينظر: الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، (248:2،252)، وابن العربي، أحكام القرآن، (165:1)، والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن، (343:2) وابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (237:1).
(29) ينظر ـ مثلاً ـ : الطبري، جامع البيان، (252:2)، والألوسي، روح المعاني، (475:1)، وسيد قطب، في ظلال القرآن، (279:1)، وابن عاشور، التحرير والتنوير، (217:2).
(29) الرازي، التفسير الكبير، (296:2).
(30) في وجوب العمرة خلاف فقهي، للتوسع ينظر : القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، (368:2) .
(31) تفسير أبي السعود، (206:1) .
(32) فرّق الفرّاء بين الحصر والإحصار، فجعل الإحصار للمنع الذي يكون من الخوف أو المرض، والحصر فيما يكون من جهة العدو. ينظر: الفراء، معاني القرآن، (117:1)، وتبعه في هذا كلٍّ من: الزجاج، معاني القرآن وإعرابه، (267:1)، والشهاب الخفاجي، عناية القاضي وكفاية الراضي، (485:2)، بينما يرى الزمخشري أن الإحصار منعٌ في كل شيء، ولا يختصّ بالخوف والمرض، وكذلك الحصر. ينظر: الكشاف، (237:1)، وسوّى أبو حيان بينهما كذلك، وحمل الآية على المنع في كل شيء، وأن حادثة منع المشركين للمسلمين في الحديبية وردت على أحد مطلقات الإحصار. ينظر: البحر المحيط، (256:2)، ورجح الرازي أنه إحصار العدو فقط، ولا يقاس عليه منع المرض، وذكر لهذا أدلة. ينظر: التفسير الكبير، (302:2-303).
وللترجيح بين هذه الآراء، أقول: إن الحصر والإحصار سواء ـ كما يرى الكثير من العلماء ـ، وتكون صيغة الإفعال في (إحصار) لإفادة الصيرورة أو الوجدان، أي: صاروا محصورين، أو وجدوا محصورين .
(33) صحيح البخاري، كتاب المحصَر، باب الإحصار في الحجّ، رقم الحديث: (1810)، ص(291) .
(34) ابن عاشور ، التحرير والتنوير، (224:2) .
(35) الطبري، جامع البيان، (264:2)، ووافقه على هذا معظم المفسرين، منهم: الزمخشري، الكشاف، (238:1)، والآلوسي، روح المعاني، (477:1).
(36) الألوسي، روح المعاني، (478:1).
(37) ينظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (239:1) .
(38) ينظر: سيد قطب، في ظلال القرآن، (280:1) .
(39) الزمخشري، الكشاف، (238:1) .
(40) هو كعب بن عجرة الأنصاري السالمي المدني، من أهل بيعة الرضوان، له عدة أحاديث، مات سنة (52)هـ. الذهبي، سير أعلام النبلاء، (239:4) .
(41) الفَرَق أو الفَرْق: فُسّر في رواية أخرى بثلاثة آصع، والصاع: مكيال لأهل المدينة .
(42) صحيح البخاري، كتاب المحصَر، باب قول الله تعالى: أو صدقة، رقم الحديث: (1815)، ص(292)، وينظر: الواحدي، أسباب النزول، ص(60).
(43) سبق تخريجه، ص(84) من الرسالة .
(44) أبو حيان، البحر المحيط، (263:2) .
(45) ينظر: الكيا الهراسي، أحكام القرآن، (100:1) .
(46) ينظر: الرازي، التفسير الكبير، (312:2)، وابن عاشور، التحرير والتنوير، (229:2).
(47) ينظر: الجصاص، أحكام القرآن، (358:1).
(48) ينظر: ابن عطية، المحرر الوجيز، (118:2)، وأبو حيان، البحر المحيط، (270:2)، والألوسي، روح المعاني، (480:1) .
(49) للتوسع ينظر: ابن العربي، أحكام القرآن، (178:1).
~*¤ô§ô¤*~*¤ô§ô¤*~****~*¤ô§ô¤*~*¤ô§ô¤*~
وَأتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ فَإنْ أحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أو بِهِ أذىً مِنْ رَأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ فَإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلىَ الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ في الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوْا أنَّ اللهَ شَدِيْدُ العِقَابِ (196) الحَجُّ أشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ فَمَنْ فَرَضَ فِيْهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوْقَ وَلا جِدَالَ في الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوْا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُوْنِ يَا أولى الألبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوْا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإذَا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوْهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّيْنَ (198) ثُمَّ أفِيْضُوا مِنْ حَيْثُ أفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ (199) فَإذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوْا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أو أشَدَّ ذِكْرَاً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُوْلُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيْبٌ مِمَّا كَسَبُوْا وَاللهُ سَرِيْعُ الحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللهَ في أيَّامٍ مِعْدُوْدَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَومَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىَ وَاتَّقُوْا اللهَ وَاعْلَمُوْا أنَّكُمْ إليْهِ تُحْشَرُوْنَ (203) [البقرة]
وأتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ فَإنْ أحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوْسَكُمْ حَتَّىَ يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضَاً أو بِهِ أذَىً مِنْ رَأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ فَإذَا أمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلىَ الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ في الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوْا أنَّ اللهَ شَدِيْدُ العِقَابِ
مناسبة الآية لما قبلها
جاءت هذه الآية ـ وما بعدها ـ ضمن سياق ملتئم، لتأخذ موقعاً فيه، فتتصل بما قبلها اتصالاً وثيقاً ظاهراً، فقد بينت الآيات السابقة أحكام الصيام، ثم ذكرت سؤال المسلمين عن حكمة اختلاف الأهلة، وأجابت عليه بأن الأهلة مواقيت يُعرف بها وقت الحجّ، ثم ورد الحديث عن القتال؛ لِما انتاب المسلمين من خوف مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم؛ ذلك أنهم أرادوا العمرة وصدّهم المشركون، ثم صالحوهم على أن يرجعوا من عامهم ذلك ثم يأتوا القابل، فخاف المسلمون من غدر المشركين وأن يُضطروا لقتالهم في الأشهر الحرم، فبيّن الله تعالى لهم أحكام القتال إنْ تحققت مخاوفهم، وتلا ذلك حديث عن الحج وأحكامه.
وعلى هذا يمكن ربط آيات الحج بالسياق من أوجه عدّة: فذكر الحج وأحكامه بعد أحكام الصيام؛ لأن شهور الحج بعد شهر الصيام، كما أن في السياق حديثاً عن الأهلة والمواقيت، والحج لا يؤدّى إلا بوقت معين يُعرف من خلال حركة الهلال، وجاء في الآيات بيان حكم القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام، وإنما يؤدى الحج في تلك الأشهر، وتُقام مناسكه في ذلك المسجد، وفي هذا إشارة إلى المسلمين بأن دفاعهم عن المسجد الحرام أمرٌ لا بدّ منه؛ ليتسنى لهم القيام بمناسكهم على أتم وجه، ودون أن يمنعهم أحد من إقامة شعائرهم، حتى لو اضطرهم هذا لقتال الكافرين في الشهر الحرام، أو عند المسجد الحرام، ويؤيد هذا ما جاء لاحقاً في السياق من حديث عن القتال وبخاصة في الشهر الحرام(1)، فآيات الحج محاطة بذكر القتال؛ بياناً لأهميته في تمكين المسلمين من إتمام عبادتهم .
مفردات الآية
وأتموا : "التاء والميم أصل واحد، وهو دليل الكمال، يقال: تمّ الشيء، إذا كمُل"(2)، "والتمام ضد النقصان، وهو عبارة عن انتهاء الشيء إلى حدٍّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه"(3) .
الحجّ : ذكر الفراهيدي في العين أن"الحجُّ: كثرة القصد إلى من يُعَظَّم"(4)، وقال المُناوي: "الحجّ ترداد القصد إلى ما يُراد خيره وبِرّه"(5)، ثم اختُص بهذا الاسم قصد بيت الله تعالى بصفة مخصوصة، في وقت مخصوص، بشرائط مخصوصة(6)، وذكر السجستاني أن الحَجّ مصدر، والحِجّ اسم(7) .
تضمّن كلام الفراهيدي والمناوي ملحظين، أولهما أن الحج هو القصد، وثانيهما أنه متكرر، وكأنهما التفتا إلى هذا التكرير في صوت الجيم، فجمعا بين الدلالة اللغوية: (القصد)، والدلالة الصوتية: (التكرير) .
العمرة : تطلق العُمْرَة في عُرف الشرع على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج، وأصلها اللغوي قد يكون من "العَوْمَرة، وهي الصياح والجلبة، يقال: اعْتَمَرَ الرجلُ، إذا أهلّ بِعُمْرَتِه، وذلك رفعه صوتَه بالتلبية للعمرة"(8)، وقد يكون من "التَّعْمِير، وهو شغل المكان، ضد الإخلاء"(9)، وكلا الأصلين محتمل.
أُحصرتم : الحَصْرُ: الجمعُ والحبس والمنع(10)، "يقال: أُحْصِرَ فلان، إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز، قال الله تعالى:الذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيْلِ اللهِ [البقرة : 273]، وحُصِر: إذا حبسه عدوّ عن المضي، أو سُجن ... وهما بمعنى المنع في كل شيء، مثل: صدّه وأصدّه"(11) .
استيسر : "الاستيسار: صيرورة الشيء يسيراً غيرَ عسير، كأنه يجلب اليُسْر لنفسه"(12)، "واليْسْرُ
ضد العسر، وتَيَسَّرَ كذا واسْتَيْسَرَ، أي: تَسَهَّل وتهيّأ"(13) .
الهدي : "الهاء والدال والحرف المعتل، أصلان: أحدهما التقدم والإرشاد، والآخر: بَعْثَةُ لَطَفٍ(14)، فالأول قولهم: هديته الطريق هداية، أي تقدمته لأرشده، وكل متقدم لذلك هادٍ . . . والأصل الآخر: الهَدِيَّة: ما أهديتَ من لَطَفٍ إلى ذي مودة، والهَدْيُ والهِدِيُّ: ما أُهديَ من النَّعَم إلى الحرم قربة إلى الله تعالى"(15) .
مَحِلَّه : مَحِلُّ الهَدْيِ: الموضع الذي يحلّ فيه نحره(16)، أما المَحَلُّ: فهو نقيض المُرْتَحل، وهو مصدر كالحلول(17) .
أذى : "الأذى: كل ما تأذيت به، ورجل أذيٌّ: أي شديد التأذي"(18) .
فدية : "افْتَدَى به، وافتدى منه بكذا: استنقذه بماله، وافتدى: بذل المال في فداء نفسه، واسم المال: الفدية"(19) . وفي عرف الشرع: "ما يفتدي الإنسان به نفسَه من مال يبذله في عبادة يقصّر فيها، وهي الكفارة بعينها"(20) .
نُسُك : قال في الصحاح: "نسكتُ الشيء: غَسَلْتُه بالماء وطهّرتُه، فهو مَنْسُوك"(21)، ونَسَكَ لله ينسِك: ذبح لوجهه نُسُكاً ومَنْسَكاً، والنَّسيكة: الذبيحة، ثم تطورت دلالة الكلمة لتدل على العبادة(22)، فالذبيحة التي يُتقرب بها إلى الله تُسمّى نسيكة، " قال ابن الأعرابي: النسيكة في الأصل سبيكة الفضة، تسمى العبادة بها؛ لأن العبادة مُشبِهة سبيكة الفضة في صفائها وخلوصها من الآثام، وكذلك سمّي العابد ناسكاً، وقيل للذبيحة: نسيكة؛ لذلك"(23).
تمتع : " المُتُوع: الامتداد والارتفاع، والمتاع: انتفاعٌ ممتد الوقت"(24)، "ومعنى التَّمَتُع: التلذذ، يقال: تَمَتَّعَ بالشيء، أي: تَلَذَّذَ به، والمتاع: كل شيء يُتمتع به، وأصله من قولهم: حبلٌ ماتع، أي:
طويل. وكل من طالت صحبته بالشيء، فهو متمتع به"(25)، ومُتعة الحج: ضمّ العمرة إليه .
يجد : "من الوُجد، وهو الطَّول والقدرة"(26) .
واتقوا : "الوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضرّه، والتقوى: جعل النفس في وقاية مما يُخاف، هذا تحقيقه، ثم يسمى الخوف تارة تقوى، وصارت التقوى في تعارف الشرع: حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور"(27) .
التفسير والبيان
وأتموا الحج والعمرة لله : أمر من الله تعالى للمؤمنين بأن يُتِمُّوا الحج والعمرة، واختلف المفسرون في معنى الإتمام على أقوال(28)، أهمها قولان :
1. أن الآية ليست بياناً لوجوب أصل الحجّ والعمرة، وإنما هي أمر بالإتمام على مَن شرع فيهما، وهذا ما عليه جمهور المفسرين(29) .
2. أن الآية بيان لوجوب أصل الحجّ والعمرة، فهي أمر بالوجوب ابتداءً على نعت الكمال والتمام، أي أن يأتوا بهما تامّين كاملين بمناسكهما وشرائطهما، وقد قال بهذا القول الإمام الرازي(30) .
ويبدو لي أن الراجح ما عليه الجمهور؛ لأن الظروف التي أحاطت بنزول الآية تؤيد أن المقصودَ الإتمامُ بعد الشروع في العمل، فقد جاءت الآية لترشدهم إلى كيفية الخروج من الوضع الذي قد تلبسوا فيه، وهو الإحرام؛ وذلك لأن المسلمين صُدُّوا عن البيت بعد أن أحرموا، والإحرام شروع في أعمال الحج والعمرة، فتضمنت الآية أمراً عاماً بوجوب إتمام الحج والعمرة على من شرع فيهما، ثم بينت المخرج لمن طرأ له مانع يمنعه من الإتمام، قال أبو السعود: "وأتموا الحج والعمرة لله : بيان لوجوب إتمام أفعالهما عند التصدي لأدائهما، وإرشاد الناس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المُخِلَّة بذلك من الإحصار ونحوه، من غير تعرّضٍ لحالهما أنفسهما من الوجوب وعدمه، كما في قوله تعالى: ثم أتموا الصيام إلى الليل [البقرة :187]، فإنه بيان لوجوب مدّ الصيام إلى الليل من غير تعرّضٍ لوجوب أصله، وإنما هو بقوله تعالى: كتب عليكم الصيام [البقرة :183]، كما أن وجوب الحج بقوله تعالى: ولله على الناس حج البيت [آل عمران :97]، فإن الأمر بإتمام فعل من الأفعال ليس أمراً بأصله ولا مستلزماً له أصلاً، فليس فيه دليل على وجوب العمرة قطعاً(1)، … فالمعنى: أكملوا أركانهما وشرائطهما وسائر أفعالهما المعروفة شرعاً لوجه الله تعالى من غير إخلال منكم بشيء منها .."(31) .
ثم ذكر تعالى أنه مَن أُحصِر، أي مُنع من عدو أو مرض أو نحوه(32) عن إتمام الحج أو العمرة، فعليه أن ينحر ما تيسر له من الهدي ويحلّ من إحرامه في موضعه الذي بلغه: فإنْ أُحصرتم فما استيسر من الهدي، وقد روى الإمام البخاري في صحيحه أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كان يقول: أليس حسبكم سنة رسول الله ؟ إنْ حُبس أحدكم عن الحج، طاف بالبيت وبالصفا وبالمروة، ثم حلّ من كل شيء، حتى يحج عاماً قابلاً، فيهدي، أو يصوم إنْ لم يجد هدياً(33)، "والمقصود من هذا الذبح تحصيل بعض مصالح الحج بقدر الإمكان، فإذا فاتت المناسك لا يفوت ما ينفع فقراء مكة ومن حولها"(34) .
ثم نهى ـ تعالى ـ عن حلق الرأس حتى يبلغ الهدي محله: ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله، والمعروف أن محله هو الحرم؛ لقوله تعالى: ثم محلها إلى البيت العتيق [الحج :33]، هدياً بالغ الكعبة [المائدة:95] .
واختلف المفسرون في الجملة التي عُطف عليها قوله: ولا تحلقوا، فذهب جمهورهـم إلى أنه
عطف على فإنْ أحصرتم، فهو خطاب للمحصرين، قال شيخ المفسرين: "فإنْ أُحصرتم فأردتم الإحلال من إحرامكم، فعليكم ما استيسر من الهدي، ولا تحلوا من إحرامكم إذا أُحصرتم حتى يبلغ الهدي ـ الذي أوجبته عليكم لإحلالكم من إحرامكم الذي أُحصرتم فيه قبل تمامه وانقضاء مشاعره ومناسكه ـ محلّه؛ وذلك أن حلق الرأس إحلال من الإحرام الذي كان المحرم قد أوجبه على نفسه، فنهاه الله عن الإحلال من إحرامه بحلاقة حتى يبلغ الهدي ـ الذي أباح الله له الإحلال جلّ ثناؤه بإهدائه ـ محله"(35).
وعلّل الألوسي هذا الوجه قائلاً: "المقامُ مقامُ بيان طريق خروج المحصر عن الإحرام، لا مقام كل ما يجب عليه، ولم يُعلم من الآية حكم غير المحصر عبارةً، كما عُلم حكم المحصَر من عدم جواز الحلّ له قبل بلوغ الهدي، ويُستفاد ذلك بدلالة النصّ، وجَعْلُ الخطاب عاماً للمحصَر وغيره بناءً على عطف ولا تحلقوا على قوله سبحانه: وأتموا، لا على فما استيسر يقتضي بتر النظم؛ لأن فإذا أمنتم عطف على فإنْ أُحصرتم كما لا يخفى"(36) .
وخالف الإمام ابن كثير هذا الرأي، وجعل قوله تعالى: ولا تحلقوا رؤوسكم عطفاً على قوله: وأتموا الحج والعمرة لله، لا على: فإنْ أُحصرتم، واحتج بأن النبي وأصحابه ـ عام الحديبية ـ لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق حتى يبلغ الهدي محله ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة(37)، وتبعه في هذا الأستاذ سيد قطب حيث يرى أن الأمر بعدم الحلق عام، وليس مقتصراً على وجود الإحصار(38) .
وتُردّ حجة الإمام ابن كثير بما ذكره الإمام الزمخشري: "فإنْ قلتَ: إن النبي نحر هديه حيث أُحصر، قلتُ: كان محصَرُه طرفَ الحديبية الذي إلى أسفل مكة، وهو من الحرم"(39)، فإذا عُلِم أن الحديبية التي أُحصر فيها النبي وأصحابه من الحرم فلا يبقى هناك مانع من عطف قوله تعالى: ولا تحلقوا على قوله: فإنْ أُحصرتم .
ولما غيّا الحلق ببلوغ الهدي محله، وكان قد يعرض للإنسان ما يقتضي حلق رأسه لمرض أو أذى
برأسه، رخّص الله له الحلق، وأوجب عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك: فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك، والأذى: كناية عن الوسخ الشديد والقمل، لكراهية التصريح بالقمل .
وبيّن رسول الله ما انبهم من الإطلاق في قوله تعالى: ففدية من صيام أو صدقة أو نسك، حيث روى الإمام البخاري عن كعب بن عجرة(40) أنه قال: وقف عَلَيَّ رسول الله بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً، فقال: " أيؤذيك هوامُّك ؟ "، قلت: نعم، قال: "فاحلق رأسك"، أو قال: "فاحلق"، قال: فيَّ نزلت هذه الآية: فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [البقرة:196]، إلى آخرها، فقال النبي : "صم ثلاثة أيام، أو تصدّق بِفَرَقٍ(41) بين ستة، أو انسُك بما تيسر"(42) .
فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة : روى الإمام البخاري عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: " أليس حسبكم سنة رسول الله ؟ إنْ حُبِس أحدكم عن الحجّ، طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلّ من كل شيء، حتى يحج عاماً قابلاً، فيهدي، أو يصوم إنْ لم يجد هدياً"(43) .
أي فإذا تمكنتم من أداء المناسك فمَن كان منكم متمتعاً بالعمرة إلى الحج ـ وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولاً، فلما فرغ منها أحرم بالحج ـ ، فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وإنْ تعذر عليه ذبح الهدي لفقدانه أو لتعذر ثمنه، يلزمه صيام ثلاثة أيام في الحج، أي في زمن وقوع الحج، وسبعةٍ إذا رجع إلى أهله ووطنه، وصيام هذه الأيام العشرة يعادل في الثواب ذبح الهدي لمن لم يتيسر له الذبح .
" وفُسِّر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين؛ لأن حق العمرة أن تُفرد بسفرٍ غير سفر الحجّ، وقيل: لتمتعه ـ بكل ما لا يجوز فعله ـ من وقت حلّه من العمرة إلى وقت إنشاء الحج"(44) .
ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام : ذلك : إشارة إلى أقرب مذكور، وهو لزوم الهدي أو بدله على المتمتع، هذا عند الشافعي ، فالهدي يلزم المتمتع إذا كان آفاقياً؛ لأن الواجب أن يحرم عن الحج من الميقات، فلما أحرم من الميقات عن العمرة، ثم أحرم عن الحج لا من الميقات، فقد حصل هناك الخلل، فجُعلَ مجبوراً بالدم، والمكي لا يجب إحرامه من الميقات، فإقدامه على التمتع لا يوجب خللاً في حجّه، فلا يجب عليه الهدي ولا بدله"(45)، واحتج أصحاب هذا الرأي بأن اسم الإشارة ذلك يعود إلى أقرب مذكور في السياق(46).
ويرى أبو حنيفة أن قوله: ذلك إشارة إلى الأبعد، وهو ذكر التمتع؛ إذ لا متعة ولا قِران لحاضري المسجد؛ لأن شرعهما للترفه بإسقاط إحدى السفرتين، وهذا في حق الآفاقي، لا في حق أهل مكة ومَن في حكمهم(47) .
وحجّة أصحاب هذا الرأي أن (اللام) في قوله تعالى: لمن لم يكن تجيء مع الرخص، فتقول: لك أن تفعل كذا، وأما مع الواجبات، فتقول: عليك، وردّوا القول الأول بأن الإشارة لو كانت للهدي أو بدله لأتى بـ(على) دون (اللام) في قوله: لمن لم يكن ؛ لأن الهدي وبدله واجب على المتمتع، وجعلُ (اللام) بمعنى (على) خلاف الظاهر(48).
والذي يظهر أن اسم الإشارة ذلك يعود إلى لزوم الهدي أو بدله؛ لأنه الأقرب في السياق ـ كما تقدم ـ، ولا يلزم من هذا خروج (اللام) عن ظاهرها، فهي هنا على بابها للتخصيص، والمعنى: هذا الحكم مختص بمن كان أهله حاضري المسجد الحرام.
وحاضرو المسجد الحرام هم أهل بلدة مكة وما جاورها، واختُلف في تحديد ما جاورها(49).
واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب : خُتمت الآية بالوصاية بتقوى الله: واتقوا الله بطاعته فيما ألزمكم من فرائضه وحدوده، واحذروا أن تعتدوا في ذلك وتتجاوزوا فيما يبين لكم من مناسككم، فتستحلوا ما حرّم فيها عليكم، واعلموا : تيقنوا أنه تعالى شديد العقاب لمن انتهك محارمه، والأمر بالتقوى عام في كل عمل، والحج أجدر أفراد العموم ؛ لأن الكلام فيه .
[line]
(1) الآيات (216-218) من سورة البقرة .
(2) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (تمّ).
(3) الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مادة (تمّ)، وينظر: السمين الحلبي، عمدة الحفاظ، مادة (تمم)، والفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، (72:2) ، وأحمد رضا، معجم متن اللغة، مادة (تمّ) .
(4) الفراهيدي، العين، مادة (حجّ)، وينظر: الزبيدي، تاج العروس، مادة (حجج) .
(5) المناوي، التوقيف على مهمات التعاريف، ص(268) .
(6) ينظر: الهروي، الغريبين، مادة (حجج)، والشريف الجرجاني، التعريفات، ص(72) .
(7) ينظر: السجستاني، غريب القرآن، ص(185).
(8) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (عَمَرَ) .
(9) ابن عاشور، التحرير والتنوير، (219:2).
(10) ينظر: ابن فارس، معجم المقاييس، مادة (حَصَرَ )، وينظر: الهروي، الغريبين، مادة (حصر).
(11) الزمخشري، الكشاف، (237:1).
(12) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، (76:2) .
(13) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (يسر) .
(14) الَّلّطف (بالتحريك) : التحفة والهدية، وكلمة (بَعْثَة) مهملة النقط في الأصل، وهي المرة من البعث. (من تحقيق عبد السلام هارون على معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، مادة (هدي) .
(15) ابن فارس، معجم المقاييس، مادة (هدي)، وينظر: الهروي، الغريبين، مادة (هدى).
(16) ينظر: ابن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، مادة (حلل) .
(17) ينظر: الفراهيدي، العين، مادة (حلّ) .
(18) المرجع السابق، مادة (أذي)، وابن سيدة، المحكم والمحيط الأعظم، مادة (ذأى) مقلوبه (أذى)، (121:10) .
(19) أحمد رضا، معجم متن اللغة، مادة (فدي) .
(20) السمين الحلبي، عمدة الحفاظ، مادة (فدي) .
(21) الجوهري، الصحاح، مادة (نسك).
(22) ينظر: الزمخشري، أساس البلاغة، مادة (نَسَكَ) .
(23) السمين الحلبي، الدر المصون، (487:1) .
(24) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (متع) .
(25) ابن عادل الحنبلي، اللباب في علوم الكتاب، (377:3) .
(26) البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، (371:1) .
(27) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (وقى)، وينظر: الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، (299:2) .
(28) من هذه الأقوال : التمام ظاهراً بأداء المناسك على وجهها، وباطناً بالإخلاص لله تعالى وحده، أو التمام أن تفردوا لكلٍ من الحجّ والعمرة سفراً، أو أن تخلصوهما للعبادة لا تشوبوهما بشيء من الأغراض الدنيوية، أو أن تجعلوا نفقتهما حلالاً... للتوسع، ينظر: الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، (248:2،252)، وابن العربي، أحكام القرآن، (165:1)، والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن، (343:2) وابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (237:1).
(29) ينظر ـ مثلاً ـ : الطبري، جامع البيان، (252:2)، والألوسي، روح المعاني، (475:1)، وسيد قطب، في ظلال القرآن، (279:1)، وابن عاشور، التحرير والتنوير، (217:2).
(29) الرازي، التفسير الكبير، (296:2).
(30) في وجوب العمرة خلاف فقهي، للتوسع ينظر : القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، (368:2) .
(31) تفسير أبي السعود، (206:1) .
(32) فرّق الفرّاء بين الحصر والإحصار، فجعل الإحصار للمنع الذي يكون من الخوف أو المرض، والحصر فيما يكون من جهة العدو. ينظر: الفراء، معاني القرآن، (117:1)، وتبعه في هذا كلٍّ من: الزجاج، معاني القرآن وإعرابه، (267:1)، والشهاب الخفاجي، عناية القاضي وكفاية الراضي، (485:2)، بينما يرى الزمخشري أن الإحصار منعٌ في كل شيء، ولا يختصّ بالخوف والمرض، وكذلك الحصر. ينظر: الكشاف، (237:1)، وسوّى أبو حيان بينهما كذلك، وحمل الآية على المنع في كل شيء، وأن حادثة منع المشركين للمسلمين في الحديبية وردت على أحد مطلقات الإحصار. ينظر: البحر المحيط، (256:2)، ورجح الرازي أنه إحصار العدو فقط، ولا يقاس عليه منع المرض، وذكر لهذا أدلة. ينظر: التفسير الكبير، (302:2-303).
وللترجيح بين هذه الآراء، أقول: إن الحصر والإحصار سواء ـ كما يرى الكثير من العلماء ـ، وتكون صيغة الإفعال في (إحصار) لإفادة الصيرورة أو الوجدان، أي: صاروا محصورين، أو وجدوا محصورين .
(33) صحيح البخاري، كتاب المحصَر، باب الإحصار في الحجّ، رقم الحديث: (1810)، ص(291) .
(34) ابن عاشور ، التحرير والتنوير، (224:2) .
(35) الطبري، جامع البيان، (264:2)، ووافقه على هذا معظم المفسرين، منهم: الزمخشري، الكشاف، (238:1)، والآلوسي، روح المعاني، (477:1).
(36) الألوسي، روح المعاني، (478:1).
(37) ينظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (239:1) .
(38) ينظر: سيد قطب، في ظلال القرآن، (280:1) .
(39) الزمخشري، الكشاف، (238:1) .
(40) هو كعب بن عجرة الأنصاري السالمي المدني، من أهل بيعة الرضوان، له عدة أحاديث، مات سنة (52)هـ. الذهبي، سير أعلام النبلاء، (239:4) .
(41) الفَرَق أو الفَرْق: فُسّر في رواية أخرى بثلاثة آصع، والصاع: مكيال لأهل المدينة .
(42) صحيح البخاري، كتاب المحصَر، باب قول الله تعالى: أو صدقة، رقم الحديث: (1815)، ص(292)، وينظر: الواحدي، أسباب النزول، ص(60).
(43) سبق تخريجه، ص(84) من الرسالة .
(44) أبو حيان، البحر المحيط، (263:2) .
(45) ينظر: الكيا الهراسي، أحكام القرآن، (100:1) .
(46) ينظر: الرازي، التفسير الكبير، (312:2)، وابن عاشور، التحرير والتنوير، (229:2).
(47) ينظر: الجصاص، أحكام القرآن، (358:1).
(48) ينظر: ابن عطية، المحرر الوجيز، (118:2)، وأبو حيان، البحر المحيط، (270:2)، والألوسي، روح المعاني، (480:1) .
(49) للتوسع ينظر: ابن العربي، أحكام القرآن، (178:1).