أنور بن إبراهيم
New member
- إنضم
- 06/02/2011
- المشاركات
- 11
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
آراء العلماء فى تفسير الرازى
اختلفت كلمة العلماء حول تفسير فخر الدين الرازي وقيمته العلمية ، وفى هذه العجالة نعرض ما جاء فى هذا الشأن .
ذهب طاش كبرى زاده إلى أن الإمام الرازى صنف تفسيره بعد أن التحق بالصوفية وصار من أهل المشاهدة ، وأن من يتأمل فى مباحثه ويتصفح لطائفه يجد فى أثنائه كلمات أهل التصوف من الأمور الذوقية
وفى رأيه : أن مزج الإمام الرازى العلوم العقلية فى التفسير كان للرد على أصحابها ، وفى ذلك إعانة للمسلمين وحفظ لعقائدهم.
واتفقت كلمة الأستاذ محمد على سلامة معه فى هذا الشأن وقال عن تفسير الفخر الرازى إنه : من أجلِّ التفاسير التى مزجت العلوم العقلية والكونية والسياسية بتفسير القرآن الكريم .
أما جولد تسيهر فيجعل تفسير الرازى خاتمة أدب التفسير المثمر الأصيل القائم على ملاحظة ما تستنبطه مـدرسة المعتزلة عـن طريق التفسير والرد عليـها من حين إلى آخربطريقة وافية .
ومن الأقوال التى قيلت فى تفسير الرازى :
أ ـ فيه كل شيء إلا التفسير :ـ
كلمة حكاها أبو حيان عن بعض العلماء ، ثم راجت وانتشرت ولاكتها الألسن حتى صارت ملتصقة بتفسير الرازى .
والسبب فى ذلك : كثرة ما يورده الرازى فى تفسيره من العلوم المختلفة ، فظن بعضهم أنه ترك التفسير وانشغل بهذه العلوم .
والحقيقة:
أن الإمام الرازى حين أقبل على جلب هذه العلوم فى تفسيره لم يترك الأصل وهو تفسير كتاب الله ، وهذه العلوم فيها من الفوائد والأسرار ما يفيد فى شرح وتفسير آيات القرآن ، وإنما فعل ذلك ليقينه بأن القرآن الكريم تنبع منه كل العلوم وما من علم إلا وفى القرآن إشارة إليه ودلالة عليه ، فأراد أن يبيِّن ذلك فى تفسيره .
وهذه بعض إشارات الرازى فى تفسيره لاشتمال القرآن على كل العلوم :
فهو القائل : القرآن أصل العلوم كلها فعلم الكلام كله فى القرآن وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن ، وكذلك علم أصول الفقه ، وعلم النحو واللغة ، وعلم الزهد فى الدنيا وأخبار الآخرة ، واستعمال مكارم الأخلاق
وقال : العلوم إما نظرية وإما عملية ، أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأحكامه وأسمائه ، ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده فى هذا الكتاب ، وأما العلوم العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح وإما أعمال القلوب ، وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس ، ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده فى هذا الكتاب .
وزاد الأمر توضيحاً بطريقة أخرى فقال : -
واعلم أن كثيراً من الفقهاء يقولون : إنه ليس فى القرآن العلوم التى يبحث عنها المتكلمون بل ليس فيه ما يتعلق بأحكام الفقه ، وذلك غفلة عظيمة ، لأنه ليس فى القرآن سورة طويلة منفردة بذكر الأحكام ، وفيه سور كثيرة خصوصاً المكيِّات ليس فيها إلا ذكر دلائل التوحيد والنبوة والبعث والقيامة ، وكل ذلك من علوم الأصوليين .
ومن تأمل علم أنه ليس فى يد علماء الأصول إلا تفصيل ما اشتمل القرآن عليه على سبيل الإجمال
والإمـام الرازى ليس وحده الذى قال بذلك فقد سبقه الإمام أبو حامد الغزالى المتوفى سنة 505 هـ إذ قال :
وبالجملة : فالعلوم كلها داخلة فى أفعال الله ـ عز وجل ـ وصفاته ، وفى القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته ، وهذه العلوم لا نهاية لها ، وفى القرآن إشارة إلى مجامعها …… بل كل ما أشكل فهمه على النظار ، واختلفت فيه الخلائق فى النظريات والمعقولات ففى القرآن إليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفهم بدركها
ولحقهما على هذه الطريقة الزركشى المتوفى سنة 794هـ فقال : وكل علم من العلوم منتزع من القرآن .
وتابع السيوطى المتوفى سنة 911هـ سلفه فقال : وإن كتابنا القرآن لهو مفجر العلوم ومنبعها ، ودائرة شمسها ومطلعها ، أودع فيه ـ سبحانه وتعالى ـ علم كل شيء ، وأبان فيه كل هدى وغى ، فترى كل ذى فن منه يستمد ، وعليه يعتمد ………
إذن : فما المانع أن يذكر الإمام الرازى بعد ذلك العلوم المختلفة مع تفسيره لكلام الله ؟
وإن الناظر فى تفسيره مع التحلى بشيء من الصبر والأناة يتأكد لديه أن الكلمة التى قيلت فى تفسيره ـ من احتوائه لكل شيء عدا التفسير ـ كلمة قيلت من غير روية ولا تحقيق ، وانبت على مقارنة سطحية بما أشار إليه فخر الدين نفسه من تلك الطريقة المألوفة التى التزمت فى التفسير من قبله ، وهى طريقة تحليل التركيب والغوص على
مناحى الاستنباط منه ، وإنها لا محالة طريقة جليلة لا غنى عنها لطالب التفسير على الوجـه الأكمل ، ولكنها ليست هى كل التفسير ، بل نستطيع أن نقول : إنها تدخل فى مقدمات التفسير لا فى نتائجه .. ..
وقد تتبعت الإمام الرازى فى تفسيره فرأيته يقسم الآية التى يتناولها إلى قسمين : قسم يبحث عن التركيب والغوص فيه ، وقسم آخر يتعلق باللطائف والعلوم التى تنبع من الآية وكثيراً ما كان يقول :-
ـ وقبل التفسير نقول ما يتعلق بالسورة وهى أمور
ـ والكلام فيها ـ أى الآية ـ على نوعين : النوع الأول : ما يتعلق بالتفسير . والنوع الثانى : ما يتعلق بالأحكام التى استنبطها العلماء من هذه الآية .
ـ وقبل الشروع فى التفسير نقدم مسائل ثم نتفرغ للتفسير وإن لم تكن منه
ولعل من قال هذه الكلمة اقتصر على النظر فى القسم الذى خصصه الرازى للعلوم المختلفة دون التفسير .
والحق : أن تفسير \لإمام الرازى يحوى كل شيء مع التفسير ، فهو كتاب يجد فيه الفقيه مطلبه ويعثر فيه المتكلم على غايته ، ويقف فيه عالم الفلك على ما يريد مع معالجته لعلوم التفسير .
ب ـ كتاب الرازى كثير العيوب :
وينسب هذا الرأى إلى الإمام الطوفى حين تعرض للمفاضلة بين التفاسير فقال : -
وأجمع ما رأيته من التفاسير لغالب علم التفسير : كتاب القرطبى ، وكتاب مفاتيح الغيب ولعمرى كم فيه من زلة وعيب
وكلام الإمام الطوفى ينطوى على المدح والذم فى آن واحد فقد عده من جوامع الكتب لغالب علم التفسير فى بداية كلامه ، ثم فى نهايته وصفه بكثرة الزلل والعيوب ، ولا أدرى كيف يجتمع هذان الوصفان معاً ؟؟؟
جـ ـ صرف الناس عن القرآن :
تناول صاحب المنار فى مقدمة تفسيره وجوه صرف الناس عن القرآن وهداياته ، وجعل تفسير الفخر الرازى من التفاسير التى صرفت الناس عن القرآن لكثرة ولوجه فى العلوم الحديثة من فلك وطب وهيئه .. .. .. إلى آخر هذه العلوم .
يقول صاحب المنار : وقد زاد الفخر الرازى صارفاً آخر عن القرآن هو ما يورده فى تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة فى الملة على ما كانت عليه فى عهده كالهيئة والفلكية اليونانية وغيرها ، وقلده بعض الباحثين بإيراد مثل ذلك من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة ، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولاً طويلة بمناسبة كلمة مفردة كالسماء والأرض من علوم الفلك والنبات والحيوان تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن .
وأترك الرد على ما ذكره أمثال صاحب المنار للإمام الرازى فقد تولى الرد على من يتهمه بكثرة إيراده العلوم الحديثة فى تفسيره فقال :
ربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال : إنك أكثرت فى تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم ، وذلك على خلاف المعتاد !!
فيقال لهذا المسكين : إنك لو تأملت فى كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته ، وتقريره من وجوه :
الأول: أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السماوات والأرض ، وتعاقب الليل والنهار ، وكيفية أحوال الضياء والظلام ، وأحوال الشمس والقمر والنجوم ، وذكر هذه الأمور فى أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى ، فلو لم يكن البحث عنها والتأمل فى أحوالها جائزاً لما ملأ الله كتابه منها !
الثانى : أنه تعالى قال :)أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ( (سورة ق آية رقم 56) فهو تعالى حثَّ على التأمل فى أنه كيف بناها ولا معنى لعلم الهيئة إلا فى أنه كيف بناها وكيف خلق كل واحد منها .
الثالث : أنه تعالى قال ) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ((سورة غافر ،آية رقم 57 ) فبيَّن أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة فى أجرام السماوات أكثر وأعظم وأكمل مما فى أبدان الناس ، ثم إنه تعالى رغب فى التأمل فى أبدان الناس بقوله )وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ( ( سورة الذاريات ، آية رقم 21 ) فما كان أعلى شأنا وأعظم برهاناً منها أولى بأن يجب التأمل فى أحوالها ومعرفة ما أودع الله فيها من العجائب والغرائب .
والرابع :أنه تعالى مدح المتفكرين فى خلق السموات والأرض فقال : )وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(( سورة آل عمران الآية رقم 191 ) ولو كان ذلك ممنوعاً منه لما فعل !
والخامس: أن من صنَّف كتاباً شريفاً مشتملاً على دقائق العلوم العقلية والنقلية بحيث لا يساويه كتاب فى تلك الدقائق ، فالمعتقدون فى شرفه وفضيلته فريقان : منهم من يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير أن يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل والتعيين ، ومنهم من وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعيين ، واعتقاد الطائفة الأولى وإن بلغ إلى أقصى الدرجات فى القوة والكمال إلا أن اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى وأوفى .
وأيضاً : كل من كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه أكثر كان اعتقاده فى عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل .
إذا ثبت هذا فنقول : من الناس من اعتقد أن جملة هذا العالم محدَث ،وكل محدَث فله محدِث فحصل له بذلك الصنيع إثبات الصانع تعالى وصار من زمرة المستدلين ، ومنهم من ضم إلى تلك الدرجة البحث فى أحوال العالم العلوى والعالم السفلى على سبيل التفصيل فيظهر له فى كل نوع من أنواع العالم حكمة بالغة وأسرار عجيبة ، فيصير ذلك جارياً مجرى البراهين المتواترة والدلائل المتوالية على عقله ، فلا يزال يتنقل كل لحظة ولمحة من برهان إلى برهان آخر، ومن دليل إلى دليل أخر ، فلكثرة الدلائل وتواليها أثر عظيم فى تقوية اليقين وإزالة الشبهات .
فإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه ـ تعالى ـ إنما أنزل هذا الكتاب لهذه الفوائد والأسرار لا لتكثير النحو الغريب والاشتقاقات الخالية عن الفوائد والحكايات الفاسدة .
وقريب مما سبق ذكره : رأى الدكتور منيع عبد الحليم محمود وهو أن تفسير الإمام أشبه ما يكون بموسوعة كبيرة فى علوم الكون والطبيعة ، والعلوم التى تتصل اتصالاً من قريب أو بعيد بعلم التفسير والعلوم الخادمة له والمترتبة عليه استنباطاً وفهماً .
وفحوى هذا الكلام أن التفسير يخرج عن طبيعته إلى كونه مجرد موسوعة فى علوم الكون والطبيعة .
ويذهب الدكتور مساعد مسلم اتجاهاً آخر فيرى أن الفخر الرازى وإن كان تفسيره جامعاً ولم يقتصر على آيات الأحكام لم يترك آية حكم إلا وذكر الحكم وآراء الفقهاء فيها واختلافهم ، وانتصر لرأى الشافعية ببراهينه الكثيرة التى تطغى حتى على النصوص القرآنية.
وهذا الرأى يصف تفسير الرازى بالتفسير الفقهى الذى يكثر من إيراد الآراء الفقهية وأدلتها إلى حد توارى النص القرآنى وراءها .
أما الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد فيضرب المثل بتفسير الرازى لمن أغرق التفسير بتقريرات الفلاسفة وعلماء الكلام حتى أضاع التفسير فيقول :
وأرباب الفلسفة والكلام يغرقون التفسير بمذاهبهم وآرائهم حتى تضيع معالم التفسير من كثرة التقريرات الفلسفية والاستدلالات العقلية كتفسير الفخر الرازى.
وفى الختام :
فالأمر المؤكد أن الإمام الرازى قد جعل من تفسيره موسوعة علمية تصب فيها معظم العلوم من فقه وفلسفة وعلم كلام وهيئة وطب وفلك ونجوم .. إلى آخره .
لكنَّ الذى ينبغى أن يؤخذ فى الاعتبار أن الرازى أراد أن يخرج عما ألفه الناس فيمن قبله من المفسرين من طريقة البحث عن التراكيب والاقتصار عليها فأدخل هذه العلوم باعتبارها خادمة للتفسير ولا غنى عنها لفهم النص القرآنى .
أما القول : بأنها أضاعت معالم التفسير ، أو أنها طغت على النصوص القرآنية فهو قول بعيد فهى ما أضاعت ولكنها أفادت ، والتفسير خير شاهد على ذلك.
وعلى الرغم مما قيل فى شخصية الإمام الرازى وفى تفسيره ـ مما سبق بيانه ـ فلا يمكن أن يُنكر فضل الإمام وريادته العلمية ، وطريقته البارعة فى التأليف والتصنيف ، وكذلك لا يمكن إغفال قيمة تفسيره وما أحدثه من تحولات فكرية فى مجال تفسير القرآن الكريم ...
لقد استطاع الإمام أن ينظرـ من خلال تفسيره ـ إلى القرآن الكريم نظرة موضوعية متكاملة ، ظهر من خلالها تماسك القرآن فى أجزائه وتكامله فى أغراضه ..
والله الموفق والهادى إلى سواء السبيل
اختلفت كلمة العلماء حول تفسير فخر الدين الرازي وقيمته العلمية ، وفى هذه العجالة نعرض ما جاء فى هذا الشأن .
ذهب طاش كبرى زاده إلى أن الإمام الرازى صنف تفسيره بعد أن التحق بالصوفية وصار من أهل المشاهدة ، وأن من يتأمل فى مباحثه ويتصفح لطائفه يجد فى أثنائه كلمات أهل التصوف من الأمور الذوقية
وفى رأيه : أن مزج الإمام الرازى العلوم العقلية فى التفسير كان للرد على أصحابها ، وفى ذلك إعانة للمسلمين وحفظ لعقائدهم.
واتفقت كلمة الأستاذ محمد على سلامة معه فى هذا الشأن وقال عن تفسير الفخر الرازى إنه : من أجلِّ التفاسير التى مزجت العلوم العقلية والكونية والسياسية بتفسير القرآن الكريم .
أما جولد تسيهر فيجعل تفسير الرازى خاتمة أدب التفسير المثمر الأصيل القائم على ملاحظة ما تستنبطه مـدرسة المعتزلة عـن طريق التفسير والرد عليـها من حين إلى آخربطريقة وافية .
ومن الأقوال التى قيلت فى تفسير الرازى :
أ ـ فيه كل شيء إلا التفسير :ـ
كلمة حكاها أبو حيان عن بعض العلماء ، ثم راجت وانتشرت ولاكتها الألسن حتى صارت ملتصقة بتفسير الرازى .
والسبب فى ذلك : كثرة ما يورده الرازى فى تفسيره من العلوم المختلفة ، فظن بعضهم أنه ترك التفسير وانشغل بهذه العلوم .
والحقيقة:
أن الإمام الرازى حين أقبل على جلب هذه العلوم فى تفسيره لم يترك الأصل وهو تفسير كتاب الله ، وهذه العلوم فيها من الفوائد والأسرار ما يفيد فى شرح وتفسير آيات القرآن ، وإنما فعل ذلك ليقينه بأن القرآن الكريم تنبع منه كل العلوم وما من علم إلا وفى القرآن إشارة إليه ودلالة عليه ، فأراد أن يبيِّن ذلك فى تفسيره .
وهذه بعض إشارات الرازى فى تفسيره لاشتمال القرآن على كل العلوم :
فهو القائل : القرآن أصل العلوم كلها فعلم الكلام كله فى القرآن وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن ، وكذلك علم أصول الفقه ، وعلم النحو واللغة ، وعلم الزهد فى الدنيا وأخبار الآخرة ، واستعمال مكارم الأخلاق
وقال : العلوم إما نظرية وإما عملية ، أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأحكامه وأسمائه ، ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده فى هذا الكتاب ، وأما العلوم العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح وإما أعمال القلوب ، وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس ، ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده فى هذا الكتاب .
وزاد الأمر توضيحاً بطريقة أخرى فقال : -
واعلم أن كثيراً من الفقهاء يقولون : إنه ليس فى القرآن العلوم التى يبحث عنها المتكلمون بل ليس فيه ما يتعلق بأحكام الفقه ، وذلك غفلة عظيمة ، لأنه ليس فى القرآن سورة طويلة منفردة بذكر الأحكام ، وفيه سور كثيرة خصوصاً المكيِّات ليس فيها إلا ذكر دلائل التوحيد والنبوة والبعث والقيامة ، وكل ذلك من علوم الأصوليين .
ومن تأمل علم أنه ليس فى يد علماء الأصول إلا تفصيل ما اشتمل القرآن عليه على سبيل الإجمال
والإمـام الرازى ليس وحده الذى قال بذلك فقد سبقه الإمام أبو حامد الغزالى المتوفى سنة 505 هـ إذ قال :
وبالجملة : فالعلوم كلها داخلة فى أفعال الله ـ عز وجل ـ وصفاته ، وفى القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته ، وهذه العلوم لا نهاية لها ، وفى القرآن إشارة إلى مجامعها …… بل كل ما أشكل فهمه على النظار ، واختلفت فيه الخلائق فى النظريات والمعقولات ففى القرآن إليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفهم بدركها
ولحقهما على هذه الطريقة الزركشى المتوفى سنة 794هـ فقال : وكل علم من العلوم منتزع من القرآن .
وتابع السيوطى المتوفى سنة 911هـ سلفه فقال : وإن كتابنا القرآن لهو مفجر العلوم ومنبعها ، ودائرة شمسها ومطلعها ، أودع فيه ـ سبحانه وتعالى ـ علم كل شيء ، وأبان فيه كل هدى وغى ، فترى كل ذى فن منه يستمد ، وعليه يعتمد ………
إذن : فما المانع أن يذكر الإمام الرازى بعد ذلك العلوم المختلفة مع تفسيره لكلام الله ؟
وإن الناظر فى تفسيره مع التحلى بشيء من الصبر والأناة يتأكد لديه أن الكلمة التى قيلت فى تفسيره ـ من احتوائه لكل شيء عدا التفسير ـ كلمة قيلت من غير روية ولا تحقيق ، وانبت على مقارنة سطحية بما أشار إليه فخر الدين نفسه من تلك الطريقة المألوفة التى التزمت فى التفسير من قبله ، وهى طريقة تحليل التركيب والغوص على
مناحى الاستنباط منه ، وإنها لا محالة طريقة جليلة لا غنى عنها لطالب التفسير على الوجـه الأكمل ، ولكنها ليست هى كل التفسير ، بل نستطيع أن نقول : إنها تدخل فى مقدمات التفسير لا فى نتائجه .. ..
وقد تتبعت الإمام الرازى فى تفسيره فرأيته يقسم الآية التى يتناولها إلى قسمين : قسم يبحث عن التركيب والغوص فيه ، وقسم آخر يتعلق باللطائف والعلوم التى تنبع من الآية وكثيراً ما كان يقول :-
ـ وقبل التفسير نقول ما يتعلق بالسورة وهى أمور
ـ والكلام فيها ـ أى الآية ـ على نوعين : النوع الأول : ما يتعلق بالتفسير . والنوع الثانى : ما يتعلق بالأحكام التى استنبطها العلماء من هذه الآية .
ـ وقبل الشروع فى التفسير نقدم مسائل ثم نتفرغ للتفسير وإن لم تكن منه
ولعل من قال هذه الكلمة اقتصر على النظر فى القسم الذى خصصه الرازى للعلوم المختلفة دون التفسير .
والحق : أن تفسير \لإمام الرازى يحوى كل شيء مع التفسير ، فهو كتاب يجد فيه الفقيه مطلبه ويعثر فيه المتكلم على غايته ، ويقف فيه عالم الفلك على ما يريد مع معالجته لعلوم التفسير .
ب ـ كتاب الرازى كثير العيوب :
وينسب هذا الرأى إلى الإمام الطوفى حين تعرض للمفاضلة بين التفاسير فقال : -
وأجمع ما رأيته من التفاسير لغالب علم التفسير : كتاب القرطبى ، وكتاب مفاتيح الغيب ولعمرى كم فيه من زلة وعيب
وكلام الإمام الطوفى ينطوى على المدح والذم فى آن واحد فقد عده من جوامع الكتب لغالب علم التفسير فى بداية كلامه ، ثم فى نهايته وصفه بكثرة الزلل والعيوب ، ولا أدرى كيف يجتمع هذان الوصفان معاً ؟؟؟
جـ ـ صرف الناس عن القرآن :
تناول صاحب المنار فى مقدمة تفسيره وجوه صرف الناس عن القرآن وهداياته ، وجعل تفسير الفخر الرازى من التفاسير التى صرفت الناس عن القرآن لكثرة ولوجه فى العلوم الحديثة من فلك وطب وهيئه .. .. .. إلى آخر هذه العلوم .
يقول صاحب المنار : وقد زاد الفخر الرازى صارفاً آخر عن القرآن هو ما يورده فى تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة فى الملة على ما كانت عليه فى عهده كالهيئة والفلكية اليونانية وغيرها ، وقلده بعض الباحثين بإيراد مثل ذلك من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة ، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولاً طويلة بمناسبة كلمة مفردة كالسماء والأرض من علوم الفلك والنبات والحيوان تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن .
وأترك الرد على ما ذكره أمثال صاحب المنار للإمام الرازى فقد تولى الرد على من يتهمه بكثرة إيراده العلوم الحديثة فى تفسيره فقال :
ربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال : إنك أكثرت فى تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم ، وذلك على خلاف المعتاد !!
فيقال لهذا المسكين : إنك لو تأملت فى كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته ، وتقريره من وجوه :
الأول: أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السماوات والأرض ، وتعاقب الليل والنهار ، وكيفية أحوال الضياء والظلام ، وأحوال الشمس والقمر والنجوم ، وذكر هذه الأمور فى أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى ، فلو لم يكن البحث عنها والتأمل فى أحوالها جائزاً لما ملأ الله كتابه منها !
الثانى : أنه تعالى قال :)أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ( (سورة ق آية رقم 56) فهو تعالى حثَّ على التأمل فى أنه كيف بناها ولا معنى لعلم الهيئة إلا فى أنه كيف بناها وكيف خلق كل واحد منها .
الثالث : أنه تعالى قال ) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ((سورة غافر ،آية رقم 57 ) فبيَّن أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة فى أجرام السماوات أكثر وأعظم وأكمل مما فى أبدان الناس ، ثم إنه تعالى رغب فى التأمل فى أبدان الناس بقوله )وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ( ( سورة الذاريات ، آية رقم 21 ) فما كان أعلى شأنا وأعظم برهاناً منها أولى بأن يجب التأمل فى أحوالها ومعرفة ما أودع الله فيها من العجائب والغرائب .
والرابع :أنه تعالى مدح المتفكرين فى خلق السموات والأرض فقال : )وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(( سورة آل عمران الآية رقم 191 ) ولو كان ذلك ممنوعاً منه لما فعل !
والخامس: أن من صنَّف كتاباً شريفاً مشتملاً على دقائق العلوم العقلية والنقلية بحيث لا يساويه كتاب فى تلك الدقائق ، فالمعتقدون فى شرفه وفضيلته فريقان : منهم من يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير أن يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل والتعيين ، ومنهم من وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعيين ، واعتقاد الطائفة الأولى وإن بلغ إلى أقصى الدرجات فى القوة والكمال إلا أن اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى وأوفى .
وأيضاً : كل من كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه أكثر كان اعتقاده فى عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل .
إذا ثبت هذا فنقول : من الناس من اعتقد أن جملة هذا العالم محدَث ،وكل محدَث فله محدِث فحصل له بذلك الصنيع إثبات الصانع تعالى وصار من زمرة المستدلين ، ومنهم من ضم إلى تلك الدرجة البحث فى أحوال العالم العلوى والعالم السفلى على سبيل التفصيل فيظهر له فى كل نوع من أنواع العالم حكمة بالغة وأسرار عجيبة ، فيصير ذلك جارياً مجرى البراهين المتواترة والدلائل المتوالية على عقله ، فلا يزال يتنقل كل لحظة ولمحة من برهان إلى برهان آخر، ومن دليل إلى دليل أخر ، فلكثرة الدلائل وتواليها أثر عظيم فى تقوية اليقين وإزالة الشبهات .
فإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه ـ تعالى ـ إنما أنزل هذا الكتاب لهذه الفوائد والأسرار لا لتكثير النحو الغريب والاشتقاقات الخالية عن الفوائد والحكايات الفاسدة .
وقريب مما سبق ذكره : رأى الدكتور منيع عبد الحليم محمود وهو أن تفسير الإمام أشبه ما يكون بموسوعة كبيرة فى علوم الكون والطبيعة ، والعلوم التى تتصل اتصالاً من قريب أو بعيد بعلم التفسير والعلوم الخادمة له والمترتبة عليه استنباطاً وفهماً .
وفحوى هذا الكلام أن التفسير يخرج عن طبيعته إلى كونه مجرد موسوعة فى علوم الكون والطبيعة .
ويذهب الدكتور مساعد مسلم اتجاهاً آخر فيرى أن الفخر الرازى وإن كان تفسيره جامعاً ولم يقتصر على آيات الأحكام لم يترك آية حكم إلا وذكر الحكم وآراء الفقهاء فيها واختلافهم ، وانتصر لرأى الشافعية ببراهينه الكثيرة التى تطغى حتى على النصوص القرآنية.
وهذا الرأى يصف تفسير الرازى بالتفسير الفقهى الذى يكثر من إيراد الآراء الفقهية وأدلتها إلى حد توارى النص القرآنى وراءها .
أما الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد فيضرب المثل بتفسير الرازى لمن أغرق التفسير بتقريرات الفلاسفة وعلماء الكلام حتى أضاع التفسير فيقول :
وأرباب الفلسفة والكلام يغرقون التفسير بمذاهبهم وآرائهم حتى تضيع معالم التفسير من كثرة التقريرات الفلسفية والاستدلالات العقلية كتفسير الفخر الرازى.
وفى الختام :
فالأمر المؤكد أن الإمام الرازى قد جعل من تفسيره موسوعة علمية تصب فيها معظم العلوم من فقه وفلسفة وعلم كلام وهيئة وطب وفلك ونجوم .. إلى آخره .
لكنَّ الذى ينبغى أن يؤخذ فى الاعتبار أن الرازى أراد أن يخرج عما ألفه الناس فيمن قبله من المفسرين من طريقة البحث عن التراكيب والاقتصار عليها فأدخل هذه العلوم باعتبارها خادمة للتفسير ولا غنى عنها لفهم النص القرآنى .
أما القول : بأنها أضاعت معالم التفسير ، أو أنها طغت على النصوص القرآنية فهو قول بعيد فهى ما أضاعت ولكنها أفادت ، والتفسير خير شاهد على ذلك.
وعلى الرغم مما قيل فى شخصية الإمام الرازى وفى تفسيره ـ مما سبق بيانه ـ فلا يمكن أن يُنكر فضل الإمام وريادته العلمية ، وطريقته البارعة فى التأليف والتصنيف ، وكذلك لا يمكن إغفال قيمة تفسيره وما أحدثه من تحولات فكرية فى مجال تفسير القرآن الكريم ...
لقد استطاع الإمام أن ينظرـ من خلال تفسيره ـ إلى القرآن الكريم نظرة موضوعية متكاملة ، ظهر من خلالها تماسك القرآن فى أجزائه وتكامله فى أغراضه ..
والله الموفق والهادى إلى سواء السبيل